المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية] - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١

[القسطلاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌كلمة عن مصادر السيرة النبوية

- ‌عملى فى الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌نسبه:

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌مشايخه:

- ‌صفاته:

- ‌وفاته:

- ‌مصنفاته:

- ‌كلمة عن كتاب المواهب اللدنية

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌المقصد الأول

- ‌[تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم]

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم

- ‌[آيات حمله صلى الله عليه وسلم]

- ‌آيات ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[ذكر حضانته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]

- ‌[هجرته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[رؤيا الأذان]

- ‌[غزوة قرقرة الكدر]

- ‌ثم غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌[غزوة بنى النضير]

- ‌[غزوة ذات الرقاع]

- ‌[غزوة بدر]

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌غزوة بنى المصطلق

- ‌غزوة الخندق:

- ‌[غزوة بنى قريظة] :

- ‌غزوة بنى لحيان

- ‌غزوة الغابة

- ‌[سرية ابن رواحة إلى ابن رزام]

- ‌صلح الحديبية

- ‌[غزوة خيبر] :

- ‌عمرة القضاء:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌غزوة الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌حجة أبى بكر

- ‌المقصد الثانى

- ‌الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة

- ‌الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات

- ‌الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته

- ‌الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه

- ‌أما خدمه:

- ‌[من الرجال]

- ‌ومن النساء:

- ‌وأما حراسه:

- ‌وأما مواليه صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام

- ‌أما كتابه

- ‌وأما أمراؤه- عليه الصلاة والسلام

- ‌وأما رسله- صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه

- ‌أما مؤذنوه فأربعة

- ‌وأما شعراؤه- صلى الله عليه وسلم الذين يذبون عن الإسلام:

- ‌الفصل الثامن فى آلات حروبه صلى الله عليه وسلم كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه

- ‌أما أسيافه- صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما أدراعه فسبعة:

- ‌وأما أقواسه- صلى الله عليه وسلم فكانت ستة:

- ‌وأما أتراسه

- ‌وأما أرماحه- صلى الله عليه وسلم

- ‌تكميل:

- ‌الفصل التاسع فى ذكر خيله صلى الله عليه وسلم ولقاحه ودوابه

- ‌أما خيله- صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]

وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبى بكر، وعائشة أختها. كذا قاله ابن إسحاق وغيره. وهو وهم، لأن عائشة لم تكن ولدت بعد فكيف أسلمت. وكان مولدها سنة أربع من النبوة، قاله مغلطاى وغيره.

ودخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء.

[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]

ثم إن الله تعالى أمر رسوله- صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما جاء به، أى يواجه المشركين به.

وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن فى الصلاة.

وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ما زال النبى- صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «1» . فجهر هو وأصحابه.

وقال البيضاوى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «2» من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو فرق به بين الحق والباطل. وأصله: الإبانة والتمييز. و «ما» مصدرية أو موصولة، و «الراجع» محذوف، أى بما تؤمر به من الشرائع انتهى.

قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة، وهى المدة التى أخفى فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم أمره إلى الله تعالى بإظهاره.

فبادى قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله تعالى.

ولم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، وكان ذلك سنة أربع كما قاله العتقى. فأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وحدب عليه «3» عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه.

(1) سورة الحجر: 94.

(2)

سورة الحجر: 94.

(3)

حدب عليه: أى تعطف عليه، وأصل الحدب: خروج الظهر ودخول الظهر والبطن.

ص: 134

فاشتد الأمر، وتضارب القوم، وأظهر بعضهم لبعض العداوة، وتذامرت قريش على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.

ومنع رسول الله بعمه أبى طالب وبنى هاشم- غير أبى لهب- وبنى المطلب.

وقال مقاتل: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم عند أبى طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبى طالب يريدون بالنبى- صلى الله عليه وسلم سوآ، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم.

وقال:

والله لن يصلوا إليك يجمعهم

حتى أوسد فى التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وأبشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى

ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا لا محالة إنه

من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذارى سبة

لوجدتنى سمحا بذاك مبينا

وقد كفى الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم المستهزئين. كما قال تعالى:

وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «1» أى لا تلتفت إلى ما يقولون: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «2» . يعنى بقمعهم وإهلاكهم. وقد قيل: إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش:

الوليد بن المغيرة.

