المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السمة السادسة عشرةليل المحنة الطويل وخطره - المنهج الحركي للسيرة النبوية - جـ ٢

[منير الغضبان]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌مواصفات المرحلة الأولى

- ‌السمة الأولىالهدنة مع الأعداء ما عدا قريشا وحلفاءها

- ‌السمة الثانيةبناء القاعدة الصلبة

- ‌السمة الثالثةإعلان إسلامية الدولة

- ‌السمة الرابعةلا خيار من المعركة

- ‌السمة السادسةتفتيت التجمع بالنزعة الوطنية والعشائرية

- ‌السمة السابعةمحاولة تفتيت الصف الإسلامي

- ‌السمة الثامنةالعدو يتنكر لقيمه من أجل مصلحته

- ‌السمة التاسعةالخطر على القيادة

- ‌السمة العاشرةحالة الحرب، وتجمع القوى كلها ضد المسلمين

- ‌السمة الحادية عشرةإعلان الحرب على العدو

- ‌السمة الثانية عشرةالتميز الإسلامي قبيل المواجهة

- ‌السمة الثالثة عشرةالمواجهة الحاسمة في بدر، والفرقان فيها

- ‌السمة الرابعة عشرةمعسكر المنافقين، بروزه وخطره وتحجيمه

- ‌السمة الخامسة عشرةالوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه

- ‌السمة السادسة عشرةليل المحنة الطويل وخطره

- ‌السمة السابعة عشرةتباشير النصر في قلب المحنة

- ‌السمة الثامنة عشرةعمليات الاغتيال وأثرها في بث الرعب في صفوف العدو

- ‌السمة التاسعة عشرةالحرب الإعلامية ودورها في المعركة

- ‌السمة العشرونازدياد العدد والعدة

- ‌السمة الحادية والعشرونالجهد البشري في البذل

- ‌السمة الثانية والعشروندور النساء في المعارك ومشاركتهن فيها

- ‌السمة الثالثة والعشرونعبقرية التخطيط القيادي

- ‌السمة الرابعة والعشرونالنصر الإلهي في قلب المحن

- ‌السمة الخامسة والعشرونالتربية الإلهية للنفوس عقب المعارك

الفصل: ‌السمة السادسة عشرةليل المحنة الطويل وخطره

ظروف المعركة، وإمكانيات المسلمين، وجريمة العدو، دون قيود تغل حركة القيادة، إلى أن يأذن الله تعالى بالفتح المبين للمسلمين مع أعدائهم (تقاتلونهم أو يسلمون ..).

‌السمة السادسة عشرة

ليل المحنة الطويل وخطره

لقد لقي المسلمون في مكة شدة. وتمت تربية الجيل الأول من المهاجرين من خلال المحنة. أما الأنصار فلقد عاشرا ميلاد الدولة الجديدة، وتوج هذا الميلاد الجديد بالنصر المؤزر يوم بدر، وطارت القلوب فرحا بهذا النصر، حتى حسب المسلمون أنه لا هزيمة بعد اليوم، خاصة وقد قاتلت الملائكة ووقعت المعجزة الحسية، وانتصر المسلمون العزل القلة على الكفار الكثرة المدججين بالسلاح، ومن أجل ذلك عندما لاحت بوارق حرب جديدة تسارع المسلمون زرافات ووحدانا على دخولها، ولم يتمالكوا أنفسهم من الانضواء فيها، وعندما بدا لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب البقاء في المدينة للدفاع عنها ما تمالكت أعصابهم هذا الأمر، واندفعوا بوعي وبغير وعي يطالبون بالخروج لملاقاة العدو. ولم لا يكون ذلك؟ فالعدو كافر، وهم مؤمنون، ونصر الله تعالى قائم للمؤمنين على الكفار. يقول المقريزي: (

فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا، وطلبوا الشهادة، وأحبوا لقاء العدو: أخرج بنا إلى أعدائنا. وقال حمزة، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك في طائفة من الأنصار:(إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت في بدر في ثلاثمائة رجل فظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به، فساقه الله إلينا في ساحتنا). ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرى من إلحاحهم كاره، وقد لبسوا السلاح. وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب بالحق لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارجا من المدينة، وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت

ص: 315

صائما، وتكلم مالك بن سنان، وإياس بن أوس بن عيتك في معنى الخروج للقتال، فلما أبوا إلا ذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بالناس، وقد وعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن النصر لهم ما صبروا (1). ولقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة النفسية العالية فقال:{ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (2)} . من هذه الذروة في الثقة بالنصر، والجيش يمضي بمعنويات عالية، كانت المفاجأة الأولى في انسحاب ثلث الجيش عائدا إلى المدينة، ومع ذلك فلم يفت هذا الأمر في أعضاد الناس، وتسارع الصبيان للانضمام للجيش، فأعادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وتحقق النصر الأول كما قال القرآن الكريم كذلك، {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه .. (3)}. واستطاع سبعمائة مقاتل أن يحققوا نصرا ساحقا على ثلاثة آلاف من المشركين: كما يقول المباركفوري عن هذا النصر: (هكذا دارت رحى الحرب الزبون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرا على الموقف كله، حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف. كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين.

وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها - حتى لم يجترىء أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط - بعد مقتل صواب - فيحمله ليدور حوله القتال، فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار (4)).

وقال ابن إسحاق: (ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك

(1) إمتاع الأسماع للمقريزي: 1/ 117.

(2)

آل عمران: الآية 143.

(3)

آل عمران من الآية 153.

(4)

الرحيق المختوم ص 293.

ص: 316

فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم - سوق - هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير (1)). ومن هذه القمة السابقة تبدأ الابتلاءات والمحن.

