المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السمة التاسعة عشرةالحرب الإعلامية ودورها في المعركة - المنهج الحركي للسيرة النبوية - جـ ٢

[منير الغضبان]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌مواصفات المرحلة الأولى

- ‌السمة الأولىالهدنة مع الأعداء ما عدا قريشا وحلفاءها

- ‌السمة الثانيةبناء القاعدة الصلبة

- ‌السمة الثالثةإعلان إسلامية الدولة

- ‌السمة الرابعةلا خيار من المعركة

- ‌السمة السادسةتفتيت التجمع بالنزعة الوطنية والعشائرية

- ‌السمة السابعةمحاولة تفتيت الصف الإسلامي

- ‌السمة الثامنةالعدو يتنكر لقيمه من أجل مصلحته

- ‌السمة التاسعةالخطر على القيادة

- ‌السمة العاشرةحالة الحرب، وتجمع القوى كلها ضد المسلمين

- ‌السمة الحادية عشرةإعلان الحرب على العدو

- ‌السمة الثانية عشرةالتميز الإسلامي قبيل المواجهة

- ‌السمة الثالثة عشرةالمواجهة الحاسمة في بدر، والفرقان فيها

- ‌السمة الرابعة عشرةمعسكر المنافقين، بروزه وخطره وتحجيمه

- ‌السمة الخامسة عشرةالوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه

- ‌السمة السادسة عشرةليل المحنة الطويل وخطره

- ‌السمة السابعة عشرةتباشير النصر في قلب المحنة

- ‌السمة الثامنة عشرةعمليات الاغتيال وأثرها في بث الرعب في صفوف العدو

- ‌السمة التاسعة عشرةالحرب الإعلامية ودورها في المعركة

- ‌السمة العشرونازدياد العدد والعدة

- ‌السمة الحادية والعشرونالجهد البشري في البذل

- ‌السمة الثانية والعشروندور النساء في المعارك ومشاركتهن فيها

- ‌السمة الثالثة والعشرونعبقرية التخطيط القيادي

- ‌السمة الرابعة والعشرونالنصر الإلهي في قلب المحن

- ‌السمة الخامسة والعشرونالتربية الإلهية للنفوس عقب المعارك

الفصل: ‌السمة التاسعة عشرةالحرب الإعلامية ودورها في المعركة

فالتوفيق الإلهي يوم يتم في مثل هذه الأمور المعقدة لا يتم جزافا، إنما يتم ضمن سنن جارية سنها الله تعالى لتوفيقه، ويوم نجد ضخامة في الجهود المبذولة وفشلا كبيرا في التنفيذ، فإن هذا يعني أن خللا ضخما كذلك قد وقع في نياتنا، وفي إخلاصنا وفي قلوبنا ففاتنا الهدف. {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا (1)} . {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا (2)} .

‌السمة التاسعة عشرة

الحرب الإعلامية ودورها في المعركة

كانت بوادر الحرب الإعلامية قد ابتدأت منذ الهجرة، غير أن ملامحها بدأت تتضح رويدا رويدا في بعض السرايا قبيل بدر، لكنها انفجرت انفجارا ضخما بعد بدر. لأن الجانب الإعلامي للقبائل المجاورة كان هدفا مهما من أهداف الفريقين، ويظهر أن الأشعار سرعان ما تطير بها الركبان بين يثرب ومكة. فيأتي الرد من الطرف الآخر. لكن عند النصر تكثر أشعار الفريق المنتصر بينما تكثر المراثي عند الفريق الثاني.

لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المعركة بأسلحة غير متكافئة في العدد والعدة، أما في مجال الشعر فلم يكن الأمر كذلك، فإضافة إلى المقلين من الصحابة الذين يكتفون بقطعة أو قطعتين كان هناك الشعراء المتخصصون حسان بن ثابت على رأسهم رضي الله عنه، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وكان أشدهم على الكفار حسان.

(1) الطلاق من الآية 2 و3.

(2)

الطلاق من الآية 4.

