المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم] - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١

[القسطلاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌كلمة عن مصادر السيرة النبوية

- ‌عملى فى الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌نسبه:

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌مشايخه:

- ‌صفاته:

- ‌وفاته:

- ‌مصنفاته:

- ‌كلمة عن كتاب المواهب اللدنية

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌المقصد الأول

- ‌[تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم]

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم

- ‌[آيات حمله صلى الله عليه وسلم]

- ‌آيات ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[ذكر حضانته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]

- ‌[هجرته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[رؤيا الأذان]

- ‌[غزوة قرقرة الكدر]

- ‌ثم غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌[غزوة بنى النضير]

- ‌[غزوة ذات الرقاع]

- ‌[غزوة بدر]

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌غزوة بنى المصطلق

- ‌غزوة الخندق:

- ‌[غزوة بنى قريظة] :

- ‌غزوة بنى لحيان

- ‌غزوة الغابة

- ‌[سرية ابن رواحة إلى ابن رزام]

- ‌صلح الحديبية

- ‌[غزوة خيبر] :

- ‌عمرة القضاء:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌غزوة الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌حجة أبى بكر

- ‌المقصد الثانى

- ‌الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة

- ‌الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات

- ‌الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته

- ‌الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه

- ‌أما خدمه:

- ‌[من الرجال]

- ‌ومن النساء:

- ‌وأما حراسه:

- ‌وأما مواليه صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام

- ‌أما كتابه

- ‌وأما أمراؤه- عليه الصلاة والسلام

- ‌وأما رسله- صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه

- ‌أما مؤذنوه فأربعة

- ‌وأما شعراؤه- صلى الله عليه وسلم الذين يذبون عن الإسلام:

- ‌الفصل الثامن فى آلات حروبه صلى الله عليه وسلم كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه

- ‌أما أسيافه- صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما أدراعه فسبعة:

- ‌وأما أقواسه- صلى الله عليه وسلم فكانت ستة:

- ‌وأما أتراسه

- ‌وأما أرماحه- صلى الله عليه وسلم

- ‌تكميل:

- ‌الفصل التاسع فى ذكر خيله صلى الله عليه وسلم ولقاحه ودوابه

- ‌أما خيله- صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم]

[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم]

ولما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم أربعين سنة وقيل: وأربعين يوما، وقيل:

وعشرة أيام وقيل: وشهرين، يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وقيل: لسبع، وقيل: لأربع وعشرين ليلة-.

وقال ابن عبد البر: يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من الفيل. وقيل: فى أول ربيع:

بعثه الله رحمة للعالمين، ورسولا إلى كافة الثقلين أجمعين.

ويشهد لبعثه يوم الاثنين ما رواه مسلم عن أبى قتادة أنه- صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: «فيه ولدت وفيه أنزل على» «1» .

وقال ابن القيم فى «الهدى النبوى» : واحتج القائلون بأنه كان فى رمضان بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» قالوا: أول ما أكرمه الله بنبوته أنزل عليه القرآن.

وقال الآخرون: إنما نزل القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم نزل نجوما بحسب الوقائع فى ثلاث وعشرين سنة.

وقيل: كان ابتداء المبعث فى رجب.

وروى البخارى فى «التعبير» من حديث عائشة: «أول ما بدىء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح «3» وكان يأتى حراء «4» فيتحنث «5» فيه- وهو

(1) صحيح: وقد تقدم.

(2)

سورة البقرة: 185.

(3)

فلق الصبح: أى ضياؤه، وإنما يقال هذا فى الشىء الواضح البين.

(4)

حراء: اسم جبل به غار، بينه وبين مكة ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى.

(5)

التحنث: فسره بالتعبد، وهو تفسير صحيح، وأصل الحنث: الإثم، فمعنى يتحنث، أى يجتنب الحنث، فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث وهو الإثم، أى يتجنب الحرج والإثم.

ص: 118

التعبد- الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجأه الحق وهو فى غار حراء.

فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، «فقلت ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد «1» ، ثم أرسلنى «2» » ، فقال: اقرأ، «فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى» ، فقال: اقرأ، «فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى» فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى- بلغ- ما لَمْ يَعْلَمْ «3» «4» .

