المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم] - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١

[القسطلاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌كلمة عن مصادر السيرة النبوية

- ‌عملى فى الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌نسبه:

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌مشايخه:

- ‌صفاته:

- ‌وفاته:

- ‌مصنفاته:

- ‌كلمة عن كتاب المواهب اللدنية

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌المقصد الأول

- ‌[تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم]

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم

- ‌[آيات حمله صلى الله عليه وسلم]

- ‌آيات ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[ذكر حضانته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]

- ‌[هجرته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[رؤيا الأذان]

- ‌[غزوة قرقرة الكدر]

- ‌ثم غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌[غزوة بنى النضير]

- ‌[غزوة ذات الرقاع]

- ‌[غزوة بدر]

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌غزوة بنى المصطلق

- ‌غزوة الخندق:

- ‌[غزوة بنى قريظة] :

- ‌غزوة بنى لحيان

- ‌غزوة الغابة

- ‌[سرية ابن رواحة إلى ابن رزام]

- ‌صلح الحديبية

- ‌[غزوة خيبر] :

- ‌عمرة القضاء:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌غزوة الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌حجة أبى بكر

- ‌المقصد الثانى

- ‌الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة

- ‌الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات

- ‌الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته

- ‌الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه

- ‌أما خدمه:

- ‌[من الرجال]

- ‌ومن النساء:

- ‌وأما حراسه:

- ‌وأما مواليه صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام

- ‌أما كتابه

- ‌وأما أمراؤه- عليه الصلاة والسلام

- ‌وأما رسله- صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه

- ‌أما مؤذنوه فأربعة

- ‌وأما شعراؤه- صلى الله عليه وسلم الذين يذبون عن الإسلام:

- ‌الفصل الثامن فى آلات حروبه صلى الله عليه وسلم كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه

- ‌أما أسيافه- صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما أدراعه فسبعة:

- ‌وأما أقواسه- صلى الله عليه وسلم فكانت ستة:

- ‌وأما أتراسه

- ‌وأما أرماحه- صلى الله عليه وسلم

- ‌تكميل:

- ‌الفصل التاسع فى ذكر خيله صلى الله عليه وسلم ولقاحه ودوابه

- ‌أما خيله- صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم]

[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم]

وأرضعته- صلى الله عليه وسلم ثويبة، عتيقة أبى لهب، أعتقها حين بشرته بولادته عليه السلام.

وقد رؤى أبو لهب بعد موته فى النوم فقيل له ما حالك؟ فقال: فى النار، إلا أنه خفف عنى كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعى هاتين ماء، وأشار برأس أصبعيه وأن ذلك بإعتاقى لثويبة عندما بشرتنى بولادة النبى صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له «1» .

قال ابن الجزرى: فإذا كان هذا أبو لهب الكافر، الذى نزل القرآن بذمه جوزى فى النار بفرحه ليلة مولد النبى- صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحد من أمته- عليه السلام الذى يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته فى محبته صلى الله عليه وسلم، لعمرى إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم.

ولا زال أهل السلام يحتفلون بشهر مولده- عليه السلام، ويعملون الولائم، ويتصدقون فى لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون فى المبرات. ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.

ومما جرب من خواصه أنه أمان فى ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل

(1) جاء فى البخارى (9/ 124) فى النكاح، باب: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ قال عروة: وثويبة مولاة أبى لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبى- صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبه (أى حالة)، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم راحة غير أنى سقيت فى هذه (وأشار إلى النقرة التى بين الإبهام والمسبحة) بعتاقتى ثويبة.

ص: 89

البغية والمرام، فرحم الله امرآ اتخذ ليالى شهر مولده المبارك أعيادا، ليكون أشد علة على من فى قلبه مرض وأعيا داء «1» .

ولقد أطنب ابن الحاج «2» فى «المدخل» فى الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف، فالله يثيبه على قصده الجليل، ويسلك بنا سبيل السنة، فإنه حسبنا ونعم الوكيل.

وقد ذكروا أنه لما ولد- صلى الله عليه وسلم، قيل: من يكفل هذه الدرة اليتيمة، التى لا يوجد لمثلها قيمة؟ قالت الطيور: نحن نكفله ونغنم خدمته العظيمة، قالت الوحوش: نحن أولى بذلك ننال شرفه وتعظيمه، فنادى لسان القدرة: أن يا جميع المخلوقات: إن الله تعالى قد كتب فى سابق حكمته القديمة أن نبيه الكريم يكون رضيعا لحليمة الحليمة.

قالت حليمة: فيما رواه ابن إسحاق وابن راهواه وأبو يعلى والطبرانى والبيهقى وأبو نعيم: قدمت مكة فى نسوة من بنى سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء «3» فى سنة شهباء «4» ، فقدمت على أتان «5» لى ومعى صبى لنا وشارف لنا «6» ، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، لا يجد فى ثديى ما يغنيه، ولا فى شارفنا ما يغذيه.

فقدمنا مكة، فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله

(1) قلت: لو كان هذا خيرا كما يقول لسبقنا إليه خير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين كانوا يسارعون فى الخيرات، ثم إن إثبات هذا الفعل يكون بدليل ولا يوجد، وعامة انظر ما كتبه ابن الحاج فى «المدخل» (2/ 3- 33) الذى أشار إليه المصنف بعد قليل.

