الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - أبواب: تأويل مُختلف ومُشكل الحديث
(متن الحديث)(إسناده)(درجته)(تخريجه)(موضعه في كتب الشيخ).
166/ 1 - (الإسلام بضعٌ وستُّون بابًا -أو بضعٌ وسبعون بابًا-، أفضلها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطُّرُقِ. والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان).
(رواه: سهيل بنُ أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا). (حديث صحيحٌ)(خ كبير، بخ، م، د، ت، ق، حم، ش، أبو عبيد، محا، حب، البزار، طي، عب، ابن منده، ابن بشران، الآجري، هق شعب، بغ، ابن عبد البر، السلفي، الرافعي، الذهبي تذكرة)(حديث الوزير / 28 - 30 ح 1، سد الحاجة / ح 57، 58).
قال شيخُنا -أحسن الله توفيقه-: ووقع عندهم جميعًا: "الإيمان بضعٌ .. "، ولم أجد هذه الرواية "الإسلام بضعٌ .. " في طريق من طرق الحديث إلا هنا في حديث الوزير.
أمَّا الشك في ذكر "عدد الشعب" فمن سهيل بنِ أبي صالح، كما صرَّح به ابنُ حبان والبيهقيُّ وغيرُهما.
ورجح البيهقي رواية "سليمان بن بلال" التي أخرجها البخاريُّ (1/ 51)، ومسلمٌ (35/ 57)، والنسائيُّ (8/ 110)، وابنُ حبان (167، 190)، وابنُ منده في "الإيمان"(144)، ونجم الدين النسفي في "أخبار سمرقند"(797)، والثعلبيُّ في "تفسيره" (ج 1 / ق 18/ 1) عن عبد الله بن دينار به. وفيها:"بضع وستون شعبة"، وقال:"لم يشك سليمان بنُ بلال، وروايته أصحُّ عند أهل العلم بالحديث". اهـ.
ورجح الحليمي، والقاضي عِياض رواية من قال:"بضع وسبعون"، وهو الراجح، وليس ها هنا موضعَ تفصيل النزاع في هذا، وقد ذكرتُهُ في "سد الحاجة بتقريب سُنن ابن ماجة"(57، 58).
أمَّا رواية سليمان بنِ بلال، فقد قال ابنُ حبان في صحيحه:"اختصر سليمان بنُ بلال هذا الخبر، فلم يذكرْ ذِكْرَ الأعلى والأدنى عن "الشُّعَبِ"، واقتصر على ذكر "الستين" دون "السبعين"، والخبرُ في "بضع وسبعين" خبرٌ متقصى صحيح لا ارتياب في ثبوته، وخبرُ سليمانَ بنِ بلال خبرٌ مختصرٌ غيرُ متقصى" اهـ.
167/ 2 - (إذا وَجَدَ أحدُكُم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه أَخَرَجَ منه شيءٌ أمْ لا، فلا يخرجَنَّ مِن المسجد حتى يسمع صوتًا، أو يجدَ ريحًا. هذا سياق مسلم).
(رواه زهير، وجرير بنُ عبد الحميد، وحماد بنُ سلمة، وعبد العزيز بنُ محمد، وخالد بنُ عبد الله الواسطي، وعليّ بنُ عاصم وغيرهم، عن سهيل بنِ أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، به مرفوعًا). (صحيحٌ)(م، عو، د، ت، مي، حم، خز، هق)(حديث الوزير / 161 - 162).
168/ 3 - (لا وضوءَ إلا من صوتٍ أو ريحٍ).
(رواه: شعبة بنُ الحجاج هكذا مختصرًا، عن سهيل بنِ أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: .. فذكره. ورواه جمعٌ من أصحاب سهيل بنِ أبي صالح عنه بهذا الإسناد مطولاً، وتقدم سياقُهُم). (حديثٌ صحيحٌ)(ت، ق، حم، ش، خز، جا، طي، هق)(حديث الوزير / 160 - 161 ح 47؛ غوث 1/ 16 ح 2؛ كتاب المنتقى / 9 ح 2).
وقد تكلَّم العلماء في رواية شعبة هذه.
فقال أبو حاتم الرازى كما في "العلل"(رقم 107): هذا -يعني متن حديث شعبة- وهمٌ، اختصر شعبة متنَ الحديث. فقال: "لا وضوء إلا من
صوت أو ريح"، ورواه أصحاب سهيل، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحًا من نفسه فلا يخرجن حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". اهـ.
وكذا قال ابنُ خزيمة والبيهقيُّ أنه مختصر.
قال شيخُنا: نعم هو مختصرٌ، ولكن لا يعني أنه مختصرٌ من اللفظ الآخر، وقد قال ابنُ التركماني في "الجوهر النقيّ": لو كان الحديثُ الأول مختصرًا من الثاني لكان موجودًا في الثاني مع زيادة
…
وعموم الحصر المذكور في الأول ليس في الثاني، بل هما حديثان مختلفان. اهـ.
وهذا القول هو الأولى بدلاً من توهيم شعبة، ولا سيما وشعبة كان يُولِي ألفاظَ الأحاديث اهتمامًا بالغًا. فقد قال الدارقطنيُّ في "العلل": كان شعبة يخطيء في أسماء الرجال كثيرًا لتشاغله بحفظ المتون. اهـ.
ولذا قال الشوكاني في "نيل الأوطار"(1/ 224): شعبة إمامٌ حافظٌ واسعُ الرواية، وقد روى هذا اللفظ بهذه الصيغة المشتملة على الحصر، ودينُهُ، وإمامتُهُ، ومعرفتُهُ بلسان العرب، يردُّ ما ذكره أبو حاتم. اهـ.
169/ 4 - (إذا وَقَعَ الذُّبابُ في شرابِ أحدِكُم، فَلْيَغمِسْهُ، ثم لِيَنْزِعْهُ، فإنَّ في إِحدَى جَنَاحَيه داءً والأخرى شفاءً. هذا لفظ البخاري).
170/ 5 - (إذا وقعَ الذُّبابُ في إناءِ أحدكُم، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثم لِيَطْرَحْهُ، فإنَّ في أحَدِ جناحيهِ شِفَاءً، وفي الآخَرِ دَاءً. وهذا لفظ آخر للبخاري).
(رواه: عُبَيد بنُ حُنَين مولى بني زُرَيق، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا به. وله طرق أخرى عن أبي هريرة، فرواه: سعيد بنُ أبي سعيد المقبري، ومحمد بنُ سيرين، وثمامة بنُ عبد الله بنِ أنس، وقيس بنُ خالد بنِ حسن. وفي الباب عن: أبي سعيد الخدري، وعن أنس بن مالك، رضي الله عنهما. (هذا حديثٌ صحيحٌ)(خ، ق، مي، حم، ابن المنذر، طح مشكل، ابن عبد البر، هق، بغ)(تقدم تخريجه وبيان موضعه في كتب الشيخ برقم 74).
171/ 6 - (إذا وقع الذُّبابُ في إناءِ أحدكم، فإنَّ في أحد جناحيه داءً، وفي الآخر شفاءً، وإنه يتَّقي جناحَهُ الذي فيه الدَّاءُ، فَلْيَغمِسْهُ كُلَّه).
(رواه: محمد بنُ عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا فذكره). (هذا حديثٌ صحيحٌ. قال الذهبيُّ: "هذا الحديث حسنُ
الإسناد". اهـ) (د، حم، خز، حب، طح مشكل، الحسن بن عرفة، هق، خط تلخيص، الذهبي سير)(الأمراض / 158 - 165 ح 66؛ التوحيد / جماد أول / 1419 هـ؛ الفوائد / 98 - 99؛ ابن أبي مسرَّة).
172/ 7 - (إنَّ أَحَدَ جَنَاحَي الذُّباب سُمٌّ، والآخر شفاءٌ، فإذا وقع في الطعام، فامقُلُوه، فإنه يُقدَّمُ السُّمَّ، ويُؤَخِّرُ الشفاءَ).
(رواه: ابنُ أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، قال: دخلتُ على أبي سلمة، فأتانا بِزُبْدٍ وكتلة -وهو خليط من التمر والطحين-، فأسقط ذبابٌ في الطعام، فجعل أبو سلمة يمقُلُهُ بأُصبعه فيه، فقلتُ: يا خالُ ماذا تصنع؟! فقال: إنَّ أبا سعيد الخدري رضي الله عنه حدثني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: .. فذكره). (سنده قويٌّ، وسعيد بنُ خالد: وثقه النسائيُّ وابنُ حبان، وقال الدارقطنيُّ: يحتج به. اهـ. ولم يثبت عن النسائيّ تضعيفه)(س، س كبرى، ق، حم، طي، عبد، يع، حب، حب ثقات، طح مشكل، ابن عبد البر، هق، بغ، المزي)(التوحيد / جماد أول / 1419 هـ؛ الأمراض / 161 - 162؛ الفوائد / 101 - 102؛ بذل ح 4253).
سأل سائلٌ اسمه: وليد الريدي، من مركز أشمون، محافظة المنوفية، قال: سمعتُ شيخًا زائع الصيت، يقول في أحد المساجد: إن حديث الذبابة مكذوبٌ على النبيّ صلى الله عليه وسلم. ووصفه بأنه حديثٌ مقززٌ. مع أني أعلمُ أنَّ أهل العلم صححوه، وقد جادلتُ بعضَ الناس بعد هذه المحاضرة، فقالوا: إن كلام الشيخ مقنع، فاتفقنا على أن أرسل السؤال إلى مجلة التوحيد، راجين أن تبسطوا الكلام عن صحة الحديث؟
فقال شيخنا: والجواب بحول الملك الوهاب:
اعلم أيها السائل أن من تكلم في غير فنه أتى بمثل هذه العجائب، ويرحم الله ابنَ حبان إذ نقل قولا ساقطًا عن بعض الناس في مقدمة كتابه "المجروحين"(1/ 17)، ثم ردَّ عليه قائلاً:(لو تملَّق قائل هذا القول إلى باريه في الخلوة وسأله التوفيق لإصابة الحق لكان أولى به من الخوض فيما ليس من صناعته).
والذين طعنوا على الحديث لا يعلمون شيئًا عن شرائط نقل الأخبار، ولا عن قوانين الرواية، لذلك فكلامهم ذلك ساقطٌ؛ لأن العقلاء اتفقوا أن يُرجع في كلِّ عِلم إلى أهله والمتخصصين فيه، ولا يتكلم في تصحيح الأخبار وتضعيفها إلا أهلُ الحديث وحدهم دون غيرهم، وهاك حاصل الكلام في إثبات صحة الحديث:
فاعلم أنه قد روى هذا الحديث ثلاثةٌ من الصحابة هم: أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك رضي الله عنهم
…
ثم قام بتخريج حديث كل واحد منهم، وتكلم عليه بما تقضية أصول الصناعة الحديثية، ثم ختم البحث بقوله: فقد ثبت بهذا التخريج والتحقيق أن الحديث في غاية الصحة، ولا مطعن فيه، والحمد لله رب العالمين.
وقال شيخُنا في تحقيقه لجزء فيه من "الفوائد المنتقاة الحسان العوالي" من حديث أبي عَمرو السمرقندي (ت 345 هـ)، ونحوه في تحقيقه لكتاب "الأمراض والكفارات والطب والرُّقَيات" لضياء الدين المقدسي (ت 643 هـ) وفي "الفتاوى الحديثية / ج 2 / رقم 168 / جماد أول 4191":
واعلم أنَّ هذا الحديث ثار حوله شغبٌ قديمٌ وحديثٌ، وتهوَّك في فهمه، والإيمان به أقوامٌ غالبهم من الذين قال الله تعالى فيه:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
وجمعني مجلسٌ بواحدٍ من هؤلاء "المجددينات"، فقال لي: كيف نقدم ديننا إلى الكافرين، أبمثل هذا الحديث، ونحن نصرخ في الآفاق بأن ديننا دينُ النظافة؟!
