المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السمة الخامسة عشرةالوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه - المنهج الحركي للسيرة النبوية - جـ ٢

[منير الغضبان]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌مواصفات المرحلة الأولى

- ‌السمة الأولىالهدنة مع الأعداء ما عدا قريشا وحلفاءها

- ‌السمة الثانيةبناء القاعدة الصلبة

- ‌السمة الثالثةإعلان إسلامية الدولة

- ‌السمة الرابعةلا خيار من المعركة

- ‌السمة السادسةتفتيت التجمع بالنزعة الوطنية والعشائرية

- ‌السمة السابعةمحاولة تفتيت الصف الإسلامي

- ‌السمة الثامنةالعدو يتنكر لقيمه من أجل مصلحته

- ‌السمة التاسعةالخطر على القيادة

- ‌السمة العاشرةحالة الحرب، وتجمع القوى كلها ضد المسلمين

- ‌السمة الحادية عشرةإعلان الحرب على العدو

- ‌السمة الثانية عشرةالتميز الإسلامي قبيل المواجهة

- ‌السمة الثالثة عشرةالمواجهة الحاسمة في بدر، والفرقان فيها

- ‌السمة الرابعة عشرةمعسكر المنافقين، بروزه وخطره وتحجيمه

- ‌السمة الخامسة عشرةالوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه

- ‌السمة السادسة عشرةليل المحنة الطويل وخطره

- ‌السمة السابعة عشرةتباشير النصر في قلب المحنة

- ‌السمة الثامنة عشرةعمليات الاغتيال وأثرها في بث الرعب في صفوف العدو

- ‌السمة التاسعة عشرةالحرب الإعلامية ودورها في المعركة

- ‌السمة العشرونازدياد العدد والعدة

- ‌السمة الحادية والعشرونالجهد البشري في البذل

- ‌السمة الثانية والعشروندور النساء في المعارك ومشاركتهن فيها

- ‌السمة الثالثة والعشرونعبقرية التخطيط القيادي

- ‌السمة الرابعة والعشرونالنصر الإلهي في قلب المحن

- ‌السمة الخامسة والعشرونالتربية الإلهية للنفوس عقب المعارك

الفصل: ‌السمة الخامسة عشرةالوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه

ونستطيع أن نقول في نهاية المطاف أن ظاهرة المنافقين ابتدأت معسكرا قبيل أحد. وبلغت ذروتها في أحد، وظهر عظم خطرها على الصف الإسلامي، وانتهت فردا أو أفرادا يعدون على الأصابع، وأصبح الصف الإسلامي نقيا خالصا وذلك بعظمة تربية النبي صلى الله عليه وسلم، التي دفعت الكثير منهم إلى أن يسلم ويحسن إسلامه. غير أن هذه الظاهرة عادت للظهور مرة ثانية بعد فتح مكة وانتشار الإسلام في الأرض العربية، وبدت أوضح ما يكون في غزوة تبوك حيث تناولت سورة براءة فضح كل أساليبهم ومخططاتهم، وسبب عودة ظاهرة النفاق هو أن فتح مكة جعل الكثيرين يدخلون خوفا في الإسلام، فيظهرونه ويبطون الكفر، ومجال معالجة ذلك في المرحلة الثانية من العهد المدني إن شاء الله.

‌السمة الخامسة عشرة

الوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه

ابتدأ الوجود اليهودي في المدينة بعد قيام دولة الإسلام باعتراف رسمي به وذلك من خلال نصوص المعاهدة النبوية التي تم فيها تحديد العلاقات بين فئات المجتمع في المدينة المسلمة وغير المسلمة. وكانت الفقرات (1) التي تخص اليهود في هذا الميثاق كفيلة بإيضاح حقوقهم وواجباتهم.

أ - الاعتراف بالوجود اليهودي في الدولة المسلمة:

حيث كانت النصوص تعالج نوعين من التجمعات اليهودية.

النوع الأول: وهي التجمعات اليهودية الصغيرة المرتبطة بتجمع القبيلة الكبير. (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين). فنفقات الحرب التي تقع على القبيلة توزع على أفرادها مسلمين ومشركين ويهود. وكل تجمع يهودي هو في الأصل جزء من القبيلة، يمكن أن يكون حليفا للقبيلة، ويمكن

(1) تم ذكر هذه الفقرات في السمة الأولى من سمات هذه المرحلة فلا ضرورة لذكرها.

ص: 281

أن يكون حليفا للمؤمنين من خلال قبيلته. (إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته).

وفي هذا التجمع الصغير لا يترك الأمر دون تنظيم، ولا يضار المجتمع كله بعد وإن كان واحدا من أفراده. وذكر الميثاق الحقوق المماثلة ليهود بني عوف وليهود بقية القبائل كاملة، ثم اعتبر بطانة يهود كأنفسهم وذلك ضمن الأطر العامة التالية:

1 -

(وإن البر دون الأثم).

2 -

(وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.

3 -

(وإنه لا ينحجز ثأر على جرح).

4 -

(وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين).

النوع الثاني: ويعالج وضع التجمعات اليهودية الكبيرة، وهو أقرب ما يكون لأن يمثل الحلف السياسي. فاليهود هنا تجمعات كبيرة ضخمة، احتاج إنهاؤهم عندما نقضوا العهد إلى حروب وحصار، لهم سلطانهم الخاص وأراضيهم وقلاعهم وبيوتهم. وبالرغم من أن البنود قصيرة جدا وهي تخصهم بالذات، لكنها ذات أهمية خاصة (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) فهو النص السابق نفسه من حيث النفقة للتجمعات الصغيرة. (وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم) إذ رأينا من قبل أن التجمعات اليهودية الصغيرة تشارك بمقدار ما يلحقها في كيان قبيلتها العام. أما هنا فالتجمعات اليهودية الضخمة تشارك في النفقات بما يوازي ويناسب نفقات المسلمين جميعا من قريش ويثرب. فعلى اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم (وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة). ومع أنه لم يكن بين قريش واليهود أدنى ثارات قديمة أو دماء أو خلاف، لكن قريشا حين تهدد المسلمين فهي بهذا تهدد يثرب كلها. ومن أجل هذا عليهم أن يلبوا طلب قيادة المدينة حين تطلب منهم ذلك، وكان بالإمكان أن يمضي هذا الأمر طيلة العهد النبوي بعد أن أخذ شرعية وجوده من التعاقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن اليهود وطبيعتهم الأساسية في نقض المواثيق طغت عليهم. فتم عقابهم على ضوء نقضهم لهذه المواثيق. وسنعالج وضعهم بالتفصيل.

ص: 282

أ - بنو قينقاع:

يقول ابن إسحاق: (وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: يا معشر يهود، إحذروا من الله ما نزل بقريش من النقمة. وأسلموا فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم؟ قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك!. لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس).

قال ابن هشام: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سؤتها، فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود. فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.

كانت الجولة الأولى لليهود لا تتجاوز المواجهة الإعلامية. فقد وقفوا موقفا سفيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته، وفضحهم القرآن فضحا بينا وهو يرد على افتراءاتهم وأكاذيبهم. والقرآن الكريم غني بنمانج عن ذلك، ويكاد يكون الجزء الأول من سورة البقرة في دحض ادعاءاتهم وتفنيد أباطيلهم. {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم، قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا

ص: 283

قالوا سمعنا وعصينا، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (1)}.

هذا الكفر البواح الذي وقفوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفقوه بكثير من الدسائس والمؤامرات في الخفاء لتأجيج نار الفتنة بين المسلمين، كما فعل شاس بن قيس في تحريكه الفتنة بين الأوس والخزرج، وكما فعل بعض أحبار اليهود حين كان يستهزىء بآيات الله فلم يتمالك أبو بكر رضي الله عنه من ضربه، فأنزل الله تعالى آياته تدعو المؤمنين للصبر على أذاهم في قوله عز وجل:{لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (2)} .

وكانت الجولة الثانية بعد بدر، حيث تحرك الغيظ في قلوب بني قينقاع ولا غرابة أن يكون الاحتكاك الأول معهم لأنهم كانوا (يسكنون داخل المدينة - في حي باسمهم - وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق مع اليهود (3)). (فلما قدم من بدر بغت يهود وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد فجمعهم بسوق بني قينقاع وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله؟ فقالوا: يا محمد لا يغرنك من لقيت، إنك قهرت قوما أغمارا، وإنا والله أصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا (4)).

لقد كانت محاولة سلمية لعدم فتح جبهة مع يهود بني قينقاع، وفي هذه المحاولة كان الإنذار الخفي بالحرب، حتى لا يتجرؤوا على المسلمين

(1) الآيات 89 - 93 من سورة البقرة.

(2)

الآية 186 من سورة آل عمران.

(3)

الرحيق المختوم للمباركفوري ص 264 و265.

(4)

إمتاع الأسماع للمقريزى ج 1 ص 104.

