الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر. فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني (1). لقد بشر عليه الصلاة والسلام بذلك، والمسلمون يكادون يهلكون جوعا فلم يذوقوا منذ ثلاثة أيام ذواقا، والعدو مصبحهم وممسيهم، وتتناسب البشائر مع مراحل المعركة.
فالبشارة الأولى في أول لقاء مع العدو، منصبة على مصرع كبار قادته، وانتصار في معركة على وشك أن تقع.
والبشارة الثانية بعد خسارة ضخمة في معركة مع هذا العدو، تؤكد أن النصر سيكون على هذا العدو في نهاية المطاف، مهما امتدت المعارك، فستعود الكعبة للمسلمين وينتهي الوجود الوثني في جزيرة العرب.
والبشارة الثالثة قريب هجوم يود استئصال شأفة المسلمين وإبادة خضرائهم. بأن النصر سيتجاوز حدود معركة قائمة. وسيتجاوز حدود أرض العرب، وعدو محدد بل سيشمل الأرض كلها حيث يقبع العدو في الشام وفارس واليمن. في الشمال والشرق والجنوب. وستدين الأرض كلها لله.
السمة الثامنة عشرة
عمليات الاغتيال وأثرها في بث الرعب في صفوف العدو
عاد المسلمون من بدر، ولا يزال بعض المتحدين للإسلام يجاهرون في عدائه (وكانت عصماء بنت مروان تحث يزيد بن زيد الخطمي، وكانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعيب الإسلام، وتحرض على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت شعرا، فنذر عمير بن عدي بن الخطمي، لئن رد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة ليقتلنها. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر جاءها عمير ليلا حتى دخل عليها بيتها، ووضع سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها، وأتى فصلى الصبح مع
(1) سنن النسائي 2/ 56، وأحمد في مسنده، واللفظ ليس للنسائي.
النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف نظر إليه وقال: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال: نصرت الله ورسوله يا عمير، فقال: هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان. فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال لأصحابه إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى عمير بن عدي، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انظروا إلى هذا الأعمى الذي تشرى في طاعة الله تعالى فقال: لا تقل الأعمى ولكنه البصير .. فلما رجع عمير وجد بنيها في جماعة يدفنونها فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال؟ نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم. فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، فمدح حسان عمير بن عدي، وكان قتل عصماء لخمس بقين من رمضان مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر على رأس تسعة عشر شهرا (1).
إنها امرأة واستطاعت بكيدها للإسلام أن تحول بينه وبين بني خطمة، وخوف المؤمنين فيهم من سلاطة لسانها جعلهم يخفون إسلامهم، فكان شعرها كلسع النار على ظهر المؤمنين، وتحرك الإيمان في قلب عمير، الذي رأى من تبجحها وسفاهتها في غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر ما جعله ينذر قتلها إن عاد عليه الصلاة والسلام. أقدم على قتلها بحمية إيمانية عجيبة، ودون أن يستأذن قيادته، وصلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفي قلبه بعض الخوف من أن يكون قد أساء بقتلها فطمأنه عليه الصلاة والسلام، وأثنى عليه بقوله:(إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى عمير بن عدي). ولا عجب أن يدهش عمر في إيمانه فيشير إليه عمر أمام الناس أنه الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والذي أذهل عمر أنه أعمى وتمكن من البحث عن هذه الحية الرقطاء فقتلها في بيتها. فصحح له عليه الصلاة والسلام قوله: إنه البصير. ولم يكن عمير في قتله هذا بعد إجازة رسول الله صلى الله عليه وسلم له يخشى أحدا في هذه الأرض، لم يجمجم ولم يتلعثم حين
(1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 101 - 102.
سأله بنوها عن القاتل، أكد لهم أنه قتلها، وسيقتلهم جميعا لو قالوا مثل قولها، وتحداهم:{ئكيدوني جميعا ثم لا تنظرون} .