فقلتُ له: وهل قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الذباب فاصطادوه ثم اغمسوه) حتى تلزمني بهذا القول المنكر؟! ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليك أكله، وإنما أوجب غمسه، فإن طابت نفسك فكل، وإلا فما أجبرك أحد.
وقد علَّلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وجوب الغمس بقوله: (إنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) فإذا غمسته انفجر ذاك "الكيس" الذي فيه الدواء بفعل مقاومة المأكول، فتكون النتيجة براءة الطعام من الضرر.
فما كاد يُسلِّم لي حتى أخرجت له بحثًا لأحد الأطباء في المجامع الطبية العالمية يقرر ما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ سكت وأطرق، ثم قال:"إننا نسلم لأهل العلم، لا سيما إذا كان من المشهود لهم". فصرختُ فيه قائلا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيِّدُ كُلِّ من ينسب إلى علم في الدنيا، فكيف لم تسلِّم له لما أخبرك، وسلمت "للخواجة" الكافر الذي لا يعرف شيئًا عن الاستنجاء؟!.
الواقع أننا مصابون في إيماننا. وإن كثيرًا من هؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
وقد تكلَّم علماؤنا قديمًا وحديثًا في دفع جهل هؤلاء المعترضين، منهم أبو سليمان الخطابي رحمه الله، فقال في "معالم السنن" (4/ 259):
"وقد تكلَّم على هذا الحديث بعضُ من لا خلاق له، وقال: كيف يكون هذا، وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة؟ كيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء، وتؤخر جناح الشفاء، وما أربُها إلى ذلك؟
قلتُ [القائل الخطابي]: هذا سؤالُ جاهلٍ أو متجاهل، وإنَّ الذي يجد نفسَه ونفوسَ عامة الحيوان قد جُمع فيها بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة، إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أنَّ الله سبحانه قد ألَّف بينها، وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها -لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوانٍ واحد، وأنَّ الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيتَ العجيبَ الصنعة، وأن تعسلَ فيه، وألهم الذرَّة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه-: هو الذي خلق الذُّبابةَ! وجعل لها الهداية إلى أنْ تُقَدِّمَ جناحًا وتؤخرَ جناحًا، لما أراد من الابتلاء، الذي هو مدرجة التعبد، والامتحان الذي هو مضمار التكليف. وفي كل شيء عبرة وحكمة. وما يذَّكَّر إلا أولوا الألباب". اهـ.
وقال الإمامُ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في "مشكل الآثار"(4/ 283 - 284):
"فقال قائلٌ من أهل الجهل بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبوجوهها: وهل للذباب اختيارٌ حتى يُقَدِّمَ أحد جناحيه لمعنى فيه، ويؤخر الآخر لمعنى فيه خلاف ذلك المعنى؟
فكان جوابنا في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه، أنَّه لو قرأ كتاب الله عز وجل قراءة متفهِّم لما يقرأ منه، لوجد فيه ما يدلُّ على صدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله عز وجل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ
الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69] إلا وكان وحي الله وإلهامه إياها أن تفعل ما أمرها به كمثل قوله عز وجل في الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4، 5] ووحيه لها إلهامه إياها ما شاء أن يلهمها إياه حتى يكون منها ما أراد الله عز وجل أن يكون منها .... وساق كلامًا آخر فليراجعه من شاء.
قال شيخنا: وتشغيب الجهلة القاصرين على هذا الحديث كان ولا يزال في عصرنا وقبل عصرنا، وقد تصدَّى اثنان من أعلام العلماء لجهلهم، وهما: الشيخ العلامةُ، أحد أعيان المحدثين بالديار المصرية، أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر رحمه الله والآخر هو شيخنا حسنة الأيام، إمام أهل الشام أبو عبد الرحمن ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى وسأثبت نص كلامهما لنفاسته، جزاهما الله خيرًا.
قال الشيخ أبو الأشبال في "تخريج المسند"(12/ 124 - 129 / رقم 7141):
"وهذا الحديث مما لعب به بعض معاصرينا، ممن علم وأخطأ، وممن علم وعمد إلى عداء السنة، وممن جهل وتجرأ:
فمنهم مَنْ حمل على أبي هريرة، وطعن في رواياته وحفظه. بل منهم من جرؤ على الطعن في صدقه فيما يروي! حتى غلا بعضهم فزعم أن في "الصحيحين" أحاديث غير صحيحة، إن لم يزعم أنها لا أصل له! بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما، فلم يفهموا اعتراض أولئك المتقدمين، الذين أرادوا
بنقدهم أن بعض أسانيدهما خارجة عن الدرجة العليا من الصحة، التي التزمها الشيخان، لم يريدوا أنها أحاديث ضعيفة قط.
ومِنَ الغريب أن هذا الحديث بعينه -حديث الذباب- لم يكن مما استدركه أحد من أئمة الحديث على البخاريّ. بل هو عندهم جميعًا مما جاء على شرطه في أعلى درجات الصحة.
ومِنَ الغريب أيضًا أن هؤلاء الذين حملوا على أبي هريرة، على علم كثير منهم بالسنة وسعة اطلاعهم رحمهم الله، غفلوا أو تغافلوا عن أن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد بروايته، بل رواه أبو سعيد الخدري أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، عند أحمد في "المسند"(11207، 11666)، والنسائي (2/ 193)، وابن ماجه (2/ 185)، والبيهقي (1/ 253)، بأسانيد صحاح. ورواه أنس بنُ مالك أيضًا، كما ذكر الهيثميُّ في "مجمع الزوائد"(5/ 38)، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبرانُّي في "الأوسط". اهـ. وذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 213)، وقال: أخرجه البزار، ورجاله ثقات. اهـ.
فأبو هريرة لم ينفرد برواية هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه انفرد بالحمل عليه منهم، بما غفلوا أنه رواه اثنان غيره من الصحابة.
والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث، لا وقر في نفوسهم من أنه ينافي المكتشفات الحديثة، من المكروبات ونحوها. وعصمهم إيمانهم عن أن يجرؤا على المقام الأسمى، فاستضعفوا أبا هريرة.
والحق أيضًا أنهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب، ولكنهم لا يُصرِّحون! ثم اختطوا لأنفسهم خطة عجيبة: أن يقدموها على كل شيء،
وأن يؤولوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي، إذا ما خالف ما يسمونه (الحقائق العلمية)! وأن يردّوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه! افتراءً على الله، وحبًّا في التجديد!.
بل إنَّ منهم لمن يؤمن ببعض خرافات الأوربيين، وينكر حقائق الإسلام أو يتأولها. فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح، وينكر وجود الملائكة والجن بالتأول العصري الحديث. ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى (القديسين والقديسات)! ثم ينكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين، يخرجونها عن معنى الإعجاء كله!! وهكذا وهكذا ..
وفي عصرنا هذا صديقٌ لنا، كاتبٌ قدير، أديبٌ جيدُ الأداء، واسعُ الاطلاع، كنا نعجب بقلمه وعلمه واطلاعه. ثم بدت منه هنات وهنات، على صفحات الجرائد والمجلات، في الطعن على السنّة، والإزراء برواتها، من الصحابة فمن بعدهم، يستمسك بكلمات للمتقدمين في أسانيد معينة، يجعلها -كما يصنع المستشرقون- قواعد عامة، يوسع مِنْ مداها، ويخرج بها عن حدّها الذي أراده قائلوها. وكانت بيننا في ذلك مساجلات شفوية، ومكاتبات خاصة، حرصًا مني على دينه وعلى عقيدته.
ثم كَتَبَ في إحدى المجلات -منذ أكثر من عامين- كلمة على طريقته التي ازداد فيها إمعانًا وغلوًا. فكتبتُ له كتابًا طويلاً في شهر جمادى الأولى سنة 1370، كان مما قلت له فيه، مِنْ غير أن أسميه هنا أو أسمي المجلة التي كتب فيها، قلتُ له:
(وقد قرأتُ لك، منذ أسبوعين تقريبا، كلمة في مجلة
…
لم تدع فيها ما وقر في قلبك من الطعن في روايات الحديث الصحيحة. ولست أزعم أني أستطيع
إقناعك، أو أرضى إحراجك بالإقلاع عما أنت فيه.
وليتك -يا أخي- درستَ علومَ الحديث وطرقَ روايته دراسة وافية، غير متأثر بسخافات "فلان" رحمه الله، وأمثاله ممن قلَّدهم وممن قلَّدوه. فأنت تبحث وتنقب على ضوء شيء استقر في قلبك من قبل، لا بحثًا حرًّا خاليًّا من الهوى.
وثِقْ أني لك ناصح مخلص أمين. لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنّة ما تشاء. فقد قرأتُ مِنْ مثل كلامك أضعاف ما قرأتَ. ولكنك تضرب الكلام بعضه ببعض.
وثِقْ -يا أخي- أن المستشرقين فعلوا مثل ذلك في السنّة، فقلتَ مثل قولهم وأعجبك رأيهم، إذ صادف منك هوى. ولكنك نسيت أنهم فعلوا مثل ذلك وأكثر منه في القرآن نفسه. فما ضار القرآنَ ولا السنّةَ شيءٌ مما فعلوا.
وقبلهم قام المعتزلةُ وكثيرٌ مِنْ أهل الرأي والأهواء، ففعلوا بعضَ هذا أو كلَّه، فما زادت السنّةُ إلا ثبوتًا كثبوت الجبال، وأتعب هؤلاء رؤوسهم وحدها وأوْهَوْهَا!.
بل لم نر فيمن تقدمنا مِنْ أهل العلم مَن اجترأ على ادّعاء أنَّ في "الصحيحين" أحاديث موضوعة، فضلاً عن الإيهام والتشنيع الذي يطويه كلامُك، فيوهم الأغرار أنَّ أكثرَ ما في السنّةِ موضوع! هذا كلام المستشرقين.
غاية ما تكلّم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها، لا بادّعاء وضعها والعياذُ بالله، ولا بادّعاء ضعفها. إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنها لا تبلغ في الصحة الذِّروةَ العُليا التهط التزمها كلٌّ منهما.
وهذا مما أخطا فيه كثيرٌ من الناس. ومنهم أستاذُنا السيد رشيد رضا رحمه
الله، على علمه بالسنّة وفقهه، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى. وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها. ولكنه كان متأثرًا أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده، وهما لا يعرفان في الحديث شيئًا. بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما، وأعلى قدمًا، وأثبت رأيا، لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه. والله يغفر لنا وله.
وما أفضت لك في هذا إلا خشية عليك من حساب الله. أمَّا الناس في هذا العصر فلا حساب لهم، ولا يقدّمون في ذلك ولا يؤخرون. فإن التربية الإفرنجية الملعونة جعلتهم لا يرضون القرآن إلا على مضض، فمنهم من يصرح، ومنهم من يتأول القرآن أو السنّة، ليرضي عقله الملتوي، لا ليحفظهما من طعن الطاعنين.