فرجع بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده «5» ، حتى دخل على خديجة، فقال:«زملونى زملونى» «6» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال:

«يا خديجة، ما لى؟» وأخبرها الخبر، ثم قال:«قد خشيت على نفسى» .

فقالت له: كلا أبشر، فو الله لا يخزيك «7» الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل «8» ، وتقرى الضيف «9» ، وتعين على نوائب الحق «10» .

(1) غطنى: أى ضمنى وعصرنى، أما الجهد: فيجوز فيها فتح الجيم وضمها، وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال ورفعها، فعلى النصب: بلغ جبريل منى الجهد، وعلى الرفع: بلغ الجهد منى مبلغه وغايته.

(2)

أرسلنى: أى أطلقنى.

(3)

سورة العلق: 1- 5.

(4)

قلت: فى هذا الحديث دلالة صريحة على أن أول ما نزل من القرآن: اقرأ، خلافا لمن يقول بغير ذلك كسورة الفاتحة مثلا.

(5)

يرجف فؤاده: أى يرتعد ويضطرب.

(6)

زملونى: أى غطونى بالثياب ولفونى بها.

(7)

الخزى: هو الفضيحة والهوان.

(8)

الكلّ: أصل الكل الثقل، ومنه قوله تعالى: وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، ويدخل فى حمل الكل، الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال، وغير ذلك، وهو من الكلال، وهو الإعياء.

(9)

تقرى الضيف: أى تطعم الضيف، حيث يقال للطعام الذى يضيف به قرى، ويقال لفاعله: قار.

(10)

النوائب: جمع نائبة، وهى الحادثة، وإنما قالت: نوائب الحق، لأن النائبة قد تكون فى الخير، وقد تكون فى الشر.

ص: 119

ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى، وهو ابن عم خديجة أخى أبيها- وكان امرأ تنصر «1» فى الجاهلية «2» ، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب- وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: أى ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره النبى- صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس «3» الذى أنزل على موسى، يا ليتنى فيها جذعا «4» ، ليتنى أكون حيّا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:

أو مخرجى هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ثم لم ينشب «5» ورقة أن توفى، وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقّا، فيسكن لذلك جأشه «6» ، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك» «7» .

* وقد تكلم العلماء فى معنى قوله- صلى الله عليه وسلم لخديجة: «قد خشيت

(1) تنصر: أى صار نصرانيّا.

(2)

الجاهلية: معناها هنا: الفترة الزمنية التى كانت قبل بعثته- صلى الله عليه وسلم.

(3)

الناموس: هو جبريل- عليه السلام، وقال أهل اللغة وغريب الحديث: الناموس فى اللغة: صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب الشر، ويقال: نمست السر، إذا كتمته.

(4)

أى: شابّا قويّا، حتى أبالغ فى نصرك، وأصل الجذع فى الدواب.

(5)

أى: لم يلبث بعده فترة طويلة، بل فترة قليلة.

(6)

جأشه: أى قلبه.

(7)

صحيح: أخرجه البخارى (6982) فى التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة، ومسلم (160) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 120

على نفسى» فذهب الإسماعيلى «1» إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضرورى بأن الذى جاءه ملك من عند الله. وكان أشق شىء عليه أن يقال عليه مجنون.

وقيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه، ولا غرو، فإنه بشر يخشى من القتل والأذية، كما يخشى البشر.

* وقوله: «ما أنا بقارئ» أى: أنا أمى فلا أقرأ الكتب.

* وقال القاضى عياض: إنما بيتدئ- صلى الله عليه وسلم بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قوى البشر، فبدىء بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة. انتهى.

فإن قلت: فلم كرر قوله «ما أنا بقارئ» ثلاثا؟

أجاب أبو شامة «2» كما فى فتح البارى: بأن يحمل قوله أولا «ما أنا بقارئ» على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفى المحض، وثالثا: على الاستفهام.

* والحكمة من الغط ثلاثا، شغله عن الالتفات لشىء آخر، وإظهارا للشدة والجد فى الأمر، تنبيها على ثقل القول الذى سيلقى عليه.

وقيل: إبعادا لظن التخيل والوسوسة، لأنهما ليسا من صفات الجسم، فلما وقع ذلك بجسمه علم أنه من أمر الله.

