المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[رؤيا الأذان] وكان الناس- كما فى السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١

[القسطلاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌كلمة عن مصادر السيرة النبوية

- ‌عملى فى الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌نسبه:

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌مشايخه:

- ‌صفاته:

- ‌وفاته:

- ‌مصنفاته:

- ‌كلمة عن كتاب المواهب اللدنية

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌المقصد الأول

- ‌[تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم]

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم

- ‌[آيات حمله صلى الله عليه وسلم]

- ‌آيات ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[ذكر حضانته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]

- ‌[هجرته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[رؤيا الأذان]

- ‌[غزوة قرقرة الكدر]

- ‌ثم غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌[غزوة بنى النضير]

- ‌[غزوة ذات الرقاع]

- ‌[غزوة بدر]

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌غزوة بنى المصطلق

- ‌غزوة الخندق:

- ‌[غزوة بنى قريظة] :

- ‌غزوة بنى لحيان

- ‌غزوة الغابة

- ‌[سرية ابن رواحة إلى ابن رزام]

- ‌صلح الحديبية

- ‌[غزوة خيبر] :

- ‌عمرة القضاء:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌غزوة الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌حجة أبى بكر

- ‌المقصد الثانى

- ‌الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة

- ‌الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات

- ‌الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته

- ‌الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه

- ‌أما خدمه:

- ‌[من الرجال]

- ‌ومن النساء:

- ‌وأما حراسه:

- ‌وأما مواليه صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام

- ‌أما كتابه

- ‌وأما أمراؤه- عليه الصلاة والسلام

- ‌وأما رسله- صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه

- ‌أما مؤذنوه فأربعة

- ‌وأما شعراؤه- صلى الله عليه وسلم الذين يذبون عن الإسلام:

- ‌الفصل الثامن فى آلات حروبه صلى الله عليه وسلم كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه

- ‌أما أسيافه- صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما أدراعه فسبعة:

- ‌وأما أقواسه- صلى الله عليه وسلم فكانت ستة:

- ‌وأما أتراسه

- ‌وأما أرماحه- صلى الله عليه وسلم

- ‌تكميل:

- ‌الفصل التاسع فى ذكر خيله صلى الله عليه وسلم ولقاحه ودوابه

- ‌أما خيله- صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌ ‌[رؤيا الأذان] وكان الناس- كما فى السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى

[رؤيا الأذان]

وكان الناس- كما فى السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين مواقيتها، من غير دعوة.

وأخرج ابن سعد فى الطبقات، من مراسيل سعيد بن المسيب: أن بلالا كان ينادى للصلاة بقوله: الصلاة جامعة الحديث.

وشاور رسول الله- صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة- وكان ذلك فيما قيل فى السنة الثانية- فقال بعضهم: ناقوس كناقوس النصارى، وقال آخرون: بوق كبوق اليهود «1» ، وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعها فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة.

فرأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه فى منامه رجلا فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبى- صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى، وفى رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد قال: يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم- ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت- رأيت: شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، الله أكبر، مثنى مثنى، حتى فرغ من الأذان. الحديث، فقال- صلى الله عليه وسلم:«إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك» . قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه ويؤذن.

قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وهو فى بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذى بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى «2» .

(1) صحيح: أخرجه البخارى (604) فى الأذان، باب: بدء الأذان، ومسلم (377) فى الصلاة، باب: بدء الأذان، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

(2)

صحيح: أخرجه أبو داود (499) فى الصلاة، باب: كيف الأذان، وأحمد فى «مسنده» (4/ 42 و 43) ، وابن حبان فى «صحيحه» (1679) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (371) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 191

ووقع فى الأوسط للطبرانى: أن أبا بكر أيضا رأى الأذان.

وفى الوسيط للغزالى: أنه رآه بضعة عشر رجلا.

وعبارة الجيلى فى شرح التنبيه: أربعة عشر.

وأنكره ابن الصلاح ثم النووى، وفى سيرة مغلطاى: أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه الله: ولا يثبت شىء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت فى بعض الطرق: انتهى. قال السهيلى: فإن قلت: ما الحكمة التى خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين فى نومه. ولم يكن عن وحى من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية، وفى قوله- صلى الله عليه وسلم له:«إنها لرؤيا حق» . ثم بنى حكم الأذان عليها، وهل كان ذلك عن وحى من الله له أم لا؟

وأجاب: بأنه- صلى الله عليه وسلم قد أريه ليلة الإسراء. فروى البزار عن على قال:

لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل- عليه السلام بدابة يقال لها البراق فركبها حتى أتى بها الحجاب الذى يلى عرش الرحمن، فبينما هو كذلك خرج ملك من الحجاب، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: والذى بعثك بالحق، إنى لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه. فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل له من وراء الحجاب:

صدق عبدى، أنا أكبر، أنا أكبر.. وذكر بقية الأذان.

قال السهيلى: وهذا أقوى من الوحى، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحى حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما رأى- صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، وعلم حينئذ أن مراد الله بما رآه فى السماء أن يكون سنة فى الأرض وقوى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصارى. انتهى.

ص: 192

وتعقب: بأن حديث البزار فى إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك «1» .

وقال فى فتح البارى: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله ابن زيد، فإن رؤيا غير الأنبياء لا يا بنى عليها حكم شرعى:

وأجيب: باحتمال مقارنة الوحى لذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود فى المراسيل، من طريق عبيد بن عمير الليثى- أحد كبار التابعين- أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبى- صلى الله عليه وسلم فوجد الوحى قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم:«سبقك بذلك الوحى» «2» .

وهذا أصح مما حكى الداودى عن ابن إسحاق: أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وقد عرفت رؤيا عبد الله بن زيد برواية ابن إسحاق وغيره: وذلك أنه قال:

«طاف بى- وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسا فى يده، فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس؟

قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت [له]«3» بلى، قال: تقول الله أكبر، الله أكبر وذكر بقية كلمات الأذان.

قال: ثم استأخر عنى غير بعيد ثم قال [ثم تقول] إذا أقمت

الصلاة فقل: الله أكبر، الله أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة» «4» . ورواه أبو داود بإسناد صحيح.

(1) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (2/ 78) .

(2)

أخرجه أبو داود فى «مراسيله» (21) .

(3)

زيادة من سنن أبى داود.

(4)

صحيح: وقد تقدم قريبا.

ص: 193

ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذى رأى.

وفى مسند الحارث: أول من أذن بالصلاة جبريل، أذن فى سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأخبره بها، فقال- عليه السلام لبلال «سبقك بها عمر» «1» وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا ذلك فى اليقظة.

وقد وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.

منها للطبرانى من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به وعلمه بلالا.

وفى إسناده طلحة بن زيد وهو متروك.

ومنها: للدار قطنى فى «الأفراد» من حديث أنس أن جبريل أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة. وإسناده ضعيف.

ومنها: حديث البزار عن على، المتقدم.

قال فى فتح البارى: والحق أنه لا يصح شىء من هذه الأحاديث وقد جزم ابن المنذر بأنه- صلى الله عليه وسلم كان يصلى بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور فى ذلك «2» . والله سبحانه أعلم.

