الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التطور في العدد والعدة، يعني أن مقومات الدولة أصبحت أكبر، وأن إمكانية القضاء عليهم أصبح ميؤوسا منها. فقد كان أبو جهل يقول عندهم في بدر، إنهم أكلة جزور يقلل من عددهم وقيمتهم. غير أن الصورة اختلفت اليوم، وازدادوا عشرة أضعاف ما كانوا عليه. وواجب الحركة الإسلامية حين تقرر خوض معركة مع العدو، أن تكون على مستوى الأحداث وتهيء من السلاح والرجال ما يؤهلها لخوض هذه المعركة إضافة إلى الجانب الإيماني الذي لا يملكه غير المؤمنين سلاحا متميزا في المعارك.
السمة الحادية والعشرون
الجهد البشري في البذل
فليس المهم الأرقام الحسابية في الحرب، لا بد من النوعية الجيدة وكما يقول القرآن الكريم. {
…
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة بغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف بغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (1)}. فهذا يعني أن المؤمن القوي بعشر أضعافه من الكفار، وأن المؤمن الضعيف بضعفين والأمر في تفاوته بقدر المدى الإيماني عند المسلم، وهذا التفاوت هو الذي يجعلنا ننظر إلى المستويات العليا من التضحية والبذل حتى لا نتصور أن النصر جاء بدون هذه التضحيات، ولكن يكون لها في هذه الفقرة أكثر من التنسيق والعرض لتكون هذه النماذج حية في أذهاننا وقلوبنا.
أ - من بطولات بدر:
1 -
(بعثت قريش عمير بن وهب الجمحي ليحزر المسلمين فلما لم ير لهم مددا ولا كمينا رجع فقال: القوم ثلاثمائة إن زادوا زادوا قليلا، معهم سبعون بعيرا وفرسان ثم قال: يا معشر قريش، ألبلايا تحمل المنايا، نواضح
(1) الأنفال الآية: 65، 66.
يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل منكم رجلا. فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك، فروا رأيكم (1)).
2 -
يقول عليه الصلاة والسلام للمسلمين في بدر: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، فقال عمير بن الحمام بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا، يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: إنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل (2).
وكذلك سأله عوف بن الحارث. ما يضحك الرب من عبده! قال: غمسه يده في العدو حاسرا فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل (3).
3 -
قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة (4) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. قال: فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه. فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي، واجهضني القتال عنه. فلقد قاتلت عامة يومي هذا وأنا أسحبها خلفي. فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها. ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق (5).
(1) إمتاع الأسماع: 1/ 82 - 83.
(2)
رواه مسلم، 2/ 139.
(3)
مشكاة المصابيح 2/ 331.
(4)
الحرجة: الشجر الملتف وشبه رماح المشركين حوله بذلك.
(5)
الرحيق المختوم عن ابن إسحاق 245.
4 -
وفي الصحيح أن الزبير لقي عبيدة بن سعد بن العاص وهو مدجج في السلاح لا يرى منه إلا الحدق، فحمل عليه الزبير بحربته فطعنه في عينه فمات، فوضع رجله على الحربة ثم غطى وكان الجهد أن نزعها وقد انثنى طرفها. فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها (1).
5 -
لما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسود المخزومي، حين دنا من الحوض: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه. فشد حتى دنا منه. فاستقبله حمزة بن عبد المطلب فضرب فأطن قدمه. فزحف الأسود حتى وقع في الحوض، فهدمه برجله الصحيحة وشرب منه وحمزة يتبعه فضربه في الحوض فقتله. فدنا بعضهم من بعض وخرج عتبة وشيبة والوليد ودعوا إلى المبارزة. فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار فتيان وهم معاذ ومعوذ وعوف بنو عفراء، ويقال ثالثهم عبد الله بن رواحة. فاستحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكره أن يكون أول قتال في الأنصار، وأحب أن تكون الشوكة ببني عمه وقومه فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم وقال لهم خيرا. ثم نادى منادي المشركين: أخرج إلينا الأكفاء من قومنا. فقال صلى الله عليه وسلم: يا بني هاشم، قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور الله، فقام علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب، فمشوا إليهم، وكان علي رضي الله عنه معلما بصوفة بيضاء فقال عتبة لابنه قم يا وليد فقام فقتله علي. ثم قام عتبة فقتله حمزة ثم قام شيبة فقام إليه عبيدة فضربه شيبة فقطع ساقه. فكر حمزة وعلي فقتلا شيبة واحتملا عبيدة إلى الصف. فنزلت هذه الآية:{هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم} الحج - 19 (2)).