(2)

هو: الإمام العالم العامل، أبو عبد الله، محمد بن محمد بن محمد العبدرى الفاسى المالكى الشهير بابن الحاج، فقيه، له تاليف نافعة من أجلها كتابه المعروف «بالمدخل» توفى بالقاهرة سنة (737 هـ) .

(3)

الرضعاء: جمع رضيع، وهو الطفل فى سن الرضاعة.

(4)

سنة شهباء: يعنى سنة القحط والجدب، لأن الأرض تكون فيها بيضاء.

(5)

الأتان: الأنثى من الحمير.

(6)

الشارف: الناقة المسنة.

ص: 90

- صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها يتيم «1» ، فو الله ما بقى من صواحبى امرأة إلا أخذت رضيعا غيرى، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ليس معى رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فذهبت فإذا به مدرج فى ثوب أبيض من اللبن، يفوح منه المسك، وتحته حريرة خضراء، راقدا على قفاه، يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدا فوضعت يدى على صدره فتبسم ضاحكا، وفتح عينيه لينظر إلىّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديى الأيمن، فأقبل عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر فأبى، وكانت تلك حاله بعد- قال أهل العلم: أعلمه الله تعالى أن له شريكا فألهمه العدل- قالت: فروى وروى أخوه.

ثم أخذته، فما هو إلا أن جئت به رحلى، فأقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى [وشرب أخوه حتى روى] ، فقام صاحبى- تعنى زوجها- إلى شارفنا «2» تلك، فإذا إنها لحافل «3» ، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبى: يا حليمة، والله إنى لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم ترى ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه، فلم يزل الله يزيدنا خيرا.

قال فى رواية ذكرها ابن طغر بك فى «النطق المفهوم» : فلما نظر صاحبى إلى هذا قال لى: اسكتى واكتمى أمرك، فمن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الأحبار قواما على أقدامها، لا يهنؤها عيش النهار ولا نوم الليل.

قالت حليمة: فودعت النساء بعضهن بعضا وودعت أنا أم النبى صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت أتانى وأخذت محمدا بين يدى، قالت: فنظرت إلى الأتان وقد سجدت نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معى، وصار الناس يتعجبون منى

(1) المقصد من قولها (يتيم) أنها لن تأخذ طبيبا ممن سوف يكفله ليتمه ووفاة والده.

(2)

تقدم أن الشارف هى الناقة المسنة.

(3)

الحافل: الممتلئة الضرع من اللبن، حيث إن الحفل، هو اجتماع اللبن فى الضرع.

ص: 91

ويقلن النساء لى وهن ورائى: يا بنت أبى ذؤيب أهذه أتانك التى كنت عليها وأنت جائية معنا تخفضك طورا وترفعك أخرى؟ فأقول: تالله إنها هى فيتعجبن منها ويقلن إن لها لشأنا عظيما. قالت: فكنت أسمع أتانى تنطق وتقول والله إن لى لشأنا ثم شأنا بعثنى الله بعد موتى ورد لى سمنى بعد هزالى، ويحكن يا نساء بنى سعد إنكن لفى غفلة وهل تدرين من على ظهرى، على ظهرى خيار النبيين وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين.

قالت حليمة- فيما ذكره ابن إسحاق وغيره-: ثم قدمنا منازل بنى سعد، ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب- بالدال المهملة- منها، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها فى ضرع، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعاتهم: اسرحوا حيث يسرح راعى غنم بنت أبى ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح أغنامى شباعا لبنا «1» .

فلله درها من بركة كثرت بها مواشى حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت ولم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة وتفوز منه بالحسنى وزيادة.

لقد بلغت بالها شمى حليمة

مقاما علا فى ذروة العز والمجد

وزادت مواشيها وأخصب ربعها

وقد عم هذا السعد كل بنى سعد

قال ابن الطراح رأيت فى كتاب الترقيص لأبى عبد الله محمد بن المعلى الأزدى أن من شعر حليمة ما كانت ترقص به النبى- صلى الله عليه وسلم:

يا رب إذ أعطيته فأبقه

وأعله إلى العلا وأرقه

وأدحض أباطيل العدا بحقه

وعند غيره كانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول:

هذا أخ لم تلده أمى

وليس من نسل أبى وعمى

فديته من مخول معمى

فأنمه اللهم فيما تنمى

(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 133- 134) .

ص: 92

وأخرج البيهقى والصابونى «1» فى المائتين والخطيب وابن عساكر فى تاريخهما وابن طغربك السياف فى النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله دعانى للدخول فى دينك أمارة لنبوتك رأيتك فى المهد تناغى القمر وتشير إليه بأصبعك فحيث أشرت إليه مال قال: «إنى كنت أحدثه ويحدثنى ويلهينى عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش» «2» قال البيهقى تفرد به أحمد بن إبراهيم الجيلى وهو مجهول وقال الصابونى: هذا حديث غريب الإسناد والمتن وهو فى المعجزات حسن.

والمناغاة: المحادثة، وقد ناغت الأم صبيها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة.

وفى فتح البارى عن سيرة الواقدى «3» : أنه- صلى الله عليه وسلم تكلم فى أوائل ما ولد «4» . وذكر ابن سبع فى الخصائص: أن مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة.

وأخرج البيهقى وابن عساكر عن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث أنها أول ما فطمت رسول الله- صلى الله عليه وسلم تكلم فقال: «الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا» ، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فبجتنبهم «5» . الحديث.