ص: 284

ويأخذوهم بغتة، لكن الغرور قد أخذ مبلغه من اليهود وأصبحوا يبدون مظاهر العداوة للمسلمين (وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون للسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم). وأعلنوا في جوابهم بعد اللقاء المذكور أنهم مستعدون للحرب، بل يهددون فيها كذلك. ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يصبر حتى لا يكون أول من نقض العهد، وأفهمهم بذلك اللقاء بالكلام اللين وبالكلام الخشن ما يدفعهم إلى أن يرعووا عن غيهم ولكن دون جدوى.

والحركة الإسلامية ثم الدولة الإسلامية بعد ذلك مطلوب منها أن تكون يقظة تمام اليقظة مع حلفائها. فطالما أن الخلاف الفكري قائم فهذا يعني أن هذا الحلف مؤقت، ويعني أن الحلف منطلق من مصلحة هذا الحليف. فليس له أسس متينة للاستمرار. والدعاة إلى الله لا يدعون فرصة مواتية ليذكروا بالتعهدات التي قدمها الحليف للحركة إلا ويستفيدوا منها. كما أنه لا يجوز أن يركنوا إلي الدعة طالما أن حليفهم قوي، قد يستغل الفرصة السانحة للانقضاض، وهذا الخطر الذي يحتمل أن تتعرض له الحركة الإسلامية في تحالفاتها مع أعدائها خاصة والعدو جاثم في الأرض، مستثن إلى قوة، فالوعي الحذر، والاعداد الدؤوب هو الأمر الواجب تنفيذه حتى لا يؤخذ المسلمون على غرة.

وكانت الحادثة التي فجرت الموقف حادثة المرأة المسلمة التي راودها اليهود عن كشف وجهها فأبت. فعمدوا ظهر ثوبها فانكشفت سوءتها عندما قامت، فاستغاثث. وكان مقتل اليهودي والمسلم. ولم يكن مقتل المسلم أمرا فرديا، فلقد كان تمالؤا عاما من اليهود وإعلانا بنبذ العهد منهم فلو كان حادثا فرديا لأمكن معالجته وقتل القاتل. لكن الملأ من يهود هم الذين اجترؤوا وقتلوا. فأنزل الله تعالى:{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (1)} . فقال صلى الله عليه وسلم أنا أخاف بني قينقاع. فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت النصف من شوال بعد بدر ببضعة وعشرين يوما، وفهم

(1) الأنفال / 58.

ص: 285

رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب من الآية (فقال: أنا أخاف بني قينقاع فاحتمال الغدر قائم كل لحظة، ولئن سكت المسلمون على هذه الجريمة فهذا يعني أنهم ضعاف وبالتالي فهم معرضون للغزو في كل لحظة، ولم يكن هناك خيار من المعركة وإن كان لا بد من ذلك فليكن المسلمون هم البادئون. لقد نبذ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن دعاهم إلى الإسلام. وفي تحرك سريع خاطف كان اليهود محاصرون في بيوتهم وحصونهم. إنه لمما يؤسى له أن نجد اليهود اليوم ينفذون هذه الخطة والمسلمون غارقون في سباتهم. فوقف إطلاق النار الذي كان بين الفلسطينيين واليهود مجرد أن ينقض، فيقتل يهودي في أوروبا يزحف اليهود على بيروت ويحاصرونها حصارا عنيفا وتنقلب الآية. وكما سكت بنو قريظة وبنو النضير عن جريمة حصار بني قينقاع، وتركوهم يلقون حتفهم وحدهم، رأينا العرب ودول العرب وجيوشهم يسكتون سكوتا خائنا، ويدعون الفلسطينيين يلقون حتفهم وحدهم.

إنا على ثقة أن اليهود اليوم يثأرون لهزائمهم التاريخية من قبل، وهم ينفذون الخطط التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم بها. أما العرب الذين تخلوا عن إسلامهم فينفذون خزي يهود، وذل يهود الذي كان أيام النبوة.

إن عرض المرأة المسلمة كفيل أن يشعل حربا رهيبة مع العدو، وقام الحصار الذي استمر خمسة عشر يوما على يهود حتى استسلمت للذبح من أجل التعرض لكشف سوأة امرأة مسلمة من اليهود. بل حتى من أجل إصرارها على أن لا تكشف وجهها لليهود. وما أحوجنا أن نستعيد هذه المعاني، ونحن نبني صفنا الداخلي، ونربيه على الثأر والثورة للعرض والدين، وأن يكون القتل أحب للمسلم من الحياة الخانعة الذليلة وعرضه مباح.

ونزل اليهود على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهيؤوا للقتل. بينما تبقى ذراريهم ونساؤهم لولا أن تدخل عبد الله بن أبي فحفظ لهم حياتهم، وأمرهم رسول الله أن يجلوا عن المدينة. ولئن حفظت السيرة موقف عبد الله بن أبي منهم، وتواطؤه معهم، فقد حفظت كذلك عظمة عبادة ابن الصامت وهو يتبرأ منهم

ص: 286

ويتولى الله ورسوله وجماعة المؤمنين. وأضيف إلى المسلمين بعد خروجهم ذخيرة جديدة من المال والسلاح وآلات الحرب، وأنهوا عدوا لدودا مقيما بين ظهرانيهم لم يحفظ العهد ولم يرع الميثاق. ولا شك أن هذه الحركة العسكرية قد أجهضت المناوئين الآخرين، وجعلت بني قريظة وبني النضير على خوف وحذر شديدين من المواجهة.

ولقد حدد القرآن الكريم هذا المعنى بدقة بأن الضربة القوية الحاسمة من الحركة الإسلامية - قمينة بإرهاب بقية الأعداء: وخاصة الذين ينقضون الميثاق {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين، ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله صلى الله عليه وسلم -علمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله صلى الله عليه وسلم -وف إليكم وأنتم لا تظلمون (1)} .

فالآيات هذه تنزلت في بني قينقاع، ولم يكن بين بدر وبين بني قينقاع إلا حوالي عشرين يوما. وكأنها توجيهات عسكرية مباشرة إلى طبيعة المواجهة بين المسلمين واليهود. واليهود هم شر الدواب عند الله، وهم الذين نقضوا عهدهم، وهم الذين يتابعون هذا النكث، فلا بد أن تكون الحرب معهم حاسمة بحيث تشرد من خلفهم من الأعداء، وترعب من وراءهم من الحلفاء.

وها نحن نجد الحركة الإسلامية حين أعلنت بعض فصائلها الحرب ضد الطواغيت تغدو مرهوبة الجانب، منيعة عزيزة، يخشاها العدو، ويسارع الخصوم إلى التحالف معها. فلقد أصبحت أملهم في الإنقاذ من براثن هذا الطاغوت، ومهما عتا الطاغوت وتجبر فهو يخشى الثأر والانتقام فيملأ السجون ويدمر البيوت، ويذبح الآمنين، لكنه ما أن تحل به عملية ضخمة من عمليات الثأر حتى يستنفر جيشه وسراياه ومخابراته كلها لهول هذه الضربة.

(1) الأنفال / 55 - 60.

ص: 287

وهذا خط يحسن أن تتربى الحركة الإسلامية عليه كذلك وهي تواجه أعداءها، أن تكون الضربة موجعة، والعملية مزلزلة حتى يحل الإرهاب في القلوب، أو تسقط النظام الكافر، وتشرد به من خلفه من أحلافه وزبانيته.

بنو النضير

(.. ثم كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم .. وسببها: أن عمرو بن أمية الضميري لما قتل الرجلين من بني عامر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين في ديتهما - لأن بني النضير كانوا حلفاء لبني عامر، وكان ذلك يوم السبت - فصلى في مسجد قباء ومعه رهط من المسلمين ثم جاء بني النضير، ومعه دون العشرة من أصحابه فيجدهم في ناديهم، فجلس يكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية. فقالوا: نفعل، اجلس حتى نطعمك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند إلى بيت؟ فخلا بعضهم إلى بعض، وأشار عليهم حيي بن أخطب أن يطرحوا عليه حجارة من فوق البيت الذي هو تحته فيقتلوه. فانتدب لذلك عمرو بن جحاش ليطرح عليه صخرة، وهيأ الصخرة ليرسلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشرف بها، فجاء الوحي بما هموا به، فنهض صلى الله عليه وسلم سريعا كأنه يريد حاجة، ومضى إلى المدينة. فلما أبطأ لحق به أصحابه - وقد بعث في طلب محمد بن مسلمة - فأخبرهم بما همت به يهود؟ وجاء محمد بن مسلمة فقال: اذهب إلى يهود بني نضير فقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلده فإنكم قد نقضتم العهد بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتهم عشرا، فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه .. (1)).

لئن كانت غزوة بني قينقاع بعده بدر فغزوة بني النضير بعد أحد، وبعد المحنة الشديدة فيها. والتجربة المرة لبني قينقاع دفعتهم رغم محنة أحد إلى التوقف عن نقض العهد. وطالما أن العهد مصون، فالصلات قائمة. والأمان مستتب بين الفريقين. وقدم عليه الصلاة والسلام إلى بني النضير يستعينهم في

(1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 178، 179.