وكان لهذا الموقف الصلب من الأثر والقوة أكبر من مقتل ابنة مروان. فلا بد أن يغدو الكفر صاغرا ذليلا أمام المؤمنين. وأنقذ رقاب إخوانه جميعا من الأذى، وصارت العزة لهم، والذل والصغار لمن خالف أمرهم، وظهر الإسلام في بني خطمة، وفي الطريقة نفسها، وللأهداف ذاتها تم مقتل أبي عفك اليهودي بعد شهر واحد من مقتل عصماء بنت مروان. (وكان شيخا من بني عمرو بن عوف وقد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يحرض على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يدخل في الإسلام، وقال شعرا، فنذر سالم بن عمير الأنصاري - أحد البكائين من بني النجار ليقتلنه أو يموت دونه، وطلب له غرة، حتى كانت ليلة صائفة - ونام أبو عفك بالفناء في بني عمرو بن عوف فأقبل سالم فوضع السيف على كبده فقتله، والذي يربط بين الحادثتين أنهما تمتا بدون إذن من القيادة، وأقرتهما القيادة النبوية بعد ذلك وهذا يعني أن من يستحق القتل في حربه المسعورة ضد الإسلام، وليس هو مجال شبهة في هذا العداء، وأقدم شاب على قتله، في الحرب المعلنة بين دولة الإسلام ودولته أو هو فهو نصر للإسلام يظهر الغيب، فزعماء الطاغوت اليوم الذين أشعلوا الحرب على المسلمين قتلوا رجالهم، ولم يستحيوا نسماءهم. بل تجاوزوا فرعون الذي طغى، هؤلاء يتقرب إلى الله تعالى بدمائهم. وما فعله شباب الإسلام في الحاكم الذي تحدى المسلمين في الأرض فصالح عدوهم اليهود في يوم عيدهم. حين قتلوا هذا الطاغية إنما غسلوا عار المسلمين جميعا في أرض الكنانة، بل في كل مكان من الأرض الإسلامية ونصروا الله تعالى ورسوله بالغيب وشروا أنفسهم لله كما قال عمر رضي الله عنه. {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد} .
ح - مقتل كعب بن الأشرف:
مر عام كامل بعد بدر، وأجلي بنو قينقاع عن المدينة. وكعب بن الأشرف لا يزال مشهرا لسانه في أعراض المسلمين ومنشبا سهامه في
نحورهم، وازداد جرأة وحقدا وتحديا بعد جلاء بني قينقاع عن المدينة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لي بابن الأشرف فقد آذاني. فقال محمد بن مسلمة: أنا به يا رسول الله، وأنا أقتله، قال: فافعل وأمره بمشاورة سعد بن معاذ. فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس منهم عباد بن بشر، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر. فقالوا: يا رسول الله نحن نقتله فأذن لنا فلنقل، قال: قولوا. فأتاه أبو نائلة وهو في نادي قومه - وكان هو ومحمد بن مسلمة أخويه من الرضاعة - فتحدثا وتناشدا الأشعار حتى قام القوم فقال له: كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء. حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس، وضاع العيال؟ فقال كعب: قد كنت أحدثك بهذا أن الأمر سيصير إليه، قال أبو نائلة: ومعي رجال من أصحابي على مثل رأي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاما وتمرا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة. واكتم عنا ما حدثتك من ذكر محمد؟ قال: لا أذكر منه حرفا، لكن أصدقني، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتخلي عنه، قال: سررتني، فماذا ترهنونني؟ قال: الحلقة (1). فرضي. وقام أبو نائلة من عنده على ميعاد، فأتى أصحابه فأجمعوا أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فمشى معهم ووجههم من البقيع وقال: امضوا على بركة الله وعونه، وذلك بعد أن صلوا العشاء في ليلة مقمرة مثل النهار. فأتوا ابن الأشرف فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس، فوثب ونزل من حصنه إليهم. فجعلوا يتحادثون ساعة، ثم مشوا قبل شرج العجوز (2) ليتحادثوا بقية ليلتهم؟ فأدخل أبو نائلة يده في رأس كعب وقال: ما أطيب عطرك هذا!! ثم مشى ساعة وعاد لمثلها وأخذ بقرون رأسه فضربه الجماعة بأسيافهم، ووضع محمد بن مسلمة مغولا (3) معه في سرة كعب حتى انتهى إلى عانته. فصاح صيحة أسمعت جميع أطام اليهود فأشعلوا
(1) الحلقة: السلاح عامة والدروع خاصة.
