الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[هجرته صلى الله عليه وسلم]
ثم أذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم لأصحابه فى الهجرة إلى الحبشة، وذلك فى رجب سنة خمس من النبوة.
فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا- وقيل اثنى عشر رجلا- وأربع نسوة- وقيل:
وخمس نسوة، وقيل وامرأتين-.
وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكر ذلك الزهرى وقال: لم يكن لهم أمير. وخرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار.
وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط.
فلما رأت قريش استقرارهم فى الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصى، وعبد الله بن أبى ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشى واسمه أصحمة- وكان معهما عمارة بن الوليد، ليردهم إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما خائبين بهديتهما.
وأسلم عمر بن الخطاب بعد حمزة بثلاثة أيام فيما قاله أبو نعيم بدعوته صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعز الإسلام بأبى جهل أو بعمر بن الخطاب» «1» وكان المسلمون إذ ذاك بضعة وأربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة.
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3681) فى المناقب، باب: فى مناقب عمر بن الخطاب رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» (2/ 95) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6881) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 89) ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
وكان سبب إسلامه- فيما ذكره أسامة بن زيد عن أبيه عن جده عن عمر- أنه قال:
بلغنى إسلام أختى فدخلت عليها، فقلت يا عدوة نفسها، قد بلغنى عنك أنك صبوت «1» ، ثم ضربتها، فسال الدم فلما رأت الدم بكت وقالت:
يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت.
قال: فدخلت وأنا مغضب فإذا كتاب فى ناحية البيت، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدى، قال: ثم رجعت إليها فإذا فيها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى بلغت آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ «2» فقلت: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى، فجئت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى بيت فى أسفل الصفا، فدخلت وأخذ رجلان بعضدى حتى دنوت من النبى- صلى الله عليه وسلم فقال:«أرسلوه» فأرسلونى فجلست بين يديه، فأخذ بمجمع ثيابى فجذبنى إليه ثم قال:«أسلم يابن الخطاب، اللهم اهد قلبه» فقلت: أشهد ألاإله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة «3» .
وكان الرجل إذا أسلم استخفى ثم خرجت إلى رجل لم يكن يكتم السر، فقلت له إنى صبوت، قال فرفع صوته بأعلاه: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، فما زال الناس يضربونى وأضربهم، فقال خالى: ما هذا؟ قالوا: ابن الخطاب، فقام على الحجر وأشار بكمه فقال: ألا إنى قد أجرت ابن اختى، فانكشف الناس عنى، قال: فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام.
قال ابن عباس: لما أسلم عمر قال جبريل للنبى- صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر «1» . رواه ابن ماجه.
ولما رأت قريش عزة النبى- صلى الله عليه وسلم بمن معه، وإسلام عمر، وعزة أصحابه بالحبشة، وفشو الإسلام فى القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم، فبلغ أبا طالب، فجمع بنى هاشم وبنى المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية.
فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب: ألاينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا حتى يسلموا رسول الله- صلى الله عليه وسلم للقتل.
وكتبوه فى صحيفة بخط منصور بن عكرمة- وقيل بغيض بن عامر- فشلت يده، وعلقوا الصحيفة فى جوف الكعبة، هلال المحرم سنة سبع من النبوة.
فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه فى شعبه، إلا أبا لهب فكان مع قريش. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وقال ابن سعد:
سنتين حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شىء إلا سرّا.
وقدم نفر من مهاجرة الحبشة، حين قرأ- صلى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى حتى بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «2» ألقى الشيطان فى أمنيته أى فى تلاوته: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فلما
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1030) فى المقدمة، باب فضل عمر- رضى الله عنه-، والحاكم فى مستدركه (3/ 90) ، والطبرانى فى الكبير (11/ 80) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4765) .
(2)
سورة النجم: 1- 20.
ختم السورة «سجد- صلى الله عليه وسلم وسجد معه المشركون» «1» لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير، وفشا ذلك فى الناس، وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه.
وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا معه- صلى الله عليه وسلم، وقد أمن المسلمون بمكة، فأقبلوا سراعا من الحبشة.
والغرانيق فى الأصل: الذكور من طير الماء واحدها: غرنوق وغرنيق، سمى به لبياضه. وقيل: هو الكركى.
والغرنوق أيضا: الشاب الأبيض الناعم.
وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله، وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التى تعلوا فى السماء وترتفع.
ولما تبين للمشركين عدم ذلك، رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه.
وقد تكلم القاضى عياض- رحمه الله فى «الشفاء» على هذه القصة وتوهين أصلها بما يشفى ويكفى، لكن تعقب فى بعضه كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.
وقال الإمام فخر الدين الرازى- مما لخصته من تفسيره- هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها. قال الله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2» . وقال الله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «3» .
وقال البيهقى: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعونون.
(1) ضعيف جدّا: وقد قال الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (3/ 230) : طرقه كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم، ا. هـ. وكذا انظر كلام الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (8/ 439) ، وقد ذكره المصنف بعد قليل على طوله.
(2)
سورة النجم: 3، 4.
(3)
سورة الأعلى: 6.
وأيضا: فقد روى البخارى فى صحيحه أنه- صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد، وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق، بل روى هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان فى نفى الأوثان، ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا فى كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك. ويبطل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «1» . فإنه لا فرق فى الفعل بين النقصان فى الوحى وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه، عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. وقد قيل: إن هذه القصة من وضع الزنادقة لا أصل لها. انتهى.
وليس كذلك. بل لها أصل.
فقد خرجها: ابن أبى حاتم، والطبرى، وابن المنذر، من طرق عن شعبة، عن ابن بشر، عن سعيد بن جبير.
وكذا ابن مردويه، والبزار، وابن إسحاق فى السيرة، وموسى بن عقبة فى المغازى، وأبو معشر فى السيرة.
كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال: إن طرقها كلها مرسلة وأنه لم يرها مسندة من وجه صحيح «2» . وهذا متعقب بما سيأتى:
وكذا نبه على ثبوت أصلها شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل العسقلانى فقال: أخرج ابن أبى حاتم والطبرى وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبى
(1) سورة المائدة: 67.
(2)
قاله فى «تفسيره» (3/ 230) .
بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم، بمكة والنجم، فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «2» الآية.
وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال: فى إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فيما أحسب، ثم ساق الحديث.
وقال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد. وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور «3» .
قال، وإنما يروى هذا من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس.
انتهى، والكلبى متروك لا يعتمد عليه.
وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدى.
وذكرها ابن إسحاق فى السيرة مطولا، وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك عن موسى بن عقبة فى المغازى عن ابن شهاب الزهرى.
وكذا أبو معشر فى السيرة له عن محمد بن كعب القرظى ومحمد بن قيس وأورده من طريق الطبرى.
وأورده ابن أبى حاتم من طريق أسباط عن السدى.
ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب عن يحيى بن كثير عن الكلبى عن أبى صالح، وعن أبى بكر الهذلى، وأيوب عن عكرمة، وعن سليمان التيمى عمن حدثه، ثلاثتهم عن ابن عباس.
وأوردها الطبرى أيضا من طريق العوفى عن ابن عباس. ومعناهم كلهم فى ذلك واحد.
(1) سورة النجم: 19، 20.
(2)
سورة الحج: 52.
(3)
انظر «مجمع الزوائد» للهيثمى (7/ 71، 115) .
وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع. لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا.
مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح.
أحدهما: ما أخرجه الطبرى من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب:
حدثنى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه.
والثانى: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبى هند، عن أبى العالية.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تجرأ ابن العربى- كعادته- فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة لا أصل لها. وهو إطلاق مردود عليه.