وقد روى ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر، عن ابن عباس قال: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، فغافلت عنه، فخرج مع أخته الشيماء فى

(1) هو: الإمام العلامة، أبو عثمان، إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل النيسابورى الصابونى، كان من حفاظ الحديث، كما كان يحفظ التفسير من كتب كثيرة، توفى سنة (449 هـ) .

(2)

ذكره المتقى الهندى فى «كنز العمال» (31828) وعزاه لمن ذكرهم المصنف.

(3)

هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمى، صاحب التصانيف والمغازى، كان ممن جمع فأوعى، إلا أنه خلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فضعف لذلك، إلا أنه مع هذا فلا يستغنى عنه فى المغازى وأيام الصحابة وأخبارهم، أما فى الفرائض فلا، مات سنة (207 هـ) .

(4)

قاله الحافظ ابن حجر فى «فتح البارى» (6/ 480) .

(5)

أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 140) فى أثناء حديث طويل.

ص: 93

الظهيرة إلى البهم، فخرجت حليمة تطلبه، حتى تجده مع أخته فقالت: فى هذا الحر؟ قالت أخته: يا أمه ما وجد أخى حرّا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع الحديث.

وكان- صلى الله عليه وسلم يشب شبابا لا يشبه الغلمان.

قالت حليمة: فلما فصلته قدمنا به على أمه، ونحن أحرص شىء على مكثه فينا، لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ، فإنا نخشى عليه وباء مكة، ولم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به.

فو الله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة، لفى بهم لنا خلف بيوتنا، جاء أخوه يشتد، فقال: ذاك أخى القرشى، قد جاء رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائما منتقعا لونه، فاعتنقه أبوه وقال: أى بنى، ما شأنك، فقال:

جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقا بطنى، ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه، ثم رداه كما كان. فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابنى قد أصيب، فانطلقى بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف، قالت حليمة فاحتملناه حتى قدمنا به مكة إلى أمه، فقالت: ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه؟ قلنا نخشى عليه الإتلاف والأحداث، فقالت: ما ذاك بكما، فأصدقانى شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، قالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما لشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لابنى هذا شأن عظيم فدعاه عنكما.

وفى حديث شداد بن أوس عن رجل من بنى عامر، عند أبى يعلى وأبى نعيم وابن عساكر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «كنت مسترضعا فى بنى سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم فى بطن واد، مع أتراب لى من الصبيان، إذا أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب، ملىء ثلجا، فأخذونى من بين أصحابى، وانطلق الصبيان هرابا مسرعين إلى الحى، فعمد أحدهم فأضجعنى على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شق ما بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى وأنا

ص: 94

أنظر إليه، لم أجد لذلك مسّا، ثم أخرج أحشاء بطنى ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها، ثم قال الثانى فقال لصاحبه تنح، ثم أدخل يده فى جوفى فأخرج قلبى وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ثم قال بيده يمنة ويسرة كأنه يتناول شيئا فإذا بخاتم فى يده من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبى فامتلأ وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم فى قلبى دهرا، ثم قال الثالث لصاحبه تنح، فأمرّ يده بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدى فأنهضنى من مكانى إنهاضا لطيفا ثم قال للأول: زنه بعشرة من أمته فوزنونى بهم فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فرجحتهم ثم قال زنه بألف فرجحتهم فقال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضمونى إلى صدورهم وقبلوا رأسى وما بين عينى ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرت عيناك» الحديث «1» .

وفى رواية ابن عباس، عند البيهقى، قالت حليمة: إذا أنا بابنى ضمرة يعدو فزعا، وجبينه يرشح باكيا ينادى: يا أبت، يا أماه، ألحقا محمدا فما تلحقاه إلا ميتا. أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا، وعلا به ذروة الجبل، حتى شق صدره إلى عانته، وفيه: أنه- عليه السلام قال: «أتانى رهط ثلاثة، بيد أحدهم إبريق من فضة، وفى يد الثانى طست من زمردة خضراء» الحديث «2» .

فإن قلت: هل غسل قلبه الشريف فى الطست خاص به، أو فعل بغيره من الأنبياء- عليهم السلام؟

أجيب: بأنه ورد فى خبر التابوت والسكينة: أنه كان فيه الطست الذى غسلت فيه قلوب الأنبياء، ذكره الطبرى، وعزاه العماد ابن كثير فى تفسيره لرواية السدى عن أبى مالك عن ابن عباس.

فإن قلت: ما الحكمة فى ختم قلبه المقدس؟

(1) ذكره المتقى الهندى فى «كنز العمال» (35559) وعزاه لمن ذكرهم المصنف، إلا أنه زاد قائلا: ومكحول لم يدرك شداد.

(2)

أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 140- 141) ضمن حديث طويل.

ص: 95

أجيب: بأنه إشارة إلى ختم الرسالة به، وهذا مسلم، إن كان الختم خاصّا به، أما إذا ورد أنه ليس خاصّا به بل بكل نبى- وسيأتى إن شاء الله تعالى قريبا ما فى الخاتم الشريف من المباحث- فتكون الحكمة أنه علامة يمتاز بها عن غيره ممن ليس بنبى.

والمراد بالوزن: فى قوله «زنه بعشرة إلخ» الوزن الاعتبارى، فيكون المراد الرجحان فى الفضل، وهو كذلك.