أ - محنة أحد:

يصف المقريزي هذه المحنة بقوله: (وكانت الريح أولى النهار صبا، فصارت دبورا وبينا المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم؟ إذ دخلت الخيل تنادي فرسانها بشعارهم (ياللعزى، يالهبل) ووضعوا في المسلمين السيوف وهم آمنون، وكل منهم في يديه أو في حضنه شيء قد أخذه، فقتلوا فيهم قتلا ذريعا، وتفرق المسلمون في كل وجه، وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا. وكسر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل في الخيل إلى موضع الرماة، فرماهم عبد الله بن جبير بمن معه حتى قتل، فجردوه ومثل به أقبح المثل، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته وخرجت حشوته، وجرح عامة من كان معه، وانتقضت صفوف المسلمين، ونادى إبليس عند جبل عينين - وقد تصور في صورة جعال بن سراقة - أن محمدا قد قتل، ثلاث صرخات؟ فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين. واختلط المسلمون وصاروا يقتلون، ويضرب بعضهم بعضا ما يشعرون من العجلة والدهش، وجرح أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو بردة بن نيار وما يدري؟ وضرب أبو زعنة أبا بردة ضربتين وما يشعر، والتقت أسياف المسلمين على اليمان وهم لا يعرفونه حين اختلطوا وحذيفة يقول: أبي! أبي! حتى قتل. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، وأمر رسول الله بديته أن تخرج، فتصدق حذيفة بن اليمان بديته على المسلمين

وأقبل الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة!! فأقبلوا إليه عنقا واحدة: لبيك داعي الله صلى الله عليه وسلم فيضرب يومئذ جبار بن صخر في رأسه وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون: أمت أمت فكف

(1) السيرة النبوية لابن هشام 3/ 82.

ص: 317

بعضهم عن بعض. وقتل مصعب بن عمير وبيده اللواء .. وتفرق المسلمون في كل وجه، وأصعدوا في الجبل لما نادى الشيطان: قتل محمد

وصار أبو سفيان بن حرب يقول: يا معشر قريش أيكم قتل محمدا؟ فقال ابن قميثة: أنا قتلته! قال: نسورك (1) كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل يطوف بأبي عامر الفاسق في المعزك، هل يرى محمدا؟ وتصفح القتلى فقال: ما نرى مصرع محمد؟ كذب ابن قميثة. ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟ قال: رأيته قبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حق. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه - يقول: إلي يا فلان، إلي يا فلان؟ أنا رسول الله! فما عرج واحد عليه. هذا، والنبل يأتيه صلى الله عليه وسلم من كل ناحية، وهو في وسطها والله يصرفها عنه

وكان أربعة من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفهم المشركون بذلك، وهم: عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وعمرو بن قميثة وأبي بن خلف، ورمى عتبة يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أحجار فكسر رباعيته، وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر (2) في وجنته، وأصيبت ركبتاه ومجشتا (3)

وقتل من المسلمين بأحد أربعة وسبعون: أربعة من قريش وسائرهم من الأنصار

وجعل عبد الله بن أبي والمنافقون يشتمون معه، ويسرون بما أصاب المسلمين، ويظهرون أقبح القول. فيقول ابن أبي لابنه عبد الله - وهو جريح قد بات يكوي جراحه بالنار -: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمد وأطاع الولدان والله لكأني كنت أنظر إلى هذا؟ فقال ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خير .. وأظهرت اليهود القول السيء فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك! ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في

(1) نسورك: نلبسك الأساور كسواري كسرى.

(2)

المغفر: حلق وزرد ينسج من الدروع على قدر الرأس.

(3)

مجشتا: خدشتا خدشا شديدا.

ص: 318

بدنه، وأصيب في أصحابه! وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن. فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من يهود والمنافقين، فقال عليه السلام: يا عمر، إن الله مظهر دينه، ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم؟ قال، فهؤلاء المنافقون!! قال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: بلى، يا رسول الله! وإنما يفعلون ذلك تعوذا من السيف، فقد بان لنا أمرهم. وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة! فقال: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: يا ابن الخطاب، إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن (1)).

لقد كانت المعركة كما نرى انعطافة خطيرة في سلم النصر. ولم يعهد المسلمون مثل هذا أبدا، ولقد أوضح القرآن الكريم في الآيات التي نزلت في أحد هذه المعاني والأوضاع النفسية التي عاناها المسلمون ما هو أكبر من الوصف البشري القاصر. ولقد تناول الحديث الوضع والوهن الذي أصاب المسلمين عامة: ثم الأوضاع الخاصة للمنافقين منهم، ثم الأوضاع الخاصة للربانيين منهم. {.. أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين

} (2) فلقد كان خبر مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم زلزلة عامة للصفوف، وكان الانقلاب على الأعقاب على أثره ظاهرة عامة لم ينج منها إلا القليل، وهم الربانيون الذين قاتلوا معه.

(1) مقتطفات من غزوة أحد للمقريزي من الصفحات 127 - 166 - إمتاع الأسماع ج 1.

(2)

الآيات 139 - 144 من سورة آل عمران.

ص: 319

وأن يكون الحديث عن صف النبوة بهذه الصرامة ليدل أعمق الدلالة على عظم هذه المحنة.

إننا كثيرا ما نندفع في التقليل من شأن القائد بحجة أننا أصحاب فكرة، ونغالي في هذا الأمر. حتى لكأن القائد للجماعة لا يعدو أن يكون جنديا عاديا. ونرى حب القائد والتفاني في سبيله والتعلق به وثنية. فنكرر الجملة المعهودة: إذا غابت الفكرة، برز الصنم. وإن كنا في هذا الموقف أمام رسول رب العالمين، وليس قائدا بشريا فقط. لكن هذا يعني من طرف آخر أهمية القائد الذي تلتقي القلوب عليه، ودوره في تلاحم الصف، وتآخيه، ولكم رأينا خالد بن الوليد رضي الله عنه في المعارك التي خاضها كيف كان يدفع بالصف كله إلى التضحية حين يكون أول من يخرج للمبارزة.

القرآن الكريم يقرر أن المسلمين الصحابة من الجيل الأول تزلزلوا لخبر مقتل رسول الله صلوات الله عليه. وإن كان لا يعذرهم بهذا الموقف، لكنه في الوقت نفسه يثني الثناء العطر على الذين ذادوا عنه وقاتلوا بجواره. {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين .. (1)} .

إننا بحاجة ونحن نربي هذه الجماعة المسلمة أن نوازن بين هذين الأمرين دون طغيان. الأمر الأول: ربط الجنود بقائدهم ربطا وثيقا، ربط حياة وموت، واندفاعا إلى الاستشهاد وراءه، وتلبية لأمره، وذودا عنه.

