الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشاميّ إِلَى الديار المصرية أَيَّام النَّاصِر أَحْمد فَلَمَّا رَآهُ السُّلْطَان أمره بالْمقَام فِي الْقَاهِرَة وَأَعْطَاهُ طبلخاناه فَأَقَامَ بهَا وَكَانَ ممّن يتردّد إِلَى الْحِجَازِي فَلَمَّا أَن قتل الحجازيّ لحقه شواظ من ناره ثمَّ إِنَّه أخرج إِلَى الشَّام فِي أَوَائِل سنة تسع وَأَرْبَعين وَسبع مائَة وَهُوَ من أحسن الأشكال وأجمل الْوُجُوه لم ينْبت بِوَجْهِهِ شعر وَله بَين عَيْنَيْهِ خَال حسن فِي مَكَان البلج
3 -
(الْأَمِير ابْن البرجميّ)
خَلِيل ابْن البرجمي الْأَمِير حسان الدّين أعرفهُ وَهُوَ يتحدّث فِي نِيَابَة ديوَان الْأَمِير سيف الدّين بشتاك بِالشَّام ثمَّ إِنَّه تحدَّث فِي ديوَان الْكَامِل قبل أَن يَلِي الْملك وَلما ولي الْكَامِل الْملك طلبه إِلَى مصر ورسم لَهُ بطبلخاناه وشدّ الدَّوَاوِين بِالشَّام وخلع عَلَيْهِ وجهزّه إِلَى الشَّام وَمَعَهُ عَلَاء الدّين بن الحرَّاني نَاظر النُّظار بالشّام فباشر ذَلِك لم يزل على حَاله مُدَّة ولَايَة الْكَامِل وَلما خلع الْكَامِل أخذت الطبلخاناة من الْأَمِير حسام الدّين الْمَذْكُور وَاسْتمرّ بطّالاً إِلَى أَن كتب لَهُ بِعشْرَة الْأَمِير بدر لدين صَدَقَة ابْن الحاجّ بيدمر فِي أَيَّام الْأَمِير سيف الدّين أرغون شاه فَلَمَّا حضر منشوره بذلك من مصر صُحْبَة البريدي كَانَ قد انْقَطع قبل بيومٍ وَنَفث دَمًا وَمَات ثَانِي)
يومٍ تَاسِع عشر شهر رَجَب الْفَرد سنة تسعٍ وَأَرْبَعين وَسبع مائةٍ فِي طاعون دمشق رَحمَه الله تَعَالَى
3 -
(الْأَشْرَف بن قلاون)
خَلِيل بن قلاون السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف صَلَاح الدّين ابْن السّلطان الْملك الْمَنْصُور سيف الدّين قلاون الصّالحيّ جلس على تخت الْملك فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وستّ مائَة بعد موت وَالِده واستفتح الْملك بِالْجِهَادِ وَسَار ونازل عكا وافتتحها ونظف الشَّام كُله من الفرنج ثمَّ سَار فِي السّنة الثَّانِيَة فنازل قلعة الرّوم وحاصرها خَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا وافتتحها وَفِي السّنة الثَّالِثَة جَاءَتْهُ مَفَاتِيح قلعة بهسنى من غير قتالٍ إِلَى دمشق وَلَو طَالَتْ مدَّته لملك الْعرَاق وَغَيرهَا فَإِنَّهُ كَانَ بطلاً شجاعاً مقداماً مهيباً عَليّ الهمة يملاً الْعين ويرجف الْقلب وَكَانَ ضخماً سميناً كَبِير الْوَجْه بديع الْجمال مستدير اللّحية على وَجهه رونق الْحسن
وهيبة السّلطنة وَكَانَ إِلَى جوده وبذله الْأَمْوَال فِي أغراضه الْمُنْتَهى تخافه الْمُلُوك فِي أقطارها أباد جمَاعَة من كبار الدولة وَكَانَ ومنهمكاً على اللّذات لَا يعبأ بالتحرّز على نَفسه لفرط شجاعته