وكذا قول القاضى عياض:
«ثم رده من طريق النظر: بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم. قال:
ولم ينقل ذلك» . انتهى.
وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد:
فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا.
وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل
يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض.
وإذا تقرر ذلك: تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره، لأنه يستحيل عليه- صلى الله عليه وسلم أن يزيد فى القرآن عمدا ما ليس فيه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته.
وقد سلك العلماء فى ذلك مسالك:
فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته، وهذا أخرجه الطبرى عن قتادة.
ورده القاضى: عياض: بأنه لا يصح، لكونه لا يجوز على النبى صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا ولاية للشيطان عليه فى النوم.
وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره. ورده ابن العربى بقوله تعالى، حكاية عن الشيطان: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «1» الآية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقى لأحد قوة على طاعة.
وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك، فعلق بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى ذلك على لسانه لما ذكرهم سهوا.
وقد رد ذلك القاضى عياض فأجاد.
وقيل: لعله قال ذلك توبيخا للكفار.
قال القاضى عياض: وهذا جائز إذا كانت قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام فى ذلك الوقت جائزا فى الصلاة.
وإلى هذا نحا الباقلانى.
(1) سورة إبراهيم: 22.
وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» . خشى المشركون أن يأتى بعدها بشىء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوه فى تلاوة النبى- صلى الله عليه وسلم على عادتهم فى قوله:(لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) ونسب ذلك إلى الشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك. أو المراد بالشيطان شيطان الإنس.
وقيل المراد بالغرانيق العلى، الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله، ويعبدونها، فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «2» فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: إنه عظم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ الله تينك الكلمتين وأحكم آياته.
وقيل: كان النبى- صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن، فارتصده الشيطان فى سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمة النبى- صلى الله عليه وسلم بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله، وأشاعها.
قال: وهذا أحسن الوجوه، ويؤيد ما ورد عن ابن عباس فى تفسير «تمنى» ب «تلا» .
وكذا استحسن ابن العربى هذا التأويل وقال: معنى قوله: فى أمنيته، أى فى تلاوته، فأخبر الله تعالى فى هذه الآية أن سنة الله فى رسله، إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص فى أن الشيطان زاد فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم، لا أن النبى- صلى الله عليه وسلم قاله.
وقد سبق إلى ذلك الطبرى، مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده فى النظر، فصوب هذا المعنى. انتهى» .
ثم هاجر المسلمون الثانية إلى أرض الحبشة. وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم، وثمانى عشرة امرأة.
(1) سورة النجم: 20.
(2)
سورة النجم: 21.
(3)
انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (8/ 439- 440) .
وكان معهم عبيد الله بن جحش مع امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان، فتنصر هناك ثم توفى على دين النصرانية. وتزوج رسول الله- صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان سنة سبع من الهجرة إلى المدينة، وهى بالحبشة كما سيأتى إن شاء الله تعالى فى المقصد الثانى عند ذكر أزواجه- صلى الله عليه وسلم.
وخرج أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- مهاجرا إلى الحبشة حتى بلغ برك الغماد «1» ورجع فى جوار سيد القارة، مالك بن الدغنة- بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة، وتخفيف النون. وبضم الدال والغين وتشديد النون- يعبد ربه فى داره، وابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه. وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فقالوا لابن الدغنة: إنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربّه فى داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك.
فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإنى أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله «2» . الحديث رواه البخارى.
ثم قام رجال فى نقض الصحيفة، فأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم على أن الأرضة «3» أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا اسم الله تعالى فقط، فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال- صلى الله عليه وسلم وذلك فى السنة العاشرة.
(1) موضع بين مكة وزبيد، وقيل غير ذلك.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (2298) فى الكفالة، باب: جوار أبى بكر فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وعقده، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3)
الأرضة: دودة بيضاء شبه النمل تأكل الخشب خاصة، ومنها نوع مثل كبار النمل ذوات أجنحة، تأكل الخشب وغيره، غير أنها لا تعرض للرطب، وهى ذات قوائم.
ولما أتت عليه- صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، مات عمه أبو طالب، وله سبع وثمانون سنة.
وقيل فى النصف من شوال من السنة العاشرة.
وقال ابن الجزار: قبل هجرته- عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين.
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم كان يقول له عند موته: يا عم قل لا إله إلا الله.
كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة.
فلما رأى أبو طالب حرص الرسول- صلى الله عليه وسلم قال له: والله يابن أخى، لولا مخافة قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه فقال: يابن أخى، والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بها فقال صلى الله عليه وسلم: لم أسمعه. كذا رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت.
ورواه البيهقى فى الدلائل من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثنا العباس عن عبد الله بن معبد بن عباس عن بعض أهله عن ابن عباس فذكره «1» ، وقال البيهقى: إنه منقطع.
وأجيب عنه: بأن شهادة العباس لأبى طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد بقوله- صلى الله عليه وسلم لم أسمع، لأن الشاهد العدل إذا قال سمعت وقال من هو أعدل منه: لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع. ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم.
مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبى طالب الوفاة على الكفر والشرك، كما روينا فى صحيح البخارى من حديث سعيد بن المسيب. حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا
(1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 346) بسند ضعيف للجهالة فيه.
أُولِي قُرْبى «1» . وأنزل الله فى أبى طالب، فقال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «2» .
وأجيب أيضا بأن أبا طالب لو قال كلمة التوحيد، ما نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار له.
وفى الصحيح عن العباس أنه قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح «3» .
وفى رواية الصحيح أيضا أنه- صلى الله عليه وسلم قال: لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه «4» .
وفى رواية يونس عن ابن إسحاق زيادة فقال: يغلى منه دماغه حتى يسيل على قدميه.
قال السهيلى: من باب النظر فى حكمة الله، ومشاكلة الجزاء للعمل، أن أبا طالب كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم بجملته متحزبا له، إلا أنه كان متثبتا بقدميه على ملة عبد المطلب، حتى قال عند الموت: أنا على ملة عبد المطلب، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه. ثبتنا الله على الصراط المستقيم.
وفى شرح التنقيح للقرافى: الكفار أربعة أقسام، فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما حكى عن أبى طالب أنه كان
(1) سورة التوبة: 113.
(2)
سورة القصص: 56.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (3883) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (209) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى- صلى الله عليه وسلم لأبى طالب والتخفيف عنه بسببه.
(4)
صحيح: أخرجه البخارى (3885) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (21) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى- صلى الله عليه وسلم لأبى طالب، والتخفيف عنه بسببه، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
يقول: إنى لأعلم أن ما يقوله ابن أخى لحق، ولولا أنى أخاف أن تعيرنى نساء قريش لاتبعته. وفى شعره يقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
…
يقينا ولا يعزى لقول الأباطل
فإن هذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن. انتهى.
وحكى عن هشام بن السائب الكلبى، أو أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جمع إليه وجوه قريش، فأوصاهم فقال:
يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه. إلى أن قال: وإنى أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين فى قريش، والصديق فى العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنان «1» ، وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر والأطراف، والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهى. ثم هلك.
ثم بعد ذلك بثلاثة أيام- وقيل: بخمسة- فى رمضان بعد البعثة بعشر سنين، على الصحيح، ماتت خديجة- رضى الله عنها-.
وكان- صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن، فيما ذكر صاعد وكانت مدة إقامتها معه- صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح. ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج- عليه السلام سودة بنت زمعة.
ثم خرج- عليه السلام إلى الطائف بعد موت خديجة بثلاثة أشهر، فى ليال
(1) الشنان: البغض.
بقين من شوال، سنة عشر من النبوة. لما ناله من قريش بعد موت أبى طالب. وكان معه زيد بن حارثة.