* فإن قلت: من أين عرف- صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك من عند الله، وليس من الجن؟

فالجواب من وجهين:

(1) هو: الحافظ الحجة، أبو بكر، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجرجانى الشافعى، صاحب «المستخرج على صحة البخارى» ، كما أن له تصانيف تشهد له بالإمامة فى الفقه والحديث، توفى سنة (371 هـ) .

(2)

هو: أبو القاسم، شهاب الدين، عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسى الدمشقى، أحد الأعلام، مؤرخ باحث محدث، توفى سنة (665 هـ) .

ص: 121

أحدهما: أن الله تعالى أظهر على يدى جبريل- عليه السلام معجزات عرفه بها. كما أظهر الله تعالى على يد محمد- صلى الله عليه وسلم معجزات عرفناه بها.

وثانيهما: أن الله تعالى خلق فى محمد- صلى الله عليه وسلم علما ضروريّا بأن جبريل من عند الله ملك لا جنى ولا شيطان، كما أن الله تعالى خلق فى جبريل علما ضروريّا بأن المتكلم معه هو الله تعالى، وأن المرسل له ربه تعالى لا غير.

* وقول ورقة: يا ليتنى فيها جذعا. الضمير للنبوة، أى: ليتنى كنت شابّا عند ظهورها حتى أبالغ فى نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع: من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شابّا فتيّا.

وأخرج البيهقى من طريق العلاء بن جارية الثقفى عن بعض أهل العلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله- صلى الله عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة. وهى تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله الحديث «1» .

وعن جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جوارى هبطت، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا، ونظرت خلفى فلم أر شيئا، فرفعت رأسى فرأيت شيئا فلم أثبت له، فأتيت خديجة فقلت: دثرونى دثرونى»

وصبوا على ماء باردا فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ «3» الآية، وذلك قبل أن تفرض الصلاة» «4» رواه البخارى ومسلم والترمذى.

ولم يكن جواره- صلى الله عليه وسلم لطلب النبوة، لأنها أجل من أن تنال بالطلب

(1) سيأتى بتمامه فى موضعه.

(2)

الدثار: الثوب فوق غيره من الثوب.

(3)

سورة المدثر: 1- 3.

(4)

صحيح: أخرجه البخارى (4922) فى التفسير، باب: سورة المدثر، ومسلم (161) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

ص: 122

أو الاكتساب، وإنما هى موهبة من الله، وخصوصية يخص بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

ولم تكن الرجفة المذكورة خوفا من جبريل- عليه السلام، فإنه- صلى الله عليه وسلم أجل من ذلك، وأثبت جنانا، وإنما رجف غبطة بحاله وإقباله على الله عز وجل، فخشى أن يشغل بغير الله عن الله.

وقيل: خاف من ثقل أعباء النبوة.

وفى رواية البيهقى فى الدلائل: أن خديجة قالت لأبى بكر: يا عتيق اذهب به إلى ورقة بن نوفل، فأخذه أبو بكر، فقص عليه ما رأى، فقال صلى الله عليه وسلم:«إذا خلوت وحدى سمعت نداء: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا» .. فقال: لا تفعل إذا قال، فاثبت حتى تسمع، ثم ائتنى فأخبرنى، فلما خلا ناداه يا محمد فثبت فقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. إلى آخرها. ثم قال: قل لا إله إلا الله «1» . الحديث.

واحتج به من قال بأولية نزول الفاتحة.

والصحيح أن أول ما نزل عليه- صلى الله عليه وسلم من القرآن «اقرأ» كما صح ذلك عن عائشة، وروى ذلك عن أبى موسى الأشعرى وعبيد بن عمير.

قال النووى: وهو الصواب الذى عليه الجماهير من السلف والخلف.

وأما ما روى عن جابر وغيره: أن أول ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «2» .

فقال النووى: ضعيف، بل باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحى.

وأما حديث البيهقى أنه الفاتحة- كقول بعض المفسرين- فقال البيهقى:

هذا منقطع، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «3» ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «4» .

وقال النووى- بعد ذكر هذا القول- بطلانه أظهر من أن يذكر. انتهى.

(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 158) .

(2)

سورة المدثر: 1.

(3)

سورة العلق: 1.

(4)

سورة المدثر: 1.