الأمر الثاني: أن يكون عمق العقيدة وحبها أكبر من حب القائد في القلب، فلو سقط القائد فلا بد من الموت على ما مات عليه، والسير على منهجه. ولئن تزعزع فلتكن العقيدة أكبر منه، وما حبه والتفاني ذودا عنه، إلا لأنه يمثل الاستقامة على منهج الله، ولا بد أن نشير كذلك إلى عذر الشباب حين يفقدون القائد الذي يرون به المثل الأعلى، ويتحركون من خلاله، وما أحوج الجماعة المسلمة إلى هذا النموذج، وهذه النماذج ..

(1) آل عمران، الآية 146.

ص: 320

{

ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين اذ تصعدرن ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور. إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (1)}.

يقول المقريزي واصفا هذه الحالة: (ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة فإن المشركين لما انهزموا وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاؤوا ووقعوا ينتهبون عسكرهم، قال بعض الرماة لبعض لم تقيمون ها هنا في غير شيء؟ قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم! فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعضهم ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم: احموا ظهورنا، ولا تبرحوا مكانكم؟ وإن رأيتمونا نقتل فلا

(1) سورة آل عمران. الآيات 152 - 159.

ص: 321

تنصرونا، وإن غنمنا فلا تشركونا احموا ظهورنا؟ فقال الآخرون لم يرد رسول الله هذا. وانطلقوا، فلم يبق منهم مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا دون العشرة، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون (1)).

نحن أمام صورة حددها القرآن الكريم بقوله: {.. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة

}. فلقد حدث طارىء جديد قلب موازين القوى في قلب المعركة، هذا الطارىء هو الفشل والتنازع في الأمر، والميل إلى الدنيا. والفشل هنا ضعف ووهن أمام إغراء الدنيا وزينتها، واختلفت الآراء حول الموضوع بين من يرى اللحوق بالغنائم ومن يرى الثبات في الجبل. يقول الشهيد سيد رحمه الله في التعليق على هذه الآية: (وهو تقرير لحال الرماة. وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة، ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهى الأمر إلى العصيان بعدما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه، فكانوا فريقين: فريقا يريد غنيمة الدنيا، وفريقا يريد ثواب الآخرة. وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة، ولم يعد الهدف واحدا. وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة. فمعركة العقيدة ليست ككل معركة، إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير. ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير. إنها معركة الله، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم لله وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها؟ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية. ولقد يغلب المبطلون الذين يرفهون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد، فلا يمنحهم الله النصر أبدا، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا

وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة، وهذا ما أراد الله - سبحانه أن يعلمه للجماعة

(1) المقريزي، إمتاع الأسماع ج 1 ص 127، 128.

ص: 322

المسلمة، وهي تتلقى الهزيمة المريرة، والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح:{منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} . والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم .. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد:{منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها، ويعرف من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها! وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها، ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة:{ثم صرفهم عنكم ليبتليكم} .

لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر. فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل، وصرف المقاتلين عن الميدان. فلاذوا بالفرار. وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم. ولكن مدبرا من الله ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح، وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب، ومن تمحيص النفوس، وتميز الصفوف - كما سيجيء (1).

ويقف المسلم أمام قول الله عز وجل مرة ثانية {.. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة

} فمن الذي فشل وننازع وأحب الدنيا؟

ظاهر الأمر أن هذا الكلام منصب على الرماة السبعين، وهم عشر الصف الإسلامي، هم عشر الجيش. والتنازع قد وقع بينهم بين من يريد أن ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريد الآخرة، وبين من نازعته نفسه إلى الغنيمة في الدنيا. خطيئة يقع بها أقل من عشر الجيش - لأنه بقي على الجبل حوالي العشر - فتنزل العقوبة بالجيش الإسلامي كله، وينتزع منه النصر بأمر الله سبحانه - وقائد الجيش محمد رسول الله - فما هو الميزان في ذلك؟

(1) في ظلال القرآن، سورة آل عمران، ص 106 - 108 المجلد 2 ط دار إحياء التراث العربي.

ص: 323

إن الله تعالى العليم بما في القلوب، يعرف من هم من غير الرماة يريدون الدنيا، فالظاهرة ليست محصورة فيهم. ولا شك في ذلك، لأن المنافقين الذين هاجمهم القرآن الكريم لتخاذلهم أمام المحنة لم يكونوا من الرماة، ولا نشك في إرادتهم للدنيا وحبهم لها. لكننا نقول كذلك أن في جيش محمد صلى الله عليه وسلم، غير الرماة وغير المنافقين، من يحبون الدنيا يركنون لها وإرادة الله تعالى سبحانه أن يعاقب جيش فيه أمثال هؤلاء. ولا شك أن معصية واحدة واضحة صريحة صدرت من عشر الجيش انعكس أثرها على الجيش نفسه، بل على قائده محمد صلى الله عليه وسلم، وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته وأدميت شفته. ونقارن بين قضيتين:

لقد كان المنافقون المنسحبون في بداية الأمر ثلث الجيش. ومع هذا العدد الضخم فلم يحرم المؤمنون النصر، أو يستحقوا العقوبة وثلثهم من المنانقين. ويشير القرآن كذلك إلى وجود المنافقين في الجيش بعد الثلث الذي انفصل، وذلك في الحديث عنهم {وطائفة قد أمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية

} وذلك في الحديث عنهم كذلك {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا

}. والمنافقون هم إخوان الكافرين من اليهود بلا شك. ومن هؤلاء المنافقين من مات أو قتل في المعركة في أحد.

مع وجود المنافقين في الجيش، ومع انفصال المنافقين عنه، مع هذا العدد الضخم كله لم يحرم المؤمنون النصر، وفيهم قرابة النصف لأن الله تعالى قال:{ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} . فلقد استحقوا موعود الله بالنصر رغم انفصال ثلث الجيش، وانكشاف البقية من المنافقين. إنما كانت العقوبة من أجل هذا العشر الذي عصى بوضوح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يحب من موعود الله، من أجل هذا العشر ومن معه من الذين أحبوا الدنيا وأرادوها فكانت العقوبة:{ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} وهذا الابتلاء عفو من الله وهذه المحنة عفو من الله ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين.