ص: 358

في بدر

كانت المعاني التي انصب عليها شعر بدر كله تتناول من قبل المسلمين قتلى القليب، السراة من قريش. وقلما يوجد شاعر لم يتناول هذا الجانب، ثم يربط الشعراء هذه الهزيمة النكراء بالبغي والطغيان من قريش، وأن جزاء هذا البغي النار في الآخرة والخزي والذل في الدنيا. وتعير الذين لاذوا بالفرار، والذين وقعوا في ذل الأسر، وتشمت بالنائحين والنائحات على قتلاهم. ثم تحمل دعوة لقريش أن ترعوي عن غيها وتفيء إلى الله ورسوله، كما يتوضح الفخر الكبير بالنصر المؤزر الذي ناله المسلمون تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم ومدد جبريل والملائكة معه. هذا في الجانب الإسلامي. ومن نماذجه قول كعب رضي الله عنه:

فلما لقيناهم وكل مجاهد

لأصحابه مستبسل النفس صابر

وقد عريت بيض خفاف كأنها

مقاييس يزهيها لعينيك شاهر

بهن أبدنا جمعهم فتبدوا

وكان يلاقي الحين من هو فاجر

فكب أبو جهل صريعا لوجهه

وعتبة قد غادرته وهو عاثر

وشيبة والتيمي غادرن في الوغى

وما منهم اإلا بزي العرش كافر

فأمسوا وقود النار في مستقرها

وكل كفور في جهنم صائر

وقول حسان رضي الله عنه:

طحنتهم والله ينفذ أمره

حرب بثب سعيرها بضرام

لولا الإله وجريها لتركنه

جزر السباع ودسنه بحوام

من بين مأسور يشد وثاقه

صقر إذا لاقى الأسنة حامي

ومجدل لا يستجيب لدعوة

حتى تزول شوامخ الإعلام

ولم ينس أن يعير الحارث بن هشام لفراره:

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام (1)

(1) ابن هشام 3/ 15.

ص: 359

بينما نجد الجانب الجاهلي ينصب على الرثاء. فهذا الحارث يرثي أبا جهل:

ألا يالهف نفسي بعد عمرو

وهل يغني التلهف من قتيل

وهند بنت عتبة التي كانت تفاخر بمصيبتها العرب:

أعيني جودا بدمع سرب

على خير خندق لم ينقلب

تداعى له رهطه غدوة

بنو هاشم وبنو المطلب

يذيقونه حد أسيافهم

يعلونه بعدما قد عطب

كما يهاجمون المسلمين بتخليهم عن عشيرتهم، وتعاونهم مع الغرباء ضد قومهم:

أصيبوا كراما لم يبيعوا عشيرة

بقوم سواهم نازحي الدار والأصل

كما أصبحت غسان فيكم بطانة

لكم بدلا منا فيا لك من فعل

عقوقا وإثما بينا وقطيعة

يرى جؤركم فيها ذوو الرأي والعقل

ولا ينسون التهديد بالثأر من المسلمين، وخاصة الخزرج والأوس:

فإن تك قتلى غودرت من رجالنا

فإما رجال بعدهم سنغادر

ووسط بني النجار سوف نكرها

لها بالقنا والدارعين زوافر

فنترك صرعى تعصب الطير حولهم

وليس لهم إلا الأماني ناصر

وما يتمالك الشاعر الجاهلي أمام عصبيته أن يعيد النصر إلى المهاجرين من قريش، فيثني عليهم عصبية وحمية.

فإن تطفروا في يوم بدر فإنما

بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر

وبالنفر الأخيار هم أولياؤه

يحامون في اللأواء والموت حاضر

يعد أبو بكر وحمزة فيهم

ويدعى علي وسط من أنت ذاكر

ويدعى أبو حفص وعثمان منهم

وسعد إذا ما كان في الحرب حاضر

أولئك لا من نتجت من ديارها

بنو الأوس والنجار حين تفاخر

وتظهر المتناقظات كذلك لدى طالب بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعتز بمحمد ولا يخفي هواه معه، ثم يبكي أصحاب القليب من قريش من جهة ثانية.

ص: 360

ألا إن عينى انفذت دمعها سكبا

نبكي على كعب وما إن ترى كعبا

ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا

وأرداهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا

فما أن جنينا في قريش عظيمة

سوى أن حمينا خير من وطىء التربا

لكنه يناشد قومه أن يكفوا عن حرب أبناء قومهم:

فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا

فدا لكما لا تبعثوا بينكم حربا

ولا تصبحوا من بعد ود وإلفة

أحاديث فيها كلكم يشتكي النكبا

ألم تعلموا ما كان من حرب داحس

وجيش أبي يسكوم إذ ملأوا الشعبا

ثم يدعو بعدها للثأر من الخزرج:

فوالله لا تنفك نفسي حزينة

تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا (1)

وراحت العرب التي عرفت أخبار بدر من الشعر ترقب الجولة القادمة بين المسلمين وقريش. وحتفت كلها تخاف سطوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولا ننسى كذلك أن مقتل كعب بن الأشرف كان درسا قاسيا للذين يريدون نصرة قريش في مواقفهم وأشعارهم.