ص: 123

وقد روى أن جبريل- عليه السلام أول ما نزل بالقرآن على النبى- صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذه، كما رواه الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال:

«أول ما نزل جبريل على محمد- صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، استعذ، قال:

أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: اقرأ باسم ربك الذى خلق. قال عبد الله: وهى أول سورة أنزلها الله على محمد- صلى الله عليه وسلم» «1» .

قال الحافظ عماد الدين بن كثير، بعد أن ذكره: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن فى إسناده ضعفا وانقطاعا، والله أعلم «2» .

وقد أورد ابن أبى جمرة سؤالا، وهو أنه: لم اختص- صلى الله عليه وسلم بغار حراء، فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من المواضع.

وأجاب: بأن هذا الغار له فضل زائد على غيره: من جهة أنه منزو ومجموع لتحنثه وهو يبصر بيت ربه، والنظر إلى البيت عبادة، فكان له فيه اجتماع ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت. وغيره ليس فيه هذه الثلاث.

ولله در المرجانى حيث قال فى فضائل حراء وما اختص به:

تأمل حراء فى جمال محياه

فكم من أناس من حلا حسنه تاهوا

فمما حوى من جا لعلياه زائرا

يفرج عنه الهم فى حال مرقاه

به خلوة الهادى الشفيع محمد

وفيه له غار له كان يرقاه

وقبلته للقدس كانت بغاره

وفيه أتاه الوحى فى حال مبداه

وفيه تجلى الروح بالموقف الذى

به الله فى وقت البداءة سواه

وتحت تخوم الأرض فى السبع أصله

ومن بعد هذا اهتز بالسفل أعلاه

ولما تجلى الله قدس ذكره

لطور تشظى فهو إحدى شظاياه

ومنها ثبير ثم ثور بمكة

كذا قد أتى فى نقل تاريخ مبداه

وفى طيبة أيضا ثلاث فعدها

فعيرا وورقانا وأحدا رويناه

(1) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (1/ 51) .

(2)

قاله ابن كثير فى «تفسيره» (1/ 51) .

ص: 124

ويقبل فى ساعة الظهر من دعا

به ينادى من دعانا أجبناه

وفى أحد الأقوال فى عقبة حرا

أتى ثم قابيل لهابيل غشاه

ومما حوى سرّا حوته صخوره

من التبر إكسيرا يقام سمعناه

سمعت به تسبيحها غير مرة

وأسمعته جمعا فقالوا سمعناه

به مركز النور الإلهى مثبتا

فلله ما أحلى مقاما بأعلاه

وروى أبو نعيم أن جبريل وميكائيل شقا صدره وغسلاه ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «1» . الآيات، الحديث، وفيه: فقال ورقة: أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل «2» .

وكذا روى شق صدره الشريف هنا أيضا الطيالسى والحارث فى مسنديهما.

والحكمة فيه: ليتلقى النبى- صلى الله عليه وسلم ما يوحى إليه بقلب قوى، فى أكمل الأحوال من التطهير.

قال ابن القيم وغيره: وكمل الله تعالى له- عليه السلام من الوحى مراتب عديدة:

* أحدها: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

* الثانية: ما كان يلقيه الملك فى روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال- صلى الله عليه وسلم:«إن روح القدس نفث فى روعى، لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب» «3» الحديث رواه ابن أبى الدنيا فى القناعة، وصححه الحاكم.

والروع- بضم الراء- أى نفسى، وروح القدس: جبريل- عليه السلام.

(1) سورة العلق: 1- 5.

(2)

أشار إلى ذلك الحافظ فى «الفتح» (6/ 562) وعزاه لأبى داود الطيالسى فى مسنده والحارث بن أبى أسامة والدلائل لأبى نعيم من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(3)

صحيح: أخرجه أبو نعيم فى الحلية عن أبى أمامة، كما فى «صحيح الجامع» (2085) .

ص: 125

* الثالثة: كان يتمثل له الملك رجلا، فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى «1» . رواه النسائى بسند صحيح من حديث ابن عمر.

قلت: وكان دحية جميلا وسيما، إذا قدم لتجارة خرجت الظعن لتراه.

فإن قلت: إذا لقى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم فى صورة دحية، فأين تكون روحه؟ فإن كانت فى الجسد الذى له ستمائة جناح، فالذى أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت فى هذا الذى هو فى صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية.