فهم على الحقيقة لا يؤمنون، ويخشون أن يصرحوا، فيلتوون. وهكذا هم حتى يأتي الله بأمره.
فاحذر لنفسك من حساب الله يوم القيامة. وقد نصحتُك وما ألوْتُ .. والحمدُ لله).
وأمّا الجاهلون الأجرياء فإنهم كثير في هذا العصر. ومن أعجب ما رأيت من سخافاتهم وجرأتهم: أن يكتب طبيب، في إحدى المجلات الطبيّة، فلا يرى إلا أن هذا الحديث لم يعجبه، وأنه ينافي علمه! وأنه رواه مؤلف اسمه "البخاري"! فلا يجد مجالاً إلا الطعن في هذا "البخاري"، ورميه بالافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم!، وهو لا يعرف عن "البخاري" هذا شيئًا، بل لا أظنه يعرف اسمه ولا عصره ولا كتابه! إلا أنه روى شيئًا يراه هو -بعلمه الواسع- غير صحيح! فافترى عليه ما شاء. مما سيحاسب عليه بين يدي الله حسابًا عسيرًا.
ولم يكن هؤلاء المعترضون المجترئون أول مَنْ تكلّم في هذا، بل سبقهم مِنْ أمثالهم الأقدمون. ولكن أولئك كانوا أكثر أدبًا مِنْ هؤلاء!
فقال الخطابي في "معالم السنن"(رقم 3695 من "تهذيب السنن"):
…
وذكر الشيخ أحمد شاكر ما تقدم قريبًا من كلام الخطابي، ثم قال:
وأمَّا المعنى الطبي، فقال ابنُ القيم -في شأن الطب القديم- في "زاد المعاد" (3/ 210 - 211):
(واعلم أنَّ في الذُّبابِ قوة سُمِّيَّة، يدلُّ عليها الورم والحكة العارضة من لسعه. وهي بمنزلة السلاح فإذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه. فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يقابلَ تلك السُمِّيَّة بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر مِنَ الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السُمِّيَّة بالمادة النافعة، فيزول ضررها. وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج مِنْ مِشكاة النُّبُوة. ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق، يخضع لهذا العلاج، ويقرُّ لِمَنْ جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية).
وأقول (والكلام للشيخ أحمد شاكر) -في شأن الطب الحديث-:
إنَّ الناس كانوا ولا يزالون تقذر أنفسهم الذباب، وتنفر مما وقع فيه من طعام أو شراب ولا يكادون يرضون قربانه. وفي هذا من الإسراف -إذا غلا الناس فيه- شيء كثير. ولا يزال الذباب يلح على الناس في طعامهم وشرابهم، وفي نومهم ويقظتهم، وفي شأنهم كله. وقد كشف الأطباء والباحثون عن المكروبات الضارة والنافعة، وغلوا غلوًا شديدًا في بيان ما يحمل الذباب من مكروبات ضارة، حتى لقد كادوا يفسدون على الناس حياتهم أو أطاعوهم طاعة حرفيّة تامة.
وإنا لنرى بالعيان أن أكثر الناس تأكل مما سقط عليه الذباب وتشرب، فلا يصيبهم شيء إلا في القليل النادر.
ومن كابر في هذا فإنما يخدع الناس ويخدع نفسه.
وإنا لنرى أيضًا أن ضرر الذباب شديد حين يعق الوباء العام. لا يُماري في ذلك أحد. هناك إذن حالان ظاهرتان، بينهما فروق كبيرة. أما حال الوباء، فمما لا شك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل الكروب أشدّ التحرز. وأما إذا عُدم الوباء، وكانت الحياة تجري على سنتها، فلا معنى لهذا التحرز. والمشاهدة تنفي ما غلا فيه الغلاة من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب. ومن كابر في هذا فإنما يجادل بالقول لا بالعمل، ويطيع داعي الترف والتأنق، وما أظنُّ ما يدعو إليه تطبيقًا دقيقًا، وكثيرٌ منهم يقولون ما لا يفعلون". اهـ.
وقال شيخُنا أبو عبد الرحمن الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(1/ 60 - 64 / رقم 39):
"أما بعد، فقد ثبت الحديث بهذه الأسانيد الصحيحة، عن هؤلاء الصحابة الثلاثة أبي هريرة وأبي سعيد وأنس، ثبوتًا لا مجال لرده ولا للتشكيك فيه، كما ثبت صدق أبي هريرة رضي الله عنه في روايته إياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافًا لبعض غُلاة الشيعة من المعاصرين، ومن تبعه من الزائغين، حيث طعنوا فيه رضي الله عنه لروايته إياه، واتهموه بأنه يكذب فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك؛ فهذا هو التحقيق العلمي يثبت أنه بريء مِنْ كل ذلك وأنَّ الطاعنَ فيه هو الحقيقُ بالطعنِ فيه، لأنهم رَمَوا صحابيًّا بالبهت، وردوا حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد عدم انطباقه على عقولهم المريضة! وقد رواه عنه جماعة من الصحابة كما علمت.
وليت شعري هل عَلِمَ هؤلاء بعدم تفرد أبي هريرة بالحديث، وهو حجة ولو تفرد، أم جهلوا ذلك، فإن كان الأول فلماذا يتعللون برواية أبي هريرة إياه،
ويوهمون الناس أنه لم يتابعه أحد من الأصحاب الكرام؟!
وإن كان الآخر فهلا سألوا أهل الاختصاص والعلم بالحديث الشريف؟ وما أحسن ما قيل:
فإنْ كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ .... وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
ثم إنَّ كَثيرًا من الناس يتوهمون أن هذا الحديث يخالف ما يقرره الأطباء وهو أن الذباب يحمل بأطرافه الجراثيم، فإذا وقع في الطعام أو في الشراب علقت به تلك الجراثيم، والحقيقة أنَّ الحديث لا يخالف الأطباء في ذلك، بل هو يؤيدهم إذ يخبر أنَّ في أحد جناحيه داء، ولكنه يزيد عليهم فيقول:"وفي الآخر شفاء" فهذا مما لم يحيطوا بعلمه، فوجب عليهم الإيمان به إن كانوا مسلمين، وإلا فالتوقف إذا كانوا مِنْ غيرهم إنْ كانوا عُقَلاء عُلَماء! ذلك لأن العلم الصحيح يشهد أَنَّ عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه.
نقول ذلك على افتراض أنَّ الطبُّ الحديثَ لم يشهد لهذا الحديث بالصحة، وقد اختلفت آراء الأطباء حوله، وقرأتُ مقالاتٍ كثيرة في مجلات مختلفة، كل يؤيد ما ذهب إليه تأييدًا أو ردًّا، ونحن بصفتنا مؤمنين بصحة الحديث، وأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] ، لا يهمنا كثيرا ثبوت الحديث من وجهة نظر الطب، لأنَّ الحديثَ برهانٌ قائمٌ في نفسه لا يحتاجُ إلى دعمٍ خارجيٍّ.
ومع ذلك فإن النَّفسَ تزدادُ إيمانًا حين ترى الحديث الصحيح يوافقه العلم الصحيح، ولذلك فلا يخلو مِنْ فائدة أنْ أنقلَ إلى القراء خلاصة محاضرة ألقاها أحد الأطباء في جمعية الهداية الإسلامية في مصر حول هذا الحديث، قال:
"يقع الذباب على المواد القذرة المملؤة بالجراثيم التي تنشأ منها الأمراض المختلفة، فينقل بعضها بأطرافه، ويأكل بعضا، فيتكون في جسمه مِنْ ذلك مادة سامة يسميها علماء الطب بـ (مبعد البكتريا)، وهي تقتلُ كثيرًا مِنْ جراثيم الأمراض، ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حيّة أو يكون لها تأثير في جسم الإنسان في حال وجود مبعد البكتريا.
وإنَّ هناك خاصية في أحد جناحي الذباب، هي أنه يحوِّل البكتريا إلى ناحيته، وعلى هذا فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام، وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم، وأول واقٍ منها هو (مبعد البكتريا) الذي يحمله الذباب في جوفه قريبًا مِنْ أحد جناحيه، فإذا كان هناك داءٌ فدواؤُهُ قريبٌ منه، وغمس الذباب كله وطرحه كافٍ لقتل الجراثيم التي كانت عالقة، وكافٍ في إبطال عملها".
وقد قرأتُ قديمًا في هذه المجلة بحثًا ضافيًا في هذا المعنى للطبيب الأستاذ سعيد السيوطي (مجلد العام الأول)، وقرأتُ كلمة في مجلد العام الفائت (ص 503) كلمة للطبيبين محمود كمال ومحمد عبد المنعم حسين؛ نقلا عن مجلة الأزهر.
ثم وقفتُ على العدد (82) من "مجلة العربي" الكويتية (ص 144) تحت عنوان: "أنت تسأل، ونحن نجيب" بقلم المدعو عبد الوارث كبير؛ جوابًا له على سؤال عمَّا لهذا الحديث من الصحة والضعف؟ فقال:
"أمَّا حديثُ الذباب، وما في جناحيه من داء وشفاء، فحديث ضعيف، بل هو عقلا حديث مفترى، فمن المسلَّم به أنَّ الذبابَ يحمل من الجراثيم والأقذار
…
ولم يقل أحدٌ قطّ أَنَّ في جناحي الذبابة داءً وفي الآخر شفاءً، إلا مَنْ وَضَعَ هذا الحديثَ أو افتراه، ولو صحَّ ذلك لكشف عنه العلم الحديث الذي يقطع بمضار
الذباب، ويحض على مكافحته".
وفي الكلام -على اختصاره- مِنَ الدَّس والجهل ما لا بد من الكشف عنه، دفاعًا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصيانة له مِنْ أنْ يَكْفُرَ به مَنْ قد يغتَرُّ بزخرُف القول! فأقول:
أولاً: لقد زعم أنَّ الحديثَ ضعيفٌ، يعني من الناحية العلمية الحديثية؛ بدليل قوله:"بل هو عقلاً حديث مفترى".
وهذا الزعم واضحُ البُطلان، تعرف ذلك مما سبق من تخريج الحديث من طرق ثلاث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها صحيحة.
وحسبك دليلاً على ذلك أن أحدًا مِنْ أهل العلم لم يقل بضعف الحديث، كما فعل هذا الكاتب الجريء!
ثانيًا: لقد زعم أنه حديث مفترى عقلاً.
وهذا الزعم ليس وضوح بُطلانه بأقلِ مِنْ سابقه، لأنه مجرد دعوى، لم يسق دليلاً يؤيده به، سوى الجهل بالعلم الذي لا يمكن الإحاطة به، ألستَ تراهُ يقول: "ولم يقل أحد
…
، ولو صح لكشف عنه العلم الحديث
…
".
فهل العلم الحديث -أيها المسكين- قد أحاط بكلِّ شيء علمًا، أمْ أَنَّ أهلَهُ الذين لم يصابوا بالغرور -كما أُصِيبَ مَنْ يُقَلِّدهُم مِنَّا- يقولون: إننا كلما ازددنا علمًا بما في الكون وأسراره، ازددنا معرفةً بجهلنا! وأنَّ الأمرَ بحقٍّ كما قال الله تبارك وتعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
وأمَّا قولُه: "إن العلمَ يقطع بمضار الذباب ويحض على مكافحته"!