(2)
شرج العجوز: موضع بقرب المدينة.
(3)
مغول: سيف دقيق قصير ماض يكون في جوف سوط ليشده الفاتل على وسطه ليغتال به الناس.
نيرانهم، واحتز الجماعة رأس كعب واحتملوه، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد قام يصلي ليلته بالبقيع - فلما بلغوه كبروا. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال؟ أفلحت الوجوه، فقالوا: ووجهك يا رسول الله. ورموا برأس كعب بين يديه، فحمد الله على قتله وتفل على جرح الحارث بن أوس. وكان قد جرح ببعض سيوف أصحابه فبرأ من وقته وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف فقال:(1) من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطقوا (2).
د - مقتل ابن سنينة:
وكان ابن سنينة من يهود بني حارثة حليفا لحويصة بن مسعود. فعدا أخوه محيصة بن مسعود على ابن سنينة فقتله، فجعل أخوه حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته!! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله، فقال محيصة: والله لو أمرني بقتلك الذي أمرني لقتلتك. قال: أوالله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها، قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة. فجاءت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون ذلك، فقال: إنه لو فر كما فر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف. ودعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم وبينه كتابا. وحذرت يهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف (1).
أما الحادثتان الجديدتان وقد وقعتا في وقت متقارب قبيل غزوة أحد، هما اغتيال كعب بن الأشرف وابن سنينة كما نرى، ويجمع بينهما تقارب الوقت أولا، وأنهما كانتا بإذن من القيادة ثانيا - وإن اختلفت طبيعة الإذن والتكليف - وبسبب واحد هو الموقف العدائي من الإسلام والمسلمين وشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل ضخامة جريمة كعب بن الأشرف كانت أكبر من جريمة ابن سنينة. فلقد مضى كعب إلى مكة، والتقى بزعماء قريش، ورثا أصحاب
(1) السيرة لابن هشام ج 3/ 12.
(2)
إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 109 - 110.
القليب في بدر منهم، وأعلن حلفه الصريح معهم، وراح يرد على شعراء المسلمين في الهجاء ويعلن تعاطفه الصريح القلبي والعلني معهم، ومشكلة كعب بن الأشرف وابن سنينة أنهما من يهود يثرب، أي من القبائل العربية نفسها الأوس والخزرج فهما يعيشان بين ظهرانيهم، ورغم أن العهد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم على التحالف والتناصر إلا أن هؤلاء الزعماء اتخذوا موقفا عدائيا من المسلمين، وتناسوا صحيفة العهد معهم. وراح كعب بن الأشرف يشبب بنساء المسلمين. وهو متمنع في حصنه. فكان أن انتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين لقتله. فتطوع محمد بن مسلمة، واختار أربعة من الفدائيين يشاركونه في عملية الاغتيال. من بينهم أبو نائلة أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة.
وهذا يعني أن أقدر الناس على تنفيذ عمليات الاغتيال، أبعدهم عن الشك فيه، ومن يمت بقرابة أو صلة رحم أو صداقة من هذا المجرم، وهذا السبب نفسه هو الذي مكن محيصة ابن مسعود رضي الله عنه من قتل ابن سنينة. لأن ابن سنينة حليف أخيه حويصة فهو يتردد دائما عليه. وإنها لمسؤولية ضخمة لأولئك الإخوة المنبثين في صفوف العدو حيث يأمن العدو جانبهم للقرابة أو موقع الوظيفة وهم أقدر من غيرهم آلاف المرات على الثأر من أولئك الطغاة.