فأقام به شهرا، يدعو ثقيف إلى الله تعالى فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه.
قال موسى بن عقبة: ورجموا عراقيبه «1» بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، زاد غيره: وكان إذا أزلفته الحجارة قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج فى رأسه شجاجا.
وفى البخارى ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبى- صلى الله عليه وسلم، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، قال:«لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت- وأنا مهموم على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل- عليه السلام، فنادانى» . فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فنادانى ملك الجبال، فسلم علىّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين «2» قال- صلى الله عليه وسلم:«بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» «3» .
وعبد ياليل- بالتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم
(1) العرقوب: ما فويق العقب من قدم الإنسان.
(2)
الأخشبان: الجبلان المحيطان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل شرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ الحجارة.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (3231) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (1795) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين.
لام- ابن عبد كلال- بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام- وكان ابن عبد ياليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف.
وقرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل.
وأفاد ابن سعد: أن مدة إقامته- صلى الله عليه وسلم بالطائف كانت عشرة أيام.
ولما انصرف- صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف، مر فى طريقه بعتبة وشيبة ابنى ربيعة وهما فى حائط لهما، فلما رأيا ما لقى تحركت له رحمهما، فبعثا له مع عداس النصرانى- غلامهما- قطف عنب، فلما وضع- صلى الله عليه وسلم يده فى القطف قال: بسم الله، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «من أى البلاد أنت.
وما دينك؟» قال نصرانى من نينوى. فقال- صلى الله عليه وسلم: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» قال: وما يدريك؟ قال: «ذاك أخى، وهو نبى مثلى» . فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم.
ولما نزل نخلة- وهو موضع على ليلة من مكة- صرف الله إليه سبعة من جن نصيبين- مدينة بالشام- وكان- صلى الله عليه وسلم قد قام فى جوف الليل يصلى فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن.
وفى الصحيح أن الذى آذنه- صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما، وكل بعر علف لدوابكم «1» .
وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب.
وذكر صاحب الروض من أسماء السبعة الذين أتوه- صلى الله عليه وسلم، عن ابن دريد: منشى وناشى وشاصر وماضر والأحقب. لم يزد تسمية على هؤلاء.
قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر ابن إسحاق خروجه- عليه السلام إلى أهل
(1) صحيح: أخرجه مسلم (450) فى الصلاة، باب: الجهر بالقراءة فى الصبح، والقراءة على الجن، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
الطائف ودعاءه إياهم، وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن من أهل نصيبين.
قال: وهذا صحيح، لكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم فى ابتداء الإيحاء، ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد قال: كان الجن يستمعون الوحى فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوه حقّا وما زادوه باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتى مقعده إلا رمى بشهاب يحرق ما أصاب منه، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبعث جنوده فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم يصلى بين جبلى نخلة فأخبروه فقال:«هذا الحدث الذى حدث فى الأرض» «1» .
ورواه النسائى وصححه الترمذى.
قال: وخروجه- صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه.
وروى ابن أبى شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبى- صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل الله عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «2» .
فهذا مع رواية ابن عباس تقتضى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم فى هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما وفوجا بعد فوج. انتهى.
وفى طريقه- عليه السلام هذه، دعا بالدعاء المشهور:
«اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، إلى من
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3324) فى التفسير، من سورة الجن وأحمد فى «مسنده» (1/ 274) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 46) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2)
سورة الأحقاف: 29.
تكلنى إلى عدو بعيد يتجهمنى أم إلى صديق قريب ملكته أمرى، إن لم تكن غضبان على فلا أبالى، غير أن عافيتك أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بى غضبك، أو يحل بى سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» «1» .
أورده ابن إسحاق، ورواه الطبرانى فى كتاب الدعاء عن عبد الله بن جعفر قال: لما توفى أبو طالب، خرج النبى- صلى الله عليه وسلم ماشيا إلى الطائف، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال:
اللهم إليك أشكو. فذكره.
وقوله: يتجهمنى- بتقديم الجيم على الهاء- أى يلقانى بالغلظة والوجه الكريه.
ثم دخل- صلى الله عليه وسلم مكة فى جوار المطعم بن عدى.
ولما كان فى شهر ربيع الأول أسرى بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات، ورأى ربه بعينى رأسه «2» ، وأوحى الله إليه ما أوحى، وفرض عليه الصلوات الخمس، ثم انصرف فى ليلته إلى مكة.
فأخبر بذلك، فصدقه الصديق، وكل من آمن بالله.
وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فمثله الله له، فجعل ينظر إليه ويصفه «3» .
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات، كما فى «المجمع» (6/ 35) .
(2)
قلت: جمهور السلف، على أن رؤية الله عز وجل مستحيلة فى الحياة الدنيا، لقوله عز وجل لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الآية، ولحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم الذى رواه مسلم (291) عن أبى ذر: قلت هل رأيت ربك يا رسول الله؟ قال: نور أنى أراه؟ وهو تصريح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم ينفى إمكانية الرؤية فى الحياة الدنيا، ولكن إشكال هذا الأمر هو ما ورد عن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فالراجح من قوله أنه لعله يقصد رؤية القلب، لا رؤية العين، وهذا جائز عندنا.
(3)
انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 36) .
قال الزهرى: وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين. حكاه عنه القاضى عياض، ورجحه القرطبى والنووى. واحتج: بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.
وتعقب: بأن موت خديجة بعد البعثة بعشر سنين على الصحيح فى رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلاة. ويؤيده إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما التردد فى سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر.
وقيل: قبل الهجرة بسنة. قاله ابن حزم، وادعى فيه الإجماع.
وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السدى وأخرجه من طريقه الطبرى والبيهقى، فعلى هذا كان فى شوال.
وقيل: كان فى رجب. حكاه ابن عبد البر، وقبله ابن قتيبة، وبه جزم النووى فى الروضة.
وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، فعلى هذا يكون فى ذى الحجة، وبه جزم ابن فارس.
وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكره ابن الأثير.
وقال الحربى: إنه كان فى سابع عشرى ربيع الآخر، وكذا قال النووى فى فتاويه، لكن قال فى شرح مسلم: فى ربيع الأول.
وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب، واختاره الحافظ عبد الغنى ابن سرور المقدسى.
وأما اليوم الذى يسفر عن ليلتها، فقيل الجمعة، وقيل السبت وعن ابن دحية: يكون إن شاء الله يوم الاثنين، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات: وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة.
وسيأتى- إن شاء الله تعالى- فى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث والله الموفق والمعين.
ولما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج صلى الله عليه وسلم فى الموسم الذى لقى فيه الأنصار- الأوس والخزرج-.
فعرض نفسه- صلى الله عليه وسلم على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة، لقى رهطا من الخزرج، أراد الله بهم خيرا، فقال لهم:
«من أنتم» قالوا: نفر من الخزرج، قال:«أفلا تجلسون أكلمكم» قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن «1» .
وكان من صنع الله، أن اليهود كانوا معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا:
إن نبيّا سيبعث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه. فلما كلمهم النبى صلى الله عليه وسلم عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا اليهود إليه.
فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، فأسلم منهم ستة نفر وكلهم من الخزرج وهم:
أبو أمامة، أسعد بن زرارة.
وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء.
ورافع بن مالك بن العجلان.
وقطبة بن عامر بن حديدة.
وعقبة بن عامر بن نابى.
وجابر بن عبد الله بن رئاب، وليس بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام.
(1) انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 63) .
ومن أهل العلم بالسير، من يجعل فيهم عبادة بن الصامت ويسقط جابر ابن رئاب.
فقال لهم النبى- صلى الله عليه وسلم: «تمنعون ظهرى حتى أبلغ رسالة ربى» .
فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث عام الأول، يوم من أيامنا، اقتتلنا به، فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا، لعل الله أن يصلح ذات بيننا، وندعوهم إلى ما دعوتنا، فعسى الله أن يجمعهم عليك، فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل.
وانصرفوا إلى المدينة. ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا- وفى الإكليل: أحد عشر- وهى العقبة الثانية، فيهم خمسة من الستة المذكورين، وهم: أبو أمامة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابى، ولم يكن فيهم جابر بن عبد الله بن رئاب لم يحضرها.
والسبعة تتمة الاثنى عشر هم:
معاذ بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور.
وذكوان بن عبد قيس الزرقى، وقيل إنه رحل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجرى أنصارى قتل يوم أحد.
وعبادة بن الصامت بن قيس.
وأبو عبد الرحمن، ويزيد بن ثعلبة البلوى.
والعباس بن عبادة بن نضلة.
وهؤلاء من الخزرج، ومن الأوس رجلان:
أبو الهيثم بن التيهان، من بنى عبد الأشهل.
وعويم بن ساعدة.
فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، أى وفق بيعتهم التى نزلت بعد ذلك عند فتح مكة وهى: ألانشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفترينه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، والسمع والطاعة فى العسر واليسر، والمنشط والمكره وأثره علينا، وألاننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم. قال صلى الله عليه وسلم:«فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشى من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه» «1» ولم يفرض يومئذ القتال.
ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام.
وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم.
وكتبت الأوس والخزرج إلى النبى- صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير.
وروى الدار قطنى عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمع بهم.. الحديث، وكانوا أربعين رجلا.
فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصار، وأسلم فى جماعتهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وأسلم بإسلامهما جميع بنى عبد الأشهل فى يوم واحد، الرجال والنساء، ولم يبق منهم أحد إلا أسلم، حاشا الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر بإسلامه إلى يوم أحد، فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة واحدة، وأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة. ولم يكن فى بنى عبد الأشهل منافق ولا منافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين- رضى الله عنهم-.
ثم قدم على النبى- صلى الله عليه وسلم فى العقبة الثالثة فى العام المقبل فى ذى الحجة، أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا- وقال ابن سعد: يزيدون رجلا أو رجلين- وامرأتان.
(1) صحيح: أخرجه البخارى بنحوه (18) فى الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار، ومسلم (1709) فى الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها، من حديث عبادة بن الصامت- رضى الله عنه-.
وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون وامرأتان.
وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا.
فكان أول من ضرب على يده الشريفة- عليه السلام البراء بن معرور.
ويقال: أبو الهيثم، ويقال أسعد بن زرارة، على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وعلى حرب الأحمر والأسود.
وكانت أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ «1» الآية، وفى الإكليل إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» الآية.
ونقب عليهم اثنى عشر نقيبا.
وفى حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان:
مكث- صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتتبع الناس فى منازلهم فى المواسم بمنى وغيرها، يقول: من يؤوينى؟ من ينصرنى حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة؟ حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فذكر الحديث. وفيه: وعلى أن تنصرونى إذا قدمت عليكم بيثرب، فتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة «3» الحديث.
وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم، ومؤكدا على أهل يثرب، وكان يومئذ على دين قومه.
قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول الله- صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكانت سرّا عن كفار قريش، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم من كان معه بالهجرة إلى المدينة. فخرجوا أرسالا، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له فى الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد، قبل بيعة العقبة بسنة،
(1) سورة الحج: 39.
(2)
سورة التوبة: 111.
(3)
صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 322) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7012)، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 681) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال.
قدم من الحبشة لمكة، فاذاه أهلها، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم.
ثم عامر بن ربيعة وامرأته ليلى، ثم عبد الله بن جحش. ثم المسلمون أرسالا، ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد وعياش بن أبى ربيعة فى عشرين راكبا، فقدموا المدينة فنزلوا فى العوالى.
ثم خرج عثمان بن عفان، حتى لم يبق معه- صلى الله عليه وسلم إلا على بن أبى طالب وأبو بكر.
كذا قاله ابن إسحاق، قال مغلطاى وفيه نظر لما يأتى بعده.
وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى الهجرة فيقول: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكون هو.
ثم اجتمعت قريش ومعهم إبليس، فى صورة شيخ نجدى فى دار الندوة، دار قصى بن كلاب، وكانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون فى أمره- عليه الصلاة والسلام، فاجتمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك.
فإن قيل: لم تمثل الشيطان فى صورة نجدى؟
فالجواب: لأنهم قالوا- كما ذكره بعض أهل السير- لا يدخلن معكم فى المشاورة أحد من أهل تهامة، لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل فى صورة نجدى. انتهى.
ثم أتى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر- صلى الله عليه وسلم عليّا فنام مكانه، وغطى ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه فى الله ووقى بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم وفى ذلك يقول على:
وقيت بنفسى خير من وطىء الثرى
…
ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به
…
فنجاه ذو الطول الإله من المكر
ثم خرج- صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد منهم، ونثر على رؤسهم كلهم ترابا كان فى يده، وهو يتلو قوله تعالى: يس إلى قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» . ثم انصرف- عليه السلام حيث أراد.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا:
محمدا، قال: قد خيبكم الله، قد والله خرج محمد عليكم، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب.
وفى رواية أبى حاتم، مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا.
وفى هذه نزل قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ «2» الآية.
ثم أذن الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم فى الهجرة. قال ابن عباس: بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً «3» «4» . أخرجه الترمذى وصححه الحاكم.
فإن قلت ما الحكمة فى هجرته- صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل؟
أجيب: بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه- عليه السلام تتشرف به الأشياء، لا أنه يتشرف بها، فلو بقى- عليه السلام فى مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بمكة، إذ أن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل،
(1) سورة يس: 1- 9.
(2)
سورة الأنفال: 30.
(3)
سورة الإسراء: 80.
(4)
أخرجه الترمذى (2139) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وأحمد فى «مسنده» (1/ 223) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 4) ، وصححه الحاكم والترمذى.
فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه- عليه السلام فأمره بالهجرة إلى المدينة، فلما هاجر إليها تشرفت به، حتى وقع الإجماع على أن أفضل البقاع الموضع الذى ضم أعضاءه الكريمة- صلوات الله وسلامه عليه-.
وذكر الحاكم أن خروجه- عليه السلام كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها.
وجزم ابن إسحاق: بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول. فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم الأموى- فى المغازى- عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. قال:
وخرج لهلال ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
قال فى فتح البارى: وعلى هذا خرج يوم الخميس. وقال الحاكم:
تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمى قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس.
ويجمع بينهما: بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين.
وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة، ويدل عليه قول صرمة:
ثوى فى قريش بضع عشرة حجة
…
يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وقيل غير ذلك.
وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر.
وأخبر- عليه السلام عليّا بمخرجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عنده للناس.
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن جلوس يوما فى بيت أبى بكر فى نحر الظهيرة قال قائل لأبى بكر: هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداء له أبى وأمى، والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال- صلى الله عليه وسلم لأبى بكر:«أخرج من عندك» ، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبى وأمى يا رسول الله.
قال السهيلى: وذلك أن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه- صلى الله عليه وسلم قبل ذلك.
فقال- صلى الله عليه وسلم: «إنه قد أذن لى فى الخروج» .
فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت وأمى يا رسول الله.
قال- صلى الله عليه وسلم: «نعم» .
فقال أبو بكر: فخذ بأبى أنت وأمى يا رسول الله إحدى راحلتى هاتين.
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: بل بالثمن «1» .