فإن قلت: هل أذن- صلى الله عليه وسلم بنفسه قط؟

أجاب السهيلى: بأنه قد روى الترمذى من طريق يدور على عمر بن الرماح، قاضى بلخ يرفعه إلى أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم أذن فى سفر وصلى وهم على رواحلهم «3» . الحديث. قال: فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه- صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه. انتهى.

(1) ذكره الحافظ فى «الفتح» (2/ 78) وعزاه للحارث بن أبى أسامة فى «مسنده» بسند واه.

(2)

انظر «الفتح» (2/ 79) .

(3)

ضعيف: أخرجه الترمذى (411) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة على الدابة فى الطين والمطر، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

ص: 194

وليس هذا الحديث من حديث أبى هريرة، إنما هو من حديث يعلى بن مرة.

وكذا جزم النووى بأنه- عليه الصلاة والسلام أذن مرة فى السفر، وعزاه للترمذى وقواه.

ولكن روى الحديث الدار قطنى وقال فيه: أمر بالأذان، ولم يقل: أذن.

قال السهيلى: والمفصل يقضى على المجمل المحتمل.

وفى مسند أحمد من الوجه الذى أخرج منه الترمذى هذا الحديث: فأمر بلالا فأذن «1» ، قال فى فتح البارى فعرف أن فى رواية الترمذى اختصارا، وأن قوله أذن: أمر، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر «2» . انتهى.

فإن قلت هل صلى النبى- صلى الله عليه وسلم خلف أحد من أصحابه؟ قلت:

نعم، ثبت فى صحيح مسلم وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، ولفظه: عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فتبرز رسول الله- صلى الله عليه وسلم قبل الغائط، فحمل معه إداوة قبل صلاة الفجر

الحديث إلى أن قال: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبى- صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال، أحسنتم، أو قال:

أصبتم يغبطهم أن صلوا لوقتها «3» .

(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 173) ، وانظر ما قبله.

(2)

قاله الحافظ فى «الفتح» (2/ 79) .

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (274)(81) فى الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة، و (274)(105) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، وأبو داود (149 و 152) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.

ص: 195

ورواه أبو داود فى السنن بنحوه ولفظه: ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى صلاته «1» الحديث.

قال النووى: فيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز اقتداء النبى صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته.

قال: وأما بقاء عبد الرحمن فى صلاته وتأخر أبى بكر- رضى الله عنه- ليتقدم النبى- صلى الله عليه وسلم، فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبى صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف صلاة أبى بكر.

نعم فى السيرة الهشامية: أن أبا بكر كان الإمام وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان يأتم به.

لكنه- كما قال السهيلى- حديث مرسل فى السيرة، والمعروف فى الصحاح أن أبا بكر كان يصلى بصلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبى بكر «2» .

لكن قد روى عن أنس من طريق متصل: أن أبا بكر كان الإمام يومئذ، واختلف فيه خبر عائشة- رضى الله عنها-. انتهى.

وفى الترمذى مصححا من حديث جابر: أن آخر صلاة صلاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى ثوب واحد متوشحا به خلف أبى بكر «3» .

قال ابن الملقن: وقد نصر هذا القول غير واحد من الحفاظ: منهم الضياء، وابن ناصر، وقال: صح وثبت أنه- صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبى بكر

(1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله.

(2)

صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (683) فى الأذان، باب: من قام إلى جنب الإمام لعلة، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(3)

إسناده صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (363) فى الصلاة، باب: منه، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : إسناده صحيح.

ص: 196

مقتديا به فى مرضه الذى مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية.

وقيل: إنه كان مرتين، جمعا بين الأحاديث، وبه جزم ابن حبان.

وروى الدار قطنى من طريق المغيرة بن شعبة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «ما مات نبى حتى يؤمه رجل من أمته» «1» .

ولما كان بعد شهر من مقدمه- عليه الصلاة والسلام لاثنتى عشرة خلت من ربيع الآخر- قال الدولابى يوم الثلاثاء، وقال السهيلى بعد الهجرة بعام أو نحوه- زيد فى صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر.

وفى البخارى عن عائشة (فرضت الصلاة ركعتين [ركعتين] ) ثم هاجر النبى- صلى الله عليه وسلم[إلى المدينة] ففرضت أربعا. وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر) «2» .

وفى البخارى عن عائشة فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبى ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى «3» .

وقيل إنما فرضت أربعا، ثم خفف عن المسافر. ويدل له حديث:(إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة)«4» .

(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 13) ، من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، والحاكم فى «مستدركه» (1/ 370) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 282) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1803 و 4764) .

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (3935) فى المناقب، باب: التاريخ من أين أرخوا التاريخ، ومسلم (685) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) ، وهو ليس فيها بهذا اللفظ، بل بلفظ الحديث الآتى.

(3)

صحيح: وانظر ما قبله.

(4)

صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (2408) فى الصوم، باب: اختيار الفطر، والترمذى (715) فى الصوم، باب: ما جاء فى الرخصة فى الإفطار للحبلى والمرضع، وأحمد فى «مسنده» (5/ 29) ، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 197

وقيل: إنما فرضت فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين، وهو قول ابن عباس، قال- رضى الله عنه-:(فرض الله الصلاة على لسان نبيكم- صلى الله عليه وسلم فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين)«1» رواه مسلم وغيره.

وسيأتى مزيد لذلك إن شاء الله تعالى فى أول الصلاة من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام.

قال ابن إسحاق وغيره: ونصبت أحبار يهود العداوة للنبى- صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا، وسحره لبيد بن الأعصم، وهو من يهود بنى زريق، فكان يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو لا يفعله، وجعل سحره فى مشط ومشاطة، ودفنه فى بئر ذى أروان- وأكثر أهل الحديث يقول: ذروان- تحت راعوفة البئر «2» ، كما ثبت فى الصحيح.

وليس هذا بقادح فى النبوة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يبتلون فى أبدانهم بالجراحات والسموم والقتل وغير ذلك مما جوّزه العلماء عليهم.

وانضاف إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج، منافقون، على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أنهم قهروا بظهور الإسلام، فأظهروه واتخذوه جنة من القتل، ونافقوا فى السر، منهم عبد الله بن أبى ابن سلول، وكان رأس المنافقين، وهو الذى قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «3» . كما سيأتى- إن شاء الله- فى غزوة بنى المصطلق.

(1) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) .

(2)

صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5763) فى الطب، باب: السحر، ومسلم (2189) فى السلام، باب: السحر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(3)

سورة المنافقون: 8.

ص: 198

مغازيه وسراياه وبعوثه «1» صلى الله عليه وسلم

وأذن الله تعالى لرسوله- صلى الله عليه وسلم بالقتال. قال الزهرى: أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «2» . أخرجه النسائى بإسناد صحيح «3» .

قال فى البحر: والمأذون فيه- أى فى الآية- محذوف، أى: فى القتال، لدلالة «يقاتلون» عليه، وعلل الإذن: بأنهم ظلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: اصبروا، فإنى لم أومر بالقتال، حتى هاجر فأذن له بالقتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية.

انتهى.