فمغالطة مكشوفة، لأننا نقول: إنَّ الحديث لم يقل نقيضَ هذا، وإنما تحدث عن قضية أخرى لم يكن العلم يعرف معالجتها، فإذا قال الحديث:"إذا وقع الذباب .. " فلا أحد يفهم -لا من العرب ولا من العجم، اللهم إلا العجم في عقولهم وإفهامهم- أنَّ الشرعَ يُبَارِك في الذباب ولا يكافحه؟
ثالثًا: قد نقلنا لك فيما سبق ما أثبته الطبُّ اليوم، مِنْ أَنَّ الذبابَ يحمل في جوفه ما سموه بـ (مبعد البكتريا) القاتل للجراثيم.
وهذا وإنْ لم يكنْ موافقًا لما في الحديث على وجه التفصيل؛ فهو في الجملة موافق لما استنكره الكاتب المشار إليه وأمثاله من اجتماع الداء والدواء في الذباب، ولا يبعد أن يأتي يومٌ تنجلي فيه معجزةُ الرسول صلى الله عليه وسلم في ثبوت التفاصيل المشار إليها علميًا، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].
وإنَّ مِنْ عَجيب أمر هذا الكاتب وتناقضه؛ أنه في الوقت الذي ذهب فيه إلى تضعيف هذا الحديث، ذهب إلى تصحيح حديث "طهور الإناء الذي يلغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات: إحداهن بالتراب"، فقال: "حديث صحيح متفق عليه". فإنه إذا كانت صحته جاءت من اتفاق العلماء أو الشيخين على صحته؛ فالحديث الأول أيضًا صحيحٌ عند العلماء بدون خلاف بينهم، فكيف جاز له تضعيف هذا وتصحيح ذاك؟!
ثم تأوَّله تأويلاً باطلاً يؤدي إلى أن الحديثَ غير صحيح عنده في معناه، لأنه ذكر أَنَّ المقصود مِنْ العدد مجرد الكثرة! وأنَّ المقصودَ من التراب هو استعمال مادة مع الماء من شأنها إزالة ذلك الأثر!
وهذا تأويلٌ باطلٌ، بَيِّنُ البطلان وإنْ كان عزاه للشيخ محمود شلتوت عفا
الله عنه. فلا أدري أي خطأيه أعظم؟! أهو تضعيفه للحديث الأول وهو صحيح؟! أم تأويله للحديث الآخر وهو تأويلٌ باطلٌ؟!.
وبهذه المناسبة، فإني أنصحُ القُرَّاءَ الكرامَ بأنْ لا يثِقُوا بكل ما يُكْتَبُ اليوم في بعض المجلات السائرة، أو الكتب الذائعة، مِنَ البحوث الإسلامية، وخصوصًا ما كان منها في علم الحديث، إلا إذا كانت بقلم مَنْ يُوثَق بدينه أولاً، ثم بعلمه واختصاصه فيه ثانيًا .... والله المستعان. اهـ.
173/ 8 - (إنَّ في الحبَّةِ السودَاءِ شفاءً مِنْ كلِّ داءٍ، إلا السَّامُ. والسَّامُ: هو الموتُ).
174/ 9 - (إنَّ الشونيز ينفع بإذن الله عز وجل مِنْ كلِّ داءٍ إلا الموت. وهذا لفظ ابن شاذان).
(عن أبي هريرة رضي الله عنه). (صحيحٌ). (خ، م، س طب، ت، ق، حم، ش، حمي، عب، بغ أبو القاسم مسند ابن الجعد، ابن المنذر إقناع، ابن شاذان، هق، بغ)(الأمراض / 102 ح 40).
قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ونقل الحافظ في "الفتح"(10/ 145) عن الخطابيّ أنه قال:
"هذا من العام الذي يرادُ به الخاص".
ويوضحه ما قاله بعضهم أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصف الدواءَ بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعلّ قوله في الحبة السوداء وافق مرضَ مَنْ مزاجه باردٌ، فيكون معنى قوله:"شفاء من كلِّ داءٍ" أي: من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثيرٌ وشائعٌ.
وردَّ ابنُ أبي جمرة هذا التخصيص بقوله:
"تكلَّم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه، وردُّوه إلى قول أهل الطب والتجربة، ولا خفاء بغلط قائل ذلك، لأنا إذا صدقنا أهل الطب ومدارُ علمهم
غالبًا إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظنّ غالبٍ، فتصديقُ من لا ينطقُ عن الهوى أولى بالقبول من كلامهم" اهـ.
قال شيخُنا: وهذا كلامٌ حسنٌ وقويٌّ.
ولقد علمنا علمًا أكيدًا أنَّ الأطباء وجدوا في العسل شفاءً لبعض الأمراض التي لم يجدوا لها دواء قبل ذلك، وكان الأطباء قبلُ ينكرون أنَّ يكون العسل دواء مِنْ هذا المرض، فما هو المانع أنَّ تكون الحبة السوداء شفاءً من كلِّ داء، ولكن جهل العباد بطرائق استخدامها هو الذي يؤخر -أو يعرقل- الشفاء بها؟ وهل من اللائق أنَّ يخصصَ كلامُ الرسول صلى الله عليه وسلم بجهل الحلق؟!!
175/ 10 - (جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "هل أخذتك أمُّ مِلْدَم قَطُّ؟ "قال: وما أمُّ ملدم؟ قال: "حَرٌّ يكون بين الجلد واللحم". قال: ما وجدت هذا قطّ. قال: "فهل صُدِعتَ قطُّ؟ " قال: وما الصُدَاعُ؟ قال: "عِرقٌ يضربُ في الرأس". قال: ما وجدت هذا قط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أنَّ ينظرَ إلى رجلٍ مِنْ أهل النَّار، فلينظر إلي هذا").
(رواه: عليّ بنْ مُسهر، عن محمد بن عَمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وقال الضياءُ: رواه الإمامُ أحمد في "مسنده" عن محمد بن بشر، عن محمد بن عَمرو بمعناه. ورواه عَمرو بنُ مرزوق، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة - رض الله عنه -). (هذا حديثٌ حسنٌ)(بخ، س كبرى، حم، البزار، حب، ك، نعيم طب)(الأمراض / 54 - 55 ح 21).
176/ 11 - (الوائدة والموؤدة في النَّار).
(عن ابن مسعود، وسلمة ابن يزيد الجعفي رضي الله عنهما). (حم، د، س)(الأمراض / 58 - 59).
قال شيخُنا: واعلم -علَّمَنِي الله وإياك- أنَّ ظاهر حديث الباب والأحاديث التي ذكرتها مشكل، فهي تخالف ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من دعائه ربه
العافية، وأن لا يبتليه فأجاب العلماء بأجوبة:-
قال ابنُ حبان في "صحيحه"(7/ 179 - 180): قوله صلى الله عليه وسلم "من أحب أنَّ ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا" لفظة إخبار عن شيء مرادها الزجر عن الركون إلى ذلك الشيء وقلة الصبر على ضده، وذلك أنَّ الله جل وعلا جعل العلل في هذه الدنيا، والغموم والأحزان سبب تكفير الخطايا عن المسلمين، فأراد صلى الله عليه وسلم إعلام أمته أنَّ المرء لا يكاد يتعرَّي عن مقارفة ما نهى الله عنه في أيامه ولياليه، وإيجاب النار له بذلك إن لم يتفضل عليه بالعفو، فكأن كل إنسان مرتهن بما كسبت يداه، والعلل تُكَفِّر بعضها عنه في هذه الدنيا لا أنَّ من عُوفي في هذه الدنيا يكون من أهل النار. اهـ.
قلتُ: كذا أجاب ابنُ حبان رحمه الله وهو جوابٌ حسنٌ في الجملة، لكنه لم يرفع الإشكال، وذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عن الرجل أنه:"من أهل النار" ولفظة "أهل" تدل على الأهلية واللزوم، فظاهر الخطاب يدلُّ على أنَّ الرجلَ من أصحاب النار الماكثين فيها.
والجواب الصحيح عندي في ذلك -والله أعلم- أنَّ هذا الكلام وإن خرج مخرج العام، لكن يُراد به الخصوص، وهذا الحملُ سائغٌ عند جماعة العلماء لفضِّ الإشكال الظاهر بين النصوص، فكان كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم صادف رجلاً حقت عليه كلمة العذاب، بأن يموت كافرًا، حتى وإن كان يؤدي فرائض الإسلام الظاهرة، وشبيه هذا ما أخرج مسلمٌ (2380/ 72) وغيره من حديث أُبَيّ بن كعب في قصة موسى والخضر عليهما السلام في شأن الغلام الذي قتله الخضر. قال الخضرُ: "وأما الغلام فَطبِعَ يوم طبع كافرًا، وكان أبواه قد عطفا عليه، فلو أنه أدرك
أرهقهما طغيانًا وكفرًا".
ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الوائدة والموؤدة في النار) ، فقد استشكل هذا الحديث رجلٌ من أهل عصرنا، اشتهر بردِّ الأحاديث الصحيحة بالجهل بمعناها، وتقديم الضعيف عليها إذا كان معناها سائغًا عنده، كما صرح بذلك في مقدمة كتابه "فقه السيرة"، فقد ذكر هذا الحديث، ثم قال:"وهو مرفرضٌ مهما كان سنده"!.
فانظر إلى هذه الجرأة البالغة في مخالفة سبيل المؤمنين، لأن جماعة العلماء يقولون:"الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".
فطوًح الرجل بجهود علماء الحديث، بسبب جهله بمصطلحهم، وليته يقول:"أنا لا أعلم"، أو يقول:"استشكل معنى الحديث عليَّ"، ويكله إلى عالمه، إذن لحمدنا له صنيعه، لأنه مسلكُ أهل العلم، لكنه يزخرف القول متحاشيًا أن يعترف على نفسه بعدم العلم.
وعلى الأصل الذي ذكرناهُ في أول الكلام ينحلُّ الإشكال.
فإن الوائدة لو دخلت النار، فبسبب ظلمها وقتلها النفس، أما الموؤدة المظلومة فما ذنبها؟ فيحمل الحديث على موؤدة خاصة كانت، كالغلام الذي قتله الخضر، وأنها كانت تكون كافرة لو كبرت، ولو سلَّمنا أنَّ هذا الكلام غير سائغ وهو والله سائغٌ لكان أفضل من ردّ الحديث بالجهل بمعناهُ، بل التوقف فيه أفضل من ردّه، فكيف إذا حملته على أصلٍ معروف عند العلماء؟ فلا شكّ أنَّ هذا أولى.
وكذلك ردَّ الرجل حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لحوم البقر داء" فقال في كتابه الأبتر "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" في الطبعات المتأخرة منه:
"وهذا الحديث مرفوض -أو مردود- مهما كان سنده" واحتج بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر، وبأن القرآن ذكرها من جملة الأزواج الثمانية، ولو راجع كتابًا واحدًا مثل "فتح الباري" لانحل الإشكال، لكن الرجل مولعٌ بردّ الأحاديث الصحيحة، وهو مرضٌ فتاكٌ. نسأل الله أن يعافيه منه، وأن يرزقنا الأدب مع سنة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم. (الأمراض / 58 - 59).
177/ 12 - (جاءت امرأةٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ الله! إنَّ زوجي صفوان بنَ المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس. قال: وصفوان عنده.