ص: 324

إن معصية الصف المؤمن، والخلل فيه أضخم بكثير من معصية المنافقين المدسوسين في الصف، فالمؤمنون أعظم عند الله تعالى من أن يعاقبهم لوجود المنافقين والمندسين فيهم بغير علمهم. إنما يستحقون العقوبة عندما ينحدرون هم أو ينحدر بعضهم فيعصي أمر قيادته، ويعصي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعاقب بهم الجيش كله. وحسبنا هذا الدرس العنيف ليكون أمام الحركة الإسلامية ولتعرف من أين تؤتى. إنها لا تؤتى مما هو أكبر من طاقتها، من المنافقين المتسللين المندسين في الصف، فالله تعالى يصرف بلاءهم وكيدهم، إنما تؤتى من ضعف التربية في هذا الصف، فيكون الجندي المسلم أدنى من المستوى المطلوب، ولو كان هؤلاء قلة في الجيش.

وليس بعيدا عنا ما وقع للحركة الإسلامية في بعض معاركها مع الطاغوت، فلقد كانت المخالفة الصريحة من جندي خرج على قيادته بعد أن كان منها مع المجموعة التي معه، ومع التوجيهات التي أصدرها للداخل باسم هذه القيادة أن وقعت مأساة القرن في حماة ومحاولة إبادة البلد بما فيها وبمن فيها. وكانت المحنة الرهيبة التي ذهب ضحيتها الألوف من المقاتلين ومن الرجال والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. ولا شك أن لهذه المحنة أسبابا أخرى غير هذه المخالفة. ولكن السبب المباشر لها هو هذا الموقف. كما كان السبب المباشر لمحنة أحد هو موقف الرماة الستين.

ونستطيع أن نؤكد أن هذه الأمور التي تم الامتحان من أجلها من الفشل والتنازع وحب الدنيا ليست خاصة بهؤلاء المخالفين، إنما هي ظاهرة عامة تشمل الصف كله قاعدة وقيادة. فمن هذا الصف من يريد الدنيا، ومن هذا الصف من يريد الآخرة، فكان قدر الله تعالى أن يصرف المؤمنين عن الكفار، ويكون الابتلاء للمؤمنين، ويكون عفو الله وفضله عليهم أن لا ينالهم المحق كما نال الكافرين، وأن يتخد منهم شهداء والله لا يحب الظالمين.

ولقد كان حكم الله تعالى على الصف الإسلامي في أحد أن أوضح الفرق كذلك بين الفريقين من المؤمنين {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} . فالذين يريدون الآخرة جاهدوا وصبروا، وسكب الله تعالى في قلويهم السكينة والأمن إلى درجة لا يكاد يصدقها العقل لو كانت

ص: 325

في غير كتاب الله وسيرة رسوله، أن يبلغ الأمن حد النعاس يغشى المؤمنين في قلب المعركة. والسيوف كالصواعق تنصب من كل جانب والنبال تنهمر كالمطر، وخيل المشركين تقتحم الصفوف، والمؤمنون أثبت من الجبال في قلوبهم كما يقول أبو طلحة:(رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحث جحفته من النعاس (1)). وفي رواية أخرى عنه: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه). والفريق الآخر وصل به الضعف والوهن إلى عودة النفسية الجاهلية لديه ودخل الخلل إلى تصوراته العقيدية كذلك {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (2)}. والفريق الثالث لم يتمالك في المعركة فلاذ في الفرار {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (3)}. لاذوا بالفرار ولما يمر عليهم سنتان من الزمان بل سنة واحدة حين نزل عليهم قول الله عز وجل:{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (4)} . ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة، فليس فئتهم حتى يتحيزوا إليه في المدينة، ولقد عفا الله عنهم لشدة الهول الذي لاقوه، حين أطبق عليهم الكفار.

إن ضخامة المحنة تظهر في الوضع الذي انتهى إليه جيش النبوة، بين النماذج الإيمانية العالية التي تمثلت في:

(1) رواه الترمذي والنسائي والحاكم.

(2)

سورة آل عمران 154.

(3)

سورة آل عمران 155.

(4)

سورة الأنفال الآية 16.

ص: 326

1 -

الربانيين: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (1)} .

2 -

الذين أصابهم النعاس أمنة منه: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغش طائفة منكم

(2)}.

3 -

الذين ثبتوا بعد المحنة: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء

(3)}.

4 -

الذين قضوا شهداء في المعركة: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل

(4)}.

5 -

الذين استجابوا للنداء رغم القرح والجراح: {الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم القرح للذين احسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (5)} .

ثم النماذج الضعيفة التي هزتها المحنة من الأعماق وهي التي تحدثنا عنها من قبل لكن الصف كله قد نالته المحنة بصورة من الصور، إضافة إلى الجو العام، والرأي العام العربي الذي وصل إليه أبناء هذه المحنة، وأن قريشا قد انتقمت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت زهرة أصحابه، ولم يكن مقتل الحمزة ذا أثر قليل في هذه الأجواء خاصة، وهند بنت عتبة تملأ الدنيا ضجيجا في محافل العرب بثأرها لأبيها وعمها وأخيها وبكرها في هذه المعركة. والمعركة

(1) آل عمران الآية 147.

(2)

آل عمران من الآية 154.

(3)

آل عمران الآيتان 173، 174.

(4)

آل عمران الآيات 169 - 171.

(5)

آل عمران الآية 172.

ص: 327

الشعرية الإعلامية التي اشتعلت بين المسلمين والمشركين بعد أحد تناقلتها المحافل في كل مكان من الأرض العربية. وحققت الغاية التي كان يحلم بها أبو جهل في بدر أن يرد بدرا ويهزم محمدا، ويقيم عليها عشرة أيام تعزف عليه القيان ويشرب الخمر، وينحر الجزر حتى تسمع العرب بمسيره فلا تزال تهابه أبدا، وهذا الذي جرى اليوم. فانقلبت الكفة لصالح قريش، وبدأ العرب يهمون بغزو المدينة.