ص: 288

دية قتيلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أمية الضميري رضي الله عنه لأن بني النضير كانوا حلفاء بني عامر. فلقد كان ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بمثل قمة من الوفاء في العهد. فليس لبني عامر حلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فرسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يتجاهل الأمر.

ومقتل هذين الرجلين إنما تم من عمرو بن أمية لأن بني عامر قد ساهم زعيمهم في ذبح سبعين من المسلمين في بئر معونة. وقدر عمرو أنه يأخذ بثأر الشهداء من هذين الرجلين وتقول الرواية كذلك أن لهذين الرجلين عهدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر بهما عمرو. ولهذا مضى عليه الصلاة والسلام مع نفر يسير من أصحابه فالقوم حلفاء للمسلمين. لكن سيطرة السجية اليهودية طغت عليهم، فدأبهم في تاريخهم نقض العهد وقتل الأنبياء ونكث المواثيق وخفر الذمم. فوجدوها فرصة سانحة لقتل محمد صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهرانيهم، ولو كان الأمر اندفاعا أعمى من جندي متحمس لهان الأمر، لكن رئيسهم حيي بن أخطب هو صاحب الفكرة وهو صاحب الاقتراح. فالتمالؤ متوفر من القيادة العليا عندهم وأقره عليها أزلامه وزبانيته. كما رأينا التمالؤ من قبل في بني قينقاع. وانتدب لذلك عمرو بن جحاش ليطرح عليه صخرة. لقد قتلوا يحيى وزكريا أنبياءهم من بني إسرائيل. فكيف لا يقتلون محمدا وقد نزع منهم النبوة والملك وهو من بني إسماعيل؟ وتداركت رحمة الله تعالى الموقف، فأبلغه الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هموا به، فمضى عائدا إلى المدينة، موهما اليهود أنه ماض لقضاء حاجة، حتى لا يكون التصرف مفاجئا، فيثير انتباههم إلى كشف هدفهم ومخططهم. ولحق به الصحابة الذين كانوا معه، دون أن يعرف اليهود شيئا عن جلية الأمر. إن القائد المسلم هدف ثمين للعدو، وفي كثير من الأحيان لا بد أن يعتمد على يقظته وانتباهه وحسن تصرفه في اللحظة العصيبة. كما لا بد أن يكون للحركة الإسلامية رجالها في صفوف العدو المحالف، تكشف مخططاتهم واتجاهاتهم في نقض العهد أو الوفاء به. فلقد انقطع الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح تحسس أخبار العدو من مهمة الحركة الإسلامية. ووقوع الدعاة إلى الله في شرك أعدائهم أو حلفائهم من خلال غفلتهم ونيتهم الطيبة لا يعفيهم من المسؤولية أمام الله عز وجل. ولا

ص: 289

شيء أقوى للحركة الإسلامية من أن تتعامل مع حلفائها أو أعدائها ببلاهة ظاهرية، بحيث تعرف مخططاتهم وتتظاهر بجهلها لهذه المخططات. لأن هذا التعامل هو الذي يكشف المخبوء من النوايا، والمستور من الشر. ولا شيء أكثر ضررا على الحركة الإسلامية من الاندفاعات العاطفية لمن يتحسسون أخبار أعدائهم. فلا بد أن يكون من يكلف بمثل هذا الدور على مستوى من الهدوء وحضور البديهة واليقظة، ما يطمس طبيعة مهمته ويبعد الشك عن دوره الذي يقوم به.

ولقد علمنا قائدنا عليه الصلاة والسلام سرية التخطيط وسرعة المبادهة من خلال هذا التظاهر بقضاء الحاجة. وكيف مكث اليهود ينتظرون عودته لقتله، تماما كما رأينا ليلة الهجرة. وقد أناب عليا رضي الله عنه في النوم مكانه ليجعل المشركين هانئين ينتظرون استيقاظه لقتله. أما نقض العهد دون دليل قاطع، فليس من حق الحركة الإسلامية، وكانت المنابذة في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحيي على لسان محمد بن مسلمة:(أن اخرجوا من بلدي فإنكم قد نقضتم العهد بما هممتم به من الغدر). فالهم بالغدر ثابت، ولم يناقش اليهود به لأنهم يعلمون صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعترضوا على الأصل، بل كان ردهم سفيها في الاستعداد للحرب ورفض الجلاء:(إنا لا نخرج فليصنع ما بدا له).

وليس من شيمة المقاتل المسلم أن يوعد فلا يفي، أو يهدد فلا ينفذ، فيصبح كلامه لا وزن له، فما وصل رد اليهود في الصبح حتى كان رسول الله محاصرهم عصرا، وصلى العصر في فضاء بني النضير وتحرك - الطابور الخامس - ليعلن ولاءه مرة ثانية لليهود، ويؤكد لهم سرا على لسان عبد الله بن ابي:(أن أقيموا ولا تخرجوا فإن معي من قومي وغيرهم من العرب ألفين يدخلون معكم فيموتون من آخرهم دونكم). ولم يأتهم ابن أبي، واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال وهذا درس للمؤمنين على مر العصور، فالصف المسلم القوي يحرق النفاق وخططه، ولا يجرؤ دعاة الشر والفتنة أن يتحركوا أمام وحدة الصف المسلم وقوته، إنما يتحركون حين

ص: 290

يجدون الصف مزعزعا والعزيمة خائرة، والنفوس خائرة الثقة بقيادتها، وحين نجد في صفنا الأرض الخصبة للإشاعة والتشكيك والدس الرخيص، فعلينا أن نعيد بناء صفنا ونمتن لحمته من جديد، وليس المنافقون وحدهم هم الذين ذعروا وأووا إلى جحورهم، بل بني قريظة كذلك - الفريق الثالث من اليهود.

وجرى أثناء الحصار ثلاث حوادث جلية وهامة:

الحدث الأول: النبل الذي كان ينزل على دار القيادة وهي القبة من أدم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم فيها، وكان قائد النبالة وأمهرهم هو عزوك اليهودي، فكمن له علي رضي الله عنه روقتله. وكان يود مرة ثانية أن يغتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عشرة معه. فلم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله بل أرسل أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة لاحقوا الكتيبة الفدائية اليهودية فقتلوها عن بكرة أبيها وأتوا برؤرسهم فطرحت في الآبار، وكان وجودها رفعا عظيما لمعنويات المسلمين. وهو درس لنا اليوم بضرورة بث الرعب في صفوت العدو من خلال العمليات الفدائية الناجحة، فلم يجرؤ اليهود بعد ذلك على مغادرة حصونهم ورمي نبالهم. لأنهم يعلمون أن أرواحهم غدت في خطر بعد ذبح أبطالهم العشرة.

الحدث الثاني: وهو التعرض لنخلهم الذي يعيشون عليه، فها هم يرون النار تشتعل بمحصولاتهم وتمرهم. والذي كلف بهذا الأمر أبو ليلى المازني، وعبد الله بن سلام (حبر اليهود من قبل) فراحوا يطلبون برجاء أن يبقي لهم على نخيلهم فأبقاه، وانبثقت فتنة جديدة تثير الشغب لهذا الحريق، وتشكك في تصرت القيادة، فلا بد أن يكون أحد التصرفين حق لأن كليهما متناقضان. فأكد القرآن صحة التصرفين، وأعاد مخطط يهود إلى جحره: بقوله تعالى: {ما قطعتم من لينة (شجرة تمر) أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين (1)} . فلا بد أن يفاجأ العدو بأعز ما يملك حتى يستسلم. وهو ما فعله عليه الصلاة والسلام بهم.

(1) سورة الحشر. الآية 6.

ص: 291

الحدث الثالث: حيث أدى الحدثان السابقان إلى طلب التسليم من رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنين استعدادهم للخروج بعد أن دام حصارهم ستة أيام. وهنا اختلف الأمر، فلقد كان طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أن يخرجوا لكن الأمر الآن وبعد هذا الحصار لن يكون كما كان من قبل، والحساب بعد الحرب غير الحساب قبلها فقال عليه الصلاة والسلام لهم: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة (1) فلم يقبل حيي. ويؤسفنا أن نقول: إن اليهود الذين يعيشون تاريخهم من آلاف السنين قد وعوا هذا الدرس القاسي وحفظوه، فطبقوه على المسلمين كما فعل بهم رسول الله عليه الصلاة والسلام. فعندما اجتاح اليهود الأرض العربية عام سبعة وستين وتسعمائة وألف بقوة السلاح قبل العرب العودة إلى قرار التقسيم الصادر عام سبعة وأربعين وتسعمائة وألف. فرفض اليهود ذلك، وأعلنوا أنهم لن يعودوا لحدود الرابع من حزيران.