فسأله عما قالت. فقال: يا رسول الله! أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين، وقد نهيتها عنها. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لو كانت سورةً واحدة لكفت الناس". قال: وأما قولها: يفطرني إذا صمت؟ فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجلٌ شاب لا أصبرُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ:"لا تصوم امرأةٌ إلا بإذن زوجها". وأما قولها: لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهلُ بيتٍ لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. فقال صلى الله عليه وسلم:"فإذا استيقظت، فصلِّ". هذا سياق جرير ابن عبد الحميد عند ابن حبان. وفي سياق أبي بكر بن عيًاش عند أحمد: "وأما قولها: إني أضربها عن الصلاة، فإنها تقرأ بسورتي، فتعطلني. قال: "لو قرأها الناسُ ما ضرَّك". وأمَّا قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإني ثقيلُ الرأس، وأنا من أهل بيت يعرفون بذاك، بثقل الرؤوس. قال: "فإذا قمت فصلِّ").
(رواه: جرير بنُ عبد الحميد، وأبو بكر بنُ عيَّاش، كلاهما عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:
…
فذكر الحديث). (حديثٌ صحيحٌ)(تقدم تخريجه، وبيان موضعه في كتب الشيخ، برقم 52).
سأل سائلٌ، فقال: ذكر بعضُ الخطباء أنه يجوز صلاة الصبح بعد شروق الشمس، واستدلَّ بحديثٍ عن أحد الصحابة، اسمه على ما أذكر "صفوان"، وقد سألتُ عنه بعضَ أهل العلم، فقال لي: هو حديثٌ منكرٌ، فنرجو أنَّ تذكر لنا نصَّ الحديث، مع ذكر درجته. وقد ذكر هذا الخطيبُ أيضًا أنَّ في هذا الحديث النهي عن قراءة سورتين بعد الفاتحة فهل هذا صحيحٌ؟
فقال شيخُنا: الحديث صحيحٌ. وقال الحاكمُ: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيُّ. وهو كما قالا، وصحَّح إسناده الحافظُ في "الإصابة"(3/ 441)، وقد صرَّح الأعمشُ بالتحديث عن أبي صالح عند ابن سعد في "الطبقات" كما قال الحافظُ في "الفتح"(8/ 462).
أمَّا من أنكره فهو مسبوق إليه. فقد قال الحافظُ في "الإصابة"(3/ 441): إن البخاريَّ أورد هذا الإشكال قديمًا. ولما روى البزار هذا الحديث في "مسنده"، قال:"هذا الحديث كلامه منكرٌ. ولعل الأعمش أخذه من غير ثقةٍ فدلَّسه، فصار ظاهر سنده الصحة، وليس للحديث عندي أصلٌ". اهـ.
وخلاصة الإشكال أنَّ صفوان بنَ المعطل لمَّا رُمي بعائشة رضي الله عنها في حديث الإفك المشهور في "الصحيحين" وغيرهما، قال:"سبحان الله! والله ما كشفتُ كنف أنثى قط".
فيكونُ حديث أبي سعيد هذا منكرًا إذ فيه أنَّ لصفوان زوجة، فكيف يقول: والله ما كشفت كنف أنثى قط؟ فلهذا استشكله البخاري، وأنكره البزار،
ولكن يجاب عنه بأن الجمع أولى من الترجيح، فالأصل في الدليلين الصيحين الإعمال لا الإهمال، والجمع هنا ممكنٌ، بل ظاهرٌ، وهو أن يكون حديث أبي سعيد هذا متأخرًا عن حادثة الإفك. فيُحمل قوله:"ما كشفت كنف أنثى قط" على أنه لم يكن تزوج بعد ذلك فشكته امرأتُة وبهذا أجاب الحافظُ.
وهناك جوابٌ آخر. قال القرطبيُّ: قوله "ما كشفت كنف أنثى قط" يعني: بزنا، أي في الحرام. اهـ.
ولكن اعترضه الحافظ، بقوله:
"فيه نظر، لأن في رواية سعيد بن أبي هلال، عن هشام بن عروة، في قصة الإفك، أنَّ الرجل الذي قيل فيه ما قيل لما بلغه الحديث، قال: "والله! ما أصبت امرأةً قط حلالاً ولا حرامًا". وفي حديث ابن عباس، عند الطبراني: "كان لا يقربُ النساء"، فالذي يظهرُ أنَّ مرادهُ بالنفي المذكور ما قبل القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، فهذا الجمعُ لا اعتراض عليه إلا بما جاء عن ابن إسحاق أنه كان حصورًا، لكنه لم يثبت، فلا يعارض الحديث الصحيح" انتهى كلامُ الحافظ.
وما ذكره من حديث ابن عباس، فأخرجه الطبرانيُّ (23/ 123)، وفي سنده: إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو متروكٌ.
وكذلك أبوه يحيى ابن سلمة. فالسند ضعيف جدًا.
وخلاصة الجواب أن الحديث صحيحٌ، وليس معناه منكرًا كما شرحناه.
أمَّا ما ذكرد ذلك الواعظ من صلاة الفجر بعد طلوع الشمس فجائزٌ، لا سيما من كان حاله كحال صفوان بن المعطل، وأنه كان ثقيل الرأس، فكانت هذه فيه كالصفات الجبلية في الإنسان.
واستبعد الذهبيُّ في "سير النبلاء"(2/ 550) هذه الخصلة في صفوان، فقال:"فهذا بعيدٌ من حال صفوان أن يكون كذلك". اهـ.
كذا قال! ولا بُعد فيه كما لا يخفى. أمَّا من يظل ساهرًا طول الليل في غير منفعة، ليس إلا لمجرد السهر حتى إذا اقترب الفجرُ نام، فلا يستيقظ إلا وقد تعالى النهار، فلا شك أنهُ مؤاخذ وإن جازت صلاُتهُ. والله أعلم.
أمَّا استدلال ذلك الخطيب على النهي عن قراءة سورتين بعد الفاتحة فلستُ أدري من أين أخذه، فليس في الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم نهاها عن قراءة سورتين، وإنما قال:"لو كانت سورة واحدة لكفت الناس "يعني أن سورة واحدة لو قرأها المصل متدبرًا لها لكفته لو عمل بها".
ويكفي في ردِّ استدلال هذا الخطيب، ما:
أخرجه البخاريُّ (2/ 255 - فتح) من حديث أنس رضي الله عنه، أن رجلاً من الأنصار كان يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة. وذكر الحديث، وفيه: أنهم شكوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن لزومه سورة الإخلاص في كل ركعة، فقال الرجل: إني أحبُّها. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "حبُّكَ إياها أدخلك الجنة".
وبوب البخاريُّ على هذا الحديث وغيره بقوله: "باب الجمع بين السورتين في الركعة".
وهذا البحث كله قائمٌ على أن اللفظ "سورتين".
ووقع في رواية لأحمد والطحاوي: "وأما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقوم بسورتي التي أقرأها، فتقرأ بها"، فلفظ "السورة" في هذه الرواية جاء مضافًا.
ومعناهُ كما قال الطحاويُّ أنه إنما ضربها لأنها تقوم بسورته التي يقرأ بها، فظن صفوان أنها إذا قرأت السورة التي يقرأها فلا يحصل لهما بقراءتهما إياها جميعًا إلا ثوابًا واحدًا، فلو أنها قرأت سورة أخرى غير التي قرأها حصل لهما ثوابان، فأعلمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ واحدٍ منهما لو قرأها في صلاته فيحصل لهما ثوابان، لأن قراءة أحدهما غير قراءة الآخر.
ومما يدلُّ على ذلك قولة في رواية أبي بكر بن عيَّاش عن الأعمش عند أحمد قوله: "فإنها تقرأ بسورتي، فتعطلني"، أي: تنازعني في الثواب بقراءتها نفس السورة فتتركني عطلاً من الثواب. والله أعلم.
178/ 13 - (غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعَ غزوات، أخلُفُهُم في رِحَالهم، وأصنعُ لهم الطعامَ، وأجبرُ الجراحاتِ، وأداوي المرضى).
(عن أم عطية رضي الله عنها به). (هذا حديثٌ صحيحٌ)(م، س كبرى، ق، ش)(الأمراض / 181 ح 75).
179/ 14 - (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يغزو بأُمِّ سُلَيم، ونسوةٌ معها من الأنصار، يسقين الماء، ويداوين الجرحى).
(عن أنس رضي الله عنه). (قال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (م، د، س كبرى، ت، يع، نعيم)(الأمراض / 181).
180/ 15 - (كنا نغزو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونردُّ الجرحى والقتلى إلى المدينة).
(عن الرُّبَيِّع بنت معوذ رضي الله عنها). (خ، حم، بغ)(الأمراض / 182).
قال الإمامُ البغوي في "شرح السنة"(11/ 13) بعد ذكره لحديث الربيع:
"في الحديث دليل على جواز الخروج بالنساء في الغزو لنوع من الرفق والخدمة، فإن خاف عليهن لكثرة العدو وقوتهم، أو خاف فتنتهنّ لجمالهنّ، وحداثة أسنانهنّ، فلا يخرج بهنّ، وقد رُوِىَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ نسوةً خرجنَ معه، فأمر
بردِّهنّ، فيشبهُ أن يكون ردُّهُ إياهُنَّ لأحد هذين المعنيين " اهـ.
فقال شيخُنا (الأمراض / 182 - 183): وهذا الذي ذكره البغويُ أخذه من كَلام أبي سليمان الخطابيّ في "معالم السنن"(2/ 246). أما الحديث الذي ذكره، فقد أخرجه ابنُ أبي شيبة (12/ 526)، وعنه ابنُ سعد في "الطبقات"(8/ 308)، وأبو يعلى -كما في "المطالب العالية (2/ 169) -، والطبرانيُّ في "الكبير" (ج 25 / رقم 431)، وفي "الأوسط" (ج 1 / ق 270/ 1)، وابنُ أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (ق 382/ 1)، وعنه ابنُ الأثير في "أسد الغابة" (5/ 610) وعزاه لابن منده وأبي نعيم، من طريق حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن ابن صالح، عن الأسود بن قيس، قال: حدثني سعيد بن عَمرو القرشيّ: أن أُمَّ كبشةَ امرأة من بني عذرة -عذرة قضاعة-، قالت: يا رسول الله! ائذن لِي أن أخرج في جيش كذا وكذا. قال: "لا". قلتُ: يا رسول الله! إني لستُ أريدُ أن أقاتل، وإنما أريد أن أداويَ الجريح والمريض، أو أسقي المرضى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لولا أن تكون سنَّةٌ، ويُقال: فلانة خرجت، لأذنتُ لك، ولكن اجلسي).
قال الطبرانيُّ: "لا يروى هذا الحديث عن أم كبشة إلا بهذا الإسناد تفرد به الحسن بنُ صالح". اهـ. وقال الهيثميُّ في "المجمع"(5/ 324): "رجاله رجال الصحيح". اهـ. قلتُ: وإسناده صحيحٌ. ويحتمل أن يكون منسوخًا، لأنَّ أحاديث الجواز أكثر شهرة وصحةً، ويحتمل أن يكون لأحد العلتين اللتين أبداهما الخطابيُّ رحمه الله. والله أعلم.
181/ 16 (ما بُلْتُ قائمًا منذ أسلمت).
(رواه عبَيد الله بنُ عُمر، عن نافع، عن ابن عُمر، عن عُمر رضي الله عنه به موقوفًا عليه).
(سندُهُ صحيحٌ. وقال ابن المنذر: ثبت عنْ عُمر رضي الله عنه)(ش، ابن المنذر، البزار، أبو بكر النجاد، طح معاني)(التوحيد / ربيع أول / 1419 هـ).
182/ 17 - (رأيتُ عُمر بنَ الخطاب، بال قائمًا، زاد الطحاوي: "فأجنح -يعني: مال- حتى كاد يُصرع").