وفائدة فعل الملكين، ذلك، ليعلم الرسول ذلك، حتى يخبر به غيره ويعتقده، إذ هو من الأمور الاعتقادية.

وقد وقع شق صدره الشريف [واستخراج قلبه] مرة أخرى عند مجىء جبريل له بالوحى فى غار حراء. ومرة أخرى عند الإسراء به، وسيأتى كل فى موضعه- إن شاء الله تعالى-.

وروى الشق أيضا، وهو ابن عشر أو نحوها، مع قصة له مع عبد المطلب، أبو نعيم فى الدلائل.

وروى خامسة، ولا تثبت.

والحكمة فى شق صدره الشريف فى حال صباه، واستخراج العلقة منه، تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف فى سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ- عليه السلام على أكمل الأحوال من العصمة.

وقد روى أنه ختم بخاتم النبوة بين كتفيه، وكان ينم مسكا، وأنه مثل زر الحجلة «1» ، ذكره البخارى.

وفى مسلم: جمع عليه خيلان، كأنها الثاليل السود عند نغض كتفه «2» ، ويروى: غضروف كتفه اليسرى.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (190) فى الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، ومسلم (2345) فى الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله، والترمذى (3643) فى المناقب، باب: ما جاء فى خاتم النبوة، من حديث السائب بن يزيد رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (2346) فى الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة، وصفته، من حديث عبد الله بن سرجس- رضى الله عنه-.

ص: 96

وفى كتاب أبى نعيم: الأيمن.

وفى مسلم أيضا: كبيضة الحمام «1» .

وفى صحيح الحاكم: شعر مجتمع «2» .

وفى البيهقى: مثل السلعة.

وفى الشمائل: بضعة ناشزة.

وفى حديث عمرو بن أخطب: كشىء يختم به.

وفى تاريخ ابن عساكر: مثل البندقة.

وفى الترمذى ودلائل البيهقى: كالتفاحة «3» .

وفى الروض: كأثر المحجمة القابضة على اللحم.

وفى تاريخ ابن أبى خيثمة: شامة خضراء محتفرة فى اللحم.

وفيه أيضا: شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكمات كأنها عرف الفرس.

وفى تاريخ القضاعى: ثلاث شعرات مجتمعات.

وفى كتاب الترمذى الحكيم «4» : كبيضة حمام، مكتوب فى باطنها: الله وحده لا شريك له، وفى ظاهرها: توجه حيث كنت فإنك المنصور.

(1) صحيح: أخرجه مسلم (2344) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (5/ 341) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6300) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 663) ، من حديث أبى زيد- رضى الله عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.

(3)

صحيح: أخرجه الترمذى (3620) فى المناقب، باب: ما جاء فى بدء نبوة النبى صلى الله عليه وسلم، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 672) ، من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى.

(4)

هو: أبو عبد الله، محمد بن على بن الحسن بن بشر، الحكيم الترمذى، وهو غير الترمذى، صاحب السنن، كان ذا رحلة ومعرفة، وله مصنفات وفضائل، لولا هفوة بدت منه، مات سنة (285 هـ) على اختلاف فى ذلك.

ص: 97

وفى كتاب المولد لابن عائذ: كان نورا يتلألأ.

وفى سيرة ابن أبى عاصم: عذرة كعذرة الحمام، قال أبو أيوب: يعنى قرطمة الحمامة.

وفى تاريخ نيسابور: مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم: محمد رسول الله.

وعن عائشة: كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكان مما يلى الفقار قالت: فلمسته حين توفى فوجدته قد رفع.

حكى هذا كله الحافظ مغلطاى لكن قال فى فتح البارى: ما ورد من أن الخاتم كان كأثر المحجم، أو كالشامة السوداء أو الخضراء، مكتوب عليها:

محمد رسول الله، أو: سر فإنك المنصور. لم يثبت منها شىء «1» . قال: ولا يغتر بما وقع فى صحيح ابن حبان، فإنه غفل حيث صحح ذلك.

وقال الهيثمى فى «موارد الظمان» بعد أن أورد الحديث ولفظه: مثل البندقة من اللحم مكتوب عليه: محمد رسول الله «2» . اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذى كان يختم به.

وبخط الحافظ ابن حجر على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم قاضى سمرقند وهو ضعيف.

وقوله: زر الحجلة- بالزاى والراء- والحجلة- بالحاء المهملة والجيم- قال النووى: هى واحدة الحجال، وهى بيت كالقبة، لها أزرار كبار وعرى، هذا هو الصواب. وقال بعضهم: المراد بالحجلة: الطائر المعروف. وزرها: بيضها، وأشار إليه الترمذى وأنكره عليه العلماء.

وقوله: جمع- بضم الجيم وإسكان الميم- أى كجمع الكف، وصورته:

أن تجمع الأصابع وتضمها.

(1) قاله الحافظ فى «الفتح» (6/ 563) .

(2)

ضعيف: والحديث عند ابن حبان فى «صحيحه» (6302) من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- بسند ضعيف.

ص: 98

وقوله: خيلان: - بكسر الخاء المعجمة وإسكان التحتية- جمع خال، وهو الشامة على الجسد.

وقوله: نغض: - بالنون والغين والضاد، المعجمتين- قال النووى:

النغض والنّغض والناغض: أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذى على طرفه، وقيل: ما يظهر منه عند التحرك، سمى ناغضا لتحركه.