إنها دروس استفاها اليهود من عدوهم الأول الذي أنهى وجودهم، فتلمسوا أساليبه يطبقونها في حربهم مع أتباعه، أما جيل أمتنا المنكود الذي هجر قرآنه ونبيه، كان يحارب اليهود وهو يحارب الله ورسوله فأذله الله تعالى وعاقبه. لقد عاش عشرين عاما وهو يتصارع على السلطة ويتنافس على الحكم، ويمتص حكامه دماء شعوبه باسم الحرب، فلما جد الجد انهار البناء الفاسد دفعة واحدة، كمثل شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

رفض اليهود الخروج بدون سلاح فتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حصارهم من جديد، وبث في صفوف اليهود أن الذي يسلم منهم سوف يأخذ ماله. فأسلم يامين بن عمر وأبو سعد ابن وهب ونزلا فأحرزا أموالهما. واستطاع أحدهما أن ينفذ عملية فدائية ضخمة في قلب يهود. وهي اغتيال ابن عمه عمرو بن جحش الذي أراد اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عملية الاغتيال هذه على يد

(1) ورد هذا المعنى في ابن هشام ج 3/ 109.

ص: 292

رجل من قيس جعل له عشرة دنانير أو خمسة أوسق من تمر على قتله، وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

وهذه فسحة واسعة للدعاة المقاتلين كي يصلوا إلى أعدائهم عن أي طريق، فقد لا تهيء الظروف للمسلمين الوصول إلى أعدائهم نتيجة الحراسة عليهم وتحصنهم في حصونهم، فبالمال أو إغراء أفراد من قلب التنظيم الكافر يمكن القضاء على أولئك الأعداء والحرب خدعة. فلا حرج من سلوك أية طريق تؤدي إلى الهدف مع هذا العدو الذي ناصبته العداء، وآذنته بالحرب، وأعلنت موقف المواجهة ضده، ومن خلال صفوفه الداخلية، ومن خلال الرغبة في المال يمكن تحقيق هذه الأهداف البعيدة في القضاء عليه. ولا أحد أدرى بمواطن الضعف والخلل في العدو من أبناء صف العدو نفسه، وإسلام يامين رضي الله عنه دفعه للثأر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما يمر على إسلامه اليوم واليومان، ومن ابن عمه وأقرب الناس إليه.

(وأقام على حصار يهود خمسة عشر يوما حتى أجلاهم وولى (خراجهم محمد بن مسلمة، وكانوا في حصارهم يخربون بيوتهم بأيديهم مما يليهم، والمسلمون يخربون ما يليهم ويحرقون حتى وقع الصلح، فجعلوا يحملون الخشب، ويحملون النساء والذرية، وشقوا سوق المدينة، والنساء في الهوائج عليهن الحرير والديباج وحلي الذهب والمعصفرات، وهن يضربن الدفوف ويزمرن بالمزامير تجلدا، وقد صف لهم الناس وهم يمرون، فكانوا على ستمائة بعير. فنزل أكثرهم بخيبر فدانت لهم، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، فكان ممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام ابن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحزن المنافقون لخروجهم أشد حزن (1)).

إنها أمة من أمم اليهود تهزم ويبلغ غيظها أن تهدم بيوتها بأيديها، وترغم على الصلح بترك سلاحها كله غنيمة للمسلمين، وتمضي في محنتها مشردة في الأرض جزاء نكالا لنقضها العهد، وطعنها بالمواثيق، تحمل حليها

(1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1/ 181.

ص: 293

ومتاعها، وتترك شرفها وسلاحها غنيمة للمؤمنين كما وصفها الله تعالى:{وهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب (1)} .

فلقد أخرجهم الله تعالى وقذف في قلوبهم الرعب لأنهم شاقوا الله وحاربوا رسوله. فما بالهم اليوم يعودون ظافرين إلى أرض الميعاد - كما يزعمون - ويكون الخروج والتهجير لأبناء الأرض الإسلامية؟ من لاجئين إلى نازحين إلى وافدين بعد كل حرب مع اليهود يقع الجلاء لمن يسمون - مسلمين - وتصبح الأرض وراثة ليهود. إنه السبب نفسه الذي أجلي اليهود من أجله، وذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.

والثورة الفلسطينية اليوم التي تريد العودة إلى فلسطين، إلى أرض الإسراء التي اغتصبها اليهود، تريد أن تعود بنفس الراية، راية مشاقة الله ورسوله. فمنظمة التحرير الفلسطينية التي لا يعترف العالم إلا بها ممثلة للشعب الفلسطيني، والثورة الفلسطينية تريد أن تعود إلى الأرض باسم العلمانية، باسم اللادينية، تريد أن تقيم دولة لا تنطلق من الدين، بل من شريعة البشر، وأهواء البشر، وجهل البشر، تريد أن يكون الحكم فيها لغير الله، فأي مشاقة لله ورسوله أكبر من هذه المشاقة؟!! ولهذا فما يزداد الأمر إلا عسرا، وما يزداد الدم المتفجر إلا بعدا عن هذه الأرض، فقد لاحق اليهود مسلمي هذه الأرض من فلسطين إلى لبنان وشردوهم في الأرض، وأبعدوهم لا عن الديار فقط، بل عن جوار الديار. فهل آن لهؤلاء التائهين أن يعودوا إلى الله، فينالون نصره، أن يتوبوا إلى الله، ويعطيهم مدده؟! إن

(1) سورة الحشر، الآيات 2 و 3 و 4.

ص: 294

المشردين عن ديارهم لن يعودوا وهم شاردون تائهون عن الله. إنهم في التية، تيه بني إسرائيل، وقارب التيه أربعين، ولما يصح أبناء الإسلام على مكمن الخطر، ومكمن الداء. إنه واحد لبني إسرائيل، وبني إسماعيل، وبني الأرض جميعا {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب}. أما سلاح يهود الذي كتمه المسلمون فكان: خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا. كان لها وزنها الكبير في تسليح الجيش الإسلامي الناشىء. وكانت قوة للمؤمنين في حربهم مع الكافرين.

ح - بنو قريظة:

لقد كانت نهاية بني قينقاع بعد بدر.

وكانت نهاية بني النضير بعد أحد (1).

وكانت نهاية بني قريظة بعد الخندق.

وكانت نهاية بني قريظة من أسوأ النهايات، لأن غدرهم كان أعظم الغدر، وكان يمثل الطبيعة اليهودية أكبر تمثيل، وكان الدور الأكبر فيه للزعيم المهزوم حيي بن أخطب سيد بني النضير الذي جلا إلى خيبر، وعاد إلى مكة يشعل النار فيها لتغزو محمدا في عقر داره، فتثأر له من محمد بن عبد الله.

فلقد كانت غزوة الأحزاب أثرا من آثار اليهودية. (وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير ساروا إلى خيبر، وبها من يهود قوم أهل عدد وجلد، وليس لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير. فخرج سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس وأبو عامر الراهب في بضعة عشر رجلا إلى مكة يدعون قريشا وأتباعها إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمدا، جئنا لنحالفكم على عداوته وقتاله، فنشطت قريش لذلك، وتذكروا أحفادهم ببدر، فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا: أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.

(1) هناك رأي مفاده أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر.

ص: 295

وأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلها وتحالفوا وتعاقدوا - وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة وهم بينها وبين أستارها - ألا يخذل بعضهم بعضا، ولتكون كلمتهم واحدة على محمد ما بقي منهم رجل. ثم قال أبو سفيان: يا معشر. يهود! أنتم أهل الكتاب الأول والعلم أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت، وننحر الكوم (1) ونسقي الحجيج ونعبد الأصنام!.

فقالت يهود: اللهم أنتم أولى بالحق منه؟ إنكم لتعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه فأنزل الله تعالى في ذلك، {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (2)). واتعدوا لوقت وقتوه، وخرجت يهود إلى غطفان، وجعلت لهم تمر خيبر سنة إن هم نصروهم وتجهزت قريش، وسيرت تدعو العرب إلى نصرها، وألبوا أحابيشهم (3) ومن تبعهم وأتت يهود بني شليم فوعدوهم السير معهم.

وكان خروج بني النضير بأحقادهم وذلهم دافعا لهم على تغيير الحلف، الذي نقضوه ليكون حلفهم الجديد مع عدو محمد صلى الله عليه وسلم الأول قريش. وقد استطاعوا بنشاطهم السياسي أن يؤلبوا معظم العرب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أقنعوا سليم وغطفان وقريش بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وواقع الحركة الإسلامية اليوم لا بد من حربه مع اليهود عاجلا أو آجلا، والتعرف على التخطيط اليهودي الماكر في رغبته باستئصال شأفة المسلمين يفيدنا اليوم كثيرا في هذه المعركة. فبنو النضير الذين أحنوا رقابهم لفترة مؤقتة، سرعان ما اشتعل مرجل الحقد في قلويهم بعد الهزيمة، وراحوا

(1) الكوم جمع كوماء وهي الناقة المشرفة السنان العالية.

(2)

النساء / 51.