فإن قلت: لم لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقبل؟
أجيب: بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام فى استكمال فضل الهجرة إلى الله، وأن يكون على أتم الأحوال.
انتهى.
قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت بها على فم الجراب فبذلك سميت بذات النطاقين.
قالت: ثم لحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار ثور- جبل بأسفل مكة-.
(1) أخرجه بنحوه البخارى (2138) فى البيوع، باب: إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض.
وكان من قوله- صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، لما وقف على الحزورة، ونظر إلى البيت فقال:«والله إنك لأحب أرض الله إلى، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» «1» .
وهذا من أصح ما يحتج به فى تفضيل مكة على المدينة.
ولم يعلم بخروجه- عليه السلام إلا على وآل أبى بكر.
وروى أنهما خرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته ليلا إلى الغار.
ولما فقدت قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة أثره فى كل وجه، فوجد الذى ذهب قبل ثور أثره هنا لك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى إلى ثور.
وشق على قريش خروجه وجزعوا لذلك، وجعلوا مائة ناقة لمن رده.
ولله در الشيخ شرف الدين البوصيرى حيث قال:
ويح قوم جفوا نبيّا بأرض
…
ألفته ضبابها والظباء
وسلوه وحن جذع إليه
…
وقلوه ووده الغرباء
أخرجوه منها وآواه غار
…
وحمته حمامة ورقاء
وكفته بنسجها عنكبوت
…
ما كفته الحمامة الحصداء
يقال شجرة حصداء: أى كثيرة الورق، فكأنه استعاره للحمامة لكثرة ريشها.
وفى حديث مروى فى الهجرة أنه- عليه السلام ناداه ثبير: اهبط عنى، فإنى أخاف أن تقتل على ظهرى فأعذب، فناداه حراء: إلىّ يا رسول الله.
وذكر قاسم بن ثابت فى الدلائل أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3925) فى المناقب، باب: فى فضل مكة، وابن ماجه (3108) فى المناسك، باب: فضل مكة، وأحمد فى «مسنده» (4/ 305) ، وابن حبان فى «صحيحه» (3708) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 8 و 315) ، من حديث عدى بن حمراء الزهرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
وأبو بكر معه، أنبت الله على بابه الراءة. قال قاسم: وهى شجرة معروفة، وهى أم غيلان. وعن أبى حنيفة «1» : تكون مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر أبيض تحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه، لأنه كالقطن، فحجبت عن الغار أعين الكفار.
وفى مسند البزار: أن الله عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وأن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين «2» .
ثم أقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، فجعل بعضهم ينظر فى الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه فقالوا له: مالك؟
قال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر:
ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: ما أربكم إلى الغار، إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد» .
وقد روى أن الحمامتين باضتا فى أسفل النقب ونسج العنكبوت، فقالوا: لو دخلا لتكسر البيض وتفسخ نسج العنكبوت. وهذا أبلغ فى الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود.
فتأمل كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت الطالب، وجاءت العنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان فحاكت ثوب نسجها، فحاكت سترا حتى عمى على القائف الطلب ولله در القائل:
والعنكبوت أجادت حوك حلتها
…
فما تخال خلال النسج من خلل
(1) هو: أحمد بن داود الدينورى النحوى، تلميذ ابن السكيت، ألف فى اللغة والنحو والهندسة، مات سنة (282 هـ) وهو غير الإمام أبى حنيفة صاحب المذهب المشهور.
(2)
ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 231) بنحوه وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، ومصعب المكى، والذى روى عنه، وهو عوين بن عمرو القيسى لم أجد من ترجمهما، وبقية رجاله ثقات.
(3)
انظر ما قبله.
ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك، وما أحسن قول ابن النقيب:
ودود القز إن نسجت حريرا
…
يجمل لبسه فى كل شى
فإن العنكبوت أجل منها
…
بما نسجت على رأس النبى
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أعم أبصارهم» «1» ، فعميت عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. وهذا يشير إليه قول صاحب البردة:
أقسمت بالقمر المنشق «2» إن له
…
من قلبه نسبة مبرورة القسم
وما حوى الغار من خير ومن كرم
…
وكل طرف من الكفار عنه عم
فالصدق فى الغار والصديق لم ير ما
…
وهم يقولون ما بالغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على
…
خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
…
من الدروع وعن عال من الأطم
أى عموا عما فى الغار مع خلق الله ذلك فيهم، لأنهم ظنوا أن الحمام لا يحوم حوله- صلى الله عليه وسلم وأن العنكبوت لا تنسج عليه لما جرت العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا، فمهما أحسا بالإنسان فرا منه، وما علموا أن الله تعالى يسخر ما شاء من خلقه لمن شاء من عباده، وأن وقاية عبده بما شاء تغنى عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع، وعن التحصن بالعالى من الأطم، وهى الحصون، فلله در الأبوصيرى شاعرا، وما أحسن قوله فى قصيدته اللامية حيث قال:
واغيرتا حين أضحى الغار وهو به
…
كمثل قلبى معمور ومأهول
كأنما المصطفى فيه وصاحبه ال
…
صديق ليثان قد آواهما غيل
وجلل الغار نسج العنكبوت على
…
وهن فيا حبذا نسج وتجليل
(1) أخرجه ابن حجر فى «تخريج أحاديث الكشاف» (ص 76) .
(2)
الذى يقسم بالمخلوقات، هو الله عز وجل، أما نحن فلا يجوز لنا أن نقسم إلا به سبحانه، أو بأحد أسمائه أو صفاته، لحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«لا تحلف إلا بالله» الحديث.
عناية ضل كيد المشركين بها
…
وما مكائدهم إلا الأضاليل
إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما
…
كأن أبصارهم من زيغها حول
وفى الصحيح عن أنس قال أبو بكر: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«ما ظنك باثنين الله ثالثهما» «1» .
وروى أن أبا بكر قال: نظرت إلى قدمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى الغار وقد تفترتا دما فاستبكيت وعلمت أنه- صلى الله عليه وسلم لم يكن تعود الحفا والجفوة.
وروى أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم ليقيه بنفسه، وأنه رأى جحرا فيه، فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فجعلت الحيات والأفاعى تضربنه وتلسعنه، فجعلت دموعه تتحدر. وفى رواية: فدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه فى حجر أبى بكر فنام، فلدغ أبو بكر فى رجله من الجحر ولم يتحرك فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا أبا بكر؟ فقال لدغت فداك أبى وأمى، فتفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده. رواه رزين.
وروى أيضا: أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «2» . يعنى بالمعونة والنصر، فأنزل الله سكينته- وهى أمنة تسكن عندها القلوب- على أبى بكر لأنه كان منزعجا، وأيده- يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم بجنود لم تروها من الملائكة ليحرسوه فى الغار، أو ليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته «3» .
انظر، لما رأى الرسول حزن الصديق قد اشتد لكن لا على نفسه، قوى
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3653) فى المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر عبد الله بن أبى قحافة التيمى- رضى الله عنه-، ومسلم (2381) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-.
(2)
سورة التوبة: 40.
(3)
أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 2) بنحوه، من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-.
قلبه ببشارة لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «1» وكانت تحفة «ثانى اثنين» مدخرة له دون الجميع، فهو الثانى فى الإسلام والثانى فى بذل النفس والعمر وسبب الموت لما وقى الرسول- صلى الله عليه وسلم بماله ونفسه وجوزى بمواراته معه فى رمسه، وقام مؤذن التشريف ينادى على منائر الأمصار «ثانى اثنين إذ هما فى الغار» ولقد أحسن حسان حيث قال:
وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد
…
طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا
…
من الخلائق لم يعدل له بدلا
وتأمل قول موسى- عليه السلام لبنى إسرائيل: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «2» . وقول نبينا- صلى الله عليه وسلم للصديق: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «3» فموسى خص بشهود المعية ولم يتعد منه إلى أتباعه، ونبينا تعدى منه إلى الصديق، ولم يقل «معى» لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة على أبى بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلى والشهود، وأين معية الربوبية فى قصة موسى- عليه السلام من معية الإلهية فى قصة نبينا صلى الله عليه وسلم. قاله العارف شمس الدين بن اللبان.
وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين، مرة على داود حين كان طالوت يطلبه، ومرة على النبى صلى الله عليه وسلم فى الغار «4» .
وكذا نسجت على الغار الذى دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه- صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن نبيح الهذلى بعرنة، فقتله ثم حمل رأسه ودخل فى غار فنسجت عليه العنكبوت، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين.
وفى تاريخ ابن عساكر: أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن
(1) سورة التوبة: 40.
(2)
سورة الشعراء: 62.
(3)
سورة التوبة: 40.
(4)
أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (5/ 197) .
على بن الحسين بن على بن أبى طالب لما صلب عريانا فى سنة إحدى وعشرين ومائة.
وكان مكثه- صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فى الغار ثلاث ليال، وقيل بضعة عشر يوما. والأول هو المشهور.
وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر، وهو غلام شاب ثقف- أى ثابت المعرفة بما يحتاج إليه لقن- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت معهم، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام.
ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبى بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان فى رسل، وهو لبن منحتهما، يفعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث.
واستأجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، عبد الله بن الأريقط دليلا- وهو على دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام- فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال.
فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم على طريق السواحل، فمروا بقديد على أم معبد- عاتكة بنت خالد الخزاعية- وكانت برزة جلدة، تحتبى بفناء القبة، ثم تسقى وتطعم.
وكان القوم مرملين مسنتين «1» ، فطلبوا لبنا ولحما يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى كسر الخيمة، خلفها الجهد عن الغنم، فسألها رسول الله- صلى الله عليه وسلم «هل بها من لبن» فقالت: لهى أجهد من ذلك، فقال:«أتأذنين لى أن أحلبها» فقالت: نعم بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها، وسمى الله، فتفاجت ودرت، ودعا بإناء يربض الرهط- أى يشبع الجماعة حتى يربضوا-
(1) شرح المصنف معانى هذه الكلمات بعد سرده للحديث، فانظرها هناك.
فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى علا بعد نهل، ثم غادره عندها وذهبوا.
فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد- قال السهيلى: لا يعرف اسمه، وقال العسكرى: أكثم بن أبى الجون، ويقال: ابن الجون- يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزالا، مخهن قليل.
فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاء عازب حيال، ولا حلوب فى البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مربنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. فقال: صفيه يا أم معبد.
فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة. مليح الوجه حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى صوته صحل، أحور أكحل، أزج أقرن، شديد سواد الشعر، فى عنقه سطع، وفى لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
فقال: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لا تبعته «1» .
قالت أسماء بنت أبى بكر: ولما خفى علينا أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك؟ فقلت: والله لا أدرى أين أبى، قالت: فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدى لطمة خرج منها قرطى، قالت: ثم انصرفوا.
ولما لم ندر أين توجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم، أتى رجل من الجن يسمعون صوته ولا يرونه، وهو ينشد هذه الأبيات:
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 178) .
جزى الله رب الناس خير جزائه
…
رفيقين حلا خيمتى أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا
…
فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لقصى ما زوى الله عنكم
…
به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
…
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
…
له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب
…
يرددها فى مصدر ثم مورد «1»
فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه- صلى الله عليه وسلم.
وقوله: مرملين: أى نفدت أزوادهم. ومسنتين: أى مجدبين، ويروى:
مشتين: دخلوا الشتاء. وكسر الخيمة: - بكسر الكاف وفتحها، وسكون السين- جانبها.
وتفاجت: بتشديد الجيم- فتحت ما بين رجليها. ويربض الرهط: - بضم المثناة التحتية، وكسر الموحدة- أى يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. من أربض فى المكان يربض: إذا لصق به وأقام. والثج:
السيلان. وفى رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال- بضم المثلاثة- الرغوة واحدة: ثمالة. والبهاء أى بهاء اللبن: وهو وبيص رغوته. وتساوكن هزالا:
أى تمايلن، ويروى: تشاركن من المشاركة، أى تساوين فى الهزال. وغادره:
بالغين المعجمة- أبقاه والشاء عازب، أى بعيدة المرعى.
والأبلج: - بالجيم- المشرق الوجه المضيئة. والحيال: - بكسر الحاء المهملة- جمع حائل، وهى التى ليس بها حمل. والوضاءة: الحسن.
والثجلة: - بفتح الثاء المثلاثة، وسكون الجيم- عظم البطن، ويروى بالنون والحاء: أى نحول ودقة. والصعلة: - بفتح الصاد- صغر الرأس، وهى أيضا
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 179) .
الدقة والنحول فى البدن. والوسيم: الحسن، وكذلك: القسيم. وفى عينيه دعج: أى سواد. والوطف: قال فى القاموس: محركة، كثرة شعر الحاجبين والعينين. وفى صوته صحل: - بالتحريك- وهو كالبحة- بضم الموحدة- أن لا يكون حاد الصوت. وأحور: قال فى القاموس: الحور- بالتحريك- أن يشتد بياض بياض العين، وسواد سوادها. والكحل: - بفتحتين- سواد فى أجفان العين خلقه، والرجل: أكحل وكحيل. والأزج: الدقيق طرف الحاجبين وفى القاموس: والزجج- محركة- دقة الحاجبين فى طول. والأقرن: المقرون الحاجبين. وفى عنقه سطع: - بفتحتين- أى ارتفاع وطول. وفى لحيته كثاثة:
الكثاثة فى اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة، وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية- بالفتح- وقوم كث- بالضم-. وإذا تكلم سما وعلاه البهاء: أى ارتفع وعلا على جلسائه. وفصل- بالصاد المهملة- ولا نزر- بسكون المعجمة- ولا هذر- بفتحها-: أى بيّن ظاهر، يفصل بين الحق والباطل. ولا تشنؤه من طول: كذا جاء فى رواية، أى لا يبغض لفرط طوله، ويروى: ولا يشنى من طول: أبدل من الهمزة ياء، يقال: شنيته أشنؤه شنأ وشنانا، قاله ابن الأثير. ولا تقتحمه عين من قصر: أى لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا، وكل شىء ازدريته فقد اقتحمته.
ومحفود: أى مخدوم. والمحشود: الذى عنده حشد وهم الجماعة. ولا عابس: من عبوس الوجه. والمفتد: الذى يكثر اللوم وهو التفنيد. والضرة:
لحمة الضرع. وغادرها: أى خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر، انتهى.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدى: حدثنى حزام بن هشام عن أبيه عن أم معبد قالت: بقيت الشاة التى لمس- عليه السلام ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمان عمر بن الخطاب، وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما فى الأرض قليل ولا كثير.
ثم تعرض لهما بقديد سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله أتينا، قال:«كلا» ودعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم،
بدعوات، فساخت قوائم فرسه، وطلب الأمان، فقال: أعلم أن قد دعوتما على، فادعوا لى ولكما أن أراد الناس عنكما ولا أضركما. قال: فوقفا لى، فركبت فرسى حتى جئتهما، قال: ووقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فأخبرتهما أخبار ما يريد بهما الناس، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآنى «1» .