وقال غيره: وإنما شرع الله تعالى الجهاد فى الوقت اللائق به، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم قليلون- بقتال الباغين لشق عليهم، فلما بغى المشركون، وأخرجوه- صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله، واستقر- عليه الصلاة والسلام بالمدينة واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة لهم دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه، شرع الله تعالى جهاد الأعداء، فبعث- صلى الله عليه وسلم البعوث والسرايا وغزا وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس فى دين الله أفواجا أفواجا.

وكان عدد مغازيه- صلى الله عليه وسلم التى خرج فيها بنفسه، سبعا وعشرين. قاتل فى تسع منها بنفسه الشريفة- صلى الله عليه وسلم: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق،

(1) جرى أهل السير والمغازى على تسمية كل حرب حضرها النبى- صلى الله عليه وسلم بغزوة، وما لم يحضرها بسرية أو بعثا.

(2)

سورة الحج: 39.

(3)

قلت: هو عند النسائى (6/ 2) فى الجهاد، باب: وجوب الجهاد، من قول ابن عباس رضى الله عنهما-.

ص: 199

وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وهذا على قول من قال:

فتحت مكة عنوة.

وكانت سراياه التى بعث فيها سبعا وأربعين سرية. وقيل: إنه قاتل فى بنى النضير.

وأفاد فى فتح البارى: أن السرية- بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية- هى التى تخرج بالليل- والسارية: التى تخرج بالنهار.

قال: وقيل سميت بذلك- يعنى السرية- لأنه يحفى ذهابها. وهذا يقتضى أنها أخذت من السر، ولا يصح، لاختلاف المادة.

وهى قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهى من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة يقال له منسر- بالنون ثم المهملة- فإن زاد على الثمانمائة سمى جيشا، [وما بينهما يسمى هبطة]«1» ، فإن زاد على أربعة آلاف سمى جحفلا، والخميس: الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثا، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى ملخصا.

وكان أول بعوثه- صلى الله عليه وسلم على رأس سبعة أشهر، فى رمضان، وقيل فى ربيع الأول سنة اثنتين. بعث عمه حمزة، وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين.

وقيل من الأنصار، وفيه نظر، لأنه لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا، لأنهم شرطوا له أن يمنعوه فى دارهم.

فخرجوا يعترضون عيرا لقريش، فيها أبو جهل اللعين، فلقيه فى ثلاثمائة راكب فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فلما تصافوا حجز بينهم مجدى بن عمرو الجهنى، وكان- عليه السلام قد عقد له لواء أبيض.

«واللواء هو العلم الذى يحمل فى الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم المعسكر» .

وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، لكن روى

(1) ليست فى الأصل، وهى زياة من «الفتح» (8/ 70) للحافظ ابن حجر.

ص: 200

أحمد والترمذى عن ابن عباس: كانت راية رسول الله- صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض «1» ، ومثله عند الطبرانى عن بريدة، وعند ابن عدى عن أبى هريرة وزاد: مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وهو ظاهر فى التغاير، لعل التفرقة بينهما عرفية.

وذكر ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة: أن أول ما حدثت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية. انتهى.

ثم سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ، فى شوال، على رأس ثمانية أشهر، فى ستين رجلا، وعقد له لواء أبيض، حمله مسطح بن أثاثة، يلقى أبا سفيان بن حرب.

وكان على المشركين- وقيل مكرز بن حفص، وقيل عكرمة بن أبى جهل- فى مائتين، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبى وقاص رمى بسهم، فكان أول سهم رمى فى الإسلام «2» .

وقال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة- فيما بلغنا- أول راية عقدت فى الإسلام، وبعض الناس يقول: راية حمزة. قال: وإنما أشكل أمرهما لأنه عليه الصلاة والسلام بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس. انتهى.

وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية، لأمر اقتضاه، والله أعلم.

ثم سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار- بخاء معجمة وراءين مهملتين، وهو واد بالحجاز يصب فى الجحفة- وكان ذلك فى ذى القعدة، على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو، فى

(1) حسن: أخرجه الترمذى (1681) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الرايات، وابن ماجه (2818) فى الجهاد، باب: الرايات والألوية، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(2)

انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 595 و 596) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 7) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 338 و 339) .

ص: 201

عشرين رجلا، يعترض عيرا لقريش، فخرجوا على أقدامهم، فصبحوها صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس «1» .

ثم غزوة ودان، وهى الأبواء «2» ، وهى أول مغازيه، كما ذكره ابن إسحاق وغيره. وفى البخارى: أن أولها الأبواء.

خرج- صلى الله عليه وسلم فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة، يريد قريشا، فى ستين رجلا، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب. فكانت الموادعة- أى المصالحة- على أن بنى ضمرة لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوّا.

واستعمل على المدينة سعد بن عبادة» .

وليس بين ما وقع فى سيرة ابن إسحاق وبين ما نقله عنه البخارى اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية.

ثم غزوة بواط- بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة- وهى الثانية، غزاها- صلى الله عليه وسلم فى شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوى- بفتح الراء وسكون المعجمة، مقصور- فى مائتين من أصحابه، يعترض عيرا لقريش فيهم أمية بن خلف الجمحى واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.

فرجع ولم يلق كيدا، أى حربا، قال ابن الأثير: والكيد الاحتيال والاجتهاد، وبه سميت الحرب كيدا «4» .

(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 600) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 7)، والخرار: من أودية المدينة، وقيل: إنه آبار عن يسار المحجة قريب من خم.

(2)

الأبواء: قرية من عمل القرح، بينها وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلا.

(3)

انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 591) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 8) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 259) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 352) .

(4)

انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 598) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 8 و 9) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 260 و 261) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 361) .

ص: 202

ثم غزوة العشيرة- بالشين المعجمة، والتصغير، آخره هاء. لم يختلف أهل المغازى فى ذلك، وفى البخارى: العشيراء، أو: العسيرة، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية: بالمهملة وبالهاء- وأما غزوة العسرة- بالمهملة بغير تصغير- فهى غزوة تبوك، وستأتى إن شاء الله تعالى.

ونسبت هذه إلى المكان الذى وصلوا إليه، وهو موضع لبنى مدلج بينبع «1» .

وخرج إليها- صلى الله عليه وسلم فى جمادى الأولى- وقيل: الآخرة- على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة، فى خمسين ومائة رجل- وقيل فى مائتى رجل- ومعهم ثلاثون بعيرا يتعقبونها، وحمل اللواء- وكان أبيض- حمزة، يريد عير قريش التى صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة. فخرج إليها ليغنمها فوجدها قد مضت.

ووداع بنى مدلج من كنانة «2» .

وكانت نسخة الموادعة فيما ذكره غير ابن إسحاق.

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لبنى ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم أن لا يحاربوا فى دين الله ما بل بحر صوفة، وأن النبى إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد.

ثم غزوة بدر الأولى. قال ابن إسحاق: ولما رجع- عليه الصلاة والسلام أى: من غزوة العشيرة- لم يقم إلا ليالى، وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى على سرح المدينة،

(1) ينبع: قرية كبيرة بها حصن على بعد سبع مراحل من المدينة.

(2)

انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 598 و 600) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 9 و 10) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 260 و 261) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 361) .

ص: 203

فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم فى طلبه حتى بلغ سفوان- بفتح المهملة والفاء- موضع من ناحية بدر، ففاته كرز بن جابر. وتسمى بدرا الأولى «1» .

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء على ابن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه-.