أجيب- كما ذكره العينى «2» - بأنه لا يبعد ألايكون انتقالها موجب موته، فيبقى الجسد حيّا، لا ينقص من معارفه شىء ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثانى كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر، وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى فى بنى آدم، فلا تلزم فى غيرهم. انتهى.

* الرابعة: كأن يأتيه فى مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد، حتى إن راحلته لتبرك به فى

(1) قلت: أخرجه بنحوه البخارى (2) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ومسلم (2333) فى الفضائل، باب: عرق النبى- صلى الله عليه وسلم فى البرد وحين يأتيه الوحى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وبخصوص تشبيهه بصورة دحية الكلبى فقد ورد ذلك أثناء حديث أخرجه مسلم (167) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، من حديث جابر، ولم أقف على لفظ المصنف من النسائى كما ذكر.

(2)

هو: أبو محمد، محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد، بدر الدين العينى، فقيه حافظ مؤرخ، توفى بالقاهرة سنة (855 هـ) ، وكان من أقران الحافظ ابن حجر العالم المشهور، إلا أنه كان حنفى المذهب.

ص: 126

الأرض، ولقد جاءه الوحى مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها «1» .

قلت: وروى الطبرانى عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سرى عنه.

وكنت أكتب وهو يملى على، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تكسر من ثقل الوحى، حتى أقول: لا أمشى على رجلى أبدا «2» .

ولما نزلت عليه سورة المائدة، كادت أن تنكسر عضد ناقته من ثقل السورة «3» ، ورواه أحمد والبيهقى فى الشعب.

* الخامسة: أن يرى الملك فى صورته التى خلق عليها له ستمائة جناح، فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما فى سورة النجم.

* السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها.

* السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى.

قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهى تكليم الله له كفاحا من غير حجاب. انتهى.

قال شيخ الإسلام الولى ابن العراقى: وكان ابن القيم أخذ ذلك من

(1) قلت: طرفه الأول هو حديث لفظ عائشة المتقدم قبل حديث، أما قصة نزوله وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فبرواية أخرى أخرجها النسائى (6/ 9) فى الجهاد، باب: فضل المجاهدين على القاعدين، بسند صحيح.

(2)

أخرجه الطبرانى فى «الأوسط» (1934) ، وفى «الكبير» (5/ 142) .

(3)

أخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 455 و 458) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 178) ، من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية، وفى إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف سيئ الحفظ.

ص: 127

روض السهيلى لكنه لم يذكر نزول إسرافيل إليه بكلمات من الوحى قبل جبريل.

فقد ثبت فى الطرق الصحاح عن عامر الشعبى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحى، والشىء، ثم وكل به جبريل فجاء بالقرآن «1» .

وأما قوله- أعنى ابن القيم-: السادسة، ما أوحاه الله إليه فوق السماوات، يعنى ليلة المعراج، السابعة كلام الله بلا واسطة. فإن أراد ما أوحاه إليه جبريل فهو داخل فيما تقدم، لأنه إما أن يكون جبريل فى تلك الحالة على صورته الأصلية، أو على صورة الآدمى، وكلاهما قد تقدم ذكره، وإن أراد وحى الله بلا واسطة- وهو الظاهر- فهى الصورة التى بعدها.

وأما قوله: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة: وهى تكليم الله له كفاحا من غير حجاب، فهذا على مذهب من يقول إنه- صلى الله عليه وسلم رأى ربه تعالى، وهى مسألة خلاف يأتى الكلام عليها إن شاء الله تعالى.

ويحتمل أن ابن القيم- رحمه الله تعالى- أراد بالمرتبة السادسة وحى جبريل، وغاير بينه وبين ما قبله باعتبار محل الإيحاء، أى كونه فوق السماوات، بخلاف ما تقدم، فإنه كان فى الأرض، ولا يقال، يلزم عليه أن تتعدد أقسام الوحى باعتبار البقعة التى جاء فيها جبريل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم وهو غير ممكن، لأنا نقول: الوحى الحاصل فى السماء باعتبار ما فى تلك المشاهد من الغيب نوع غير نوع الأرض على اختلاف بقاعها. انتهى.