(3)

الأحابيش نسبة إلى جبل حبشي بأسفل مكة وهم بنو المصطلق وبنو الهون من هزيمة حلفاء قريش.

ص: 296

يؤلبون العرب ضد الإسلام والمسلمين، ويتحالفون معهم لا على هزيمة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، إنما على استئصال شأفته، واليهود اليوم يتحالفون مع الحكام العرب حلفا غير معلن، ومن وراء ستار في ضرب الحركات الإسلامية في بلادهم ضربا يستأصل شأفتها وينهيها من جذورها. وكثيرا ما تصمت إسرائيل وتحقق الأمن مع بعض جاراتها العربيات ريثما يتمكن الحكام من إبادة المجاهدين في سبيل الله، وما أحداث حماة ولبنان إلا نمانج من هذه النماذج حيث تدك المدن على أهلها وتدفن مساجدها بأهليها، بترابها وركامها حتى لا يرتفع للإسلام صوت، أو تقوم قائمة، وما أشبه الليلة بالبارحة!.

كما نفقه كذلك ما تبذله اليهودية من مال لذلك، وكم كان سلاح المال رائجا عندها، فلقد فكرت أن تشتري الخليفة المسلم بالمال مقابل السماح لها بالهجرة إلى فلسطين، بل اشترت الانكليز بالمال في الحرب العالمية الأولى مقابل وعد بلفور بالسماح لها بإقامة وطن يهودي في فلسطين، فهي هنا تتبرع بثمر خيبر عاما كاملا مقابل دخول غطفان الحرب ضد المسلمين وهي تمد الأعداء بالبضائع ليحاربوا المسلمين، فلقد كانت أفريقيا سوقا يهودية، وكان اعتراف سبع عشرة دولة أفريقية بإسرئيل هو الثمن.

وفي عالم السياسة لا وزن للمبادىء إلا عند المسلمين، واليهود أكثر الناس تناقضا مع مبادئهم حين يكون لهم مصلحة في ذلك مثلهم مثل النصارى والكافرين، بل هم أشد عداوة. ولذلك رأيناهم يفضلون المشركين الوثنيين على المسلمين الذين يؤمنون بالله وتحكيم كتابه وهم يعلمون أن محمدا نبي مرسل، ومع ذلك فهم يشهدون لقريش بصحة دينها الوثني. وعلينا أن لا نعتز كثيرا بالقواسم المشتركة بيننا وبين حلفائنا، فسرعان ما تتغير المصلحة فتسقط المبادىء، ويرمى بها جانبا أمام مصلحتهم.

والتضليل الفكري الذي يمارسه اليهود ضد المسلمين والإسلام في العالم يكاد يسد الأفق ومن خلال الأفكار المطروحة في العالم تحت أي اسم لاجتثاث المسلمين من جذورهم وما المحافل الماسونية والأفكار التحررية والوجودية،

ص: 297

والماركسية والعلمانية إلا صورة من صور هذا التضليل، إنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا.

ولئن كان دورهم في البداية رهيبا، فلم يرعووا عن ذلك، بل راحوا يؤججون النار مع إخوانهم من بني قريظة لنقض العهد. وذلك في قلب المعركة كما تروي السيرة عن زعيمهم حيي بن أخطب (وكان حيي بن أخطب يقول - لأبي سفيان بن حرب ولقريش في مسيره معهم -: إن قومي قريظة معكم، وهم أهل حلقة وافرة، وهم سبعمائة مقاتل وخمسون مقاتلا. فلما دنوا قال له أبو سفيان: إئت قومك حتى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد، فأتى بني قريظة - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة صالح قريظة والنضير ومن معهم من يهود ألا يكونوا معه ولا عليه، ويقال صالحهم على أن ينصروه ممن دهمه، ويقيموا على معاقلهم الأولى بين الأوس والخزرج - فأتى كعب بن أسد، وكان صاحب عقد بني قريظة وعهدها. فكرهت قريظة دخول حيي بن أخطب إلى دارهم فإنه كان يحب الرئاسة والشرف عليهم، وكان يشبه بأبي جهل في قريش. فلقيه عزال بن سمؤال أول الناس، فقال له حيي: قد جئتك بما تستريح به من محمد، هذه قريش قد دخلت وادي العقيق، وغطفان بالزغابة! فقال عزال: جئتنا والله بذل الدهر! فقال: لا تقل هذا .. (1)) (فلما سمع كعب حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حيي: ويحك يا كعب! افتح لي؟ قال: ويحك يا حيي! إنك امرؤ مشؤم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا؟ قال: ويحك! افتح لي أكلمك؟ قال: ما أنا بفاعل؟ قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك (2) أن آكل معك منها؟ فأحفظ الرجل، ففتح له؟ فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها. حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى

(1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 225 و 226.

(2)

الجشيشة: طعام يصنع من الجشيش وهو البر.

ص: 298

جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. قال: فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام (1) قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ليس فيه شيء، ويحك يا حيي. فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب (2) حتى سمح له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).

(واستدعى رؤساءهم وهم الزبير بن باطا، ونباش بن قيس، وعزال بن سمؤال وعقبة بن زيد، وكعب بن زبد، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد، فلحمه الأمر لما أراد الله بهم من هلاكهم)(4).

إننا كثيرا ما نسمع لدى دعاة القومية عن التفريق بين الصهيونية واليهودية، وأنهم يحاربون الصهيونية، أما اليهودبة، فلا، بل يعتبرون كثيرا من اليهود أنصارا لهم. وهم يحصرون معركتهم مع الصهيونية في فلسطين الأرض المغتصبة فإذا حلت مشكلة الأرض، بتحرير أو اعتراف، فلا خلاف بين القومية واليهودية، ودعاة القومية علمانيون ليسوا ضد دين أو تجمع ديني، بل هم ضد دعاة اغتصاب الأرض العربية وتسليمها لليهود، بل يحالفون هذه النماذج كذلك.

لهؤلاء جميعا نسوق هذا النموذج الحي من انتهاء اليهود إلى معسكر واحد، في النهاية، وقد يكون بعضهم أشد حقدا من بعض لكنهم أعداء في النهاية محاربون، وناكثون للعهد ناقضون كذلك، وإن كان المسلمون وهم يتعاهدون أو يتحالفون لا يعاملون أعداءهم على ضوء تاريخهم فقط، لكنها

(1) الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.

(2)

مثل مأخوذ من البعير يضرب في المراوغة والمخاتلة.

(3)

السيرة لابن هشام ج 3 ص 231 و232.

(4)

إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 226.

ص: 299

البلاهة التامة أن يغيب هذا التاريخ الأسود عن الذهن، فلا يوضع في الحسبان، وبلغت البلاهة ببعض دعاة القومية حدا أنهم لا يعرفون شيئا عن تاريخ اليهود مع المسلمين، وحين يدرسونهم في التاريخ، يتحدثون عن تاريخهم في أوروبا وروسيا، وأنحاء العالم أما في أرض العرب، وفي حربهم مع المسلمين فلا. وينسون أو يتناسون أو يتبالهون أن الشوكة اليهودية لم تنتزع من الأرض العربية إلا بالإسلام وعلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وجودهم العسكري أربعة عشر قرنا من الزمان، ولم يعودوا للظهور إلا عندما غاب الإسلام عن الوجود والحكم، وعادوا يثأرون لقريظة وخيبر.

لقد التقت كلمة اليهود جميعا النضير وقريظة وقينقاع الذين تبقوا في خيبر على استئصال الوجود الإسلامي، جيشوا الجيوش، وحزبوا الأحزاب، ووحدوا صفهم لحرب المسلمين.

والطبيعة اليهودية هنا تظهر في حالة ضعف أعدائها. {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (1)} . فهم وافون بالعهود طالما أنهم ضعاف أذلة، وهم ناكثون للعهد حين يجدون الفرصة مواتية للانقضاض، لقد كانوا يقولون: من محمد؟ لا عهد بيننا وبين محمد.

وذلك عندما ذكرهم السعدان بحلفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم يمر على المسلمين ظروف أسوأ من ظروف الأحزاب يوم الأحزاب، وما كان العهد إلا لذلك اليوم، ومع ذلك نقضوا عهدهم في اللحظة الحاسمة، ورغم وجود بوادر الخير لدى زعيمهم كعب فهو في النهاية يهودي غادر لا يرضيه شيء أكثر من إنهاء الوجود الإسلامي، وتم له من يوافقه على ذلك. إنه الهدف النهائي لليهود والنصارى مهما أظهروا على الطريق من سلام

(1) التوبة، الآية 8.

ص: 300

{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (1)} .

فهم يرفضون المعايشة مع الإسلام فكرا وواقعا طالما أنهم قادرون على ذلك.

غزوة بني قريظة

يقول ابن إسحاق:

فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثني الزهري - معتمرا بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة (2)، عليها قطيفة من ديباج فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم؟ فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا الآن من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا، فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.