ب - بطولات من أحد:
6 -
كان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري. وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة.
(1) السيرة النبوية لابن محمد بن عبد الوهاب 187.
(2)
إمتاع الأسماع 1/ 84 - 85.
خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى المبارزة فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته. ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه، وذبحه بسيفه ورأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع. فكبر وكبر معه المسلمون وأثنى على الزبير وقال في حقه: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير (1).
7 -
تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول:
إن على أهل اللواء حقا
…
أن تخضب الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه على عاتقه بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته. ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته فأدلع لسانه ومات لحينه. وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز فتقدم إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين، فضربه علي فقتله. ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقتله.
فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة. فانقض عليه الزبير ابن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته. وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم ففضى عليه.
هؤلاء ستة نفر من بيت واحد بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار قتلوا جميعا حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطأة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب، وقيل: حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله شريح بن قازط فقتله قزمان .. ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري فقتله فزمان أيضا، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضا.
(1) الرحيق المختوم عن السيرة الحلبية 288.
فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار من حملة اللواء أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء. فتقدم غلام لهم حبشي اسمه صواب فحمل اللواء وأبدى من صنوف الشجاعة والثباث ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه، لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم أعزرت؟ يعني هل أعزرت.
وبعد أن قتل هذا الغلام - صواب - سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطا (1).
قال الزبير بن العوام: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت - أي في نفسي -: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله. فآتاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع؟. فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء، فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي
…
ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول (2)
…
أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، كان في المشركين لا يدع لنا جريحا إلا زفف عليه. فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله. ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها. قال الزبير: فقلت: الله ورسوله أعلم.
قال ابن إسحاق: وقال أبو دجانة سماك بن خرشة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة (3).
(1) الرحيق المختوم ص 288 - 289.
(2)
الكيول: آخر الصفوف.
(3)
السيرة لابن هشام 3/ 73.
9 -
يقول وحشي بن حرب: كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عمي أحمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس - وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطىء بها شيئا - فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هدا ما يقوم له شيء. فوالله إني لأتهيأ له أريده فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له هلم إلي يا ابن مقطعة البظور - وكانت أمه ختانة - قال فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه (1). قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته - أحشائه - حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركه وإياها حتى مات (2).
10 -
مر أنس بن النضر بقوم وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟ قال أنس: واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم (3).
11 -
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه - أي القرشيين: ما أنصفنا أصحابنا (4).
(1) يقال عند المبالغة في الإصابة.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام 3/ 76.
(3)
عن الرحيق المختوم 296.
(4)
المصدر نفسه 298.
حتى كان آخرهم زياد أو عمارة بن السكن فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنوه مني. فأدنوه منه فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
12 -
روى النسائي عن جابر قال: فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من للقوم فقالط طلحة: أنا. ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه فقال: حس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون قال: ثم رد الله المشركين. ووقع عند الحاكم في الأكليل أنه جرح يوم أحد تسعا وثلاثين أو خمسا وثلاثين وشلت إصبعه أي السبابة والتي تليها (1).
وروى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي. فلم ألبث أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كالطير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دونكم أخاكم فقد أوجب (2).