وقوله: بضعة ناشزة- بالمعجمة والزاى- أى قطعة لحم مرتفعة على جسده.

وبيضة الحمامة: معروفة. انتهى.

والثاليل: - بالمثلاثة- جمع ثؤلول: وهو حب يعلو ظاهر الجسد، واحدته كالحمصة فما دونها.

وفى القاموس: وقرطمتا الحمام- أى بكسر القاف- نقطتان على أصل منقاره.

وقال بعض العلماء: اختلف أقوال الرواة فى خاتم النبوة، وليس ذلك باختلاف، بل كل شبه بما سنح له، وكلها ألفاظ مؤداها واحد، وهو: قطعة لحم، ومن قال: شعر فلأن الشعر حوله متراكم عليه، كما فى الرواية الآخرى.

وقال القرطبى: الأحاديث الثابتة دالة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلل، قدر ببيضة الحمامة، وإذا كبر: جمع اليد.

وقال القاضى عياض: وهذه الروايات متقاربة متفرقة، متفقة على أنه شاخص فى جسده، قدر بيضة الحمامة، وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة، ويكون معناه: على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه فى قدر بيضة الحمامة. قال: وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه.

قال النووى: هذا الذى قال ضعيف، بل باطل، لأن شق الملكين إنما كان فى صدره وبطنه. انتهى.

ص: 99

ويشهد له قول أنس فى حديث عند مسلم- يأتى فى ذكر قلبه الشريف، من المقصد الثالث، إن شاء الله تعالى-: فلقد كنت أرى أثر المخيط فى صدره «1» .

لكن أجيب: بأن فى حديث عتبة بن عبد السلمى «2» - عند أحمد والطبرانى- أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما للآخر: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فلما ثبت أن خاتم النبوة بين كتفيه حمل القاضى عياض ذلك على أن الشق لما وقع فى صدره، ثم خيط حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الختم. وفهم النووى وغيره منه: أن قوله بين كتفيه متعلق بالشق وليس كذلك، بل هو متعلق بأثر الختم، وحينئذ فليس ما قاله القاضى عياض بباطل، انتهى «3» .

وقال السهيلى: والصحيح أنه- يعنى خاتم النبوة- كان عند نغض كتفه الأيسر.

واختلف هل ولد به؟ أو وضع بعد ولادته؟ على قولين.

وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم، وكيف وضع، ومن وضعه، فى حديث أبى ذر عند البزار وغيره قال: قلت يا رسول الله: كيف علمت أنك نبى، وبم علمت أنك نبى حتى استيقنت؟ قال:«أتانى آتيان، وفى رواية ملكان، وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: فزنه برجل» الحديث «4» . وفيه: ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطنى فأخرج

(1) صحيح: أخرجه مسلم (161) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى السماوات.

(2)

هو: الصحابى الجليل، عتبة بن عبد، السّلمى، أبو الوليد، صاحب النبى- صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عتلة، فسماه النبى- صلى الله عليه وسلم عتبة، مات سنة (87 هـ) ، وحديثه فى المسند والطبرانى لم أقف عليه.

(3)

انظر «فتح البارى» (6/ 561) حيث إن الكلام منقول منه.

(4)

ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 255- 256) وقال: رواه البزار، وفيه جعفر بن عبد الله عثمان بن كبير، وثقه أبو حاتم الرازى وابن حبان، وتكلم فيه العقيلى، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 100

قلبى فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه:

اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه:

خط بطنه، فخاط بطنى وجعل الخاتم بين كتفى كما هو الآن، ووليا عنى، وكأنى أرى الأمر معاينة «1» .

وعند أبى نعيم فى الدلائل: أنه- صلى الله عليه وسلم لما ولد، ذكرت أمه أن الملك غمسه فى الماء الذى أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، تضىء كالزهرة.

وقيل: ولد به، فالله أعلم.

وأخرج الحاكم فى المستدرك عن وهب بن منبه قال: لم يبعث الله نبيّا إلا وقد كان عليه شامات النبوة فى يده اليمنى، إلا أن يكون نبينا- صلى الله عليه وسلم فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه» .

وعلى هذا: فيكون وضع الخاتم بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختص به عن سائر الأنبياء والله أعلم.

ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم أربع سنين- وقيل خمسا، وقيل ستّا، وقيل سبعا، وقيل تسعا، وقيل اثنتى عشرة سنة وشهرا وعشرة أيام- ماتت أمه بالأبواء «3» وقيل بشعب أبى ذئب بالحجون «4» . وفى القاموس: ودار رائعة بمكة فيها مدفن آمنة أم النبى- صلى الله عليه وسلم.

وأخرج ابن سعد عن ابن عباس وعن الزهرى، وعن عاصم بن عمرو ابن قتادة دخل حديث بعضهم فى حديث بعض قالوا: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بنى عدى بن النجار بالمدينة،

(1) انظر ما قبله.

(2)

مرسل: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 631) عن وهب بن منبه مرسلا.

(3)

الأبواء: بفتح الهمزة وسكون الباء، جبل بين مكة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه.

(4)

الحجون: الجبل المشرف مما يلى شعب الجزارين بمكة، وقيل: هو موضع بمكة فيه اعوجاج، والمشهور الأول.