كما نلاحظ صورة جديدة في هذه العملية لم نشهدها من قبل، وهي صورة الخديعة التي تقتضي الكذب واختلاق الحوادث لتحقيق الهدف، لأن العملية من العسير جدا أن تتم بغير هذه الصورة، ولن يسلم كعب نفسه بسهولة وهو يعرف خطورة عدائه للعصبة المسلمة وسيكون دائما في حذر شديد من الغيلة. فكان لا بد من التحايل عليه، واقتضى هذا التحايل النيل من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الإسلام ليركن الطاغية إليهم، وهو درس جديد نفقهه كذلك، إن اتخاذ مظاهر الكفر، وإعلان الكفر، والنيل من الإسلام والمسلمين لتحقيق مثل هذه المهمة أمر لا حرج فيه. حيث قد تم بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان اغتيال عصماء بنت مروان قد تم بالوضوح الإسلامي الكامل والتحدي الإيماني السافر لها ولبنيها ولقومها: {فكيدوني جميعا
ثم لا تنظرون (1)}. فليس بالإمكان أن يتم هذا الأمر وللعدو حصونه وقوته وشراسته، ولكن هذا الأمر لا يتم بدون إذن في الأصل حين يرتبط المسلم بقيادته.
إننا نلاحظ كثيرا من ضعاف النفوس ينافقون للطلغاة والكفرة ويعايشونهم خوفا من بطشهم، وهذا أمر نهىى الإسلام عنه، واعتبره ركونا للكفار {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (2)} الفرق واضح تماما بين هذا النوع من الركون والمسارعة في الكفار، وبين من يفعل هذا الأمر بمهمة من قيادته المسلمة أو إذن منها على الأقل، أو تصميم على تنفيذ مهمة اغتيال أو تجسس لصالح المسلمين حين يعجز عن الصلة بالقيادة والتنسيق معها، ولقد استطاع أبو نائلة رضي الله عنه أن يجعل الثقة بينه وبين كعب في الأوج حين نال من محمد صلى الله عليه وسلم وشهر به. وهؤلاء أحب الناس إلى قلوب الطغاة، وهم الذين يرتدون عن دينهم سخطة له وتشهيرا به.
وكانت الخطة من الدقة والإحكام بحيث لا يوجد فيها ثغرة واحدة.
فهدف هذه المجموعة الفدائية أن تكون بكامل سلاحها، ولو جاءت هكذا لشراء البر والتمر لكانت موطن شك وألقي القبض عليها. غير أن أحكام الخطة بأن هذه المجموعة جاءت بسلاحها تسلمه لكعب بن الأشرف رهينة للبر والتمر، فهو أمر مقبول ومستساغ. بل سال لعاب كعب له. أن يحصل على سلاح خمسة من المسلمين يضمه إلى مخازن سلاحه التي عنده ويلهيهم بالتمر والبر. إن أقوى ما يكون في الخطة هي أن تبدو ساذجا مغفلا مع خصمك، وتظهر له انخداعك به حتى يتابع خطته.
ولا نزال نذكر موقف تلك الأخت المسلمة التي قبضت عليها المخابرات وهي تحمل وثائق للقيادة، ومن خلال وثيقة السفر التي تحملها تم التأكد من علاقتها مع الحركة، واستعملت معها أساليب التهديد العجيبة، ونقلت إلى
(1) سورة هود من الآية 55.
(2)
سورة هود الآية 113.
مركز مخابرات العاصمة وراح يحقق معها شخصيتان كبيرتان من قادة المخابرات وضباطهم الكبار. واستمر التحقيق معها ساعات طويلة، اقنعتهم فيه أنها ستتعامل معهم لصالحهم ضد الجماعة المسلمة. فاحتفوا بها أيما احتفاء ونقلوها إلى أرقى فنادق العاصمة، وأعطوها دفعة دسمة من المال، وأركبوها في السيارة معززة مكرمة إلى القيادة. فإحكام الخطة الذي يزيل الشبهة عنصر أساسي من نجاح المهمة، ومن أجل هذا راح كعب مع المجموعة الفدائية يتمشى دون حرج وهم مدججون بسلاحهم.