وقدم رسول الله صلى اله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس. فسار علي بن أبي طالب، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة خبيثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول الله؟ قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله ص لى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا؟ يا أبا القاسم ما كنت جهولا) (2).

(1) البقرة الآية 120.

(2)

السيرة لابن هشام 244 - 245.

ص: 301

(وتقدمت الرماة من المسلمين وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: يا سعد تقدم فارمهم، فرماهم والمسلمون ساعة، ويهود تراميهم، ورسول الله صلى عليه وسلم واقف على فرسه فيمن معه، ثم انصرفوا إلى منازلهم. وباتوا وقد بعث إليهم سعد بن عبادة بأحمال تمر فأكلوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الطعام التمر واجتمع المسلمون عنده عشاء، ومنهم من صلى، ومنهم من لم يصل حتى جاء بني قريظة فما عاب على أحد من الفريقين، ثم غدا سحرا وقدم الرماة وعبأ أصحابه فأحاطوا بحصون يهود، ورموهم بالنبل والحجارة وهم يرمون من حصونهم حتى أمسوا، فباتوا حول الحصون. فنزل نباش بن قيس وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير: له الأموال والحلقة، ويحقن دماءهم، ويخرجون من المدينة بالنساء والذراري، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه. وعاد نباش إليهم بذلك ....)(1).

هكذا كانت الجولة الأولى من الغزوة، جبريل عليه السلام يقود الحرب ويزلزل الحصون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وعلي بن أبي طالب يغرز الراية عند حصونهم، وتتم تعبئة الجيش وتكامله عند الحصون، وتبتدىء الرماية عنيفة، وهكذا نجد اليهود في كل مرة لا يقاتلون، إنما يهزمون بالرعب. ففي بني قينقاع يخورون بعد الحصار، وفي بني النضير يخورون بعد الحصار وفي بني قريظة يخورون بعد الحصار، وحسب اليهود أن تكون هذه المحاصرة كأخواتها، وينجون بأنفسهم ولكن لا نجاة هذه المرة، فيرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاوضات، ولا يقبل إلا الاستسلام التام له. لأن نقضهم للعهد كان أشنع نقض، ولأنهم استغلوا أسوأ الظروف للبطش بالمسلمين، ولو انتصروا لأبادوا المسلمين عن آخرهم، وبلغ بهم السفه قبل أن يفاجأوا بقوة المسلمين أن يسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ويشتموه، ثم ها هم الآن يتذللون ويتمسكنون، ويودون

(1) إمتاع الأسماع ص 243.

ص: 302

النجاة بأشخاصهم وأموالهم ونسائهم. مثل كل مرة، ويتنازلون عن سلاحهم، ولكن هيهات، فلن يلدع المؤمن من جحر مرتين، وهل الخندق إلا ثمرة من ثمارهم المرة، يوم نجوا بأرواحهم فراحوا يخططون لإبادة المسلمين فأين النجاة لهم بعد هذا الغدر والكيد. لقد وضعوا بين فكي الكماشة، الاستسلام بدون قيد ولا شرط، أو الموت جوعا وعطشا كما قال لهم حليفهم أسيد بن حضير: يا أعداء الله لا نبرح حصنكم حتى تموتوا جوعا، إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر. ولقد ذكروه بحلفه قائلين: يا ابن الحضير نحن مواليك دون الخزرج! وخاروا فقال: لا عهد بيني وبينكم ولا إل. لقد بعثوا نباش بن قيس بالمهمة التالية: أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير: له الأموال والحلقة، ويحقن دماءهم، ويخرجون من المدينة بالنساء والذراري ولهم ما حملت الإبل على الحلقة، ولعلها مشورة حيي بن أخطب زعيم بن النضير، الذي ظن أن الحيلة تتكرر. وكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسما قاطعا: أبى إلا أن ينزلوا على حكمه.

وتتدارس يهود الأمر لقد كان كعب بن أسد زعيم بني قريظة أقل حقدا من حيي بن أخطب، ومن أجل ذلك كان في بعض الأحيان لا يغلبه الحقد ويدرك مصلحته. ولقد كان ثاقب النظر حين قال لحيي: إنك امرؤ مشؤوم، جئتني بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه فهو يرعد ويبرق. وأنى له الندم ولات ساعة مندم، وراح يراجع رصيد حياته قبل قدوم محمد وبعده ودعا قادة اليهود وأولي الرأي منهم، وعرض عليهم أمام إصرار محمد صلى الله عليه وسلم حلولا ثلاثة قائلا لهم: (قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتما قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم علي هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء

ص: 303

المساكين! فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم علي هذه الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما (1)).

ها نحن نجد كعب بن أسد يدرك أبعاد المعركة ونتائجها، ويعلم أن الموقف خاسر، وأن نزوله على حكم محمد صلى الله عليه وسلم يعني الإبادة التامة، والمقاومة يائسة خاسرة، ويبحث عن طرق النجاة فلا يراها إلا في الإسلام، والإسلام هو الذي يحقن دمه ودم بني قريظة جميعا. فمحمد يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابمهم على الله (2).

وتفكير كعب بالإسلام ولو من باب المصلحة يدل على أنه أقل حقدا من حيي بن أخطب وتفانيه في الزعامة والرئاسة، وطمس الحقد على بصره وبصيرته، ولئن شبه حيي بأبي جهل في حقده وكفره. فكعب أشبه ما يكون بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة زعيمي بني أمية. إذ كانوا يدركون المصلحة كثيرا ويعجزون عن تنفيذها خضعانا لقومهم. ولئن استطاع عبد الله بن سلام حبر اليهود رضي الله عنه أن يتجاوز عصبيته، ويستجيب لأمر ربه. فكعب عاجز عن ذلك. لأن الزعامة عنده كذلك هدف لا يفوت. إنه يعرف أن محمدا حق، وأن إصراره على التمسك باليهودية عناد وحقد. لكن رآها فرصة سانحة أن يقود قومه للإسلام ولو كان من باب حقن دمائهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم. غير أن الأتباع كثيرا من الأحيان ما يكونون أسوأ عصبية من القيادات وخاصة اليهود الذين وصفهم رب السموات والأرض بقوله:{وأشربوا في قلوبهم العجل (3)} .

(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 246 - 247.

(2)

رواه البخاري.

(3)

من الآية 93 من سورة البقرة.

ص: 304

لقد دخلت عبادة العجل في دمائهم وبطونهم فشربوها شربا وامتزجت بكل شرايينهم. فكان جواب اليهود القاطع: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. وكعب يعرف أن قضية اليهودية عندهم عصبية أكثر منها عقيدة، ومن أجل ذلك حينما عرض عليهم الدخول في الإسلام ورفضوا أراد أن يضعهم عند التزامات هذه العقيدة. فعرض عليهم التضحية الخالصة، عرض عليهم قتل أبنائهم ونسائهم لتكون الحرب الطاحنة. فلا يأسوا على مال أو زوج أو ولد. فالقتل لا يخيفهم لاطمئنانهم أن ذراريهم لن تكون أسرى بيد المسلمين، ولن تفتضح أعراضهم. غير أن القوم حياتهم أغلى عليهم من أعراضهم وأولادهم فما لذة العيش بعدهم؟ وهكذا لم يتخل بنو قريظة عن دينهم، ولم يضحوا بنسائهم وأولادهم وأرواحهم من أجل هذا الدين، فلم يعد إلا الحل الثالث: الهجوم المباغت على المسلمين ليلة السبت. فاعتذروا أنهم لا يفسدون سبتهم، وهكذا رفض الأتباع كل اقتراحات القيادة، ويئس كعب من قومه. فليس أمامهم إلا الموت جوعا وعطشا أو النزول على حكم محمد، أما أن يقاتلوا بشرف، أو يقاتلوا ببسالة أو يقاوموا ببطولة، فهذا في منطق اليهود لا يقوم.

وما أحوجنا إلى أن نتعرف على هذه الطباع، والمعركة بيننا وبينهم قائمة، والحرب مستمرة. إن فقه نفسية العدو تعطينا كثيرا من الإضاءات على طبيعة مواجهته، والغريب أننا نواجه اليوم ظاهرا بنماذج جدبدة حتى أصبح العربي يخشى اليهودي، وأصبح العرب وهم يناهزون المائة مليون ونصف عاجزين عن المواجهة، عاجزين عن الحرب، هزموا نفسيا بعد حربين خاضوها وكانت الحربان خاسرتين. لقد أصبحوا جميعا يتحدثون عن السلام، وأصبحت قياداتهم تؤمن بالحل السلمي أو الاستسلامي أكثر من إيمانها بالله، وبعد حرب الـ 73 مع اليهود، انتهت فكرة الحرب والمواجهة عند العرب، وراحوا يحلمون باسترداد الأراضي بالطرق السلمية وتجمع مؤتمراتهم على ذلك، ويقدمون مشروع الحل السلمي هم، ولا يناقشون إطلاقا بالوجود اليهودي، بل يطلبون استعادة الضفة الغربية لتكون وطنا للفلسطينيين. وكفى الله العرب القتال.