والعاصى بن وائل.

والحارث بن قيس.

والأسود بن عبد يغوث.

والأسود بن المطلب.

(1) سورة الحجر: 94.

(2)

سورة الحجر: 95.

ص: 135

وكانوا يبالغون فى إذائه- صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به. فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم. فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيما لأخذه، فأصاب عرقا فى عقبه فمات، وأومأ إلى أخمص العاصى فدخلت فيها شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى فمات، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد فى أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، وإلى عينى الأسود بن عبد المطلب فعمى.

وكان- صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس فى منازلهم يقول: «يا أيها الناس، إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا» ، وأبو لهب وراءه يقول: يا أيها الناس: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم «1» .

ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر، وتبعه قومه على ذلك.

وآذته قريش ورموه بالشعر والكهانة والجنون.

ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه، ويجعل الدم على بابه.

ووطىء عقبه بن أبى معيط على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان. وخنقوه خنقا شديدا، فقام أبو بكر دونه، فجذبوا رأسه ولحيته- صلى الله عليه وسلم حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول:

أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله.

وقال ابن عمرو- كما فى البخارى-: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله- صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه فى عنقه فخنقه خنقا شديدا، فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم. وفى رواية ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ «2» «3» .

(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 492، 4/ 341) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 61) ، والطبرانى فى «الأوسط» (1510) ، وفى «الكبير» (5/ 61 و 62) ، من حديث عباد الديلى رضى الله عنه-.

(2)

سورة غافر: 28.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (3856) فى المناقب، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة.

ص: 136

وقد ذكر العلماء، أن أبا بكر- رضى الله عنه- أفضل من مؤمن آل فرعون، لأن ذاك اقتصر حيث انتصر على اللسان، وأما أبو بكر فأتبع اللسان يدا، ونصر بالقول والفعل محمدا- صلى الله عليه وسلم.

وأخرج مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر «1» محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص»

على عقبيه، ويتقى بيديه، فقيل له: ما لك؟ قال: إن بينى وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، وأنزل الله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى «3» إلى آخر السورة «4» .

ولما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «5» جاءت امرأة أبى لهب، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو تنحيت عنها فإنها امرأة بذية، قال:«سيحال بينى وبينها» فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبك، قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله، فاندفعت راجعة، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما رأتك، قال:«كان بينى وبينها ملك سترنى بجناحه حتى ذهبت» . رواه ابن أبى شيبة وأبو نعيم.

وفى رواية البيهقى فقال- صلى الله عليه وسلم: «قل لها: ترين عندى أحدا؟ فإنها لن ترانى» .

وفى رواية أيضا: «كان- صلى الله عليه وسلم يصلى عند الكعبة، وجمع من قريش فى مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائى، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجىء به ثم يمهله حتى

(1) أى: يسجد ويلصق وجهه بالتراب.

(2)

أى: يرجع ماشيا إلى الوراء.

(3)

سورة العلق: 6- 19.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (2797) فى صفة القيامة، باب: قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.

(5)

سورة المسد: 1.

ص: 137

إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم، فلما سجد- صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبى- صلى الله عليه وسلم ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهى جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبى- صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم الصلاة قال:«اللهم عليك بقريش ثم سمى فقال: اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبى معيط، وعمارة بن الوليد» .

قال عبد الله: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«وأتبع أصحاب القليب لعنة» «1» .

واستدل بهذا الحديث: على أن من عرض له فى صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها فى الحال، ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقا.

واستدل به أيضا: على طهارة فرث ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض، وهو ضعيف.

وأجاب النووى: بأنه- عليه السلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر فى سجوده، استصحابا لأصل الطهارة.

وتعقب: بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة فى مثل هذه الصورة.

وأجيب عنه: بأن الإعادة إنما تجب فى الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت موسع فلعله أعاد.

وتعقب: بأنه لو أعاد لنقل، ولم ينقل، وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (520) فى الصلاة، باب: المرأة تطرح عن المصلى شيئا من الأذى، ومسلم (1794) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين.

ص: 138

وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد فى المذكورين، لأنه لم يقتل فى بدر، بل ذكر أصحاب المغازى: أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشى، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشى ساحرا فنفخ فى إحليل عمارة من سحره فتوحش، وصار مع البهائم إلى أن مات فى خلافة عمر.