في أحد والمحنة

سنة واحدة فقط بين الغزوتين، وقد دالت الدولة على المسلمين، وثأر المشركون منهم. فبحت أصواتهم في الفخر بالنصر، والتغني بالأمجاد.

سقنا كنانة من أطراف ذي يمن

عرض البلاد على ما كان يزجيها

نحن الفوارس يوم الجر من أحد

هابت معد فقلنا نحن نأتيها

ثمت رحنا كأنا عارض برد

وقام هام بني النجار يبكيها

كأن هامهم عند الوغى خلق

من قيض ربد نفته عن أداحيها

لكن لدى المسلمين فخر كذلك في أحد حيث قتلوا حملة اللواء واحدا بعد الآخر.

شددنا بحول الله والنصر شدة

عليكم وأطراف الأسنة شرع

(1) مقتطفات من السيرة لابن هشام من الصفحات 9 - 45.

ص: 361

عمدنا إلى أهل اللواء ومن يطر

بذكر لواء فهو في الحمد أسرع

فخانوا وقد أعطوا يدا وتخاذلوا

ابى الله إلا أمره وهو أصنع

لكن قتلى المسلمين كثر، خاصة من الكرام الصيد من الخزرج والأوس.

كم قتلنا من كريم سيد

ماجد الجدين مقدام بطل

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها

واستمر القتل في عبد الأشل

فقتلنا الضعف من أشرافهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

فيرد حسان رضي الله عنه أن أحدا كانت جولتين لا جولة أحد:

ولقد نلتم ونلنا منكم

وكذاك الحرب أحيانا دول

نضع الأسياف في أكتافكم

حيث نهوي عللا بعد نهل

إذ ترلون على أعقابكم

هربا في الشعب أشباه الرسل

إذ شددنا شدة صادقة

فأجأناكم إلى سفح الجبل

ولا ينسى كعب بن مالك رضي الله عنه وهو يرثي حمزة بن عبد المطلب، والشهداء معه أن يتحدث عن نعيم الجنة التي أعدها الله للشهداء.

وأشياع أحمد إذ شايعوا

على الحق ذي النور والمنهج

فما برحوا يضربون الكماة

ويمضون في القسطل المرهج

كذلك حتى دعاهم مليك

إلى جنة دوحة المولج

فكلهم مات حر البلاء

على ملة الله لم يحرج

أولئك لا من ثوى، منكم

من النار في الدرك المرتج.

وهذه ميزة هذه العقيدة، فالشاعر الجاهلي، تأكل المرارة قلبه وهو يبكي صرعاه، أما الشاعر المسلم فيرى في الشهادة دعوة زفت إلى الشهيد من المليك تعالى للنزل عنده. وحين يصر الشاعر الجاهلي على النيل من الخزرج والأوس. ثم يعرج على المهاجرين.

ص: 362

فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم

ضباع وطير يعتضين وقوع

وجمع بني النجار في كل تلعة

بأبدانهم من وقعهن نجيع

ولولا علو الشعب غادرن أحمدا

ولكن علاء السمهري شروع

كما غادرت في الكر حمزة ثاويا

وفي صدره ماضي الشباة وقوع

لا يدعه الشاعر المسلم دون أن يذكره بصبر الأوس والخزرج تحث راية محمد صلى الله عليه وسلم:

فقد صابرت فيهم بنو الأوس كلهم

وكان لهم ذكر هناك رفيع

وحامى بنو النجار فيه وصابروا

وما كان منهم في اللقاء جزوع

وهؤلاء الذين تنالون منهم هم سادتكم في القوم، محمد وحمزة وعلي وغيرهم:

أولئك قوم سادة في فروعكم

وفي كل قوم سادة وفروع

بهن تعز الله حتى يعزنا

وإن كان أمر يا سخين فظيع

فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم

قتيل ثوى لله وهو مطيع

فإن جنان الخلد منزلة له

وأمر الذي يقضي الأمور سريع

وقتلاكم في النار أفضل رزقهم

حميم معا في جوفها وضريع

وهذا هو محور المنافسة في نهاية المعركة، فأبو سفيان يصرخ، أعل هبل، فيأتيه الجواب: الله أعلى وأجل. ويعيد أبو سفيان فخره: لنا العزى ولا عزى لكم. فيرتد عليه فخره: الله مولانا ولا مولى لكم، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، غير أن هندا لم ترو ظمأها في أحد، ولم تشتف ثأرها حتى حين بقرت بطن حمزة عن الكبد.