(رواه: الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: .. فذكره). (سنده صحيح، ولا يُعَلّ بتدليس الأعمش، لأن شعبة رواه عنه عند الطحاوي، وقد ثبت عن شعبة أنه قال: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وقتادة، وأبي إسحاق السبيعي)(ش، طح معاني)(التوحيد / ربيع أول / 1419 هـ؛ بذل 1/ 260).
قال شيخُنا: فظاهر الأثرين التناقض، وقد جمع بينهما بعضُ أهل العلم.
فقال ابن المنذر في "الأوسط"(1/ 338):
فقد يجوز أن يكون عُمر إلى الوقت الذي قال فيه هذا القول -يعني: "ما بُلتُ قائمًا"- لم يكن بال قائمًا، ثم بال بعد ذلك، فرآه زيد بن وهب، فلا يكون حديثان متضادين. وكذلك قال الطحاوي.
183/ 18 - (مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجمع القرآنَ غيرُ أربعةٍ: أبو الدرداء، ومعاذ بنُ جبل، وزيد بنُ ثابت، وأبو زيد).
(رواه: معلي بنُ راشد العَمِّي، ومعلى بنُ أسد، قالا: نا عبد الله بن المثنى: حدثني ثابت البُنانيُّ وثمامة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه به. زاد البخاريُّ: "قال: "ونحن ورثناه"). (صحيحٌ. انفرد به البخاريُّ)(خ، البزار، طب أوسط، حب ثقات)(التسلية / ح 56؛ تنبيه 12/ رقم 2456؛ تنبيه 8 / رقم 1837).
184/ 19 - (جمع القرآن على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعةٌ: أُبَيّ بنُ كعب، وزيد بنُ ثابت، وأبو زيد، ومعاذ بنُ جبل) هكذا رواه الحسين بنُ واقد، عن ثمامة، عن أنس به، فخالف في تسمية واحد من هؤلاء الأربعة.
قال شيخنا: وقد اعتُرِضَ على هذا الحديث من وجهين.
الأول: التصريحُ بصيغة الحصر في الأربعة.
الثاني: ذِكْرُ أبي الدرداء، بدل: أُبَيّ بن كعب.
فأمَّا الجوابُ عن الأول، فقال الحافظ في "الفتح":
"وقد أجاب القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره عن حديث أنس هذا بأجوبة:
أحدها: أنه لا مفهوم له، فلا يلزم أن لا يكون غيرهم جمعه.
ثانيها: المراد لم يجمعه على جميع الوجوه، والقراءات التي نزل بها، إلا أولئك.
ثالثها: لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته وما لم ينسخ إلا أولئك وهو قريبٌ من الثاني.
رابعها: أن المراد بجمعه تلقيه من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بواسطة، بخلاف غيرهم، فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة.
خامسها: أنهم تصدوا لإلقائه وتعليمه فاشتهروا به، وخفي حال غيرهم عمن عرف حالهم، فحصر ذلك فيهم بحسب علمه، وليس الأمر في نفس الأمر كذلك، أو يكون السبب في خفائهم أنهم خافوا غائلة الرياء والعجب، وأمن ذلك من أظهره.
سادسها: المراد بالجمع الكتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظًا عن ظهر قلب وأمَّا هؤلاء فجمعوه كتابة وحفظوه عن ظهر قلب.
سابعها: المراد أن أحدًا لم يفصح بأن جمعه بمعنى أكمل حفظه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أولئك، بخلاف غيرهم فلم يفصح بذلك لأن أحدًا منهم لم يكمله إلا عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت آخر آية منه: فلعل هذه الآية الأخيرة وما أشبهها ما حضرها إلا أولئك الأربعة ممن جمع جميع القرآن قبلها، وإن كان قد حصرها من لم يجمع غيرها الجمع البين.
ثامنها: أن المراد بجمعه السمع والطاعة له والعمل بموجبه، وقد أخرج أحمد في "الزهد" من طريق أبي الزاهرية:"أن رجلاً أتى أبا الدرداء، فقال: إنَّ ابني جمع القرآن، فقال: اللهم غفرًا إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع".
وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف، ولا سيما الأخير. وقد أومأت قبل هذا إلى احتمال آخر، وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين ومن جاء بعدهم، ويحتمل أن يقال: إنما اقتصر عليهم أنس لتعلق غرضه بهم، ولا يخفى بعده.
والذي يظهر من كثير من الأحاديث أنَّ أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تقدم في المبعث أنه بنى مسجدًا بفناء داره فكان يقرأ فيه القرآن وهو محمولٌ على ما كان نزل منه إذ ذاك. وهذا مما لا يرتاب فيه مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبيّ صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة وكثرة ملازمة كل منهما للآخر حتى قالت عائشة كما تقدم في الهجرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرة وعشية.
وقد صحح مسلمٌ حديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وتقدمت الإشارة إليه، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم في مكانه لما مرض، فيدل على أنه كان أقرأهم.
وتقدم عن عليّ أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج النسائيُّ بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عَمرو، قال:"جمعتُ القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: اقرأه في شهر .. " الحديث. وأصله في الصحيح.
وتقدم في الحديث الذي مضى ذكر ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وكل هؤلاء من المهاجرين.
وقد ذكر أبو عبيد القراء من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعدًا، وابن مسعود، وحذيفة، وسالمًا، وأبا هريرة، وعبد الله
بن السائب، والعبادلة، ومن النساء: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، ولكن بعض هؤلاء إنما أكمله بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس.
وعَدَّ ابنُ أبي داود في "كتاب الشريعة" من المهاجرين أيضًا تميم بن أوس الداري، وعقبة بن عامر. ومن الأنصار: عبادة بن الصامت، ومعاذًا الذي يكنى أبا حليمة، ومجمع بن حارثة، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد وغيرهم، وصرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وممن جمعه أيضًا أبو موسى الأشعري ذكره أبو عَمرو الداني، وعدَّ بعض المتأخرين من القراء عَمرو بن العاص، وسعد بن عباد، وأم ورقة.
وأما الجواب عن الوجه الثاني: فقال الإسماعيليُّ: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوزان في الصحيح مع تباينهما، بل الصحيح أحدهما.
وجزم البيهقيُّ بأن ذكر أبي الدرداء وهم، والصواب أُبَي ابن كعب.
وقال الداودي: لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظًا.
قلتُ: وقد أشار البخاريُّ إلى عدم الترجيح باستواء الطرفين، فطريق قتادة على شرطه، وقد وافقه عليها ثمامة في إحدى الروايتين عنه، وطريق ثابت أيضًا على شرطه، وقد وافقه عليها أيضًا ثمامة في الرواية الأخرى، لكن مخرج الرواية عن ثابت وثمامة بموافقته، وقد وقع عن عبد الله بن المثنى وفيه مقال وإن كان عند البخاريّ مقبولاً لكن لا تعادل روايته رواية قتادة، ويرجح رواية قتادة حديث عُمر في ذكر أبي بن كعب وهو خاتمة أحاديث الباب، ولعل البخاريّ أشار بإخراجه إلى ذلك لتصريح عُمر بترجيحه في القراءة على غيره، ويحتمل أن يكون أنس حدث بهذا الحديث في وقتين، فذكر مرّة أبي بن كعب، ومرّة بدله أبا الدرداء، وقد روى
ابنُ أبي داود من طريق محمد بن كعب القرظي، قال:"جمع القرآن على عهد وسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بنُ جبل، وعبادة ابنُ الصامت، وأبي بنُ كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري".
وإسناده حسن مع إرساله. وهو شاهد جيِّدٌ لحديث عبد الله بن المثنى في ذكر أبي الدرداء وإن خالفه في العدد والمعدود.
ومن طريق الشعبي، قال:"جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة: منهم أبو الدرداء، ومعاذ، وأبو زيد، وزيد بن ثابت"، وهؤلاء الأربعة هم الذين ذكروا في رواية عبد الله بن المثنى، وإسناده صحيحٌ مع إرساله.
فلله در البخاريّ ما أكثر اطلاعه. قد تبين بهذه الرواية المرسلة قوة رواية عبد الله ابن المثنى، وأن لروايته أصلاً والله أعلم". انتهى.
185/ 20 - (مَنْ أحَبَّ لِقاَءَ الله أحب الله لِقَاءَهُ، ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ الله كره الله لِقاءَهُ. فقلت: يا نبيَّ الله! أكراهيةُ الموت؟ فكلنا يكرهُ الموتَ. فقال: "ليس كذلك، ولكنَّ المؤمن إذا بُشِّرَ برحمة الله ورضوانه وجنَّتِهِ أحبَّ لقاءَ الله، فأحبَّ الله لقاءَهُ، وإن الكافرَ إذا بُشِّرَ بعذاب الله وسخطه، كره لقاءَ الله، وكره الله لِقاءَهَ).
(رواه: زُرارة بنُ أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا). (قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ)(خت، م، س، ت، ق، حب، ابن أبي داود، ابن منده توحيد، الحافظ تغليق)(حديث الوزير / 347 - 356 ح 122 ، البعث ح 1 - 2).
186/ 21 - (مَن أَحَبَّ لِقَاءَ الله تعالى، أحبَّ الله لقاءَهُ، ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ الله تعالى، كره الله لقاءَه، والموتُ قبلَ لقاء الله عز وجل.
(رواه: زكريا بنُ أبي زائدة، عن الشعبي ، عن شُرَيح بنِ هانيء، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا به). (صحيحٌ. وله طرق أخرى عن عائشة. وفي الباب عن: أبي هريرة، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي موسى الأشعري، ورجل من أصحابْ النبيّ صلى الله عليه وسلم)(م، حم، حمي، أبو سعيد الدارمي، طب أوسط، ابن منده توحيد، بغ).
قال شيخُنا: هذا الحديث دليلٌ على كراهيةِ النَّاسِ للموتِ، لا فرق بين مؤمنهم وكافرهم في ذلك، وهذا ظاهرٌ في قول عائشة رضي الله عنها؛ "كلنا يكره الموت".
أمَّا المؤمنُ، فلقوله تعالى في الحديث الإلهي، الذي أخرجه البخاريُّ (11/ 340 - 341)، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"من عادى لي وليًّا .. " وفي آخره: "وما ترددتُ عن شيء أنا فاعلُهُ ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكرهُ الموتَ، وأنا أكرهُ مساءته". فكراهية الكافر للموت إذن من باب أولى.
وإنما نبَّهتُ على هذا المعنى -مع وضوحه-، لأن الشيخَ محمد الغزالي أعلَّ حديثًا في "الصحيحين" بسبب غفلته عن هذا المعنى.
