الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمة السابعة عشرة
تباشير النصر في قلب المحنة
لقد كان شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل أعظم قوة بشرية في التاريخ. فما عرف رجل يستطيع أن يؤثر في صفوف جيشه وجنده مثل شخص رسول الله، لقد كان دائما في المحنة رجلها الأول، وبكلمات قلائل ينفح في جيشه روح الاستبسال والجهاد، ويتحدث عن النصر حين يفقد الناس أملهم بالنصر، ويضرع إلى الله تعالى يجأر بالدعاء حين يثق الناس بقدرتهم على النصر. ولنشهده عليه الصلاة والسلام في هذه الموافف العصبية. ها هو في بدر يستمع لقول سعد بن معاذ رضي الله عنه: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت، واعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك (1).
إن القول العظيم لسعد ليؤكد الولاء التام من الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستعدادهم للتضحية والموت مع رسول الله. لكنه يؤكد من طرف آخر أن الأمل بالنصر غير قائم. فخوض البحر يعني الاستشهاد أكثر مما يعني النصر، وأمام هذه الروح العالية كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم (2).
ويقول المقريزي: (ثم أراهم مصارعهم يومئذ. هذا مصرع فلان،
(1) و (2) الرحيق المختوم للمباركفوري ص 232.
وهذا مصرع فلان. فما عدا كل رجل مصرعه. فعلم القوم أنهم يلاقون القتال وأن العير تفلت (1).
ويحدثنا المقريزي عن موقفه يوم أحد، وفي أحرج اللحظات وأشدها هولا. (وخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء
…
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطش عطشا شديدا، فذهب محمد إلى قناة حتى استقى من حسى (2)، فأتى بماء عذب فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بخير. وجعل الدم لا ينقطع (من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن (3)).
فالجيش المحطم، والوجه الجريح، والعدو الطاغي، والشهداء السبعون، ومع ذلك يؤكد لجيشه العظيم أن المسلمين لن تنالهم مثل هذه المحنة حتى يستلموا الركن، وهذا يعني أن النصر قادم لا محالة له بإذن الله، والنصر لهذه العصبة بالذات التي تدخل مكة وتستلم ركن الكعبة المشرفة.
وهذا موقفه عليه الصلاة والسلام يوم المحنة الكبرى، يوم الخندق. فقد روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر - ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذوقا - فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كئيبا أهيل أو أهيم) (4)، أي صار رملا لا يتماسك وقال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع آخر. فقال: الله أكبر أعطيت فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم
(1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 75.
(2)
رمل متراكم أسفله صخر صلد ينبع منه ماء عذب.
(3)
المصدر نفسه 1/ 138.
(4)
البخاري 2/ 588 - 589.