13 -
وكان علي بن أبي طالب يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية وأبو دجانة .. من ناحية، وسعد بن أبي وقاص يذب طائفة، وانفرد علي بفرقة فيها عكرمة بن أبي جهل فدخل وسطهم بالسيف، فضرب به وقد اشتملوا عليه حتى أمضى إلى آخرهم، ثم كر فيهم ثانيا حتى رجع من حيث جاء. وكان الحباب بن المنذر يحوش المشركين كما تحاش الغنم، واشتملوا عليه حتى قيل قد قتل، ثم برز والسيف في يده، وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون منه، وكان يومئذ معلما بعصابة خضراء (3).
(1) المصدر نفسه 300.
(2)
المصدر نفسه 301.
(3)
إمتاع الأسماع 1/ 143.
14 -
وكان شماس بن عثمان لا يرمي رسود الله صلى الله عليه وسلم ببصره يمينا وشمالا إلا رآه في ذلك الوجه يذب بسيفه حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترس بنفسه دونه حتى قتل رحمه الله فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وجدت لشماس شبها إلا الحنة (1).
15 -
ومر مالك بن الدخشم على خارجة بن زيد وهو قاعد، في حشوته ثلاثة عشر جرحا، كلها قد خلصت إلى مقتل، فقال: أما علمت أن محمدا قد قتل! فقال خارجة. فإن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، لقد بلغ محمد، فقاتل عن دينك، ومر على سعد بن الربيع وبه اثنا عشر جرحا كلها قد خلص إلى مقتل، فقال: علمت أن محمدا قد قتل! فقال سعد: أشهد أن محمدا قد بلغ رسالة ربه. فقاتل عن دينك فإن الله حي لا يموت (2).
16 -
وأقبل ثابت بن الدحداحة والمسلمون أوزاع قد سقط في أيديهم فصاح: يا معشر الأنصارا إلي إلي أنا ثابت بن الدحداحة. إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار رضي الله عنهم (3).
17 -
وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله! إن هولاء القوم قد نزلوا حيث ترى، وقد سألت الله فقلت: اللهم إني أقسم عليك أن نلقى العدو غدا فيقتلونني ويبقرونني ويمثلون بي، فألقاك مقتولا قد صنع هذا بي. فتقول: فيم صنع بك هذا؟ فأقول فيك؟ وأنا أسالك أخرى: أن تلي تركتي من بعدي. فقال: نعم. فخرج حتى قتل ومثل به، ودفن هو وحمزة رضي الله عنهما في قبر واحد (4).
(1) المصدر نفسه 1/ 144.
(2)
المصدر نفسه 151.
(3)
المصدر نفسه 152.
(4)
المصدر نفسه 155.
18 -
ثم أخذ صلى الله عليه وسلم قوسه، فما زال يرامي القوم، وأبو طلحة يستره مترسا عنه، حتى تحطمت القوس. وكان أبو طلحة قد نثر كنانته - وفيها خمسون سهما - بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان راميا وكان صيتا، فقال صلى الله عليه وسلم: صوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا، فلم يزل يرمي بها ورسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله وهو يقول: نحري دون نحرك جعلني الله فداك فإن كان صلى الله عليه وسلم ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم أبا طلحة! فيرمي بها سهما جيدا (1).
من بطولات الرجيع والخندق
19 -
ورماهم عاصم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم حتى كسر رمحه، ثم كسر غمد سيفه، وقاتل حتى قتل، فبعث الله عليه الدبر (2) فحمته. فلم يدن منه أحد إلا لدغت وجهه؟ ثم بعث الله في الليل سيلا فاحتمله فذهب به فلم يقدروا عليه. وذلك أنه كان قد نذر ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك، وكانوا يريدون أن يجزوا رأسه ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد لتشرب في قفة قحفه الخمر، فإنها نذرت إن أمكنها الله منه أن تفعل ذلك من أجل أنه قتل لها ابنتين في يوم واحد (3).