يقول المباركفوري حول هذه المرحلة: كان لمأساة أحد أثر سيء على سمعة المؤمنين، فقد ذهبت ريحهم، وزالت هيبتهم عن النفوس وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين، وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم، وتستأصل شأفتهم. فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين - إلى حين - يهددون بالأخطار، ولكن تلك هي حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي صرفت وجوه التيارات، وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبت لهم العلو والمجد من جديد، وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد، فقد حفظ بها مقدارا كبيرا من سمعة جيشه، واستعاد بها من هيبتهم ومكانتهم ما ألقى اليهود والمنافقين في الدهش والذهول، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم بل زادت فيها، وفي الصفحة الآتية شيء من تفاصيلها.

ب - سرية أبي سلمة:

أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة، فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون رجلا مقاتلا من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة وعقد له لواء، وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب

ص: 328

المسلمون إبلا وشاة لهم فاستاقوها وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حربا. وكان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4 للهجرة (أي أن بينها وبين أحد شهرين ونيف فقط).

ج - بعث عبد الله بن أنيس:

وفي اليوم الخامس من نفس الشهر - المحرم سنة 4 هـ - نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس ليقضي عليه.

د - بعث الرجيع:

.. وفي شهر صفر من نفس السنة - أي الرابعة من الهجرة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من عضل والقارة، وذكروا أن فيهم إسلاما، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر - في قول ابن إسحاق وفي رواية البخاري أنهم عشرة .. فذهبوا معهم فلما كانوا بالرجيع - وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة - استصرخوا عليهم حيا من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعهم ما يقرب من مائة رام، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم، فأحاطوا بهم - وكانوا قد لجأوا إلى فدفد - وقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا، فأما عاصم فأبى النزول، وقاتلهم في أصحابه، فقتل منهم سبعة بالنبل، وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى، فنزلوا إليهم، ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قسيهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد وباعوهما بمكة

هـ - مأساة بئر معونة:

وفي نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرجيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة. وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال: يا رسول الله لو بعثت

ص: 329

أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك، لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث معه أربعين رجلا في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، وأمر عليهم المنذر بن عمرو - وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون النهار يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن، ويصلون بالليل حتى نزلوا بئر معونة .. ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلا فطعنه بالحربة من خلفه. فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام: فزت ورب الكعبة.

ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عصية ورعل وذكوان فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار فإنه ارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق

ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملا معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين. تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد، إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح، وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة

وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألما شديدا، وتغلب عليه الحزن والقلق (1) حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه (2)).

و- غدر بني النضير:

قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتخرقون على الإسلام والمسلمين .. ولكنهم بعد وقعة أحد تجرؤوا فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سرا، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين. وصبر

(1) ذكر الواقدي أن خبر أصحاب الرجيع وخبر أصحاب بئر معونة أتى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة.

(2)

كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة.

ص: 330

النبي صلى الله عليه وسلم حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرجيع وبئر معونة حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم. وبيان ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري - وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة - فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه. وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم. فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، لكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم (1).

ز - غزوة نجد:

قبل أن يقوم النبي بتأديب أولئك الغادرين (الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد) نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة، حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين. وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين.

ح - غزوة بدر الثانية:

(.. ففي شعبان سنة 4 خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة وانتهى إلى بدر، فأقام بها ينتظر

(1) وكانت غزوة نجد في ربيع الثاني أو جمادى الأولى.

ص: 331

المشركين. وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من المشركين ومعهم خمسون فرسا، حتى انتهى إلى مر الظهران على بعد مرحلة من مكة. فنزل بمجنة - ماء في تلك الناحية - فاحتال للرجوع وقال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا). ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضا فقد رجع للقاء المسلمين. وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة. فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة، وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم وتوطدت هيبتهم في النفوس، وسادوا على الموقف.

ط - غزوة دومة الجندل:

عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، وقد ساد المنطقة الأمن والسلام، واطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصى حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف ويعترف بذلك الموالون والمعادون.

مكث بعد بدر الصغرى في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل، قريبا من الشام - تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعا كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليالي بقين من ربيع الأول سنة 5 للهجرة وأخذ رجلا من بني عذرة دليلا للطريق يقال له مذكور. خرج يسير الليل ويكمن النهار حتى يفاجىء أعداءهم وهم غارون. فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب.

ي - غزوة الأحزاب:

.. خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت من المشرق قبائل غطفان .. واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه، وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عرمرم

ص: 332

يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل. جيش ربما يزيد عدده عن جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ. ولو بلغت هذه الأحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطر على كيان المسلمين مما يقاس، ربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء. وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي الله عنه. قال سلمان: يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا - وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك. وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعا ....

وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضابا يتحسسون نقطة ضعيفة، لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه أو يهيلوا عليه التراب ليبنوا به طريقا يمكنهم من العبور. وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، أو لبناء الطريق فيها. ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم. ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين .. وقد استاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين. ففي البخاري .. أنه قال يوم الخندق: ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس. وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعا، قال النووي: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها.

ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين دامت أياما، إلا أن الخندق لما كان حائلا بين الجيشين لم يجر بينهما

ص: 333

قتال مباشر وحرب دامية بل اقتصروا على المراماة والمناضلة

وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها تريد إيصال السم داخل أجسادهم. انطلق كبير مجرمي بني النضير إلى ديار بني قريظة فأتى كعب بن أسد القرظي - سيد بني قريظة، وصاحب عقدهم وعهدهم

فلم يزل حيي بكعب نقيلة في الذروة والغارب

حتى نقض كعب بن أسد عهده وبرىء مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين .. وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف. بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى:{وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن تأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غدر بني قريظة فاضطجع ومكث طويلا حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل (1) فنهض يقول: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره .. ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن

وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين شهرا أو نحو شهر .. إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول

(1) ليست القضية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية أمل أو يأس. بل هي قضية ثقة بالله لا تحد. أو تخطيط لمواجهة حاسمة، أو تلق لوحي الله، وكنا نود من علامتنا المباركفوري أن لا يرى هذا التعليل لهذا الموقف.