رجعت وفي نفسي بلابل جمة

وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي

من أصحاب بدر من قريش وغيرهم

بني هاشم منهم ومن أهل يثرب

ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن

كما كنت أرجو في مسيري ومركابي (1)

(1) مقتطفات من السيرة لابن هشام ص 136 - 178.

ص: 363

وتتالت المحن على المسلمين، فأخذت سرية الرجيع منهم مأخذا أليما.

لكن أبيات خبيب مضت مثلا سائرا على الثبات على المبدأ:

لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا

قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وكلهم مبدي العداوة جاهد

علي لأني في وثاق بمصيع

وقد خيروني الكفر، والموت دونه

وقد هملت عيناي من غير مجزع

وما بي حذار الموت إني لميت

ولكن حذاري جحم نار ملفع

فوالله ما أرجو إذا مت مسلما

علي أي جنب كان في الله مصرع

فلست بمبد للعدو تخشعا

ولا جزعا إني إلى الله مرجع

وما كان لمثل خبيب أن لا يرثى وقد اغتالته قريش وصلبته على الجذع:

ما بال عينك لا ترقا مدامعها

سحا على الصدر مثل اللؤلؤ القلق

على خبيب فتى الفتيان قد علموا

لا فاشل حين تلقاه ولا نزق

فاذهب خبيب جزاك الله طيبة

وجنة الخلد عند الحور في الرفق

وبين الهجاء للغادرين، والرثاء للشهداء. كان حسان يخوض حربه فمن أقذع ما قال حسان بالغادرين:

إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له

فأت الرجيع فسل عن دار لحيان

قوم تواصوا بأكل الجار بينهم

فالكلب والقرد والإنسان مثلان

لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم

وكان ذا شرف فيهم وذا شان (1)

أما الشهداء فقد نظمهم في سلك واحد:

صلى الإله على الذين تتابعوا

يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا

رأس السرية مرثد وأميرهم

ابن البكير إمامهم وخبيب

وابن لطارق وابن وثنة منهم

وافاه ثم حمامة المكتوب

والعاصم المقتول عند رجيعهم

كسب المعالي إنه لكسوب

منع المقادة أن ينالوا ظهره

حتى يجالد إنه لنجيب (3)

ومع اشتعال غزوة بني النضير، عادت حرب الشعر فاشتعلت من

(1) السيرة لابن هشام / 189 و192.

ص: 364

جديد، وفي هذه المعركة لا بد من دحض افتراءات اليهود أنهم على الحق، وأنهم أهل الكتاب الأول:

لقد خزيت بغدرتها الحبور

كذاك الدهر ذو صرف يدور

وقد أوتوا معا فهما وعلما

وجاءهم من الله النذير

فقالوا ما أتيت بأمر صدق

وأنت بمنكر منا جدير

فلما أشربوا عذرا وكفرا

وحادبهم عن الحق النفور

فغودر منهم كعب صريعا

فذلت بعد مصرعه النضير

فتلك بنو النضير بدار سوء

أبارهم بما اجترموا المبير

لكن اليهود وقد غلبهم الحقد الدفين لم يجدوا ما يردون به على المسلمين غير التغني بأمجاد قريش وأحد:

قتلتم سيد الأحبار كعبا

وقدما كان يأمن من يجير

فإن نسلم لكم نترك رجالا

بكعب حولهم طير تدور

كما لاقيتم من بأس صخر

بأحد حيث ليس لكم نصير

وطالما أن ملة الكفر واحدة، فحن على بني النضير عباس بن مرداس أخو بني سليم:

فبك بنى هارون واذكر فعالهم

وقتلهم للجوع إذ كنت مجدبا

سراع إلى العليا، كرام لدى الوغى

يقال لباغي الخير أهلا ومرحبا

وكان الرد عنيفا عليه في تخليه عن أرومته العربية:

فهلا إلى قوم ملوك مدحتهم

تبنوا من العز المؤثل منصبا

أولئك أحرى من يهود بمدحة

تراهم وفيهم غزة المجد ترتبا (1)

والعرب لا تزال ترمق الموعد الجديد بين محمد وقومه بدر الآخرة. فلم يدع المسلمون تخاذل أبي سفيان عن حضورها يمر دون هجاء وسُبة:

وعدنا أبا سفيان بدرا فلم تجد

لميعاده صدقا وما كان وافيا

فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا

لأبت ذميما وافتقدت المواليا

(1) السيرة النبوية: مقتطفات من الصفحات 209 - 221.