ثم سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش فى رجب على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية- وقيل اثنا عشر- من المهاجرين، إلى نخلة على ليلة من مكة، فى رجب يترصد قريشا، فمرت بهم عيرهم تحمل زبيبا وأدما من الطائف، فيها عمرو بن الحضرمى، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن فى آخر يوم من رجب، فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر، وإن تركناهم الليلة دخلوا حرمة مكة، فأجمعوا على قتلهم فقتلوا عمرا واستأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب من هرب، واستاقوا العير، وكانت أول غنيمة فى الإسلام، فقسمها ابن جحش، وعزل الخمس من ذلك قبل أن يفرض، ويقال: بل قدموا بالغنيمة كلها.

فقال النبى- صلى الله عليه وسلم: «ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام» فأخر الأسيرين والغنيمة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائمها.

وتكلمات قريش: إن محمدا سفك الدماء، وأخذ المال فى الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.. «2» الآية.

وفى ذلك يقول عبد الله بن جحش:

تعدون قتلا فى الحرام عظيمة

وأعظم منه لو يرى ذاك راشد

صدودكم عما يقول محمد

وكفر به والله راء وشاهد

سقينا من ابن الحضرمى رماحنا

بنخلة لما أوقد الحرب واقد

وبعثت قريش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى فداء الأسيرين، وهما: عثمان

(1) انظر ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 9) .

(2)

سورة البقرة 217.

ص: 204

ابن عبد الله والحكم بن كيسان، ففاداهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا «1» .

ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم يصلى إلى بيت المقدس بالمدينة ستة عشر شهرا «2» .

وقيل سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر شهرا.

وقال الحربى: قدم- صلى الله عليه وسلم المدينة فى ربيع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنين ستة أشهر. ثم حولت القبلة.

وقيل: كان تحويلها فى جمادى، وقيل: كان يوم الثلاثاء فى نصف شعبان، وقيل يوم الإثنين نصف رجب.

وظاهر حديث البراء فى البخارى: أنها كانت صلاة العصر «3» .

ووقع عند النسائى من رواية سعيد بن المعلى: أنها الظهر.

وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثانى، كما فى الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة «4» .

(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 601 و 604) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 10 و 11) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 364 و 371) .

(2)

صحيح: وانظر الخبر فى صحيح البخارى (41) فى الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، ومسلم (525) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، من حديث البراء ابن عازب- رضى الله عنه-.

(3)

صحيح: انظر ما قبله.

(4)

صحيح: أخرجه البخارى (403) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القبلة ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، ومسلم (526) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.

ص: 205

وفى هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم.

وروى الطبرى عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: لما هاجر- صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان- صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية «1» .

قال فى فتح البارى وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة. لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان- صلى الله عليه وسلم يصلى بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه «2» ، قال: والجمع بينهما ممكن: بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس.

وأخرج الطبرى أيضا من طريق ابن جريج قال: صلى النبى- صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة «3» .

وقوله فى حديث ابن عباس الأول: «أمره الله تعالى» يرد قول من قال:

إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد.

وعن أبى العالية: أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وهذا لا ينفى أن يكون بتوقيف.

واختلفوا فى المسجد الذى كان يصلى فيه:

فعند ابن سعد فى الطبقات: أنه صلى ركعتين من الظهر فى مسجده

(1) أخرجه ابن جرير الطبرى فى «تفسيره» (1/ 502) ، (2/ 5 و 20) .

(2)

أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 325) .

(3)

مرسل: أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (2/ 5) عن ابن جريج مرسلا.

ص: 206

بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون.

ويقال: إنه- صلى الله عليه وسلم زار أم بشر بن البراء بن معرور فى بنى سلمة، فصنعت له طعاما، وكانت الظهر، فصلى- عليه الصلاة والسلام بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار، إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمى مسجد القبلتين. قال ابن سعد قال الواقدى: هذا عندنا أثبت «1» .

ولما حول الله تعالى القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار واليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وشك، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، أى: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا، فأنزل الله جوابهم فى قوله قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ «2» . أى الحكم والتصرف، والأمر كله لله، فحيثما توجهنا فالطاعة فى امتثال أمره، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وفى تصريفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا.

ولله تعالى بنبينا- عليه السلام وبأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة خليله، قال- عليه السلام فيما رواه أحمد من حديث عائشة- رضى الله عنها-: إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التى هدانا الله إليها وضلوا عنها. وعلى القبلة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين «3» .

وقال بعض المؤمنين: فكيف صلاتنا التى صليناها نحو بيت المقدس؟

وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «4» .

(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 186) .

(2)

سورة البقرة: 142.

(3)

أخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 134) .

(4)

سورة البقرة: 143.

ص: 207

وقيل قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضى قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى ننتظر أن يأتى. فأنزل الله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ «1» . يعنى أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليها بما فى كتبهم عن أنبيائهم.

ثم فرض صيام شهر رمضان، بعد ما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر، فى شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه- صلى الله عليه وسلم.

وزكاة الفطر قبل العيد بيومين: أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من زبيب، أو صاع من شعير أو صاع من بر، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال.

وقيل إن زكاة الأموال فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة والله أعلم.

ثم غزوة بدر الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال.

وهى قرية مشهورة، نسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، وقيل: بدر بن الحارث، حافر بئرها، وقيل بدر اسم البئر التى بها سميت لاستدارتها، أو لصفائها ورؤية البدر فيها.

وقال ابن كثير: وهو يوم الفرقان، والذى أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، والخيول المسومة، والخيلاء الزائدة، فأعز الله تعالى رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبى صلى الله عليه وسلم وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنّا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ «2» . أى قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد.

انتهى.

(1) سورة البقرة: 144.

(2)

سورة آل عمران: 123.

ص: 208

فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار، وأعز من حضرها من المسلمين، فهو عنده من الأبرار.

وكان خروجهم يوم السبت لثنتى عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، ويقال: لثمان خلون منه. قاله ابن هشام.

واستخلف أبا لبابة الأنصارى.

وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عدة من خرج معه ثلاثمائة وخمسة، وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم فكانوا كمن حضرها.

وكان معهم ثلاثة أفراس: «بعزجة» فرس المقداد، و «العيسوب» فرس الزبير وفرس لمرثد الغنوى، لم يكن لهم خيل يومئذ غير هذه، وكان معهم سبعون بعيرا.

وكان المشركون ألفا ويقال: تسعمائة وخمسون رجلا، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير.

وكان قتالهم يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وقيل يوم الإثنين وقيل غير ذلك.

وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال الله تعالى:

وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «1» .

وإنما قصد- صلى الله عليه وسلم والمسلمون التعرض لعير قريش. وذلك أن أبا سفيان كان بالشام فى ثلاثين راكبا منهم عمرو بن العاصى، فأقبلوا فى قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو، وقال:«هذه عير لقريش فيها أموال فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها» .

(1) سورة الأنفال: 42.

ص: 209

فلما سمع أبو سفيان بسيره- عليه السلام، استأجر ضمضم بن عمرو الغفارى أن يأتى قريشا بمكة، فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم فى أصحابه.

فنهضوا فى قريب من ألف ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة.

وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبى- صلى الله عليه وسلم الناس فى طلب العير، أو حرب النفير، وقال:«إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش» وكانت العير أحب إليهم.

فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن.

ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إناها هنا قاعدون «1» .

ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا برك الغماد- يعنى مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.

فقال له- صلى الله عليه وسلم: «خيرا» ودعا له بخير. ثم قال- صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس أشيروا على» وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان- صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك- صلى الله عليه وسلم:

قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: «أجل» .

(1) إشارة إلى الآية (24) ، من سورة المائدة.

ص: 210

قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى.

فسر- صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال:«سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر الآن إلى مصارع القوم» قال ثابت عن أنس- رضى الله عنه- قال- صلى الله عليه وسلم: «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض، هاهنا وهاهنا. قال فما ماط أحدهم- أى ما تنحى- عن موضع يده- عليه الصلاة والسلام «1» .

تنبيه: قال ابن سيد الناس فى «عيون الأثر» : روينا من طريق مسلم أن

(1) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 289- 290)، وفى «البداية والنهاية» (2/ 395) من طريق ابن إسحاق وأخرج البخارى (3952) منه من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه- عنه يقول: شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره يعنى قوله. وأخرجه مسلم (1779) منه من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان، قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذى نفسى بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا

إلى آخر الحديث، إلا أن هناك إشكالا فى قول المتكلم سعد بن عبادة، وهو ممن لم يشهد بدرا وإن كان ممن ضرب له بسهم فيهم، وهنا يقول الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 288) : ويمكن الجمع بأن النبى- صلى الله عليه وسلم استشارهم فى غزوة بدر مرتين، الأولى وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبى سفيان وذلك بين فى رواية مسلم، ولفظه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان والثانية: كانت بعد أن فرج كما فى حديث الباب، ووقع عند الطبرانى أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب.

ص: 211

الذى قال ذلك: سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ، كذا رواه ابن إسحاق وغيره.

واختلف فى شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق فى البدريين، وذكره الواقدى والمدائنى وابن الكلبى منهم. انتهى.

ثم ارتحل- صلى الله عليه وسلم قريبا من بدر، ونزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادى، ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه، وحفروا القلب لأنفسهم.

وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ، وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم وقال: تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبى الله. وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم عطاش، وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤا.

فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادى، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام.

وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، فذلك قوله تعالى:

وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» . أى من الأحداث والجنابة وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ «2» أى وسوسته وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ «3» .

بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ «4» . حتى لا تسوخ فى الرمل، بتلبيد الأرض.

وبنى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم عريش فكان فيه.

ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعا إلى المبارزة، فخرج فتية من الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث

(1) سورة الأنفال: 11.

(2)

سورة الأنفال: 11.

(3)

سورة الأنفال: 11.

(4)

سورة الأنفال: 11.

ص: 212

- وأمهما عفراء- وعبد الله بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقالوا ما لنا بكم من حاجة.

ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج لنا أكفاءنا من قومنا. فقال- صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا على.

فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم؟ فتسموا لهم، فقالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة- وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز على الوليد بن عتبة.

فقتل على الوليد. هكذا ذكره ابن إسحاق.

وعند موسى بن عقبة- كما نقله فى فتح البارى- برز حمزة لعتبة، وعبيدة لشيبة وعلى للوليد.

ثم اتفقا: فقتل على الوليد، وقتل حمزة الذى بارزه، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة فى ركبة عبيدة ومال على وحمزة على الذى بارزه عبيدة فأعاناه على قتله.

وعند الحاكم، من طريق عبد خير عن على: مثل قول موسى بن عقبة.

وعند أبى الأسود عن عروة مثله.

وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلمانى: أن شيبة لحمزة، وعبيدة لعتبة، وعليّا للوليد، ثم قال: الثابت أن عتبة لحمزة، وشيبة لعبيدة.

وأخرج أبو داود عن على قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فنادى:

من يبارز فانتدب له شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بنى عمنا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«قم يا حمزة، قم يا على، قم يا عبيدة» فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة «1» .

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2665) فى الجهاد، وباب: فى المبارزة، والبيهقى فى «الكبرى» (3/ 376)(9/ 131) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 213

قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات، لكن الذى فى السير من أن الذى بارزه على هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقام، لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف على والوليد فكانا شابين.

وقد روى الطبرانى بإسناد حسن عن على قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة ابن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبى- صلى الله عليه وسلم علينا ذلك. وهذا موافق لرواية أبى داود. والله أعلم. انتهى.

قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض.

ورسول الله- صلى الله عليه وسلم فى العريش ومعه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، وهو- صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول:«اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد فى الأرض أبدا» . وأبو بكر يقول: يا رسول الله، خل بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك «1» .

وعند سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال:

لما كان يوم بدر نظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال- عليه السلام وهو فى صلاته:«اللهم لا تخذلنى، اللهم أنشدك ما وعدتنى» «2» .

وروى النسائى والحاكم عن على قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول فى سجوده:«يا حى، يا قيوم» فرجعت وقاتلت ثم جئت فوجدته كذلك «3» .

وفى الصحيح: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر فى العريش مع الصديق، أخذت رسول الله- صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ متبسما، فقال:

(1) صحيح: والحديث: أخرجه مسلم (1763) فى الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر، والترمذى (3081) فى التفسير، باب: ومن سورة الأنفال، وأحمد فى «مسنده» (1/ 30 و 32) ، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.

(2)

ذكره الحافظ فى «الفتح» (7/ 288، 289) وعزاه لسعيد بن منصور.

(3)

أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10447) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 344) .

ص: 214

«أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» ثم خرج من باب العريش وهو يتلو سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» «2» .

فإن قلت: كيف جعل أبو بكر يأمره- عليه الصلاة والسلام بالكف عن الاجتهاد فى الدعاء ويقوى رجاءه ويثبته، ومقام الرسول- صلى الله عليه وسلم هو المقام الأحمد، ويقينه فوق يقين كل أحد؟

أجاب السهيلى نقلا عن شيخه: بأن الصديق فى تلك الساعة كان فى مقام الرجاء، والنبى- صلى الله عليه وسلم فى مقام الخوف، لأن لله تعالى أن يفعل ما يشاء، فخاف ألايعبد الله فى الأرض، فخوفه ذلك عبادة. انتهى.

وقال الخطابى: لا يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبى صلى الله عليه وسلم فى تلك الحالة، بل الحامل للنبى- صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، فبالغ فى التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر فى نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقبه بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» .

وقال غيره: وكان النبى- صلى الله عليه وسلم فى تلك الحالة فى مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده ألايقع النصر يومئذ، لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا هو الذى يظهر من بادىء الرأى.

وإنما قال- صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد اليوم» «4» لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ، لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان.

(1) سورة القمر: 45.

(2)

صحيح: وهو عند البخارى (2915) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، إلا أنه فيه بلفظ غريب من ذلك

(3)

سورة القمر: 45.

(4)

صحيح: وقد تقدم قريبا.