كما أن أداة الفتك لا بد أن تكون متطورة متناسبة مع طبيعة المهمة، فالمغول الذي استعمله محمد بن مسلمة كان ضروريا للتأكد من مقتل الطاغية، والابتعاد بكعب عن حصنه أمر ضروري جدا حتى لا يقبض عليهم عند الحصن، والمحاولة الأولى من أبي نائلة ليشم عطر كعب الطيب ضرورية كذلك حيث يحكم القبض عليه في المرة الثانية دون أن يفلت منه، ودون أن تتحرك الريبة في قلبه لو وجدهم محيطين به أثناء الاندفاع في الحديث.
لقد أثبت الإخوة المجاهدون في الوقت الحاضر كفاءة عالية جدا في اغتيال شخصيات العدو وطغاته وذلك على هدى هذه المجموعة الفدائية. لدرجة أن هذه العمليات استمرت قرابة ثلاث سنوات وعجزت الدولة بمخابراتها وسلطانها أن تتعرف على هوية المنفذين، وكانت تحسبهم من حركة قومية غير الحركة الإسلامية.
وأخيرا نلحظ الأثر العظيم لهذا الاغتيال، فلقد قضي على التحرك المعادي للمسلمين في عقر دارهم، وخفتت الأصوات الإعلامية المعادية، وكتب اليهود كتابا وميثاقا بذلك يعلنون تراجعهم عن هذا العداء السافر، ودخل الرعب في قلب العدو لدرجة أنه لم يجرؤ أحد قادتهم على الخروج وحده.
وكانت الصورة التي أعلنها محيصة بن مسعود لأخيه أنه على استعداد أن يضرب عنقه لو أمره رسول الله بذلك إيذانا بتعرف العدو على الاستبسال المنقطع النظير لدى هؤلاء المجاهدين، وأن دينهم أقوى من كل شيء في
حياتهم. وهم على استعداد للإطاحة بآبائهم وإخوانهم وأولادهم في سبيل هذا الدين.
لقد حقق الاغتيال هدفه، حين أحكمت خطته، ونفذت تمام التنفيذ، ومهمتنا نحن اليوم أن نتقن هذا الفن، ونحكمه. ولا مانع من الاعتراف بالحقيقة. إن هذا الموضوع حين ابتذل من الحركة الإسلامية، وغدا ينصب على الناس العاديين، من المخبرين، وقد يقع أحيانا على متهمين لا مجرمين، فقد قيمته، وولد جوا من التململ والضيق من الناس المحايدين. فلا بد أن تكون عمليات الاغتيال هادفة محققة لعنصر بث الرعب في صفوف المجرمين وكفهم عن التمادي في حرب المسلمين.
هـ - مقتل سفيان بن خالد الهندلي بعد أحد:
(كان قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سفيان بن خالد نزل عرنة وما حولها في ناس فجمع لحربه. وضوى إليه بشر كثير من أفناء العرب. فبعث عبد الله بن أنيس وحده ليقتله وقال له: انتسب إلى خزاعة. فقال عبد الله بن أنيس: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعته لي حتى أعرفه قال: إذا رأيته هبته وفرقت منه وذكرت الشيطان، وآية ما بينك وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته، وأذن له أن يقول ما بدا له، وكان ابن أنيس لا يهاب الرجال فأخذ سيفه وخرج حتى إذا كان ببطن عرنة لقي سفيان يمشي وراءه الأحابيش فهابه، وعرفه بالنعت الذي نعت له رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد دخل وقت العصر فصلى وهو يمشي يومىء إيماء برأسه. فلما دنا منه قال: من الرجل؟ قال: رجل من خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك. ومشى معه يحادثه وينشده، وقال: عجبا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث فارق الآباء وسفه أحلامهم! فقال سفيان: لم يلق محمد أحدا يشبهني! حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه فقال: هلم يا أخا خزاعة. فدنا منه وجلس عنده حتى نام الناس، فقتله وأخذ رأسه واختفى في غار والخيل تطلبه من كل وجه. ثم سار الليل وتوارى في النهار إلى أن قدم المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال: أفلح الوجه! قال: أفلح وجهك يا رسول الله! ووضع الرأس
بين يديه، وأخبره الخبر، فدفع إليه عصا وقال: تخصر بهذه في الجنة، فإن المتخصرين في الجنة قليل. وكانت عنده حتى أدرجت في أكفانه بعد موته (1).