ص: 334

الله صلى الله عليه وسلم حين أجلى الله الأحزاب، والآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم (1)) (2).

تجمع هذه الأحداث التي استمرت سنتين متتاليتين خطوط عريضة تمثل طبيعة هذه المرحلة، وتوضح جوها العام.

الخط الأول: تدهور السمعة الضخمة التي ارتفعت للمسلمين بعد بدر. وكيف استطاع ثلاثمائة مقاتل أن ينتصروا على ألف مدججين بالسلاح، كما أعقب بدرا النصر على بني قينقاع. فالمسلمون مرفوضون في البيئة الوثنية، وهم منشقون عن قريش حامية الحرم، وجاؤوا بدين جديد، فما أن لاح للأعراب والقبائل المجاورة بوادر ضعف عند المسلمين حتى راحوا جميعا يتهيأون لغزو المدينة أو الندر بالمسلمين على طبيعة الأعراب في ذلك وطبيعة اليهود في ذلك، وإذا كان هذا البحر الزاخر من الأعداء هادئا قبل الهجوم كله، ولو كان أي شخصية غير نبي الله، أو عقيدة غير الإسلام، لانتهى وأصبح كأمس الدابر، لكنه الرسول والرسالة.

الخط الثاني: فلو نظرنا في كل تحركات المسلمين العسكرية، خلال هذه المرحلة لوجدناها تعتمد الهجوم كأقوى وسيلة من وسائل الدفاع. وهو هجوم مركز مدروس مخطط له مهمته أن يضرب العدو قبل أن يتحرك نحوه، ولم يكن خط فتح الجبهات كلها أو ضرب عدو هادىء هو المحرك لهذه العمليات. إنما كان الهدف منها إحباط التجمعات المضادة للإسلام، والتي تعد لغزوه. والمسلمون يحسبون في كل يوم حسابا جديدا يمكن أن ينقض عليهم من الشمال أو الجنوب أو الشرق.

وما أحوج الحركة الإسلامية اليوم وهي تخوض معركتها الشرسة ضد الطاغوت أن تقف هذا الموقف بعد المحنة العنيفة التي نزلت بها. فلا شك أن

(1) عن صحيح البخاري 2/ 591.

(2)

أخذنا هذا التلخيص الجيد من العلامة المباركفوري من الصفحات 325 - 351. فهو من أدق ما كتب في هذا الموضوع وأوثقه، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

ص: 335

سمعتها العسكرية قد تدهورت رغم ضروب البسالة والتضحية التي أبدتها في المعارك التي خاضتها وأصبح الكثير من المحايدين يصبون غضبهم على هذه الحركة لأنها فتحت حربا غير قادرة على خوضها، بل ينفضون أيديهم منها، وأصبح المتغاطفون مع الحركة الجهادية منصرفين عنها، كما أن ظروف الحركة الإسلامية اليوم بعد محنتها هي أفضل من ظروف الحركة الإسلامية بعد أحد.

إن الخصوم الفكريين للحركة والمجاورين للطاغوت لهم مصلحة كبرى في سقوط النظام النصيري المقيت في المنطقة. بينما لم يكن لأحد من أعداء المسلمين في الجزيرة العربية مصلحة في سقوط نظام قريش وزوال سلطانها، وهم يرونها تقدم الخدمة لحجيجهم وتتفانى في خدمتهم.

صحيح أنه ليس من مصلحة الحركة الإسلامية اليوم أن تعدد جبهاتها أو تكثر خصومها، وأن تحصر معركتها مع طاغوت مستبد واحد، حاربها أعنف المحاربة، ولكن استمرار الركود بعد المحنة، يغير الجو كله ضدها، ويطمع الجميع فيها، بل بتعبير أدق، يمكن أن تفقد مواقعها التي ربحتها من خلال ثقة الناس بقوتها وقدرتها على الصمود والمواجهة وإسقاط النظام الطائفي الكافر.

كما أننا لا ننسى صعوبة هذا الخط الهجومي للحركة الإسلامية اليوم، وهي تنطلق من غير أرضها، ومن غير سلاحها، وليس عندها أرض محررة تتحرك فيها. لكن هذا لا يعفيها من المواجهة، وإلا خسرت رصيدها كله، وأطمعت الأعداء فيها بل الأصدقاء وكذلك.

الخط الثالث: لم يكن هدف الدعوة لينسى أبدا على الطريق، إنه دائما الهدف الأول، وفي الوقت الذي رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة سانحة لهذه الدعوة أن تنتشر لم يتوان أبدا عن بث الدعاة لذلك، وما المحنتان الضخمتان اللتان حلتا بالمسلمين في الرجيع وبئر معونة إلا بسبب ذلك. وكان هذا بعد أشهر قليلة من محنة أحد، ولا شك أن انتشار الدعوة في أرض جديدة، يعني كسب أنصار جدد لها، وهذا ما حدا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث عشرة إلى عضل والقارة وأن يبعث أضخم تجمع دعوي إلى نجد قوامه سبعون من قراء

ص: 336

المسلمين وفضلائهم وساداتهم. فنجاح هؤلاء في دعوتهم يعني أن تنضم نجد كلها لدولة الإسلام، وبإذن الله بالفتح من عنده في أرض جديدة قد تكون أهم من المدينة ذاتها عاصمة الإسلام، وقبائل نجد تشكل خطرا ضخما على الإسلام، وبالتالي ستكون أقوى أسلحته يوم تنضم له. وحتى ندرك بأس قبائل نجد نذكر موقف عامر بن الطفيل. يوم هدد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو المدينة وذلك في المرحلة الثانية للدولة المسلمة، في ألف شقراء من الخيل وألف فارس. وما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا:(اللهم آلفني عامر بن الطفيل). وكانت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الطاغية على أمل أن يسلم .. ويدخل قواته كلها في حظيرة الإسلام والجهاد. وهذا ما يحسن أن تذكره الحركة الإسلامية دائما وفي كل وقت - إنها دعوة قبل أن تكون ثورة، وإنها مسؤولة عن نشر هذه العقيدة وإبلاغها إلى الناس في أي ظرف وأن لا تتحول إلى شباب يحملون السلاح ويحلمون بالنصر، فهذه نقطة قاتلة بالنسبة لها، ولن تصل إلى النصر حين تنسى الدعوة، وتنسى بناء رجالها على ضوء هذا الدين بله دعوة الناس إليه.