ص: 215

وأما شدة اجتهاده- عليه الصلاة والسلام ونصبه فى الدعاء، فإنه رأى الملائكة تنصب فى القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون غمرات الموت. والجهاد على ضربين جهاد بالسيف وجهاد بالدعاء، ومن سنة الإمام أن يكون وراء الجند لا يقاتل معه، فكان الكل فى جهاد واجتهاد، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين والجهادين وأنصار الله وملائكته يجتهدون، ولا ليؤثر الدعة وحزب الله مع أعدائه يجتلدون. انتهى.

وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال عمر بن الخطاب: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا دخل العريش، فاستقبل القبلة ثم مد يديه، وجعل يهتف بربه:

«اللهم أنجز لى ما وعدتنى»

فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ «1» . مرسل إليكم مدادا لكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «2» «3» . أى متتابعين بعضهم فى إثر بعض.

وعلى قراءة فتح الدال معناه: أردف الله المسلمين وجاءهم بهم مدادا.

وفى الآية الآخرى بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ «4» . فقيل معناه:

إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف. فكان الأكثر مدادا للأقل، وكان الألف مردفين بمن وراءهم. والألف هم الذين قاتلوا مع المؤمنين، وهم الذين قال لهم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا «5» . وكانوا فى صور الرجال، ويقولون للمؤمنين: اثبتوا فإن عدوكم قليل وإن الله معكم.

وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف.

(1) سورة الأنفال: 9.

(2)

سورة الأنفال: 9.

(3)

صحيح: والخبر عند مسلم (1763) وقد تقدم قريبا.

(4)

سورة آل عمران: 124.

(5)

سورة الأنفال: 12.

ص: 216

وقال سعيد بن أبى عروبة عن قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف.

وعن عامر الشعبى: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين فشق عليهم، فأنزل الله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ إلى قوله: مُسَوِّمِينَ «1» ، قال: فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين، ولم تمد المسلمون بالخمسة.

وعن ابن عباس- رضى الله عنهما-: جاء إبليس يوم بدر فى جند من الشياطين، معه رايته، فى صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين:

لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم، فلما أقبل جبريل والملائكة كانت يده فى يد رجل من المشركين فانتزع يده ثم نكص على عقبيه، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك جار؟

فقال إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب «2» .

وروى أن جبريل نزل فى خمسمائة وميكائيل فى خمسمائة فى صورة الرجال على خيل بلق، عليهم ثياب بيض، وعلى رؤسهم عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم.

وقال ابن عباس: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين: عمائم خضر «3» .

وعن على: كانت سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكانت سيماهم أيضا فى نواصى خيلهم «4» . رواه ابن أبى حاتم.

وروى ابن مردويه عن ابن عباس رفعه، فى قوله تعالى:

(1) سورة آل عمران: 124، 125.

(2)

ذكر هذه القصة أيضا الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 318) .

(3)

انظر: المصدر السابق (1/ 403) .

(4)

انظر المصدر السابق (1/ 402) .

ص: 217

مُسَوِّمِينَ «1» . قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم خضر «2» .

وروى ابن أبى حاتم عن الزبير: أن الملائكة نزلت وعليهم عمائم صفر.

قيل: ولم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا، وبذلك صرح العماد بن كثير فى تفسيره فقال: المعروف من قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، ثم روى عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر «3» .

وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل فى غيرها بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال عند بعضهم.

وفى نهاية البيان فى تفسير القرآن عند تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ «4» . وهل قاتلت الملائكة يومئذ أم لا؟ فيه قولان:

أحدهما- وهو قول الجمهور- أنها لم تقاتل، انتهى.

وهذا يرده حديث مسلم فى صحيحه عن سعد بن أبى وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد- يعنى جبريل وميكائيل- عليهما الصلاة والسلام- يقاتلان كأشد القتال «5» .

قال النووى: فيه بيان إكرامه- صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر. قال: وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم

(1) سورة آل عمران: 125.

(2)

انظر المصدر السابق (1/ 402) .

(3)

انظر المصدر السابق (1/ 403) .

(4)

سورة التوبة: 25.

(5)

صحيح: أخرجه البخارى (5826) فى اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (2306) فى الفضائل، باب: فى قتال جبريل وميكائيل عن النبى- صلى الله عليه وسلم يوم أحد، واللفظ لمسلم.

ص: 218

اختصاصه، فهذا صريح فى الرد عليه. وفيه أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بل يراهم الصحابة والأولياء. انتهى.

قال ابن الأنبارى: وكانت الملائكة لا تعلم كيف تقتل الآدميون، فعلمهم الله تعالى بقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «1» . أى الرؤس وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «2» . قال ابن عطية: كل مفصل.

قال السهيلى: جاء فى التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا فى رأس أو مفصل، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم باثار سود فى الأعناق والبنان.

وعن ابن عباس قال: حدثنى رجل من بنى غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لى حتى صعدنا على جبل يشرف على بدر- ونحن مشركان- ننظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننهب مع من ينهب، فبينما نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه فمات مكانه فى الحال. وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. رواه البيهقى وأبو نعيم.

والدبرة: - بسكون الموحدة- الهزيمة فى القتال.

وحيزوم: اسم فرس جبريل. قاله فى القاموس.

وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف «3» .. رواه الحاكم وصححه والبيهقى وأبو نعيم.

قال الشيخ تقى الدين السبكى: سئلت عن الحكمة فى قتال الملائكة مع النبى- صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.

(1) سورة الأنفال: 12.

(2)

سورة الأنفال: 12.

(3)

أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 463)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ص: 219

فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبى- صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصور الأسباب وسنتها التى أجراها الله تعالى فى عباده، والله فاعل الجميع انتهى.

ولما التقى الجمعان، تناول رسول الله- صلى الله عليه وسلم كفّا من الحصباء، فرمى به فى وجوههم وقال:«شاهت الوجوه» . فلم يبق مشرك إلا دخل فى عينيه ومنخريه منها شىء فانهزموا وقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فى قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» . قال: هذا يوم بدر، أخذ- صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات، فرمى بحصاة فى ميمنة القوم وبحصاة فى ميسرة القوم، وبحصاة بين أظهرهم، وقال:«شاهدت الوجوه» فانهزموا «2» .

وقد روى عن غير واحد: أن هذه الآية نزلت فى رميه- صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وإن كان فعل ذلك يوم حنين أيضا كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.

وقد اعتقد جماعة: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى: وجعلوا ذلك أصلا فى الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده.

وهذا غلط منهم فى فهم القرآن، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال:

ما صليت إذ صليت، ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت ولكن الله فعل ذلك، فإن طردوا ذلك لزمهم فى أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو برميه وحده ناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.

(1) سورة الأنفال: 17.

(2)

ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 296) وقال: وقد روى فى هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت فى رمية النبى- صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وإن كان قد دخل ذلك يوم حنين أيضا.

ص: 220

ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه- صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمى، وهو الحذف، ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمى الحذف الذى هو مبدؤه ونفى عنه رمى الإيصال الذى هو نهايته.

ونظير هذا فى الآية نفسها قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ «1» . ثم قال: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «2» . فأخبر أنه تعالى وحده هو الذى انفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتال والنصر مضافا إليه وبه خير الناصرين.

قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن الأسدى يوم بدر بسيفه حتى انقطع فى يده، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب فقال له قاتل به، فهزه فعاد فى يده سيفا طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم حتى قتل وهو عنده «3» .