20 -
ثم أخرجوه (أي خبيب بن عدي) في الحديد إلى التنعيم ومعه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة، ومعه زيد بن الدثنة، فصلى خبيب ركعتين أتمهما من غير أن يطول بينهما - وكان أول من سن الركعتين عند القتل - ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا. ثم أوثقوه رباطا وقالوا: ارجع عن الإسلام ونخلي سبيلك. فقال: لا إله إلا الله صلى الله عليه وسلم والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعا! قالوا: فتحب أن محمدا الآن في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ فقال:
(1) المصدر نفسه 134.
(2)
الدبر: ذكور النحل.
(3)
إمتاع الأسماع 1/ 175.
والله ما أحب أن يشاك محمد شوكة وإني جالس في بيتي؟ فجعلوا يقولون: يا خبيب ارجع!! فيقول: لا أرجع أبدا. قالوا: أما واللات والعزى لئن لم تفعل لنقتلنك. قال: إن قتلي في الله لقليل، فجعلوا وجهه من حيث جاء فقال: ما صرفكم وجهي عن القبلة؟ ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم ليس ها هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت عني السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أصحابه وقد أخذته غمية -: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ثم قال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام. ثم حضروا أبناء من قتل ببدر - وهم أربعون غلاما - فأعطوا كل غلام رمحا فطعنوه برماحهم فاضطرب على الخشبة، وقد رفعوه عليها، وانفلت فصار وجهه إلى الكعبة فقال: الحمد لله، فطعنه أبو سروعة حتى أخرجها من ظهره فمكث ساعة يوحد ويشهد أن محمدا رسول الله ثم مات رضي الله عنه، وتولى قتل زيد نسطاس (1).
21 -
ثم أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعا، وجاؤوا يريدون مضيقا يقحمون خيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أتوا مكانا ضيقا أغفله المسلمون، فلم تدخله خيولهم، وعبره عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وضرار بن الخطاب الفهري وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد ود، قام سائرهم وراء الخندق فدعا عمرو إلى البراز .. فلم يكن أسرع من أن قتله علي، فولى أصحابه الأدبار، وسقط نوفل بن عبد الله بن عبد الله عن فرسه بالحجارة حتى قتل. ومر عمر بن الخطاب والزبير في أثر القوم فناوشوهم ساعة، وسقطت درع هبيرة بن أبي وهب فأخذها الزبير رضي الله عنه.
ثم وافى المشركون سحرا، وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل، وما يقدر رسول الله ولا أحد من المسلمين أن يزولوا عن موضعهم، وما قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، فجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صلينا! فيقول: ولا أنا والله صليت! حتى كشف الله المشركين؟ ورجع كل من الفريقين إلى منزله،
(1) المصدر نفسه 1/ 177.
وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل للمشركين يطلبون كرة عليها خالد بن الوليد - فناوشهم ساعة، فزرق وحشي الطفيل بن النعمان بمزراقه فقتله كما قتل حمزة رضي الله عنه بأحد. فلما صار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبته أمر بلالا فأذن وأقام للظهر وأقام لكل صلاة إقامة فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها .. وقال يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا (1).
22 -
كان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه. فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب، فقال له: يا عمرو، إنك كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه: قال له: أجل؟ قال له علي: إني أدعوك إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك؟ قال: فإني أدعوك إلى النزال، فقال له: لم يا بن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت عن الخندق هاربة. قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه
…
ونصرت رب محمد بصواب
فصددت حين تركته متجدلا
…
كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني
…
كنت المقطر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه
…
ونبيه يا معشر الأحزاب (2)
وهكذا وجدنا أن الجهد البشري في البذل قد أدى دوره تماما في الحرب، ولم يبخل المسلمون بأرواحهم ودمائهم وقودا للمعارك، حتى هيأ الله تعالى لهم نصره الذي جعله حقا عليه للمؤمنين.
(1) امتاع الأسماع 1/ 222 - 223.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام 3/ 236.