قلت: ويزاد أيضا:

* كلامه تعالى له فى المنام، كما فى حديث الزهرى «أتانى ربى فى أحسن صورة فقال: يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى..» «2» الحديث.

(1) قلت: عامر بن شراحيل الشعبى، من خيار التابعين، إلا أن حديثه مرسل.

(2)

صحيح: أخرجه الترمذى (3233 و 3234) فى التفسير، باب: ومن سورة ص، وأحمد فى «مسنده» (1/ 368) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (2608) ، من حديث ابن عباس رضى الله عنهما-، وليس للزهرى فيه ذكر.

ص: 128

* ثم مرتبة أخرى، وهى العلم الذى يلقيه الله تعالى فى قلبه، وعلى لسانه عند الاجتهاد فى الأحكام، لأنه اتفق على أنه- صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد أصاب قطعا، وكان معصوما من الخطأ، وهذا خرق للعادة فى حقه دون سائر الأمة، وهو يفارق النفث فى الروع من حيث حصوله بالاجتهاد، والنفث بدونه.

* ومرتبة أخرى: وهى مجىء جبريل فى صورة رجل غير دحية، لأن دحية كان معروفا عندهم، ذكره ابن المنير، وإن كانت داخلة فى المرتبة الثالثة التى ذكرها ابن القيم.

وذكر الحليمى أن الوحى كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا، فذكرها، وغالبها- كما قال فى فتح البارى- من صفات حامل الوحى، ومجموعها يدخل فيما ذكر والله أعلم.

وذكر ابن المنير أن الحال كان يختلف فى الوحى باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد وبشارة نزل الملك بصورة الآدمى، وخاطبه من غير كدّ، وإن نزل بوعيد ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس. انتهى.

وقد ذكر ابن عادل، فى تفسيره: أن جبريل- عليه السلام نزل على النبى صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرين ألف مرة، ونزل على آدم اثنتى عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات. كذا قال- رحمه الله.

وقد روى: أن جبريل تبدى له- صلى الله عليه وسلم فى أحسن صورة وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أنت رسولى إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة ثم عرج إلى السماء ورجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله، حتى أتى خديجة فأخبرها فغشى عليها من الفرح ثم أمرها فتوضأت وصلى بها

ص: 129

كما صلى به جبريل فكان ذلك أول فرضها ركعتين ثم إن الله أقرها فى السفر كذلك وأتمها فى الحضر «1» .

وقال مقاتل: كانت الصلاة أول فرضها ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى، لقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ «2» .

قال فى فتح البارى: كان- صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلى قطعا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف: هل افترض قبل الخمس شىء من الصلاة أم لا؟

فقيل: إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها «3» .

انتهى «4» .

قال النووى: أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله من قيام الليل ما ذكره فى أول سورة المزمل، ثم نسخه بما فى آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة، وأما ما ذكره فى هذه الرواية من أن جبريل علمه الوضوء وأمره به فيدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء.

ثم فتر الوحى فترة شق عليه وأحزنه.

وفترة الوحى: عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب عنه ما كان يجده- عليه السلام من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود.

وكانت مدة فترة الوحى ثلاث سنين، كما جزم به ابن إسحاق.

وفى تاريخ الإمام أحمد، ويعقوب بن سفيان عن الشعبى: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشىء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة، وكذا رواه ابن سعد والبيهقى.

(1) طرفه الأخير صحيح أخرجه مسلم (985) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) .

(2)

سورة غافر: 55.

(3)

سورة طه: 130.

(4)

قاله الحافظ فى «الفتح» (8/ 671) .

ص: 130

فقد تبين أن نبوته- صلى الله عليه وسلم كانت متقدمة على إرساله، كما قال أبو عمر وغيره، وكما حكاه أبو أمامة بن النقاش. فكان فى نزول سورة «اقرأ» نبوته، وفى نزول سورة المدثر إرساله بالنذارة والبشارة والتشريع، وهذا قطعا متأخر عن الأول، لأنه لما كانت سورة «اقرأ» متضمنة لذكر أطوار الآدمى: من الخلق والتعليم والإفهام، ناسب أن تكون أول سورة أنزلت، وهذا هو الترتيب الطبيعى، وهو أن يذكر سبحانه وتعالى ما أسداه إلى نبيه- عليه السلام من العلم والفهم والحكمة والنبوة، ويمن عليه بذلك فى معرض تعريف عباده بما أسداه إليهم من نعمة البيان الفهمى والنطقى والخطى، ثم يأمره سبحانه وتعالى بأن يقوم فينذر عباده.