ص: 101

تزورهم، ومعه أم أيمن، فنزلت به دار التابعة. فأقامت به عندهم شهرا، فكان صلى الله عليه وسلم يذكر أمورا كانت فى مقامه ذلك، ونظرا إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بى أمى، وأحسنت العوم فى بئر بنى عدى بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إلى. قالت أم أيمن فسمعت أحدهم يقول: هو نبى هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت «1» .

وروى أبو نعيم من طريق الزهرى عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت:

شهدت آمنة أم النبى- صلى الله عليه وسلم فى علتها التى ماتت بها، ومحمد- عليه السلام غلام يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه ثم قالت:

بارك الله فيك من غلام

يابن الذى من حومة الحمام

نجا بعون الملك المنعام

فودى غداة الضرب بالسهام

بمائة من إبل سوام

إن صح ما أبصرت فى المنام

فأنت مبعوث إلى الأنام

من عند ذى الجلال والإكرام

تبعث فى الحل وفى الحرام

تبعث فى التحقيق والإسلام

دين أبيك البر إبراهام

فالله أنهاك عن الأصنام

ألاتواليها مع الأقوام

ثم قالت: كل حى ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى وأنا ميتة وذكرى باق، وقد تركت خيرا، وولدت طهرا، ثم ماتت. فكنا نسمع نوح الجن عليها فحفظنا من ذلك هذه الأبيات:

نبكى الفتاة البرة الأمينة

ذات الجمال العفة الرزينة

زوجة عبد الله والقرينة

أم نبى الله ذى السكينة

وصاحب المنبر بالمدينة

صارت لدى حفرتها رهينة

وقد روى أن آمنة آمنت به- صلى الله عليه وسلم بعد موتها.

(1) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 115) .

ص: 102

فروى الطبرى بسنده عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم نزل الحجون كئيبا حزينا، فأقام به ما شاء الله عز وجل، ثم رجع مسرورا، قال:«سألت ربى فأحيا لى أمى، فامنت بى ثم ردها» «1» .

ورواه أبو حفص بن شاهين فى كتاب: «الناسخ والمنسوخ» له، بلفظ، قالت عائشة: حج بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمر بى على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم إنه نزل فقال:«يا حميراء استمسكى» فاستندت إلى جنب البعير، فمكثت مليّا، ثم عاد إلى وهو فرح متبسم فقال:«ذهبت لقبر أمى فسألت ربى أن يحييها، فأحياها فامنت بى» «2» .

وكذا روى من حديث عائشة أيضا إحياء أبويه- صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به.

أورده السهيلى، وكذا الخطيب فى السابق واللاحق.

وقال السهيلى: إن فى إسناده مجاهيل.

وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جدّا، وسنده مجهول.

وقال ابن دحية: هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع. انتهى.

وقد جزم بعض العلماء: أن أبويه- صلى الله عليه وسلم ناجيان، وليسا فى النار، متمسكا بهذا الحديث وغيره.

وتعقبه عالم آخر: بأنه لم ير أحدا صرح بأن الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإن ادعى أحد الخصوصية فعليه الدليل. انتهى.

وقد سبقه لذلك، أبو الخطاب بن دحية، وعبارته: من مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك، فكيف بعد الإعادة. انتهى.

وتعقبه القرطبى فى «التذكرة» : بأن فضائله- صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل

(1) قال الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» إنه منكر جدّا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، ولكن ثبت فى الصحيح ما يعارضه. انظر «كشف الخفاء» (150) .

(2)

منكر: ذكره السيوطى فى «اللآلئ المصنوعة» (1/ 138) .

ص: 103

تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله به وأكرمه، قال:

وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا ولا شرعا، فقد ورد فى الكتاب العزيز إحياء قتيل بنى إسرائيل، وإخباره بقاتله، وكان عيسى- عليه السلام يحيى الموتى، وكذلك نبينا- صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يده جماعة من الموتى، وإذا ثبت هذا فلا يمتنع إيمانهما بعد إحيائهما، ويكون ذلك زيادة فى كرامته وفضيلته.

ثم قال: وقوله: من مات كافرا إلى آخر كلامه، مردود بما روى فى الخبر أن الله تعالى رد الشمس على نبيه- صلى الله عليه وسلم بعد مغيبها. ذكره الطحاوى وقال: إنه حديث ثابت، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا، وأنه لا يتجدد به الوقت لما ردها عليه، فكذلك يكون إحياء أبوى النبى- صلى الله عليه وسلم نافعا لإيمانهما وتصديقهما بالنبى- صلى الله عليه وسلم انتهى «1» .

وقد طعن بعضهم فى حديث رد الشمس. كما سيأتى- إن شاء الله- فى مقصد المعجزات.

وقد تمسك القائل بنجاتهما أيضا بأنهما ماتا قبل البعثة، فى زمن الفترة، ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «2» قال:

وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا «3» .

قال: وقال الإمام فخر الدين الرازى فى كتابه «أسرار التنزيل» ما نصه:

«قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم، بل كان عمه، واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارا، ويدل عليه وجوه منها: قوله تعالى:

الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ

«4» قيل معناه: أنه كان ينتقل نوره من ساجد إلى ساجد، ففيه دلالة على أن جميع آباء محمد كانوا مسلمين» .

(1) قلت: هذا متوقف على صحة الأحاديث المثبتة لذلك، ولا مانع منها، إلا أنها لم تصح.

(2)

سورة الإسراء: 15.

(3)

قلت: بل يختبرون فى عرصات يوم القيامة، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار، ولكن لا يدخلون النار ابتداء، وسيأتى تفضيل المسألة بعد قليل.