وجاءه- عليه الصلاة والسلام يومئذ- فيما ذكره القاضى عياض عن ابن وهب- معاذ بن عمرو يحمل يده، ضربه عكرمة عليها فتعلقت بجلدة، فبصق- صلى الله عليه وسلم عليها فلصقت. قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان.

وعن عروة بن الزبير، عن عائشة: لما أمر- صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، فطرحوا فيه. إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها، فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.

وإنما ألقوا فى القليب ولم يدفنوا، لأنه- عليه الصلاة والسلام كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم.

(1) سورة الأنفال: 17.

(2)

سورة الأنفال: 17.

(3)

ذكره ابن هشام فى «سيرته» (1/ 637) عن ابن إسحاق بغير إسناد.

ص: 221

وفى الطبرانى عن أنس بن مالك قال: أنشأ عمر بن الخطاب يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس من بدر، يقول:«هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله» قال عمر: فو الذى بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التى حدها- صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى إليهم فقال: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقّا؟! فإنى وجدت ما وعدنى الله حقّا «1» .

وفى رواية فنادى: يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام..، وفى بعضه نظر، لأن أمية بن خلف لم يكن فى القليب لأنه كان- كما تقدم- ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه. لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبا من القليب فنودى فيمن نودى لكونه كان من جملة رؤسائهم.

وقال ابن إسحاق: حدثنى بعض أهل العلم أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «يا أهل القليب، بئس العشيرة كنتم، كذبتمونى وصدقنى الناس» «2» .

فقال عمر- رضى الله عنه-: يا رسول الله، كيف تكلم أجسادا لا روح فيها، فقال:«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا» «3» .

وتأولت عائشة ذلك فقالت: إنما أراد النبى- صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2681) فى الجهاد، باب: فى الأسير ينال منه ويضرب، والنسائى (4/ 108) فى الجنائز، باب: أرواح المؤمنين، وأحمد فى «مسنده» (1/ 26) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6498) ، والطبرانى فى «الصغير» (1085) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(2)

أخرجه ابن هشام فى «السيرة» له (1/ 639) عن ابن إسحاق، قال: حدثنى بعض أهل العلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم فذكره، وهو مفصل، وأخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 170) من حديث عائشة بنحوه، إلا أن فيه انقطاعا.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (2874) فى الجنة، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.

ص: 222

أن الذى أقول لهم حق. ثم قرأت إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «1» الآية، فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، لقولها: إنهم الآن ليعلمون.

وقال قتادة: أحياهم الله تعالى توبيخا وتصغيرا، ونقمة وحسرة.

وفيه رد على من أنكر أنهم يسمعون، كما روى عن عائشة- رضى الله عنها-.

ومن الغريب، أن فى المغازى- لابن إسحاق- من رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة حديثا وفيه:«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» .

وأخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن. فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة.

وقال الإسماعيلى: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذى أنكرته وأثبته غيرها ممكن، لأن قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «2» . لا ينافى قوله- عليه السلام: «إنهم الآن ليسمعون» لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع فى أذن السامع، فالله تعالى هو الذى أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبى- صلى الله عليه وسلم بذلك. وأما جوابها بأنه إنما قال: إنهم ليعلمون، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافى رواية يسمعون بل يؤيدها.

وقال السهيلى ما محصله: إن فى نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك لنبيه- صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا؟! فأجابهم بما أجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا فى تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما باذان رؤسهم إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد، أو إلى بعضه عند المسألة، وهو قول أكثر أهل السنة، وإما باذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه.

(1) سورة النمل: 80.

(2)

سورة النمل: 80.

ص: 223

قال: وقد روى عن عائشة أنها احتجت بقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ «1» . وهذه الآية كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ «2» . أى إن الله هو الذى يهدى ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت. وجعل الكفار أمواتا وصمّا على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فالله هو الذى يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه ولا أحد، فإذا لا تعلق بالآية من وجهين:

أحدهما: أنها إنما نزلت فى دعاء الكفار إلى الإيمان.

الثانى: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، يفعل ما يشاء وهو على كل شىء قدير. انتهى ولقد أحسن العلامة ابن جابر حيث قال:

بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله

كواكب فى أفق الكواكب تنجلى

وجبريل فى جند الملائك دونه

فلم تغن أعداد العدو المخذل

رمى بالحصى فى أوجه القوم رمية

فشردهم مثل النعام المجفل

وجاد لهم بالمشرفى فسلموا

فجاد له بالنفس كل مجندل

عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع

حديثهم فى ذلك اليوم من على

فهم عتبوا بالسيف عتبة إذ غدا

فذاق الوليد الموت ليس له ولى

وشيبة لما شاب خوفا تبادرت

إليه العوالى بالخضاب المعجل

وجال أبو جهل فحقق جهله

غداة تردى بالردى عن تذلل

فأضحى قليبا فى القليب وقومه

يؤمونه فيها إلى شر منهل

وجاء لهم خير الأنام موبخا

ففتح من أسماعهم كل مقفل

وأخبر ما أنتم بأسمع منهم

ولكنهم لا يهتدون لمقول

سلا عنهم يوم السلا إذ تضاحكوا

فعاد بكاء عاجلا لم يؤجل

ألم يعلموا علم اليقين بصدقه

ولكنهم لا يرجعون لمعقل

(1) سورة فاطر: 22، 23.

(2)

سورة الزخرف: 40.

ص: 224

فيا خير خلق الله جاهك ملجئى

وحبك ذخرى فى الحساب وموئلى

عليك صلاة يشمل الآل عرفها

وأصحابك الأخيار أهل التفضل

وحكى العلامة ابن مرزوق: أن ابن عمر- رضى الله عنهما- مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فلما اجتاز به ناداه: يا عبد الله، قال ابن عمر، - رضى الله عنهما-: فلا أدرى أعرف اسمى أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله، فالتفت إليه، فقال: اسقنى، فأردت أن أفعل، فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم ببدر «1» .

ورواه الطبرانى فى الأوسط.

قال: ومن آيات بدر الباقية، ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون كهيئة طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأولته بأن الموضع لعله صلب فتستجيب فيه حوافر الدواب، فكان يقال لى: إنه دهس رمل غير صلب، وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفافها لا تصوت فى الأرض الصلبة، فكيف بالرمال؟ قال ثم لما منّ الله عليه بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف، نزلت عن الراحلة أمشى وبيدى عود طويل من شجر السعدان المسمى بأم غيلان، وقد نسيت ذلك الخبر الذى كنت أسمع، فما راعنى وأنا أسير فى الهاجرة إلا وواحد من عبيد الأعراب الجمالين يقول: أتسمعون الطبل، فأخذتنى- لما سمعت كلامه- قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان فى الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل، وأنا دهش مما أصابنى من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به، فشككت، وقلت: لعل الريح سكنت فى هذا العود الذى فى يدى وحدث مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدى، وجلست على الأرض، أو ثبت قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا،

(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 57) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عبد الله بن محمد بن المغيرة وهو ضعيف.

ص: 225

أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل، وذلك من ناحية اليمين ونحن سائرون إلى مكة المشرفة، ثم نزلنا إلى بدر، فظللت أسمع ذلك الصوت يومى أجمع المرة بعد المرة.

قال: لقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس اه.