وكان أول من آمن بالله وصدق صديقة النساء خديجة، فقامت بأعباء الصديقية.

قال لها- صلى الله عليه وسلم: خشيت على نفسى، فقالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، ثم استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدا.

وكان أول ذكر آمن من بعدها صديق الأمة، وأسبقها إلى الإسلام أبو بكر، فازره فى الله. وعن ابن عباس أنه أول الناس إسلاما، واستشهد له بقول حسان بن ثابت:

إذا تذكرت شجوى من أخى ثقة

فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها

بعد النبى وأوفاها بما حملا

والثانى التالى المحمود مشهده

وأول الناس قدما صدق الرسلا

رواه أبو عمر.

وممن وافق ابن عباس وحسانا على أن الصديق أول الناس إسلاما، أسماء بنت أبى بكر، والنخعى وابن الماجشون ومحمد بن المنكدر والأخنس.

وقيل: إن على بن أبى طالب أسلم بعد خديجة، وكان فى حجر النبى

ص: 131

- صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يكون أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ويكون على أول صبى أسلم، لأنه كان صبيّا لم يدرك، ولذا قال:

سبقتكم إلى الإسلام طرا

صغيرا ما بلغت أوان حلمى

وكان سن على إذ ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبرى.

وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليّا أول من أسلم من الرجال:

سلمان وأبو ذر والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدرى، وزيد بن الأرقم، وهو قول ابن شهاب وقتادة وغيرهم.

قال: واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقا.

وقيل: أول رجل أسلم، ورقة بن نوفل. ومن يمنع، يدعى أنه أدرك نبوته- عليه السلام لا رسالته. لكن جاء فى السير، وهو فى رواية أبى نعيم المتقدمة أنه قال: أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد، وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك. فهذا صريح بتصديقه برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم.

قال البلقينى: بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال. وبه قال العراقى فى نكته على ابن الصلاح وذكره ابن منده فى الصحابة.

وحكى العراقى: كون على أول من أسلم عن أكثر العلماء، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه.

وادعى الثعلبى اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فى أول من أسلم بعدها.

قال ابن الصلاح: والأورع أن يقال:

أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر.

ومن الصبيان أو الأحداث على.

ومن النساء خديجة.

ومن الموالى زيد.

ومن العبيد بلال. والله أعلم، انتهى.

ص: 132

وقال الطبرى: الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال:

أول من أسلم مطلقا خديجة.

وأول من أسلم على بن أبى طالب، وهو صبى لم يبلغ، وكان مستخفيا بإسلامه وأول رجل عربى بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبى قحافة.

وأول من أسلم من الموالى زيد.

قال: وهذا متفق عليه لا خلاف فيه، وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، أى الرجال البالغين الأحرار، ويؤيد هذا ما روى عن الحسن أن على بن أبى طالب قال: إن أبا بكر سبقنى إلى أربع لم أوتهن: سبقنى إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة، ومصاحبته فى الغار، وإقام الصلاة، وأنا يومئذ بالشعب يظهر إسلامه وأخفيه. الحديث، خرجه صاحب فضائل أبى بكر وخيثمة بمعناه.

وأما ما روى: من صحبة الصديق للنبى- صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانى عشرة سنة، وهم يريدون الشام فى تجارة، وحديث بحيرى، وأنه وقع فى قلب أبى بكر اليقين، وقول ميمون بن مهران: والله لقد آمن أبو بكر بالنبى- صلى الله عليه وسلم زمن بحيرى، فالمراد بهذا الإيمان اليقين بصدقه، وهو ما وقر فى قلبه، وإلا فالنبى- صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وسافر إلى الشام قبل المبعث.

ثم أسلم بعد زيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، بدعاء أبى بكر الصديق، فجاء بهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا.

ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بعد تسعة أنفس. والأرقم بن أبى الأرقم المخزومى، وعثمان بن مظعون الجمحى.

وأخواه: قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وامرأته فاطمة بنت الخطاب.

ص: 133