واجتاز- صلى الله عليه وسلم فى وجهه ذلك بعبد يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقى بسنده عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال: ما عندى شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقا حملت عام أول، فما بقى بها لبن، فقال: ادع بها، فاعتقلها- صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعى، ثم حلب فشرب، فقال الراعى: بالله من أنت، فو الله ما رأيت مثلك. فقال: أو تراك تكتم على حتى أخبرك؟ قال نعم، قال: فإنى رسول الله، فقال أنت الذى تزعم قريش أنك صابىء؟ قال: إنهم ليقولون ذلك، قال: فأشهد أنك نبى، وأن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبى، وأنا متبعك، قال:
إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أنى قد ظهرت فائتنا.
قال الحافظ مغلطاى- بعد ذكره لقصة أم معبد-: وفى الإكليل قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد. قال الحاكم: فلا أدرى أهى هى، أم غيرها.
ولما سمع المسلمون بالمدينة خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله- صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودى نفسه فنادى بأعلى صوته يا بنى قيلة هذا
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3906) فى المناقب، باب: هجرة النبى- صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
جدكم- أى حظكم ومطلوبكم- قد أقبل، فخرج إليه بنو قيلة- وهم الأوس والخزرج- سراعا بسلاحهم فتلقوه، فنزل بقباء على بنى عمرو بن عوف..
الحديث رواه البخارى «1» .
وفيه: أن أبا بكر قام للناس، وجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله- صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله- صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
وظاهر هذا أنه- عليه السلام كانت الشمس تصيبه، وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثته، كما هو صريح فى موضعه.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه- عليه السلام لهلال ربيع الأول، أى أول يوم منه.
وفى رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبى معشر، لكن قال: ليلة الاثنين.
وعن ابن سعد: قدمها لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
وفى «شرف المصطفى» من طريق أبى بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول.
وهذا يجمع بينه وبين الذى قبله بالحمل على الاختلاف فى رؤية الهلال.
وقيل: كان حين اشتد الضحاء يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة منه وبه جزم النووى فى كتاب السير من الروضة.
وقال ابن الكلبى: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتى عشرة منه، وقيل لليلتين منه.
(1) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.
وعند البيهقى: لثنتين وعشرين ليلة.
وقال ابن حزم: خرجا من مكة وقد بقى من صفر ثلاث ليال.
وأقام على بمكة بعد مخرج النبى- صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع- وقيل: ثامن- عشر ربيع، وكانت مدة مقامه مع النبى- صلى الله عليه وسلم ليلة أو ليلتين.
وأمر- صلى الله عليه وسلم بالتاريخ فكتب من حين الهجرة.
وقيل: إن عمر أول من أرخ وجعله من المحرم «1» .
وأقام- صلى الله عليه وسلم بقباء فى بنى عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة.
وفى صحيح مسلم: أقام فيهم أربع عشرة ليلة «2» .
ويقال: إنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.
وأسس مسجد قباء الذى أسس على التقوى «3» ، على الصحيح، وهو أول مسجد بنى فى الإسلام وأول مسجد صلى فيه- صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بنى لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذى بناه.
ثم خرج- صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار، فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف فصلاها بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، فى بطن وادى رانوناء- براء مهملة ونونين ممدودا، كعاشوراء وتاسوعاء- واسم المسجد «الغبيب» - بضم الغين المعجمة، تصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة، والوادى: ذى صلب- ولذا سمى مسجد الجمعة، وهو مسجد
(1) قاله ابن الجوزى فى «المنتظم» (4/ 226) .
(2)
صحيح: والحديث أخرجه البخارى (428) فى الصلاة، باب: هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، ومسلم (524) فى المساجد، باب: ابتناء مسجد النبى صلى الله عليه وسلم، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3)
قلت: الذى فى صحيح مسلم (1398) أن المسجد الذى أسس على التقوى هو مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وليس مسجد قباء، وإن كان فيه خير كثير.
صغير مبنى بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء.
وركب- صلى الله عليه وسلم على راحلته بعد الجمعة متوجها إلى المدينة.
وروى أنس بن مالك أنه- صلى الله عليه وسلم أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبى- صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذى بين يديك، قال: فيقول: هذا الرجل يهديناى السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعنى الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير «1» ، الحديث رواه البخارى.
وقد روى ابن سعد أنه- صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر: أله عنى الناس، فكان إذا سئل من أنت قال: باغى حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هذا يهديناى السبيل.
وفى حديث الطبرانى: من رواية أسماء: فكان أبو بكر رجلا معروفا فى الناس، فإذا لقيه لاق يقول لأبى بكر: من هذا معك؟ فيقول: هذا يهدينا [السبيل] يريد الهداية فى الدين، ويحسبه الآخر دليلا «2» .
وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه كان يمر عليهم فى سفره للتجارة، وكان- صلى الله عليه وسلم لم يشب، وكان- صلى الله عليه وسلم أسن من أبى بكر. وفى حديث أنس: لم يكن فى الذين هاجروا أشمط غير أبى بكر «3» .
وكان- صلى الله عليه وسلم كلما مرّ على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم: يا رسول الله، هلم إلى القوة والمنعة، فيقول:«خلوا سبيلها- يعنى ناقته- فإنها مأمورة» «4» .
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3911) فى المناقب، باب: هجرة النبى- صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2)
أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (24/ 106) .
(3)
صحيح: وهو عند البخارى (3911) المتقدم قبل حديث.
(4)
أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 183) .
وقد أرخى زمامها، وما يحركها، وهى تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار مالك بن النجار، بركت على باب المسجد، وهو يومئذ مربد لسهل وسهيل ابنى رافع بن عمرو، وهما يتيمان فى حجر معاذ بن عفراء- ويقال أسعد بن زرارة وهو المرجح- ثم ثارت، وهو- صلى الله عليه وسلم عليها حتى بركت على باب أبى أيوب الأنصارى، ثم ثارت منه وبركت فى مبركها الأول، وألقت جرانها بالأرض- يعنى باطن عنقها أو مقدمه من المذبح- وأزرمت- يعنى صوتت من غير أن تفتح فاها- ونزل عنها- صلى الله عليه وسلم وقال:«هذا المنزل إن شاء الله» .
واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله فى بيته، ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بنى النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب، جده- عليه السلام.
وفى حديث أبى أيوب الأنصارى، عند أبى يوسف يعقوب فى كتاب الذكر والدعاء له قال: نزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت فى العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب قلت لها: رسول الله- صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحى، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب، فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله، ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب، قال:«لم يا أبا أيوب» قلت: كنت أحق بالعلو منا تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحى، لا والذى بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا.
الحديث. ورواه الحاكم أيضا.
وقد ذكر أن هذا البيت الذى لأبى أيوب، بناه له- عليه السلام تبع الأول لما مر بالمدينة وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابا للنبى- صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه للنبى- صلى الله عليه وسلم، فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبى أيوب، وهو من ولد ذلك العالم. قال: وأهل المدينة الذين نصروه صلى الله عليه وسلم من ولد أولئك العلماء. فعلى هذا: إنما نزل فى منزل نفسه، لا فى منزل غيره. كذا حكاه فى تحقيق النصرة.
وفرح أهل المدينة بقدومه- صلى الله عليه وسلم، وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول
الله- صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شىء، وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير عند قدومه يقلن:
طلع البدر علينا
…
من ثنيّات الوداع
وجب الشّكر علينا
…
ما دعا لله داع «1»
قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه- صلى الله عليه وسلم المدينة رواه البيهقى فى الدلائل «2» ، وأبو الحسن بن المقرى فى كتاب الشمائل له عن ابن عائشة، وذكره الطبرى فى الرياض عن أبى الفضل بن الجمحى قال: سمعت ابن عائشة يقول- أراه عن أبيه- فذكره. وقال خرجه الحلوانى على شرط الشيخين. انتهى.