وروى الطبرانى من حديث أبى اليسر»

، أنه أسر العباس، وقيل للعباس- وكان جسيما- كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم، ولو شئت لجعلته فى كفك، فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر فى عينى كالخندمة- وهى بالخاء المعجمة- جبل من جبال مكة، قاله فى القاموس.

ولما ولى عمر بن الخطاب وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبى صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار، فأطلقوا العباس، فكأن الأنصار فهموا رضا رسول الله- صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه، وسألوه أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم.

وفى حديث أنس عند الإمام أحمد: استشار- صلى الله عليه وسلم الناس فى الأسرى يوم بدر فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» . فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، أضرب أعناقهم، فأعرض عنه- عليه السلام، ثم عاد- صلى الله عليه وسلم فقال:

«يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم» .

فقال عمر: يا رسول الله، أضرب أعناقهم، فأعرض عنه- عليه السلام، فعل ذلك ثلاثا، فقام أبو بكر فقال يا رسول الله، أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب من وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «2» «3» الآية. ويأتى

(1) صحابى جليل، شهد بدرا والشاهد، مشهور بكنيته، كان قصيرا دحداحا عظيم البطن، مات بالمدينة سنة (55 هـ) .

(2)

سورة الأنفال: 68، 69.

(3)

أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 243) .

ص: 226

الكلام عليها فى النوع العاشر فى إزالة الشبهات من الآيات المشكلات من المقصد السادس- إن شاء الله تعالى-.

وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «يا عباس، افد نفسك وابنى أخيك، عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو» . قال إنى كنت مسلما ولكن القوم استكرهونى. قال: «الله تعالى أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقّا فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا» «1» .

وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهبا.

وعند أبى نعيم فى الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس أنه جعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ «2» . فقال العباس: وددت لو أخذ منى أضعافها لقوله تعالى يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ «3» .

وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس «4» .

تنبيه: لا يقدح فى وعد الله أن استشهد هؤلاء الصحابة- رضى الله عنهم-، وإنما هذا الوعد كقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ «5» . فقد نجز الموعود وغلبوا كما وعدوا، فكان وعد الله مفعولا ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله.

(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 353) ، وفى أوله قصة أبى اليسر المذكورة قبل قليل، إلا أنها فيه بلفظ آخر.

(2)

سورة الأنفال: 70.

(3)

سورة الأنفال: 70.

(4)

انظر غزوة بدر فى «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 606 و 715) و (2/ 43) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 11 و 27) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 265) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 380 و 515) .

(5)

سورة التوبة: 29.

ص: 227

وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون، وكان من أفضلهم العباس ابن عبد المطلب، وعقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكل أسلم.

وكان العباس- رضى الله عنه- فيما قاله أهل العلم بالتاريخ- قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال النبى- صلى الله عليه وسلم:«من لقى العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها، ففادى نفسه ورجع إلى مكة» .

وقيل إنه أسلم يوم بدر، فاستقبل النبى- صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة.

وقيل أسلم يوم فتح خيبر.

وقيل كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة، وكان إسلامه قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبى- صلى الله عليه وسلم، وكان يحب القدوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه- عليه الصلاة والسلام:«إن مقامك بمكة خير لك» .

وقيل إن سبب إسلامه، أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين، فأخذت منه فى الحرب، فكلم النبى- صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال:«أما شىء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك» ، فقال العباس تركتنى أتكفف قريشا، فقال له- صلى الله عليه وسلم:«فأين الذهب الذى دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة» فقال العباس: وما يدريك؟ فقال: «أخبرنى ربى» فقال: أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه أحد إلا الله، وأنا أشهد ألاإله إلا الله وأنك عبده ورسوله «1» .

ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم من بدر فى آخر رمضان وأول يوم من شوال، بعث زيد بن حارثة بشيرا فوصل المدينة ضحى، وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصحيح فى وفاة رقية.

(1) ذكره البغوى فى «تفسيره» (2/ 221) .

ص: 228

وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية، فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال «أيكم لم يقارف الليلة» فقال أبو طلحة أنا، فأمره أن ينزلها قبرها «1» .

وأنكر البخارى هذه الرواية، وخرج الحديث فى الصحيح فقال فيه: عن أنس. شهدنا دفن بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ولم يسم رقية ولا غيرها.

وذكر الطبرانى أنها أم كلثوم فحصل فى حديث الطبرانى التبيين. ومن قال: كانت رقية فقد وهم.

وكان عثمان قد تخلف لأجل رقية وزوجته فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.

وأمر- صلى الله عليه وسلم عند انصرافه عاصم بن ثابت- وهو جد عاصم بن عمر ابن الخطاب- بقتل عقبة بن أبى معيط، فقتله صبرا.

ثم أقبل- عليه السلام قافلا إلى المدينة ومعه الأسرى من المشركين، واحتمل النفل الذى أصيب منهم، وجعل عليه عبد الله بن كعب من بنى مازن. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين على السواء.

وأمر عليّا بالصفراء بقتل النضر بن الحارث.

ثم مضى- صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسرى بيوم. فلما قدموا فرقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بهم خيرا.

وقد استقر الحكم فى الأسرى عند الجمهور من العلماء: أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل كما فعل- صلى الله عليه وسلم ببنى قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الشافعى وطائفة من العلماء، وفى المسألة خلاف مقرر فى كتب الفقه والله أعلم.

(1) قلت: الخبر عند البخارى (1285) فى الجنائز، باب: وما يرخص من البكاء من غير نوح، من حديث أنس- رضى الله عنه-، ولم يسم فيه رقية ولا غيرها، إلا أن شراح الحديث ذهبوا إلى أنها أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان- رضى الله عنهما-.

ص: 229

ولما قدم أبو سفيان بن الحارث من بدر لمكة، سأله أبو لهب عن خبر قريش.

فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وايم الله- مع ذلك- ما لمت الناس. لقينا رجال بيض على خيل بلق «1» بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شىء.

قال أبو رافع- مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وكان غلاما للعباس بن عبد المطلب قال: وكان الإسلام قد دخلنا- فقلت: والله تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربنى فى وجهى ضربة، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به فى رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده.

قال: فو الله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة، وهى قرحة كانت العرب تتشاءم بها. وقيل إنها تعدى أشد العدوى، فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله، وبقى بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه. فلما خافوا السبة فى تركه حفروا له ثم دفعوه بعود فى حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.

وقال ابن عقبة: أقام النوح على قتلى قريش شهرا.

ثم سرية عمير بن عدى الخطمى، وكانت لخمس ليال بقين من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة، إلى عصماء بنت مروان- زوج يزيد ابن زيد الخطمى- وكانت تعيب الإسلام، وتؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فجاءها ليلا، وكان أعمى، فدخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فجسها بيده، ونحى الصبى عنها، ووضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها. ثم صلى الصبح معه- صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأخبره بذلك، فقال:

«لا ينتطح فيها عنزان» «2» أى لا يعارض فيها معارض ولا يسأل عنها فإنها هدر.

(1) البلق: سواد وبياض، وارتفاع التحجيل إلى الفخذين.

(2)

أخرج القصة ابن عساكر بنحوه، كما فى «كنز العمال» (25491) .

ص: 230