فقد قال في كتابه الأبتر: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"(ص 26 - 27): "وقد وقع لي وأنا بالجزائر أن طالبًا سألني: أصحيحٌ أن موسى عليه السلام فقأ عينَ مَلَكِ الموت عندما جاء لقبض روحه بعدما استوفى أجله؟
= يشيرُ إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "جاء مَلَكُ الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أَجِبْ ربَّكَ. قال: فَلَطَمَ موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها. قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، وقال: إنَّك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني. قال: فردّ الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي، فقال: الحياةَ تُريد؟ فإنْ كنتَ تريدُ الحياةَ فضع يَدَكَ على متن ثورٍ، فما
توارت يدُك من شعرةٍ فإنك تعيشُ بها سنة، قال: ثم مَه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب .. الحديث". وقد قال الغزالي: وقد جادل البعض في صحته. وهذا كذبٌ فاضحٌ، فما نعلم أحدًا أعلَّ هذا الحديث، وإن كان صادقًا فليسمّ لنا مَنْ هذا البعضُ؟! =
.. ثم قال بعد كلام: "وعدتُ لنفسي أفكرُ إن الحديثَ صحيحُ السند، ولكن متنه يثيرُ الريبة إذ يفيد أن موسى يكره الموت، ولا يحبُّ لقاء الله بعدما انتهى أجله، وهذا المعنى مرفوضٌ بالنسبة للصالحين من عباد الله، كما جاء في الحديث الآخر: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" فكيف بأنبياء الله؟ وكيف بواحد من أولي العزم؟
إنَّ كراهيته للموت بعد ما جاء ملكه أمرٌ مستغربٌ؟ ثم هل الملائكة تعرض لهم العاهات التي تعرضُ للبشر من عمى وعورٍ؟
ذاك بعيدٌ، قلتُ: لعلَّ متن الحديث معلول!!
.. ثم قال بعد كلام: "والعِلَّةُ في المتن يُبصِرُها المحققون، وتخفى على أصحاب الفكر السطحي"!!. اهـ.
هذا كلامُهُ كلُّهُ!!
والرجلُ بصرُهُ بالسنَّةِ كليلٌ، وهو صاحب دعوى أعرض من المشرقين، لأنه قال (ص 24):"والفقهاء المحققون إذا أرادوا بحثَ قضيةٍ ما جمعوا كل ما جاء في شأنها من الكتاب والسنة، وحاكموا المظنون إلى المقطوع، وأحسنوا التنسيق بين شتى الأدلة؛ أمَّا اختطاف الحكم من حديثٍ عابرٍ، والإعراض عما ورد في الموضوع من آثار أخرى فليس من عمل العلماء". اهـ.
وهذا الكلام حقٌّ، ولكن هل التزم هو به؟
هل الرجل وهو يعلُّ حديثًا في "الصحيحين" ما سبقه أحدٌ إلى إعلاله، وليس من أهل هذا الشأن، أقولُ: هل جمع الآثار المروية في الباب؟
كلا، كلا، بل إن الرجل لا يحسن فهم الكلام، ففي الوقت الذي يقول فيه إن الحديثَ معلولٌ لأنه يثبت كراهية موسى عليه السلام للموت، نقول: إنَّ في نفس الحديث ما ينقض هذه الدعوى، وهي قول موسى عليه السلام -بعد ما علم أنه ملك الموت-:"أي ربّ! ثَّم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن".
فالذي يستعجل الموت، ويقول "فالآن" هل يقال فيه: إنه كاره للموت، لذلك فقأ عينَ ملك الموت؟!.
وإنما فقأ موسى عينَ ملك الموت عليهما السلام لأن ملك الموت أتى موسى في صورة لا يعرفها، وصورةُ ملك الموت كانت معروفةً لموسى، إذ أنه كان يجالسُه، فلما رأى موسى رجلاً داخل داره لا يعرفُ من أين دخل ثمَّ هو لم يستأذن، حلَّ له أن يفقأ عينه، وهذا الحكم ثابتٌ في شريعتنا أيضًا، هذا خلاصة ما ذكره الشُّراح، ويدلُّ عليه أنَّه لما جاءه في المرَّة الثانية لم يفقأ عينه لأنه عرفه.
وهناك وجهٌ آخر أقوى من هذا. وهو أنه ثبتُ في "صحيح البخاري"(8/ 136) وغيره، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو صحيحٌ، يقول:"إنه لم يقبض نبيٌّ قطُّ حتى يرى مقعده مِنَ الجنَّة، ثم يحيا أو يُخَيَّر". فكانت هذه علامة جعلها الله لأنبيائه. فلما قيل لموسى عليه السلام: أجب ربَّك، وذلك يعني قبض روحه، ثم هو لم يخير، فعلَ ما فعلَ، فلمَّا خير بين الحياة الطويلة وبين الموت علمَ أنه مِنْ عند الله، ولم يكن نبيٌّ ليختار الحياةَ
على ما عندَ الله تعالى، فقال:"فالآن".
فيا عباد الله! هل في هذا الحديث أي معنى يستنكر، حتى يُعِلّهُ هذا "المتمجهد"! إن الرجل من هؤلاء الذين أطلق عليهم بعضُ الأذكياءِ اسم "المجددينات" فاستغرب سامعُهُ من هذا الجمع، فقال: أيُّ جمعٍ هذا؟ ما هو بجمع مذكر سالم، ولا مؤنث سالم. فقال له:"هذا جمع مخنث سالم"!! فأقسم له سامعُهُ أن اللغةَ العربيةَ في أشد الحاجة إلى هذا الجمع خصوصًا في هذه الأيام. والله المستعان.
وقد رفعتُ كلَّ شبهةٍ ولبسٍ عن هذا الحديث وغيره، في كتابي الكبير (سمط اللآلي في الرد على محمد الغزالي) والمجلد الأول منه على وشك التمام، يسر الله إتمامه بخير.
187/ 22 - (مَنْ بدَّل دينَه فاقتلوه).
(عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا). (إسناده صحيح)(خ، حمي، هق)(التوحيد / 1422 / جمادى الأول؛ غوث 3/ 139 ح 843؛ كتاب المنتقى / 316 / ح 910؛ جنة المرتاب / 507؛ تنبيه 5 / رقم 1388).
188/ 23 - (لا تعذِّبوا بعذاب الله).
(عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا). (صحيحٌ)(خ، حمي، هق)(التوحيد / 1422 / جمادى الأول؛ تنبيه 5 / رقم 1388).
قال شيخُنا: أخرج البخاريُّ في "كتاب الجهاد"(6/ 149)، وفي "استتابة المرتدين"(12/ 267) من طريق عكرمة، قال:
أتى عليٌّ رضي الله عنه بزنادقةٍ فأحرقهم، فبلغ ذلك ابنَ عباسٍ، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تعذبوا بعذاب الله)، ولقتلتهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من بدل دينه فاقتلوه).
وقال بعض الناس: إنه لم يحرقهم، وإنما حفر لهم خندقًا. ورُدَّ ذلك عليه.
فأخرج الحميديُّ في "مسنده"(533)، والبيهقيُّ (9/ 71) من طريق محمد ابن عباد، قالا: ثنا سفيان بنُ عُيَينة: ثنا أيوب، عن عكرمة، قال:
لما بلغ ابنَ عباسٍ أنَّ عليًا أحرقْ المرتدين يعني الزنادقة قال ابنُ عباس: لو
كنتُ أنا لقتلتهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من بدل دينه فاقتلوه)، ولم أحرقهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا ينبغي لأحدٍ أنْ يُعَذِّبَ بعذاب الله).
قال سفيان: فقال عمارُ الدُّهني وهو في المجلس -مجلس عَمرو بن دينار- وأيوب يحدث بهذا الحديث:
إن عليًا لم يحرقهم إنما حفر لهم أسرابًا، وكان يدخل عليهم منها حتى قتلهم.
فقال عَمرو بنُ دينار: أما سمعت قائلهم وهو يقول:
لترم بيَّ المنايا حيثُ شاءت
…
إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما قرَّبوا حطبًا ونارًا
…
هناك الموتُ نقدًا غير دَيْن
وقد روى هذا الحديث جرير بنُ حازم، عن أيوب السختيانيّ بالسند المتقدم، وزاد فيه: فبلغ ذلك عليًّا -يعني: اعتراض ابن عباس-، فقال: ويح ابن أمِّ الفضل، إنه لغوَّاصٌ على الهنّات.
أخرجه عثمان بنُ سعيد الدارميُّ في "الرد على الجهمية"(361، 385)، ويعقوب الفسويُ في "المعرفة والتاريخ"(1/ 516)، ومن طريقه البيهقيُّ (8/ 202).
وتعليق عليٍّ رضي الله عنه يحتمل وجهين:
الأول: أنه قالها توجعًا، حيث إن النهي عن التحريق حمله عليٌّ على كراهة التنزيه، وحمله ابنُ عباسٍ على التحريم، فأنكره عليٌّ وتوَّجع لذلك.
والثاني: أن يكون قالها رضىً بما قال، وإنه حفظ ما نسيه، بناءً على أحد ما قيل في كلمة (ويح)، وإنها تُقال بمعنى المدح والتعجب، ويحتمل أن يكون عليٌّ توَّجعَ أنَّ ابنَ عباس لم يبادر بتذكيره.
ويدلُّ على أنه إنما قالها موافقًا لابن عباس لا معارضًا ما رواه عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب السختياني في هذا الحديث، قال: فبلغَ ذلك عليًّا، فقال: صدق ابنُ عباس. أخرجه الترمذيُّ (1458). وقال: حسنٌ صحيحٌ. والله أعلم.
189/ 24 - (مَنْ سمَّ نفسهُ، فسُمُّهُ يزيده يتحسَّى بها في نار جهنَّمَ مَخَلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدةٍ، فحديدَتُه يزيده يتوجَّأ بها في بطنه يوم القيامة خالدًا مخلدًا فيها أبدًا).
(رواه: جماعةٌ عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا). (هذا حديثٌ صحيحٌ)(خ، م، عو، د، س، ت، ق، مي، حم، طي، طح مشكل، ابن منده، هق، بغ)(الأمراض / 174 ح 71).
190/ 25 - (مَنْ قتل نفسه بسمٍّ، عُذِّب في نار جهنم).
(رواه: محمد بنُ عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. ورواه: مالك، وعبد الرحمن بنُ أبي الزناد، وابنُ عجلان، وشعيب بنُ أبي حمزة جميعًا، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا). (خ، ت، حب، حم، طح مشكل)(الأمراض / 174 - 175).
قال الترمذيُّ: "وروى محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "من قتل نفسه بسم عذب في نار جهنم".
ولم يذكر فيه: "خالدًا مخلدًا فيها أبدا" وهكذا روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا أصح، لأن الروايات إنما تجيء بأنَّ أهل التوحيد يعذبون في النار ثم يخرجون منها ولم يذكر أنهم يخلدون فيها". اهـ.
قال شيخُنا: بنى الترمذيُّ ترجيحَهُ على المعنى، وإلا فحديثُ أبي صالح عن أبي هريرة صحيحٌ قطعًا، وقد صحَّحه الترمذيُّ، مع أن الجمع ممكنٌ بحمل حديث أبي صالح عن أبي هريرة على المُسْتَحِلّ، بدليل:
ما أخرجه مسلمٌ (116/ 184)، وأحمد (3/ 370 - 371)، والحاكمُ (4/ 76)، والطحاويُّ في "المشكل"(1/ 74)، والطبرانيُّ في "الأوسط"(2406)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 261) والبيهقيُّ في "الدلائل"(5/ 364)، وفي "السنن"(8/ 17) من طريق حماد بن زيد، عن حجاج الصواف، عن أبي الزبير، عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما:
أنَّ أبا الطفيل بن عَمرو الدوسيّ أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعةٍ؟ فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، للذي ذخر الله للأنصار، فلمَّا هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عَمرو، وهاجر معه رجلٌ من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض، فجزع، فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بنُ عَمرو في منامه، فرآه في هيئة حسنةٍ، ورآه مغطيًّا يديه، فقال له: ما صنع بك ربُّك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. فقال: ما لي أراك مغطيًّا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت.
فقصَّها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اللهم وليديه فاغفر).
قال الطبرانيّ: "لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا حجاج، تفرد به حماد". اهـ.