(4)

سورة الشعراء: 218، 219.

ص: 104

ثم قال: ومما يدل على أن آباء محمد- صلى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين. قوله عليه السلام: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» «1» وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «2» فوجب ألايكون أحد من أجداده مشركا» . كذا قال.

وهو متعقب:

* بأنه لا دلالة فى قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «3» . على ما ادعاه، فقد ذكر البيضاوى- فى تفسيره- وغيره، أن معنى الآية: وترددك فى تصفح أحوال المتهجدين، كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف- عليه السلام تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى.

* وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم- عليه الصلاة والسلام مات على الكفر، كما صرح به البيضاوى وغيره، قال تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «4» .

وأما قوله إنه كان عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل. انتهى.

ونقل الإمام أبو حيان فى «البحر» عند تفسير قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «5» . أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبى- صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين، مستدلين بقوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «6» . وبقوله- عليه السلام: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين» الحديث «7» . انتهى.

* وروى ابن جرير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه:

(1) تقدم.

(2)

سورة التوبة: 28.

(3)

سورة الشعراء: 219.

(4)

سورة التوبة: 114.

(5)

سورة الشعراء: 219.

(6)

سورة الشعراء: 219.

(7)

تقدم.

ص: 105

أن النبى- صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت، قال:«إنى استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى فأذن لى، واستأذننه فى الاستغفار لها فلم يأذن لى» . فما رؤى باكيا أكثر من يومئذ «1» .

* وروى ابن أبى حاتم فى تفسيره عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أومأ إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، فدعاه ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك، فقال: إن القبر الذى جلست عنده قبر آمنة، وإنى استأذنت ربى فى زيارتها فأذن لى، وإنى استأذنته فى الدعاء لها فلم يأذن لى، وأنزل الله على: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى «2» فأخذنى ما يأخذ الولد للوالد «3» . ورواه الطبرانى من حديث ابن عباس.

* وفى مسلم: «استأذنت ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور، فإنها تذكر الآخرة» «4» .

قال القاضى عياض: بكاؤه- عليه السلام على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به.

* وفى مسلم أيضا: «أن رجلا قال: يا رسول الله: أين أبى، قال:

«فى النار» فلما قفا دعاه، قال:«إن أبى وأباك فى النار» «5» .

قال النووى: فيه أن من مات على الكفر فهو فى النار، ولا ينفعه قرابة المقربين.

(1) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (11/ 42) .

(2)

سورة التوبة: 113.

(3)

ذكره ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 394) ، وعزاه لابن أبى حاتم.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (976) فى الجنائز، باب: استئذان النبى- صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل فى زيارة قبر أمه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(5)

صحيح: أخرجه مسلم (203) فى الإيمان، باب: بيان أن من مات على الكفر فهو فى النار، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

ص: 106

وفيه: أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو فى النار، وليس فى هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء.

وقال الإمام فخر الدين: من مات مشركا فهو فى النار، وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، ولم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، قبح الشرك والوعيد عليه فى النار، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين، فى كل وقت وحين، ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبيته، وأنه يستحيل فى كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد فى الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك مستحق للعذاب فى النار لمخالفته دعوة الرسل، وهو مخلد فيها دائما كخلود أهل الجنة فى الجنة.

انتهى.

وقد تعقب العلامة أبو عبد الله الأبى من المالكية فيما وضعه على صحيح مسلم قول النووى الماضى وفيه «أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فى النار، إلى آخره» بما معناه:

تأمل ما فى كلامه من التنافى، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة، لأن أهل الفترة هم: الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثانى، كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبى- صلى الله عليه وسلم. والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين، كالفترة بين نوح وهود، لكن الفقهاء إذا تكلموا فى الفترة فإنهم يعنون التى بين عيسى ونبينا- عليهما الصلاة والسلام-. وذكر البخارى عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة.

ص: 107

ولما دلت القواطع على ألاتعذيب حتى تقوم الحجة أى قوله تعالى:

وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» ، علمنا أنهم غير معذبين، فإن قلت قد صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة، كحديث «رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه فى النار» «2» و «رأيت صاحب المحجن فى النار، وهو الذى يسرق الحاج بمحجنه، فإذا بصر به، قال: إنما تعلق بمحجنى» «3» .

أجيب بأجوبة:

* أحدها: أنها أخبار آحاد فلا تعارض القطع.

* الثانى: قصر التعذيب على هؤلاء، والله أعلم بالسبب.

* الثالث: قصر التعذيب المذكور فى هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة، بما لا يعذر به من الضلال كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع. فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام:

* الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، ثم من هؤلاء من لم يدخل فى شريعة، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل. ومنهم من دخل فى شريعة حق قائمة الرسم، كتبع «4» وقومه من حمير وأهل نجران، وورقة بن نوفل، وعمه عثمان بن الحويرث.

* القسم الثانى من أهل الفترة: وهم من بدل وغير، فأشرك ولم يوحد، وشرع لنفسه فحلل وحرم، وهم الأكثر، كعمرو بن لحى، أول من سن للعرب عبادة الأصنام وشرع الأحكام، فبحر البحيرة، وسيب السائبة،

(1) سورة الإسراء: 15.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (3521) فى المناقب، باب: قصة خزاعة، ومسلم (2856) فى الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، من حديث أبى هريرة رضى الله عنه-.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (904) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم فى صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، من حديث جابر- رضى الله عنه-.