الخط الرابع: ولكن الواقع العملي كان على غير ما خطط وقدر له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد ذهب العشرة الأوائل غدرا في الرجيع، وذهب القراء السبعون عجزا في بئر معونة وقضوا شهداء جميعا، ولم تكن محنة بئر معونة بأقل من محنة أحد من حيث حجم الخسائر، ونوعية الشهداء. وكانت ضخامة المحنة أن قضوا في شهر واحد. ولم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أكثر من استمطار الرحمة عليهم، والدعاء على الغادرين بهم في قنوته، ولم يكن قادرا على الثأر لهم من أعدائهم. وأهمية هذا الخط بالنسبة للحركة الإسلامية اليوم يحتاج له شباب الدعوة ورجالها حين يفاجأون بفشل مخطط أقدمت عليه القيادة.

إن ضعف التربية في صفوف الحركة الإسلامية سرعان ما يدفع شبابها إلى توجيه النقمة على القيادة، وتوجيه السباب والاتهام لها، والطعن في صلاحيتها وإخلاصها ونيتها، وإذا بنا أمام فاجعتين:

الأولى: فشل مخطط أو خسارة معركة.

ص: 337

الثانية: تأزم الثقة في الصف المسلم وفقدانها أحيانا، وتخلخل هذا الصف وضعفه وهو أخطر من المحنة الأولى.

ونود من شباب الدعوة أن لا يجدوا الغرابة أو يستهجنوا ضعفا أو خسارة لأن هذه سنة الأنبياء في حربهم مع أعدائهم: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس (1)} . وكما قال أبو سفيان بين يدي هرقل: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. كما يشير الأمر كذلك إلى إمكانية الثقة بمشرك والتعامل معه بأعرافه. فأبو براء مع أنه لم يدخل في الإسلام، فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره للسبعين من صحبه، ولم يخفر أبو براء ذمته، لأن بني عامر حافظوا على جواره. إنما غدرت بنو سليم بهم بدعوة عامر بن الطفيل.

ونود أن نشير إلى نقطة ثانية:

إن شباب الدعوة كثيرا ما يحكمون بسقوط القيادة لأنها خدعت من عدو، ولأنها لم تستطع كشف هويته، وهذا ما جرى في وقتنا الحاضر مع بعض قيادات الجماعة المسلمة حين ذخل عليها من بعض أعدائها. فليطأمن الشباب من غلوائهم، وهم يرون سيد الخلق الموحى إليه من السماء يخدع بالله فينخدع، ويرسل الشباب العشرة يدعون للإسلام، فإذا بهم يسلمون للأعداء من هؤلاء الغادرين.

الخط السادس: صبر وثبات الشباب على هول المحنة وضخامتها فرغم مرور سنتين على تتابع المحن دون تحقيق نصر حربي يذكر. فما فت ذلك في أعضاد المسلمين، وما ألان قناتهم، ولا نقول الصف كله، بل غالبية الصف، ولم يتخلف جندي عن أمر يوكل إليه سواء أكان وحده ليدخل جيش عدو أو يغتال قائد جيش، أو يمضي في سرية صغيرة يواجه بها جيشا عرمرما أو يلاحقه. لقد كانت صفة الالتزام والطاعة هي السيمة الأساسية في قلب هذه المحنة، وما قصة حذيفة عنا ببعيدة حين انتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يأتيه

(1) آل عمران من آية 140.

ص: 338

بخبر القوم أيام الخندق، فلم يستجب أحد من الخوف والجوع والبرد رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترط لمن يخرج ليأتيه بالخبر، السلامة ورفقته في الجنة. لكن عندما نادى حليفة باسمه ما تردد حذيفة لحظة واحدة في تلبية الأمر، لأنه أمر محدد لشخصه دون أن يعبأ بالجوع والبرد والخوف.

الخط السابع: إن هذا التحرك العسكري خلال السنتين لم يرافقه مواجهة مع العدو لقد كان كله فض تجمع أو محاصرة موقع، حتى غزوة بني النضير التي رفعت معنويات المسلمين إلى الأوج. لم يقع فيها حرب تذكر، كما يقول تعالى:{وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير (1)} . فالله تعالى ألقى الرعب في قلوب المظاهرين من أهل الكتاب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.

الخط الثامن: ويقظة القيادة واضحة تماما خلال هذه المرحلة التي تراقب الجو كله من كل جهاته. من جهة مكة وقريش في الجنوب، ومن جهة نجد في الشرق، ومن جهة الشام في الشمال، وأي تجمع تسمع به، يود أن ينقض على المدينة تباغته قبل أن يتحرك وتلاحقه. فتحطم أعصابه وأعصاب حلفائه. وإذا كنا نجد العذر للقيادة أن تخدع مرة واحدة، فليس هذا يعني أن تكون دائما كذلك، أو أن تبرر غفلتها وسذاجتها تحت هذا الستار، فلئن وقعت المأساة والمحنة مرة أو مرتين، لكن اليقظة النبوية العجيبة حطمت عشرات المحن التي يمكن أن تحل بالمسلمين لو ركنت مرة واحدة أو هدأت أو انشغلت بنفسها عن المعركة.

الخط التاسع: وبهذا التحرك خلال هذه المرحلة، وإن لم يتحقق نصر عسكري حاسم، فقد تحقق نصر معنوي مؤزر، وذلك من خلال سرعة الحركة ودراستها المستأنية وتخطيطها المحكم، ولم تمكن قريشا من أن تتغنى بأمجادها كثيرا خاصة عندما تم تحدي المسلمين لقريش التي نكلت عن

(1) الحشر /6.