وسميت ثنية الوداع لأنه- صلى الله عليه وسلم ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة فى بعض أسفاره.
وقيل: لأنه- عليه السلام شيع إليها بعض سراياه، فودعه عندها.
وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما.
وصحح القاضى عياض هذا الأخير، واستدل بقول نساء الأنصار حين مقدمه- صلى الله عليه وسلم:
طلع البدر علينا
…
من ثنيّات الوداع
فدل على أنه اسم قديم.
وقال ابن بطال: إنما سميت ثنية الوداع لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقى. انتهى.
قال شيخ الإسلام الولى العراقى: وهذا كله مردود، ففى صحيح البخارى وسنن أبى داود والترمذى عن السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول
(1) زاد رزين:
أيّها المبعوث فينا
…
جئت بالأمر المطاع
(2)
أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 507) .
الله- صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع «1» . قال: وهذا صريح فى أنها من جهة الشام، ولهذا لما نقل والدى- رحمه الله فى شرح الترمذى كلام ابن بطال قال: إنه وهم، قال: وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة. انتهى.
وسبقه إلى ذلك ابن القيم فى الهدى النبوى فقال: هذا وهم من بعض الرواة، لأن ثنية الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك. انتهى.
لكن قال ابن العراقى أيضا: ويحتمل أن تكون الثنية التى من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع. انتهى.
وفى «شرف المصطفى» وأخرجه البيهقى عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبى أيوب خرج جوار من بنى النجار بالدفوف يقلن:
نحن جوار من بنى النجار
…
يا حبذا محمد من جار
فقال- صلى الله عليه وسلم: «أتحببننى» ، قلن: نعم يا رسول الله. وفى رواية الطبرانى فى الصغير فقال- صلى الله عليه وسلم: «الله يعلم قلبى يحبكم» «2» .
وقال الطبرى: وتفرق الغلمان والخدم فى الطرق ينادون جاء محمد، جاء رسول الله.
ووعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىء مصبح فى أهله
…
والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة
…
بواد وحولى إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
…
وهل يبدون لى شامة وطفيل
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3083) فى الجهاد والسير، باب: استقبال الغزاة، وأبو داود (2779) فى الجهاد، باب: فى التلقى، والترمذى (1718) فى الجهاد، باب: ما جاء فى تلقى الغائب إذا قدم.
(2)
أخرجه الطبرانى فى «الصغير» (780) وقال: لم يروه عن عوف إلا عيسى بن يونس، تفرد به مصعب بن سعيد.
اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدنا، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة» .
قالت- يعنى عائشة-: وقدمنا المدينة وهى أوبأ أرض الله، فكان بطحان يجرى نجلا. تعنى: ماء آجنا «1» .
وقال عمر: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك واجعل موتى فى بلد رسولك «2» . رواه البخارى.
وقوله: يرفع عقيرته: أي صوته، لأن العقيرة الساق، كأن الذى قطعت رجله رفعها وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك، حكاه الجوهرى. وشامة وطفيل: عينان بقرب مكة، والمراد بالوادى وادى مكة.
وجليل: نبت ضعيف.
وأقام- صلى الله عليه وسلم عند أبى أيوب سبعة أشهر. وقيل: إلى صفر من السنة الثانية وقال الدولابى: شهرا.
وكان يصلى حيث أدركته الصلاة، ولما أراد- صلى الله عليه وسلم بناء المسجد الشريف، قال:«يا بنى النجار ثامنونى بحائطكم» قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله «3» ، فأبى ذلك- صلى الله عليه وسلم وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبى بكر رضى الله عنه-، وكان قد خرج من مكة بماله كله.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1889) فى الحج، باب: رقم (12) ، ومسلم (1376) فى الحج، باب: الترغيب فى سكنى المدينة، والصبر على لأوائها، من حديث عائشة رضى الله عنها-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (1890) فيما تقدم.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (428) فى المساجد، باب: هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، ومسلم (524) فى المساجد، باب: ابتناء مسجد النبى- صلى الله عليه وسلم، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
قال أنس: وكان فى موضع المسجد نخل وخرب ومقابر مشركين، فأمر بالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطعت، ثم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ، وبنى المسجد وسقف بالجريد، وجعلت عمده خشب النخل، وعمل فيه المسلمون، وكان عمار بن ياسر ينقل لبنتين لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبى صلى الله عليه وسلم فقال له- عليه الصلاة والسلام:«للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية» «1» .
وروينا أنه- صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم اللبن ويقول وهو ينقل [اللبن] :
هذا الحمال لا حمال خيبر
…
هذا أبر ربنا وأطهر
اللهم إن الأجر أجر الآخرة
…
فارحم الأنصار والمهاجرة
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أنه- صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا.
انتهى.
وقد قيل: إن الممتنع عليه- صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا.
وقوله: هذا الحمال: - بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم- أى المحمول من اللبن أبر عند الله من حمال خيبر، أى: التى تحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك.
وفى رواية المستملى بالجيم. انتهى.
وفى كتاب «تحقيق النصرة» قيل: ووضع- عليه السلام رداءه فوضع الناس أرديتهم وهم يقولون:
لئن قعدنا والنبى يعمل
…
ذاك إذا للعمل المضلل
وآخرون يقولون:
لا يستوى من يعمر المساجدا
…
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
(1) تقدم.
وجعلت قبلة المسجد للقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب فى مؤخره، وباب يقال له: باب الرحمة، والباب الذى يدخل منه.
وجعل طوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفى الجانبين مثل ذلك أو دونه.
وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى لعائشة فى البيت الذى يليه شارعا إلى المسجد، وجعل سودة بنت زمعة فى البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلى آل عثمان.
ثم تحول- عليه السلام من دار أبى أيوب إلى مساكنه التى بناها.
وكان قد أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه إلى مكة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة وأسامة بن زيد وأم أيمن، وخرج عبد الله بن أبى بكر معهم بعيال أبيه.
وكان فى المسجد موضع مظلل، تأوى إليه المساكين، يسمى الصفة، وكان أهله يسمون: أهل الصفة، وكان- صلى الله عليه وسلم يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه- عليه السلام.
وفى البخارى من حديث أبى هريرة: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا فى أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساق، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته «1» .
وهذا يشعر بأنهن كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم فى غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبى هريرة.
وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابى والسلمى. والحاكم وأبو
(1) صحيح: أخرجه البخارى (442) فى المساجد، باب: نوم الرجل فى المسجد.
نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفيما ذكروه اعتراض ومناقشة، قاله فى فتح البارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع فى المسجد قائما، فقال: إن القيام قد شق علىّ، فصنع له المنبر.
وكان عمله وحنين الجذع فى السنة الثامنة- بالميم- من الهجرة، وبه جزم ابن النجار وعورض: بما فى حديث الإفك فى الصحيحين، قالت عائشة: فثار الحيان- الأوس والخزرج- حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا «1» .
وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان فى السنة السابعة. وعورض: بذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح فى آخر سنة ثمان، وقدوم سنة تسع.
وعن بعض أهل السير: أنه- عليه السلام كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذى من خشب. وعورض: بأن الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب.
وستأتى قصة حنين الجذع- إن شاء الله تعالى- فى مقصد المعجزات.
ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر، آخى- عليه السلام بين المهاجرين والأنصار»
وكانوا تسعين رجلا، من كل طائفة خمسة وأربعون، على الحق والمواساة والتوارث.
وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «3» الآية.
وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر. وقيل ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا فى شوال.
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4141) فى المغازى، باب: حديث الإفك، ومسلم (2770) فى التوبة، باب: فى حديث الإفك.
(2)
انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 150) .
(3)
سورة الأنفال: 75.