(4)

هو: تبع بن حسان بن تبان، قيل: اسمه مرثد، وهو أحد ملوك حمير فى اليمن.

ص: 108

ووصل الوصيلة وحمى الحام «1» ، وتبعته العرب فى ذلك وغيره مما يطول ذكره.

* القسم الثالث من أهل الفترة: وهم من لم يشرك ولم يوحد، ولا دخل فى شريعة نبى، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع دينا، بل بقى عمره على حين غفلة من هذا كله. وفى الجاهلية من كان على ذلك.

(1) البحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، وفى الصحيح عن سعيد بن المسيب: البحيرة هى التى يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس، وأما السائبة: فهى التى كانوا يسيبونها لآلهتهم، وقيل: البحيرة لغة: هى الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة، أى شققتها شقّا واسعا، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البحيرة: هى التى خليت بلا راع، وقال ابن إسحاق: البحيرة، هى ابنة السائبة، والسائبة هى الناقة إذا تابعت بين عشر إناث وليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلى سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهى البحيرة ابنة السائبة. وقال الشافعى: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت. وقال ابن عزيز: البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أى شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها، وقاله عكرمة، فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة: البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تحبس عن رعى ولا ماء، ولا يركبها أحد، وقيل السائبة، هى المحلاة التى لا قيد عليها، ولا راعى لها، فاعل بمعنى مفعول. وأما الوصيلة والحام. قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها، فأما الحام فمن الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه، وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها. وقال ابن عزيز: الوصيلة فى الغنم، قال: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت فى الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شىء فيأكله الرجال والنساء، والحامى: الفحل إذا ركب ولد ولده، ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء. وقال ابن إسحاق: الوصيلة الشاة إذا أتمت عشر إناث متتابعات فى خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شىء منها فيشترك فى أكله ذكورهم وإناثهم.

ص: 109

وإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة أقسام، فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثانى لكفرهم بما تعدوا به من الخبائث، والله سبحانه وتعالى قد سمى جميع هذا القسم كفارا ومشركين، فإنا نجد القرآن كلما حكى حال أحد سجل عليهم بالكفر والشرك، كقوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ثم قال: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية «1» .

والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين.

وأما أهل القسم الأول: كقس وزيد بن عمرو، فقد قال- عليه السلام فى كل منهما «أنه يبعث أمة وحده» «2» .

وأما عثمان بن الحويرث، وتبّع وقومه وأهل نجران، فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه، ما لم يلحق أحد منهم الإسلام الناسخ لكل دين. انتهى ملخصا وسيأتى ما قيل فى ورقة فى حديث المبعث- إن شاء الله تعالى-.

فهذا ما تيسر فى مسألة والديه- صلى الله عليه وسلم، وقد كان الأولى ترك ذلك، وإنما جرّنا إليه ما وقع من المباحثة فيه بين علماء العصر.

ولقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقى حيث قال:

حبا الله النبى مزيد فضل

على فضل وكان به رؤوفا

فأحيا أمه وكذا أباه

لإيمان به فضلا لطيفا

فسلم فالقديم «3» بذا قدير

وإن كان الحديث به ضعيفا «4»

(1) سورة المائدة: 103.

(2)

قلت: ورد فى زيد بن عمرو أحاديث منها ما أخرجه النسائى فى «الكبرى» (8187) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 82) ، من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما.

(3)

من الأخطاء الشائعة إطلاق اسم القديم على الله عز وجل، والأولى إطلاق اسم (الأول) كما ورد فى الكتاب والسنة، والله عز وجل أعلم بنفسه من غيره، فهو الذى سمى نفسه الأول وأوحى إلى رسوله بذلك، ولكن من الذى سماه بالقديم؟! وأيهما أولى بالاعتبار.

(4)

قلت: لو ثبت ذلك لكان على العين والرأس، ولكن الأحاديث بذلك ضعيفة، كما صرح هو بنفسه، فما بالك والأحاديث الصحيحة بخلاف ذلك، ولكن على العموم أدبا مع الرسول- صلى الله عليه وسلم لا نذكر حكمهما إلا عند الضرورة، من باب بيان الحق لا غير، لا شماتة والعياذ بالله.

ص: 110

فالحذر الحذر، من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذى النبى صلى الله عليه وسلم، فإن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه، أو وصف بوصف به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة.

وقد قال- عليه السلام: «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» «1» رواه الطبرانى فى الصغير، ولا ريب أن أذاه- عليه السلام كفر يقتل فاعله- إن لم يتب- عندنا.

وستأتى مباحث ذلك- إن شاء الله تعالى- فى الخصائص من مقصد المعجزات.

وقد أطنب بعض العلماء فى الاستدلال لإيمانهما، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل.

قال الحافظ ابن حجر فى بعض كتبه: والظن باله- يعنى الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما له- صلى الله عليه وسلم لتقر عينه.

وقال فى الأحكام: ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة فى جملة من يدخلها طائعا فينجو، إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن.

(1) صحيح: أخرجه الترمذى (1982) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى الشتم، وأحمد فى «مسنده» (4/ 252) ، وابن حبان فى «صحيحه» (3022) ، من حديث المغيرة بن شعبة رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (7312) .

ص: 111