ص: 339

موعدها في بدر الثانية، وتعلل أبو سفيان بالجدب، الذي لا يصلح للنفير، واستطاع المسلمون في نزولهم ببدر مكانا وزمانا أن يؤكدوا قوة معنوياتهم وتخاذل أعدائهم. كما أن جلاء بني النضير عن المدينة، أعطى سمعة معنوية عالية لهم، وأدخل الرعب في صفوف أعدائهم. والحركة الإسلامية مسؤولة دائما عن بث الروح المعنوية العالية في نفوس شبابها بالوسائل المكافئة. كما أنها مسؤولة عن تفتيت صف أعدائها، وهزيمتهم معنويا كذلك، بحيث يحسون أن يد الحركة الإسلامية قادرة على أن تطالهم في أي أرض فيحسبون لها ألف حساب. وإلا فالمحنة تذبح الصف من الداخل قبل أن تذبحه من الخارج، والنفوس ما لم تفتح أمامها آفاق العمل، لن تسلك غير طريق اليأس، إن المسؤولية التي تحملها القيادة في هذا المجال مسؤولية ضخمة، ولا يكفي أبدا الكلام ما لم يرافقه عمل ملموس يؤكد ثبات واستمرار الجهاد دون وهن أو توانٍ أو يأس.

الخط العاشر: وهو الذي حدد نهاية هذه المرحلة بالانتقال من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم. وذلك في نهاية المطاف، وبعد انتهاء غزوة الأحزاب حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم. إن هذه الكلمة لتؤكد المرحلية الضخمة في هذه الدعوة، وتؤكد التخطيط المنهجي، والمنهجية الحركية التي تنتقل من خطوة إلى خطوة، مبصرة مواقع خطواتها، عارفة منازل سيرها؟ وأي عمل بدون خطة هو عمل فاشل، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته (1) بعد أضخم هجوم شهدته المدينة، من أضخم جيش شهدته الجزيرة في تاريخها كله، وجدير بمثل هذا الهجوم أن ينهي الإسلام، ويخضد شوكته، ويقطع أوصاله، غير أن الثبات في وجه الإعصار، وعبقرية التحرك للمواجهة رد الذين كفروا بغيظهم، لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. ولا شك أن الإرادة الربانية بنصر هذا الدين هي التي كشفث الغمة والمحنة عن المؤمنين. وهذا جانب في سنن الله لا يأتي إلا لمن يستحقه ولمن هو أهل له، وصبر المؤمنين، وثباتهم خلف قيادتهم، وتحركهم

(1) الآن نغزوهم ولا يغزونا.

ص: 340

لنصرة دينهم. رغم الجوع القاتل، والبرد القاتل، والعدو الشرس الذي أحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم، جعل هؤلاء مؤهلين لنصر الله تعالى وعونه، ومؤهلين، لأن يعطيهم النصر بدون قتال، ومؤهلين لأن يتحقق بهم موعود الله، فلقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه بشهادة الله، {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (1)} . ولم يضرهم وجود المنافقين في صفوفهم، ووجود من يقول في هذا الصف: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، ووجود من ينظر إليك نظر المغشي عليه من الموت، ووجود من يلوذ بالفرار متسكعا وراء {إن بيوتنا عورة} . لم يضر المؤمنين وجود هذه النماذج كلها، أمام الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا، فجاءهم نصر الله، بعد أن زلزلوا زلزالا شديدا. وكان هذا الثبات العظيم، ليس من ثمرته فقط أن يرد الله الكافرين بغيظهم دون أن ينالوا خيرا، بل كان وراء ذلك، ابتداء عهد جديد كل الجدة، عهد الهجوم على الكافرين وغزوهم، الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم. فإذا ما اشتدت المحنة، ونزل الغم، ووقع الكرب، فنصر الله قادم لمن ثبت وأخلص، ولم يرج إلا الله تعالى وذكر الله كثيرا. ونستطيع أن نحدد طبيعة المعركة وأبعادها من خلال الرسالتين التاليتين المتبادلتين بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي سفيان: فقد كتب أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (باسمك اللهم. فإني أحلف باللات والعزى لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود حتى نستأصلكم. فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق. فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد). فقرأه أبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبته. وكتب إليه: (من محمد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب. أما بعد، فقديما غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر يحول الله بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى. وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق؟ فإن الله

(1) الأحزاب / 23.

ص: 341

الهمني ذلك لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك. وليأتين عليك يوم تدافعني بالراح، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وإساف ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك (1)). فالرسالتان تحددان تماما إخفاق أبي سفيان وجمعه الأحزاب كلها دون تحقيق هدفه وتوضح الغيظ الذي نزل به من جراء الخندق، وأنه عاد كما قدم دون أن يحقق شيئا من أهدافه، كما تحدد الرسالة الثانية الفشل الذريع الذي حل بهجوم الأحزاب، والثقة العميقة بنصر الله، وتحطيم الطواغيت.

الخط الحادي عشر: وعلى ما لقي المسلمون من هول هذه المحنة وضخامتها. لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضم إلى جيشه جنديا واحدا مشركا يستعين به على العدو، على الرغم من كثرة العروض التي عرضت عليه من اليهود وغيرهم، وحرص على أن يكون جيشها نقيا من الشوائب. لا يقاتل تحت لوائه إلا من آمن بأهدافه. بل خسر في أحد ثلث جيشه إضافة إلى الكتيبة الحسنة التسليح من اليهود التي أرادت أن تنضم إلى الجيش الإسلامي. لقد كان التميز واضحا تماما في الجيش المسلم، وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه صريحا لليهود: مروهم فليرجعوا فإنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك. ورغم المعاهدات والعقود التي عقدها عليه الصلاة والسلام مع خصوم الإسلام، وفتح في هذه العهود إمكانية طلب النصرة منهم إلا أن تلك العقود والأحلاف لم تكن تتجاوز الجانب السياسي في الكف عن حرب المسلمين، أو إمدادهم بالمال والسلاح، أو تخذيل العدو عنهم. لكن هذا لم يصل إلى مرحلة الاشتراك في الحرب. وما نعلم أن هذا الأمر يدخل في نطاق الحرفة. لأن الفقه الإسلامي قال كلمته بهذا الصدد وجمهور الفقهاء على جوازه، ولكن الحرص يجب أن يكون على أعلى صورة لدى الحركة الإسلامية في هذا المجال، دون أن تشرك ولو كان جنديا واحدا في صفها غير مؤمن بعقيدتها وأهدافها، حتى لا يفسد الصف، ويبث فيه الوهن والضعف.

(1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 239 - 240.

ص: 342