قلتُ: كذا قال! ولم يتفرد به حماد، فتابعه إسماعيل بنُ إبراهيم: ثنا الحجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، عن جابر فذكر مثله.
أخرجه أبو يعلى (ج 4 / رقم 2175)، وعنه ابنُ حبان (3017)، قال: ثنا إبراهيم بنُ عبد الله الهرويُّ: ثنا إسماعيل بنُ إبراهيم.
قال أبو نعيم: "هذا حديثٌ صحيحٌ" أخرجه مسلمٌ في كتابه.
أمَّا الحاكمُ فقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبيُّ!. كذا قالا! والبخاري لم يحتج بأبي الزبير عن جابر.
191/ 26 - (مَنْ نامَ عَنْ وِتْرِهِ فَلْيَقْضِهِ إذا أَصْبَحَ).
(رواه: محمد بنُ مطرف، وعبد الرحمن بنُ زيد بن أسلم، كلاهما عن زيد بن أسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا به). (حديثٌ صحيحٌ)(د، ت، ق، حم، ابن نصر قيام الليل، ابن شاهين، قط، ك، هق)(التوحيد / رمضان / 1414 هـ).
192/ 27 - (مَنْ أَدْرَكَ الصُّبحَ، ولم يُوتِر، فلا وِتْرَ عليه).
(رواه: قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا به). (قال الحاكمُ: صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذهبيُّ. ولكن أعلَّه البيهقيُّ بقوله: ورواية يحيى ابن أبي كثير كأنها أشبه، فقد روينا عن أبي سعيد في قضاء الوتر. اهـ.
قلتُ: يشر إلى حديث مسلم وغيره: أوتروا قبل أن تصبحوا) (خز، حب، ك، هق)(التوحيد / رمضان / 1414 هـ).
193/ 28 - (أَوتِرُوا قبلَ أن تُصْبِحُوا).
(رواه: يحيى بنُ أبي كثير، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا به).
(صحيحٌ)(م، عو، س، ق، مي، حم، ش، طي، خز، عب، ابن نصر قيام الليل، ك، هق، نعيم حلية)(التوحيد / رمضان / 1414 هـ).
سألتْ سائلةٌ، فقالت: قرأتُ حديثين، أحدهما يقول: "مَنْ نامَ عَنْ
وِتْرِهِ فَلْيَقْضِهِ إذا أَصْبَحَ"، وحديثًا آخر يقول: "مَنْ أَدْرَكَ الصُّبحَ، ولم يُوتِر، فلا وِتْرَ عليه". فهل كلاهما صحيحٌ؟ وكيف نفهم الحديثين مع أن ظاهرَهما التعارض؟
فقال شيخُنا: أمَّا أحاديث قضاء الوتر بعد الصبح، والنهي عن ذلك، فيحتاج الأمرُ إلى الفصل في صحة الحديث قبل تأويله، كما عليه جماعةُ العلماء.
…
ولكن لا منافاة عندي بين الروايتين، وهما حديثان مستقلان لا حديث واحد حتى يعل أحدهما الآخر. وتفصيل هذا في موضع آخر.
وفي الباب أحاديث أخرى كثيرة، ولا تعارض بين الحديثين، لأن الحديث الآذن بقضاء الوتر خاص بمن نسيه أو نام عنه وكان ينوي أن يصليه ففاته قصده بالعذر.
والحديث الآخر المانع من قضاء الوتر خاص بمن تركه هملاً وكسلاً، فهذا يعاقبُ بأنْ يُحْرَم مِنْ قضائه وإحراز فضيلته وأجره. والله سبحانه وتعالى أعلمُ.
194/ 29 - (هذا لَعَمْرُ الله التَّكَلفُ، اتَّبِعُوا ما بُيِّنَ لكم مِنْ هذا الكتاب "التكلف"، قال في النهاية: أراد كثرة السؤال والبحث عن الأشياء الغامضة التي لا يجب البحث عنها).
(رواه الزهريُّ ، عن أنس رضي الله عنه، أنَّهُ سمع عُمر بنَ الخطاب رضي الله عنه، قال: "ما الأبُّ؟ " ثم قال: "مه" ورمى بعصاهُ الأرضَ، فقال: .... فذكره).
(صحيحٌ. قال الجوزقانيُّ: هذا حديثٌ صحيحٌ)(ابن جرير، عبد تفسيره، هق شعب، الجوزقاني)(التسلية / ح 14؛ ابن كثير 1/ 127).
195/ 30 - (بينما عُمرُ جالسٌ في أصحابه إذ تلا هذه الآية {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 27 - 31]، ثم قال: هذا كلُّهُ قد عرفناهُ، فما الأبُّ؟ قال: في يده عُصَيَّةٌ يضربُ بها الأرض، فقال:"هذا لَعَمْرُ الله التَّكَلُّفُ، فخذوا أيها الناسُ بما بُيِّنَ لكم فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلُوهُ إلى ربِّهِ").
(رواه: عليّ بنُ المديني، قال: حدثنا الوليد بنُ مسلم، قال: ثنا الأوزاعيُّ، قال: ثنا الزهريُّ، قال: حدثني أنس بنُ مالكٍ، قال: .. فذكره).
(صحيحٌ)(خط، الجوزقاني، جوزي مناقب)(التسلية / ح 14؛ ابن كثير 1/ 127).
ثم روى الخطيبُ، عن أبي بكر المروزيّ، قال:
قلتُ لأبي عبد الله أحمد بنِ حنبل:
إنَّ عليّ بنَ المدينيّ يُحَدِّثُ، عن الوليد ابنِ مسلم، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن أنس، عن عُمر:"كِلُوُهُ إلى خالقه".
فقال أبو عبد الله: كَذِبٌ. حدثنا الوليدُ مرتين، ما هو هكذا، إنما هو:"كِلُوهُ إلى عالمه".
قلتُ لأبي عبد الله:
إن عباسًا العنبريّ، قال: لمَّا حدّث به بالعسكر، قلتُ لعلي بن المديني: إنَّهم قد أنكروه عليك؟
فقال: حدَّثتُكُم به بالبصرة، وذكر أن الوليد أخطأ فيه، فغضب أبو عبد الله، وقال: فنعم! قد عَلِمَ -يعني: علي بن المديني- أنَّ الوليدَ أخطأَ فيه، فَلِمَ أرادَ أنْ يُحَدِّثَهم به؟ يُعطيهم الخطأ؟ وكَذَّبهُ أبو عبد الله.
وقد ذكرَ أبو بكر المروزيّ رحمه الله أنَّهُ لمَّا كان أيام المحنة، أحضر عليّ ابن المدينيّ عند ابن أبي داود، فقال له ابنُ أبي داود:
ما تقولُ في القرآن؟ فحدثه عليٌّ بحديث عُمر: "فَكِلُوُهُ إلى ربِّه"، ففرح بذلك ابنُ أبي داود وقبلَ رأسَ عليٍّ.
وذكر الخطيبُ (11/ 470): أنَّ أبا إسحاق الحربيّ سُئلَ: أكان عليّ ابنُ المديني يُتَّهمُ بشيءٍ من الكذب؟
فقال: لا ، إنما كان حدَّث بحديثٍ، فزاد في خبره كلمة ليُرضي بها ابنَ أبي داود.
فقال شيخُنا:
فحاشا لله أنْ يزيد ابنُ المديني من عند نفسه عامدًا، وإنما أخطأ الوليد بنُ مسلم في هذه اللفظة، كما قال ابنُ المديني، وأقرَّه أحمدُ.
وإنما قال ابن المديني ما قال تقيَّةً لا عقيدةً، فأنكر عليه الإمامُ أحمد أشدّ الإنكار، وَهَجَرَهُ، وبدَّعَهُ، وكذَّبَهُ فيما روى.
وهذا كان مذهبًا لأحمد، اجتهد فيه، أملاهُ عليه جسامةُ الخطب بالفتنة الملعونة التي فرَّقت بأن العلماء، وكثيرًا ما ينفسخُ عزمُ القلب في المحن، والثابتُ على الحقِّ من ثبَّتَهُ الله تعالى.
وكان عليّ بنُ المديني ضعيفًا على المحنة، فقد قال عليّ بنُ الحسين ابن الوليد: حين ودَّعْتُ علي بنَ المدينيّ، قال:
بَلِّغ أصحابي عنِّي أن القوم كفارٌ، ضُلَاّلٌ، ولم أجد بُدًّا من متابعتهم لأني جلستُ في بيتٍ مُظلِمٍ ثمانية أشهر، وفي رجلي قيدٌ ثمانية أمنان حتى خفتُ على بصري، فإن قالوا: يأخذ منهم، وقد سُبِقْتُ إلى ذلك، فقد أخذَ من هو خيرٌ منِّي.
ولكن ذكر الذهبيَّ في "السير" أنَّها حكايةٌ منقطةٌ.
وذكر ابنُ عمَّار أنَّ ابنَ المدينيّ، قال:
ما في قلبي مما قلتُ وأجبتُ إليه شيءٌ، ولكني خفتُ أنْ أُقتلَ، قال: وتعلم ضعفي، وأني لو ضربتُ سوطًا واحدًا لمُتُّ. اهـ.
فهذا عُذْرُ عليّ بن المدينيّ رحمه الله، وقد ترخص مثلما ترخَّص عمَّار بنُ
ياسر، ثم رجع عن قوله، وأبدا عذره.
ومع ما قاله أحمد، فإنه روى عن عليٍّ في "مسنده" نيِّفًا وستين حديثًا، وهذا يدفعُ ما ذُكِرَ عن عبد الله بن أحمد، قال:
كان أبي حدَّثنا عنه، ثم أمسك عن اسمه، ويقولُ: حدثنا رجلٌ، ثم تركَ حديثه بعد ذلك.
وعلَّق الذهبيُّ على هذا بقوله:
"بل حديثُه عنه في "مسنده"، وقد تركه إبراهيم الحربيُّ، وذلك لميله إلى أحمد بن أبي داود، فقد كان مُحسنًا إليه، وكذا امتنع مسلمٌ من الرواية عنه في "صحيحه" لهذا المعنى، كما امتنع أبو زرعة، وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمد -يعني: البخاري- لأجل مسألة اللفظ". اهـ.
وبالجملة: فابنُ المديني إمامٌ ثقةٌ جبلٌ، عظمت عليه المحنةُ بكلام أحمد فيه، فرضي الله عنهما وغفر لنا ولهما، وإني أدينُ الله عز وجل بحبهما وأمثالهما من السلف. فلله الحمدُ على ما أنعم، ووفق وألهم.
وسُئلَ الدارقطنيُّ كما في "العلل"(2/ 120) عن حديث عُمر بن الخطاب هذا، فقال:
"من روى هذا الحديثَ "فَكِلُوُهُ إلى خالقه" فقد وَهِمَ، وقال ما لم يقُلْهُ أهلُ الحديث، فإنَّه لا يُعرَف فيه إلا قولُهُ: "فكلوه إلى عالمه". أو "كلوا علمه إلى الله عز وجل، أو فدعوه". اهـ.
قلتُ (والقائل شيخنا رضي الله عنه:
فانظر إلى أدب الدارقطنيّ رحمه الله، كيف عرَّضَ بمقالة عليّ بن المدينيّ، ولم يذكر اسمَه لجلالته وعلمِهِ، فليتَ طلاب العلم يتأسون بهؤلاء الأساطين، ويرحم بعضُهُم بعضًا، فما أعظم المحنة بصغار الأسنان. والله المستعان.