ص: 305

إن قرننا قد شهد هذه المأساة، مأساة الاستسلام المتخاذل، مأساة اليقين عند حكام العرب وكثير من شعوبهم أن إسرائيل لن تقهر، وأن العرب لن ينتصروا. إنهم يمثلون تماما عرب الأوس والخزرج قبل الإسلام، حين كان الكيان اليهودي في المدينة يهدد الكيان العربي ويقول له: أظل زمان نبي نتبعه، فنقتلكم به قتل عاد وإرم. وكان العرب يقبلون من اليهود أحكامهم فيتماوتون على التحالف معهم ويتسابقون. وهؤلاء هم عرب اليوم، لقد كان الرعب يجتاح الإنسان العربي في الماضي من اليهود لأنهم أهل علم، وأهل سلاح. بل كان سلاح العرب في المدينة من صنع اليهود، فكيف يحاربونهم، وعرب اليوم الذين غدوا بلا عقيدة وبلا دين قد أكلهم الرعب من اليهود لعلمهم وسلاحهم. وعلم اليهود اليوم علم بشري وسلاحهم اليوم صنع غربي أو محلي. لم تنقلب الآية بعد، ولم تتغير الطبائع، ولم تتبدل النفوس.

لقد كان اليهود يهددون الكيان العربي بالنبي الذي سيبعث وقد أطل زمانه، وكان العرب ينتظرون أن يأتي هذا النبي حتى يبادوا. فهم يعرفون أن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم التوراة. لكن عندما تبنى العرب هذا النبي، وساروا وراءه عرفوا أنهم لا بد قاتلو اليهود قتل عاد وارم، (إن هذا هو النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه). وسبقوا اليهود، إلى هذا النبي وآمنوا به، وعرف اليهود في قرارة نفوسهم أنهم مهزومون ما لم يتبعوا هذا النبي، ومع ذلك رفضوا، كما رأينا رفضهم مع كعب أن يدخلوا في الإسلام حقدا وضغينة وعصبية، لقد كانوا يعلمون أنهم يخوضون معركة خاسرة، وأنهم لو قتلوا عن بكرة أبيهم فلن ينتصروا على محمد النبي. وعرب اليوم حين يعودون إلى هذا النبي، ويعودون إلى هذا الدين، ويقاتلون به سوف تظهر طبائع اليهود، وسوف يعرى اليهود في جبتهم وتخاذلهم كما تعروا في بني قينقاع والنضير وقريظة.

إن الجديد في المعادلة هو أن عنصر التفاعل لم يقع بعد، وقاتل اليهود عربا، ولم يقاتلوا مسلمين. وحين يقاتلون المسلمين يظهر اليهود على حقيقتهم بلا خلاف. وكانت المحاولة اليائسة الأخيرة من اليهود في استكناه طبيعة حكم

ص: 306

محمد صلى الله عليه وسلم من أحد حلفائهم أي لبابة بن عبد المندر. فسمح له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهاب إليهم واستشاروه وسألوه عن حكم محمد بهم فأشار إليهم أنه الدبح (1).

وتحركت ضمائر ثلاثة من يهود، ففروا ليلا إلى معسكر المسلمين، وأسلموا فعصموا دماءهم وأموالهم، كما وجد فيهم شريف واحد يرعى الدمام غادر معسكرهم يوم أعلنوا غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: لا أغدر بمحمد أبدا. ومر على محمد بن مسلمة صاحب حرس رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فهش له بن مسلمة قائلا: اللهم لا تحرمني إقالة عشرات الكرام، وخرج فلم يدر أحد أين توجه فقال عنه عليه الصلاة والسلام: ذلك رجل نجاه الله بوفائه. وكان الاستسلام الأخير: (فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت (2) فلما كلمته الأوس قال: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إلى سعد بن معاذ

فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم؟ فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل. فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه. فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم

فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم؟ فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من ها هنا، في الناحية التي

(1) ونعالج موقفه في غير هذا المجال لأن الحديث هنا عن اليهود بالذات.

(2)

إشارة إلى استشفاع عبد الله بن أبي في بني قينقاع وقبول شفاعته.

ص: 307

فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله إجلالا له، فقال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال،

وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم

بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينه في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم وهم ست مائة أو سبع مائة والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة. وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتي بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة له فقاحية (1) قد شقها عليه من كل ناحية حتى لا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه حبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه ..

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل، وسهمان الرجال، وأخرج الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل من ليس له فرس سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستا وثلاثين فرسا، وكان أول فيىء وقعت فيه السهمان، وأخرج منها الخمس! فعلى سنتها وما مضى. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد

(1) فقاحية: تضرب إلى الحمرة، وقال ابن هشام: ضرب من الوشي.

ص: 308

الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا (1).

نزل اليهود على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفضوا كل اقتراحات زعيمهم كعب بن أسد، وقرروا أن يتلقوا مصيرهم على يد من نكثوا عهدهم معه، وهناك بصيص أمل عندهم أن يعفو عنهم رسول الله، أو أن تتمكن الأوس من حمايتهم كما فعل عبد الله بن أبي بحلفائه من بني قينقاع. وكان تصورهم أن تسيطر العصبية على حلفائهم الأوس فينجوا بحياتهم على الأقل.

وطالب الأوس بحقهم في الحماية كما فعل عبد الله بن أبي. فكرامة الفريقين الأوس والخزرج واحدة غير أن اتجاه القيادة يخالف اتجاه القاعدة، فكيف يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هذا الحرج، إنه يملك أن يحسم الأمر بالقتل وانتهى الأمر. والأوس طوع بنانه. غير أنه يحرص على أن لا تصدم عواطف جنده من الأوس، فاختار هذا الحل الموفق: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم. قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ. فلقد تساوى الحيان في الحق، إذ حكم في بني قينفاع زعيم من الخزرج هو عبد الله بن أبي حليفهم، فليحكم في بني قريظة زعيم الأوس سعد بن معاذ.

إن القيادة الحكيمة هي التي تتجنب دائما الصدام مع عواطف شبابها، وتحرص على أن تمثل قناعاتهم وتطلعاتهم، بل تلبية رغباتهم، وحين تصطدم رغبة القيادة مع القاعدة، فالقيادة بحاجة إلى حل مريح يخفف جو الصدام.

إنهم جنودها بهم تقاتل، ومن خلالهم سر قوتها ونجاحها، وكلما استطاعت أن تعطي لهم الكرامة والاعتبار، كلما كان هذا أدعى إلى تلاحم الجانبين في صف واحد. بل راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحرب رغبات كل فرد من أفراد هذا الصف، فلقد كان لرجل من اليهود جميل في عنق ثابت بن قيس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب ثابت حماية هذا الرجل من القتل من قيادته فوافقت القيادة على ذلك غير أن الزبير بعد أن عفي من

(1) السيرة النبوية لابن هشام مقتطفات من ص 249 - 256.

ص: 309

القتل وسلم له ماله وولده وأهله قال لثابث: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك ألا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير (1).

وقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرامة امرأة من المسلمين حين طلبت حماية رفاعة بن سموأل القرضي قائلة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصلي ويأكل الجمل؟ قال: فوهبه لها، فاستحيته (2).

إن القيادة العبقرية لا تعدم وسيلة تطمئن بها جنودها على احترام رأيهم وتقديره حتى ولو كانت خطتها تعاكس أهواء فريق من هؤلاء الجنود. إنها لا تعطل خطتها، لكن لا تتحدى رغبات جنودها بل تحرص على قناعتهم وإشعارهم بأهمية رأيهم ووجاهته.

صحيح أن على القاعدة أن تطيع، وصحيح كذلك، أن السمع والطاعة ليسا كل شيء في علاقة القواعد مع القيادة، بل الحب، والثقة، والتفاني هو الأصل في العلاقة. ومن أجل ذلك كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد الخيرية في أمراء هذه الأمة من خلال الحب: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم (3). وما أحوج قيادة الحركة الإسلامية أن تدرك هذا المعنى وتعمل من خلاله!. وكان بعدها حكم سعد بن معاذ.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرعى قيادات الجماعة المسلمة، ويعطيها الأهمية الكبرى. فسعد جريح في خيمة رفيدة، وكان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمضي أمره بدون رأي سعد. لكنه التكريم العظيم لقائد من قادات هذه الأمة. فلا يحكم بأمر حلفائه إلا بحضوره، بل يوجه الجميع إلى إكبار هذا القائد: قوموا إلى سيدكم. فقاموا له: ويأتي دور سعد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئن إليه، واثق باختياره، وعارف مدى تفانيه بحب الله ورسوله، وترفعه عن العصبية أو الهوى أو حظ النفس، وكم أراده قومه على ذلك فقال: آن لسعد أن لا

(1) السيرة النبوية لابن هشام ص 253 - 254.