أما عملية الاغتيال هذه التي قام بها عبد الله بن أنيس وحده. فقد أنهت معركة، وقضت على عدو. وكان لا بد هنا ولما تجف الدماء بعد من أحد. والتحرك بجيش جديد للمدينة، يعني خطرا كبيرا ولا تزال الجراحات تنزف من الجيش المؤمن، واستطاع عبد الله وحده بعون الله أن ينفذ مهمته كاملة، واختباؤه في غار حتى يهدأ الطلب. ومسيره في الليل وكمونه في النهار، يدل على عبقرية تخطيطه اقتداء بهدي قائده محمد صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة. وبطن عرنة هو قرب مكة بين عرفات ومزدلفة. وهذا يعني أن المهمة قرب مكة. فهي ذات أثر معنوي ضخم أن تصل قوة محمد إلى حدود مكة. وهو يقض مضاجع قريش بذلك.
إن حسن اختيار الأشخاص للمهمات شيء مهم جدا. فابن أنيس وحده أمه يمضي إلى بطن عرنة ويقتل قائد جيش العدو في خبائه. ويختفي في أرضه، بعد أن يحتز رأسه ويعود به إلى المدينة. إنها لبطولة خارقة ولا شك. تذكرنا ببعض العمليات الفدائية التي قام بها الشباب المجاهدون بالشام. إذ كان أخ واحد في سيارته الملغومة يمضي فيفجر أكبر تجمعات العدو دون أن يعثر له على أثر ويقضي على أكبر شخصياته.
و- مقتل أبي رافع بعد الخندق:
(كان مما صنع الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تضع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غناة إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون: بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام. قال: فلا تنتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك. ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الخزرج: والله لا تذهبون
(1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 254 - 255.
بها فضلا علينا أبدا، قال: فتذاكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا سلام بن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم. فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث ابن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم. فخرجوا وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة). قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: (اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب.
قال عبد الله بن عتيك: فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق (1) على ود (2) قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له. فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل قلت: إن القوم لو نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت، قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئا. وصاح فخرجت من البيت ثم دخلت اإليه، فقلت: وما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنثه ولم أقتله. ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب. فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك صاح الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز.
(1) و (2) الأغاليق على ود: المفاتيح على وتد.
فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثثه. فقال أبسط رجلك. فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها (1).
نموذج فذ فريد مثل عبد الله بن أنيس الذي كان أحد الخمسة الفدائيين اليوم ابن عتيك. ولئن كان ابن أنيس قد قتل سفيان في خبائه، فابن عتيك قد اقتحم على سلام بن أبي الحقيق حصنه، واغتاله في فراشه، وهو أعلى مستوى يمكن أن تصل إليه عبقرية الاغتيال، في فراشه وبين أهله، وتصبح مفاتيح الحصن والبيت بيده، وهو في خيبر، في قلب حصون العدو، حيث أمضى المسلمون فيما بعد قرابة شهر وهم يفتحون هذه الحصون.