وأجيب: بأن كلام ابن مسعود- أنه رآهم صرعى فى القليب- محمول على الأكثر، ويدل عليه: أن عقبة بن أبى معيط لم يطرح فى القليب، وإنما قتل صبرا بعد أن رحلوا عن بدر بمرحلة. وأمية بن خلف لم يطرح فى القليب، كما سيأتى إن شاء الله تعالى.

وقوله: ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «وأتبع أصحاب القليب لعنة» يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضى، فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة ويحتمل أن يكون قاله- صلى الله عليه وسلم بعد أن ألقوا فى القليب.

ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان أعز فتى فى قريش، وأشده شكيمة، وكان إسلامه- فيما قاله العتقى- سنة ست، فعزّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفت عنه قريش قليلا، وقال حمزة حين أسلم:

حمدت الله حين هدى فؤادى

إلى الإسلام والدين الحنيف

لدين جاء من رب عزيز

خبير بالعباد بهم لطيف

إذا تليت رسائله علينا

تحدر دمع ذى اللب الحصيف

رسائل جاء أحمد من هداها

بايات مبينة الحروف

وأحمد مصطفى فينا مطاع

فلا تغشوه بالقول العنيف

فلا والله نسلمه لقوم

ولما نقض فيهم بالسيوف

وعند مغلطاى: وسألوه- يعنى: النبى- صلى الله عليه وسلم إن كنت تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا قد غلب عليك بذلنا أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه فيك.

فقال لهم- عليه السلام: «ما بى ما تقولون، لكن الله بعثنى رسولا، وأنزل

ص: 139

على كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى، ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بينى وبينكم» «1» .

والرئى- بفتح الراء، وقد تكسر، ثم همزة، فياء مشددة- جنى يرى فيحب، أو المكسورة للمحبوب منها، قاله فى القاموس.

ثم إن النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط ذهبا إلى أحبار اليهود، فسألاهم عنه- صلى الله عليه وسلم فقالوا لهما: سلاه عن ثلاثة، فإن أخبركما بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فهو متقول. سلاه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول، وعن رجل طواف، وعن الروح ما هو؟

فقال لهم- عليه السلام: «أخبركم غدا» ، ولم يقل إن شاء الله تعالى، فلبث الوحى أياما، ثم نزل قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» وأنزل الله تعالى ذكر الفتية الذين ذهبوا، وهم أصحاب الكهف، وذكر الرجل الطواف. وهو ذو القرنين. وقال فيما سألوه عن الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «3» الآية.

وفى البخارى من حديث عبد الله بن مسعود قال: «بينا أنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى حرث، وهو متكىء على عسيب، إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، قالوا: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشىء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبى- صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامى فلما نزل الوحى قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «4» «5» .

(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 313) .

(2)

سورة الكهف: 23، 24.

(3)

سورة الإسراء: 85.

(4)

سورة الإسراء: 85.

(5)

صحيح: أخرجه البخارى (125) فى العلم، باب: قول الله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، ومسلم (2794) فى صفة القيامة، باب: سؤال اليهود النبى- صلى الله عليه وسلم عن الروح.

ص: 140

قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضى- فيما يظهر من بادىء الرأى- أن هذه الآية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سألت اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة [الإسراء] كلها مكية.

وقد يجاب عن هذا: بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. ومما يدل على نزولها بمكة ما رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت الحديث «1» . انتهى.

وهذا الحديث رواه الترمذى أيضا بإسناد رجاله رجال مسلم.

فيحمل على تعدد النزول كما أشار إليه ابن كثير، ويحمل سكوته فى المرة الثانية على توقع مزيد بيان فى ذلك.

وقد اختلف فى المراد بالروح المسئول عنه فى هذا الخبر:

فقيل: روح الإنسان.

وقيل: جبريل.

وقيل: عيسى.

وقيل: ملك يقوم وحده صفّا يوم القيامة.

وقيل: غير ذلك.

وقال القرطبى: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح.

وقال الإمام فخر الدين: المختار أنهم سألوه عن الروح الذى هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هى متحيزة أم لا؟ وهل هى حالة فى متحيز أم لا؟

(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3140) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل (الإسراء) ، وأحمد فى «مسنده» (1/ 255) ، وابن حبان فى «صحيحه» (99) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 579) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ص: 141

وهل هى قديمة أو حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها.