(2)

السيرة النبوية لابن هشام ص 255.

(3)

رواه مسلم عن عوف بن مالك.

ص: 310

تأخذه في الله لومة لائم. بل لسعد ثأر عند يهود بني قريظة حين واجهوه بالسباب والشتيمة، وذكرهم بعهدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهزئوا به، وحين أصابه سهم غادر من أحدهم فناجى ربه قائلا في دعاء طويل

ولا تمتني حتى تشفني من بني قريظة، وها هو أمرهم كله له. فأخذ العهد على قومه أولا بقبول حكمه، ثم على المهاجرين وأصدر حكمه بذبحهم لخيانتهم وغدرهم.

إن الذي يدرك مرامي المعركة وأبعادها هم القادة الذين يعيشون جوها، ومن أجل هذا وجدنا اتجاه سعد رضي الله عنه يمثل اتجاه الرسول تماما، لمعرفته ببواطن الأمور وخفاياها بينما كان الأوس يدركون فقط في هذا المجال شرفهم وتساويهم في هذا الشرف مع الخزرج، ولا نقول الأوس جميعا، إنما نقول هو تيار قوي فيهم، لكن الذي حدد الموقف تماما هو سيدهم سعد بن معاذ. وهذا يدعونا إلى القول: إن على القيادة العليا أن تعطي ثقتها الكبرى للقيادات الوسط التي هي سبيلها إلى الجنود، ونافذتها عليها، وحين تعجز القيادة أن تقنع هذه القيادات الوسط فلن تصل إلى قلوب جنودها، وستكبر الهوة بين الفريفين، ويتمزق الصف شذر مذر، بل يتمحرر حول هذه القيادات الوسطى، ويشكل عقبة كؤودا في وجه القيادة ومخططاتها.

أما اليهود، وما أدراك ما اليهود، فها هم يساقون إلى مصارعهم، ولا يعرفون فيسألون زعيمهم كعب بن أسد عن الأمر فيقول لهم: أفي كل مرة لا تعقلون؟ أما ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل. لقد أدرك ببصره الثاقب هذا المصير المروع، ونصحهم بمنعرج اللوى، فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد، وها هي رجالهم تذبح، ونساؤهم تسبى، وأموالهم تقسم. ويأتي زعيم الغدر والخيانة حيي بن أخطب ليمثل الجبلة اليهودية في كل جيل كما وصفها القرآن الكريم: (

أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (1)). إن

(1) البقرة من الآية 87.

ص: 311

حيي بن أخطب ليدرك حظه من أوله. فهو يحارب الله ورسوله. وهو يعلم أن محمدا حق، ولكنها عنجهية الجاهلية.

إنه أبو جهل الذي رفض الإيمان حتى لا يسبقه بنو عبد مناف، وحيي يرفض حتى لا يسبقه بنو إسماعيل، أولاد هاجر الجارية، إنه الحقد الأسود، والكيد الأعمى، والحرب لله ورسوله، ولا يشتفي من ذلك كله. والله ما لمت نفسي في عداوتك. إنه ليعلم أن حقده أكبر من دينه، ويعلم أنه يحارب الله ورسوله ولكنه من يخذل الله يخذل، إنها كلمات أبو جهل: أخبرني لمن الغلبة، وكان الجواب الغلبة لله ورسوله، ولقد أبقى الله لك ما يخزيك. ويجيب: وهل أعمد من رجل قتلتموه. إنه عميد القوم، وسيد البطحاء يقتل، وهو يرى الخزي فلا ينسى شرفه، ولا ينسى حقده، إن فرعون خير منه حين رأى الغرق فقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ..

وتعود هذه الجبلة اليهودية اليوم من جديد لتزكم الأفق، وتظهر من خلال آلاف الحوادث منها هذه الحادثة. وقف أحد المنافقين في الشام في حرب حزيران عام 67 يخطب على منبر الجامع الأموي والإذاعة تنقل خطبته ليحرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: لا تقوم الساعة حتى يقاتل العرب اليهود فيقتل العرب اليهود، فيقول الحجر والشجر يا عربي، يا عبد الله ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود. وتخرج إذاعة إسرائيل في اليوم الثاني لتصحح للشيخ المنافق الحديث. وتذكر له رواية. وتذكره به:(لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهود وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر. يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود (1)).

والذي يعنينا من الحديث هو معرفة اليهود بمصيرهم المشؤوم، أو

(1) رواه مسلم.

ص: 312

قياداتهم على الأقل، ومعرفتهم أن النصر للمسلمين، لكنهم واثقون كذلك أنهم يقاتلون عربا بدون عقيدة وبدون إسلام. وهم مطمئنون إلى نصرهم في هذه الحالة لما يبذلون من جهد، ويخططون من كيد. ولأنهم حين يحاربون المسلمين فهم منهزمون، ومع ذلك فهم يقاتلون، ويقولون كما قال زعيمهم حيي أنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل.

أما الآن فكما قال الله تعالى عنهم {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ..} وكما قال الله تعالى {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ..} وهم مطمئنون اليوم أن الحرب الحقيقية لم تقم بعد، وأنهم حين يواجهون عنفا في حرب فإنما يكون وراءه مسلمون حقيقيون، إنها نماذج بطولات فردية، وها هم العرب اليوم كلهم يعلنون سلمهم مع يهود ويطلبون منها الصلح. ونهاية اليهود التي كانت في بني قريظة ستكون نهايتهم إن شاء الله على أرض فلسطين، الأرض المباركة التي وعد الله تعالى فيها بنصر جنده المؤمنين. وكانت أسلحتهم وأموالهم غنيمة للمسلمين. يقول المقريزي في إمتاع الأسماع (وجمعت أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع، وألفا رمح، وألف وخسمائة ترس وجحفة، وأثاث كبير، وآنية كثيرة وخمر وجرار سكر فهرق ذلك كله، ولم يخمس، ووجد من الجمال النواضح عدة، ومن الماشية شيء كثير فجمع هذا كله

(1). ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. بل ابتاع بسبايا بني قريظة الخيل والسلاح من نجد. لقد كانت المعركة شوكة كبيرة للمسلمين ونصرا ماحقا لليهود، وإنهاء لوجودهم في المدينة بعد ست سنوات من التعايش القلق. وهذا ما قاله سلام بن مكشم زعيم بني النضير بعد حيي بن أخطب والذي أقام في خيبر وتلقى مع بقية اليهود نبأ مقتل بني قريظة صبرا بالسيف:(هذا كله عمل حيي بن أخطب لا قامت يهودية بالحجاز أبدا (2)). ولكن هذا الحكم العادل،

(1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 245.

(2)

إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 253.

ص: 313

لم يكن غضبا لنفس أو إهانة لآدمية. فلقد حرص عليه الصلاة والسلام على أن لا يكون التشفي والثأر هو الذي يسيطر على الموقف. (فلقد جابذ نباش ابن قيس الذي جاء به (لقتله) حتى قاتله ودق أنفه فأرعفه، فقال صلى الله عليه وسلم للذي جاء به: لم صنعت به هذا؟ أما كان السيف كفاية! ثم قال: أحسنوا إسارهم، وقيلوهم واسقوهم، لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح. وكان يوما صائفا، فقتلوهم وسقوهم وأطعموهم. فلما أبردوا راح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل من بقي منهم .. (1)).

إنها عظمة النبوة التي تحترم آدمية الإنسان، ولو كان يهوديا حكم الله تعالى به القتل، واليوم وفي أقبية سجون من يسمون (بالمسلمين) من المآسي وفنون التعذيب والتجويع والإهانة والسحق ما يشيب من هوله الولدان، والأصل هو إهانة كرامة الإنسان وتمريغه بالتراب، وتجريعه غصص العذاب الذي يترفع عنه الوحوش، وكما يقول سيد رحمه الله: إن الوحوش تأكل لتقتات أما هؤلاء فيتلذذون بالعذاب. ويبقى الإسلام الذي يكرم الإنسان بصفته إنسانا فيعاقبه بما يستحق دون شهوة غضب وحقد وتشف تنيله أكثر مما يستحق.

ويطالعنا في نهاية المطاف التجاوب العميق بين الأوس وبين قرار سيدهم سعد رضي الله عنه بعد أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات والتسابق في التنفيذ. فجاء أسيد بن حضير السيد الثاني للأوس فقال: (يا رسول الله لا تبقين دار من دور الأوس إلا فرقتهم فيها. ففرقهم في دور الأنصار فقتلوهم). وأعلن سعد أن الكاره لهذا القرار هو خارج عن الخيرية والهدى: ما كرهه أحد من الأوس فيه خير، ومن كرهه فلا أرضاه الله. وهكذا انتهت اليهودية في المدينة على تلك المراحل المتلاحقة حيث تلقى كل فريق جزاءه من جنس عمله، قينقاع والنضير وقريظة، وأعطانا هذا الحكم، حرية القيادة في مواجهة العدو بما يناسب

(1) المصدر نفسه ص 248.

ص: 314