وتذكر بعض الروايات أن أم عبد الله بن عتيك كانت في خيبر وهي التي هيأت له ولسريته الدخول إلى حصونها، ولا يبعد ذلك غير أن رواية البخاري لم تذكر ذلك. والجرأة العجيبة التي أدى ابن عتيك تحير اللب وتذهل العقل، لقد غامر أولا بإغلاق الأبواب. وحسب أسوأ الاحتمالات أن يصل العدو إليه، لكنه لن يمكن أهل خيبر من الوصول إليه قبل أن يصل إلى عدو الله أبي رافع فيجهز عليه، ثم غامر ثانيا فاختبأ، وأصبح الخطر جاثما حوله لأنه لم يحقق هدفه بعد، وتقدم نفسه يسأل أبا رافع عن الصوت ليتأكد من مكانه فيه. ثم غامر ثالثا. بأن كمن حتى تأكد من مقتل أبي رافع، علما بأن ساقه قد كسرت، فنسي ساقه من أجل تحقيق مهمته، ثم مضى إلى رفاقه، فغادروا خيبر متجهين إلى المدينة. ولم يتخل عن مهمته حتى أنفذ السيف في بطنه إلى أن خرج من ظهره.
إنها أمثولة خالدة نضعها بين يدي المجاهدين نموذجا حيا لتنفيذ المهمات الموكلة إليه. وتطالعنا كذلك صورة التنافس الكبير بين الحيين العظيمين في القضاء على أعداء الله، وهو تنافس محبب يحسن أن يتحرك بين المجاهدين حرصا على مرضاة الله، ويتسابقون في القضاء على خصوم الإسلام وهم
(1) صحيح البخاري 2/ 577.
يحاربون هذه الدعوة. وسيان كانت هذه المنافسة من خلال المجموعات أو البلدان أو الأحياء. فهي تنتهي في حرب الطغاة وإبادة رؤوس الكفر. وتطالعنا كذلك، الآثار الضخمة لهذه العملية التي أشعلت الرعب في صفوف اليهود في خيبر وعرفوا أن يد المسلمين تطالهم في مضاجعهم، وتجتثهم من بين أحضان نسائهم وتجتالهم من منيع حصونهم.
إن حرب الرعب حرب إسلامية يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها بقوله: نصرت بالرعب مسيرة شهر (1)، ويوم نخسر هذه الحرب نخسرها عقوبة كذلك، كما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولينزعن من قلوب أعدائكم المهابة منكم (2). فحين نخلص في الغاية، ونحسن التخطيط في الوسيلة، تنفتح أمامنا مغاليق العدو، ويصبح منالا سهلا وهدفا حيويا بمتناول اليد، وحين تختل الغاية، وتختل الوسيلة، فيصبح هذا السلاح بيد العدو.
لقد رأينا عبد الله بن عتيك رضي الله عنه يقوم بكل هذه العمليات الضخمة جهدا جسديا، وجهدا عبقريا مفكرا، وينال أكبر رأس من رؤوس الطغاة. ومع ذلك يأتي ليقول لإخوانه: النجاء فقد قتل الله أبا رافع. ولم يقل لهم: النجاء. فقد قتلت أبا رافع. إن عظمة العبودية لله عز وجل عنده أن لا ينسب القتل إليه مع أنه هو الذي خطط ونفذ وتأكد من نجاح مهمته، وأصيبت رجله. نحن بحاجة لمثل هذه النفسيات التي تخلص الغاية له، وتحسن الوسيلة وتحكمها وتهيء لها وسائلها ليتاح لنا النصر على أعدائنا، ولا حرج عندئذ في التنافس في الجهاد في سبيل الله، فلم يبحث الخزرج عن رجل عادي يقتلونه نفاسة للأوس، بل بحثوا عن رأس من رؤوس الطغاة على مستوى كعب بن الأشرف، ونود أن لا يدفعنا التنافس إلى هم الفنك فقط، بل لا بد من البحث عن طاغية جبار عنيد يكافىء الجهد المبذول لذلك.
(1) متفق عليه.
(2)
[من حديث رواه أبو داود، والبيهقي في (دلائل النبوة)].