ص: 365

تركنا به أوصال عتبة وابنه

وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا

وحاول أبو سفيان أن يعتذر لكن السبة لحقته، فقد فر من المواجهة.

الخندق وآثاره بين العرب

لقد كانت قبائل العرب واقفة على الحياد بين الفريقين. تنتظر لمن الغلبة حتى تنضم إليه، ولا شك أن الدوي الضخم الذي رافق تحرك الأحزاب، كان له خطر كبير على الوجود الإسلامي، لكن فشل الهجوم كذلك، أيأس العرب من إمكان القضاء على هذا الدين الجديد، وحاول كلا الفريقين في الإذاعة الطائرة أن يفت من طافة الآخر، ضرار بن الخطاب الفهري يفخر بالحصار، والتجمع الضخم الذي غزوا به محمدا ويصمهم بالفرار من المواجهة:

فأحجرناهم شهرا كريتا

وكنا فوقهم كالقاهرينا

نراوحهم ونغدو كل يوم

عليهم في السلاح مدججينا

فلولا خندق كانوا لديه

لدمرنا عليهم أجمعينا

ولكن حال دونهم وكانوا

به من خوفنا متعوذينا

وكان مقتل سعد بن معاذ أكبر هدف تحقق عندهم في الحصار، كما كان الحمزة في أحد:

فإن نرحل فإنا قد تركنا

لدى أبياتكم سعدا رهينا

إذا جن الظلام سمعت نوقى

على سعد يرجعن الحنينا

ثم يهدد ويتوعد بالغزو ثانية فيقول:

وسوف نزوركم عما قريب

كما زرناكم متوازرينا

بجمع من كنانة غير عزل

كأسد الغاب قد حمت العرينا

فيحول كعب بن مالك الخندق إلى عرين الأسد:

بباب الخندقين كأن أسدا

شوابكهن يحمين العرينا

ص: 366

وهو رد نفس المقولة أن جمعهم أسد غاب تحمي العرين.

وأما مقتل سعد رضي الله عنه، فالجنة مثواه، ولن يضيره غيظهم وحقدهم:

فإما تقتلوا سعدا سفاها

فإن الله خير القادرينا

سيدخله جنانا طيبات

تكون مقامة للصالحينا

لكن العار الذي جلل قريشا وغطفان هو فشل هجومها، وعودتها بالخزي والخيبة.

كما قد ردكم فلا شريدا

بغيظكم خزايا خائبينا

خزايا لم تنالوا ثم خيرا

وكدتم أن تكونوا دامرينا

بريح عاصف هبت عليكم

فكنتم تحتها متكمهينا

لكن الكارثة الكبرى التي حلت بالمشركين تعادل مقتل سعد رضي الله عند المسلمين هي مقتل عمرو بن عبد ود العامري، فارس قريش الأول:

فهو عند مسافع بن عبد مناف الجمحي:

عمرو بن عبد كان أول فارس

جزع المذاد وكان فارس بليل

سمح الخلائق ماجد ذو مرة

يبغي القتال بشكة لم ينكل

ولقد علمتم حين ولوا عنكم

أن ابن عبد فيهم لم يعجل

ومع ذلك فيضطر ذليلا للاعتراف ببطولة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الذي صرعه:

تسل النزال علي فارس غالب

بجنوب سلع ليته لم ينزل

فاذهب علي فما ظفرت بمثله

فخرا ولا لاقيت مثل المعضل

نفسي الفداء لفارس من غالب

لاقى حمام الموت لم يتحلحل

والعار الآخر الذي جللهم هو فرار الفوارس من حوله:

عمرو بن عبد والجياد يقودها

خيل تقاد له وخيل تنعل

أجلت فوارسه وغادر رهطه

ركنا عظيما كان فيها أول

وهبيرة المسلوب ولى هاربا

عند القتال مخافة أن يقتلوا

ص: 367

وضرار كان البأس منه محضرا

ولى كما ولى اللئيم الأعزل

مما اضطر هبيرة بن أبي وهب أن يدفع العار عن نفسه، ويرثي عمرا صاحبه:

لعمري ما وليت ظهري محمدا

وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل

ولكنني قلبت أمري فلم أجد

لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلي

فلا تبعدن يا عمر وحيا وهالكا

وحق لحسن المدح مثلك من مثلي

ولا يجد مندوحة بالرغم عنه من الثناء على البطل المغوار علي:

فعنك علي لا أرى مثل موقف

وقفت على نجد المقدم كالفحل

فما ظفرت كفاك فخرا بمثله

أمنت به ما عشت من زلة النعل

أما بنو قريظة والذل الذي حاق بهم فلا بد أن تتحدث عنه الإذاعة الطائرة كذلك وتربطه بسعد بن معاذ رضي الله عنه الذي حكم عليهم بحكم الله من فوق سبع سموات قبل أن يفضي إلى ربه:

لقد سجمت من دمع عيني عبرة

وحق لعيني أن تفيض على سعد

قتيل ثوى في معرك فحفت به

عيون ذواري الدمع دائمة الوجد

على ملة الرحمن وارث جنة

مع الشهداء وفدها أكرم الوفد

فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد

كريم وأثواب المكارم والمجد

بحكمك في حيي قريظة بالذي

قضى الله فيهم ما قضيت على عمد

فوافق حكم الله حكمك فيهم

ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد

فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى

شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد

فنعم مصير الصادقين إذا دعوا

إلى الله يوما للوجاهة والقصد

بينما كان اليهود يجترون آلامهم بمقتل سراتهم وساداتهم. فلقد قضى رجال بني قريظة جميعا جزاء غدرهم وخيانتهم.

لقد وجدنا الحرب الإعلامية للمسلمين تواكب تماما الحرب العسكرية، وكانت هي التي تمثل لسان الناطق الرسمي بنتائج الحرب والمعارك عند العرب. فمن ديوان الأشعار يتعرف العرب على الأحداث. ولم يكن هذا

ص: 368

الأمر كذلك بالنسبة للمسلمين. إذ كان القرآن الكريم بالنسبة لهم هو مصدر التلقي والحكم على الأحداث، ولم يكونوا يعيرون التفاتا فيما بينهم للشعر بعد أنصار الوحي هو موطن التربية بالنسبة لهم.

لقد كان الشعر للرد على العدو الذي لا يؤمن بالقرآن الكريم.

واستطاع الشعراء المسلمون أن يخوضوا معارك الشعر كلها دون حرج أو تلجلج من أي ميدان. تكلموا بقيم العرب، وطرحوا مفاهيم الإسلام من خلال الشعر، ولم يتركوا مثلبة عربية يطعن منها الأعداء إلا وردوها عليهم.

وما أحوج الحركة الإسلامية اليوم التي تخوض معركتها العسكرية أن تعطي الجانب الإعلامي حقه، وطبيعة الحرب العالمية اليوم حرب إعلامية. فالمعسكران يبتعدان ما استطاعا عن الصدام والمواجهة العسكرية. لكن حربهم المستمرة اليومية تنطلق من وسائل الإعلام. وإن ثقة الناس بإعلام الحركة يعني ثقة الناس بها، فهم يحكمون على الحركة الجهادية من خلال إذاعتها ومجلاتها ونشراتها. وإذا كان الشعر وحده أيام الرسالة الأولى هو الوسيلة الإعلامية الأكبر إن لم تكن الأوحد فوضعنا اليوم يختلف كثيرا عن سالفه.

إن وسائل الإعلام اليوم تسد الأفق، ولا يأخذ الشعر إلا حيزا محدودا جدا منها. فهناك الموعظة والخطبة والمقالة والأقصوصة والقصة والتعليق السياسي، والتحليل الأخباري والمادة الأخبارية، والأناشيد الحماسية، كل هذه ذات أثر خطير في الواقع الإعلامي.

إضافة إلى وسائل البث الإعلامي، من إذاعة وتلفاز وجريدة ومجلة وكتاب وتسجيل سمعي وبصري. كلها غدت تتحكم في قلوب البشر وعقولهم وتفكيرهم، وتوجه قناعاتهم وتبني عقائدهم.

إن المعركة من الخطورة والدقة والأهمية ما يجعل الحكم على نجاح المعركة من خلال نجاح إعلامها والثقة به والتعامل معه، وأملنا كبير أن توجه الحركة الإسلامية طاقاتها لتكوين الاختصاصيين المبدعين في هذا الفن،

ص: 369