الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الروم»
«1»
قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)«2» .
هذه استعارة والمراد بقيام الساعة حضور وقتها والأجل المضروب لها.
وعلى هذا قولهم: قد قامت السوق أي حضر وقتها الّذي يتحرّك فيه أصحابها ويستمرّ بيعها وشراؤها. وعلى هذا المعنى سمّيت القيامة. وقد يجوز أيضا أن تكون تسميتها بذلك لقيام الناس فيها على أقدامهم قال سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)[المطفّفين] :
فأمّا قوله تعالى في هذه السورة وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الآية 25] ، فمعناه أنها تتماسك بأمره في مناطاتها وتقف على مستقرّاتها، ومثل ذلك قول القائل: إنّما يقوم أمر فلان بكذا، يريد أنّه إنّما يتماسك به، وليس هناك في الحقيقة قيام يشار إليه. فأمّا قوله تعالى في هذه السورة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الآية 30] ، فالمراد به اتّبع طرائق الدين قاصدا إلى سمته غير منحرف عنه إلى غيره، ومنه قول العرب: قد استقام المنسم إذا سارت الإبل في طريق واضح لا جوانح له ولا معادل فيه والمعنى قوّم وجهك على الدين اللّاحب «3» ومنهج الحق الواضح وقوله تعالى في هذه الآية دليل على أنّ الدّين القيّم راجع في
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2)
. من بلس: انكسر وحزن. قلّ خيره. تحيّر في أمره. يئس من رحمة الله.
(3)
. من لحب، لحب الطريق: سلكه. أوضحه. [.....]
المعنى إلى ما ذكرناه، والمراد به أنه مستقيم بغير اعوجاج، ومنتصب بغير اضطراب، وقوله تعالى من بعد:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) قريب في المعنى ممّا تقدم، لأنّ المراد بذلك لا يخلو من أحد الأمرين: إمّا أن يكون أراد تعالى بإقامة الصلاة القيام لأوقاتها، لأنّ القيام من أعظم أركان الصلاة وإمّا أن يكون أراد تأديتها على واجبها وإخلاصها من كلّ ما يعود بفسادها، وذلك كقولهم:
أقام فلان قناة الدّين أي أظهر أمره، ووالى نصره، ورمى الأعداء عنه، ووقم «1» الأضداد دونه، وجميع هذه الألفاظ المذكورة نظائر، وهي بأجمعها استعارات لا حقائق، وإنّما أوردناها في نسق واحد، لاتّفاق ورودها في سورة واحدة.
2-
قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الآية 32] .
وهذه استعارة، لأن الدّين على الحقيقة لا يتأتّى فيه التفريق وإنّما المراد، والله أعلم، أنّهم لمّا افترقوا في دينهم بمذاهب مختلفة وطرائق متباينة، كانوا كأنّهم قد فرّقوه فرقا، وجعلوه شيعا، فحسن وصفهم بذلك.
3-
قال تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) .
وهذه استعارة. والمراد بالسلطان هاهنا البرهان على أحد التأويلين وهو الحقّ الّذي يتسلّط به الإنسان على مخالفه، ويظهر على منازعه، وإنّما وصفه سبحانه بالكلام، لظهور حجّته وقوّة دعوته، فكأنه ناطق ومدافع مناضل.
4-
قال سبحانه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الآية 39] .
وهذه استعارة والمراد بالرّبا هاهنا، المال الّذي يعطيه الإنسان غيره ليعطيه أكثر منه على الوجه المنهي عنه.
وأصل الرّبو الزيادة والكثرة، وإنّما سمّي المال المعطى الّذي يلتمسون به الزيادة ربا، لأنه جعل غرضه لطلب الزيادة، ووصلته إليها علّة لها، فحسن تسميته بذلك، للسبب الّذي ذكرناه، ومعنى قوله تعالى: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ
(1) . من وقم، أوقم الرجل: قهره. وردّه عن حاجته أقبح الردّ.
أي ليزيد في أموال الناس، وليس قوله سبحانه هاهنا بمعنى ليكون مددا لأموال الناس فتزيد به. وإنّما المعنى يزيد هو بدخوله في أموال الناس ودخوله فيها، هو أنّ صاحبه يعطيه الناس ليأخذ منهم أكثر منه فإذا ما كره وأراد التعويض عنه بالقدر الزائد عليه، كان كأنّه قد ربا أي كثر بحصوله في أموال الناس، لأنّ كثرته وإضعافه كان السبب فيهما، كونه في أموال الناس على الوجه الّذي بيّنّاه، وهذا من غوامض المعاني. ومن الشواهد على بيان ربا، بمعنى الزيادة والكثرة في كلامهم قول يزيد بن مفرغ الحميري:
وكم عطايا له ليست مكدّرة لا بل تفيض كفيض المسبل الرّابي يريد البحر، فسمّاه رابيا، لكثرة مائه وارتفاع أمواجه.
5-
قال سبحانه: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) .
وهذه استعارة. ومعنى يمهدون هاهنا، أي يوطّئون لجنوبهم، ويمكّنون لأقدامهم عند مصارع الموت ومواقف البعث. وذلك كناية عن تقديم العمل الصالح والمتجر الرابح، تشبيها بمن وطّأ لمضجعه بالفرش الوثيرة والنمارق «1» الكثيرة.
6-
قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الآية 46] .
وهذه استعارة. والمراد بها ما جرت به العادة من هبوب الرياح أمام الغيوث، وأنّ ذلك يقوم مقام النطق البشّار، والوعد بالأمطار المتوقعة بين يدي الرحمة. والرحمة في كثير من الآيات كناية عن الغيث، وعلى ذلك قوله تعالى في هذه السورة فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ [الآية 50] أي الى ما كان يعقب الغيوث، من منابت الأعشاب واكتساء القيعان.
7-
قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الآية 48] .
وهذه استعارة. والمراد بإثارتها السحاب أنها تلفق قطعه، وتوصل منقطعه، وتستخرجه من غيوبه، وتظهره بعد غيوضه تشبيها بالقانص أي ينهضه من مجاثمه، ويبرزه عن مكانه، لتراه عينه فيتأتّى لقنصه، ويتمكّن من فرصه.
(1) . من النمرق: الوسادة الصغيرة يتّكأ عليها.