قال: وليس فى السؤال ما يخصص أحد هذه المعانى، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية. وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شىء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهى جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى:«كن» ، فكأنه قال: هى موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه ولها تأثير فى إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه.

قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر فى قوله تعالى: مِنْ أَمْرِ رَبِّي «1» الفعل، كقوله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ «2» . أى فعله. فيكون الجواب: أنها حادثة.

ثم قال: وقد سكت السلف عن البحث فى هذه الأشياء والتعمق فيها.

انتهى.

وقال فى فتح البارى: وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم:

فقيل: هى النفس الداخل الخارج.

وقيل: جسم لطيف، يحل فى جميع البدن.

وقيل: هى الدم.

وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة.

ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين: أن لكل نبى خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة، ولكل حى واحدة.

وقال ابن العربى: اختلفوا فى الروح والنفس، فقيل متغايران، وهو الحق، وقيل هما شىء واحد، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس «3» .

(1) سورة الإسراء: 85.

(2)

سورة هود: 97.

(3)

قاله الحافظ فى «الفتح» (8/ 403) .

ص: 142

وقال ابن بطال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر.

قال: والحكمة فى إبهامه: اختبار الخلق، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه.

وقال القرطبى: الحكمة فى ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى.

وقال بعضهم: ليس فى الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه- صلى الله عليه وسلم على حقيقة الروح بل يحتمل أن يكون أطلعه الله ولم يأمره أن يطلعهم. وقد قالوا فى علم الساعة نحو هذا والله أعلم. انتهى.

ولما كثر المسلمون، وظهر الإيمان، أقبل كفار قريش على من آمن يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم.

حتى إنه مر عدو الله، أبو جهل، بسمية أم عمار بن ياسر، وهى تعذب فطعنها بحربة فى فرجها فقتلها.

وكان أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه منهم وأعتقه، منهم بلال وعامر بن فهيرة.

وعن أبى ذر: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله- صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبى طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم فى الشمس، وإن بلالا هانت عليه نفسه فى الله عز وجل، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به فى شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد «1» . رواه أحمد فى مسنده.

(1) حسن: أخرجه ابن ماجه (150) فى المقدمة، باب: فضل سلمان وأبى ذر والمقداد، وأحمد فى «مسنده» (1/ 404) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7083) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 320) ، من حديث ابن سعد- رضى الله عنه-، وليس أبو ذر كما ذكر المصنف، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

ص: 143

وعن مجاهد مثله، وزاد فى قصة بلال: وجعلوا فى عنقه حبلا ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل فى عنقه.

فانظر كيف فعل ببلال ما فعل من الإكراه على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وهذا كما وقع له أيضا عند موته، كانت امرأته تقول: واحزناه وهو يقول: واطرباه. غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء. ولله در أبى محمد الشقراطسى حيث قال:

لاقى بلال بلاء من أمية قد

أحله الصبر فيه أكرم النزل

إذ أجهدوه بضنك الأسر وهو على

شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل

ألقوه بطحا برمضاء البطاح وقد

عالوا عليه صخور جمة الثقل

فوحد الله إخلاصا وقد ظهرت

بظهره كندوب الطل فى الطلل

إن قدّ ظهر ولى الله من دبر

قد قدّ قلب عدو الله من قبل

يعنى إن كان ظهر ولى الله بلال قد ظهر فيه التعذيب بقده، فقد جوزى عدو الله أمية وقد قلبه ببدر، لأنه قتل يومئذ، وكان عبد الرحمن بن عوف قد أسره يومئذ وأراد استبقاءه لأخوة كانت بينهما فى الجاهلية، فرآه بلال معه فصاح بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا فنهشوه بأسيافهم حتى قتلوه.

وأخرج البيهقى عن عروة أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب فى الله سبعة منهم، الزنيرة، فذهب بصرها، وكانت ممن تعذب فى الله، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون:

ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كلا والله ما هو كذلك فرد الله عليها بصرها.

والزنيرة: بكسر الزاى وتشديد النون المكسورة. كسكينة: كذا فى القاموس.

ص: 144