توجَّه من الْقَاهِرَة فِي ثَالِث المحرّم سنة ثَلَاث وَتِسْعين وست مائَة هُوَ والوزير شمس الدّين بن السّلعوس وأمراء دولته وفارقه وزيره من الطَّرَّانة إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وعسف فِيهَا وظلم وصادر النَّاس وَنزل الْأَشْرَف بِأَرْض الحمّامات للصَّيد وَأقَام إِلَى يَوْم السَّبت ثَالِث عشر المحرّم فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعَصْر وَهُوَ بتروجه حضر نَائِب السَّلطنة بيدرا وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء وَكَانَ الْأَشْرَف أمره بكرَة أَن يمْضِي بالدِّهليز ويتقدم ليتصيّد هُوَ وَيعود عشيّةً فأحاطوا بِهِ وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا شهَاب الدّين ابْن الأشلِّ أَمِير شكاره فَابْتَدَرَهُ بيدرا فَضَربهُ بالسّيف قطع يَده فصاح حسام الدّين لاجين عَلَيْهِ وَقَالَ من يُرِيد الْملك تكون هَذِه ضَربته وضربه على كتفه حلَّه فَسقط إِلَى الأَرْض وَلم يكن مَعَه سيف بل كَانَ مشدود الْوسط بالبند ثمَّ جَاءَ سيف الدّين بهادر رَأس نوبَة فَأدْخل السَّيْف من أَسْفَله وَشقه إِلَى حلقه وتركوه طريحاً فِي الْبَريَّة والتفّوا على بيدرا وحلفوا لَهُ
وسَاق تَحت العصائب يطْلب الْقَاهِرَة وتسمَّى فِيمَا قيل بِالْملكِ الأوحد وَبَات تِلْكَ اللَّيْلَة وَأصْبح يسيِّر فَلَمَّا ارْتَفع النَّهَار إِذا بطلبٍ كبيرٍ قد أقبل يقدمهُ زين الدّين كتبغا وحسام الدّين أستاذ الدَّار يطْلبُونَ بيدرا بِدَم أستاذهم وَذَلِكَ بالطَّرَّانة فحملوا عَلَيْهِ فتفرَّق عَنهُ أَكثر من مَعَه وَقتل فِي)
الْحَال وَحمل رَأسه على رمح وجاؤوا إِلَى الْقَاهِرَة فَلم يمكَّنهم الشُّجاعيّ من التَّعْدِيَة وَكَانَ نَائِب السلطنة فِي تِلْكَ السّفرة فَأمر بالشواني كلهَا فَربطت إِلَى الْجَانِب الآخر وَنزل الْجَيْش على الْجَانِب الغربي ثمَّ مشت بَينهم الرُّسُل على أَن يقيموا فِي السلطنة الْملك النَّاصِر مُحَمَّدًا أَخا الْأَشْرَف فتقرر ذَلِك وأجلسوه على التخت يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر الْمحرم وَأَن يكون كتبغا أتابكه ووزيره الشُّجاعي واختفى حسام الدّين لاجين وقراسنقر المنصوري وَغَيرهمَا مِمَّن شَارك فِي قتلته
قَالَ شمس الدّين الْجَزرِي حَدثنِي الْأَمِير سيف الدّين أَبُو بكر المحفَّدار قَالَ كَانَ السُّلْطَان رحمه الله قد نفذني بكرَة إِلَى بيدرا بِأَن يتقدَّم بالعساكر فَلَمَّا قلت لَهُ ذَلِك نفر فيَّ وَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة كم يستعجلني ثمَّ إِنِّي حملت الزَّردخاه والثِّقل الَّذِي لي وَركبت فَبينا أَنا ورفيقي صارم الدّين الفخري وركن الدّين أَمِير جاندار عِنْد الْغُرُوب وَإِذا بنجَّاب قد أقبل فَقُلْنَا لَهُ أَيْن تركت السُّلطان فَقَالَ يطول الله أعماركم فِيهِ فبهتنا وَإِذا بالعصائب قد لاحت وَأَقْبل الْأُمَرَاء وبيدرا فِي الدّست فَجِئْنَا وَسلمنَا وسايره أَمِير جاندار وَقَالَ لَهُ يَا خوند هَذَا الَّذِي تمّ كَانَ بمشورة الْأُمَرَاء قَالَ نعم أَنا قتلته بمشورتهم وحضورهم وهاهم حُضُور وَكَانَ من جُمْلَتهمْ حسام الدّين لاجين وبهادر رَأس نوبَة وقراسنقر وَبدر الدّين بيسري ثمَّ إِن بيدرا شرع يعدِّد ذنُوبه وإهماله لأمور الْمُسلمين واستهتاره بالأمراء وتوزيره لِابْنِ السَّلعوس ثمَّ قَالَ رَأَيْتُمْ الْأَمِير زين الدّين كتبغا قُلْنَا
لَا فَقَالَ لَهُ أَمِير جاندار كَانَ عِنْده علم من هَذِه الْقَضِيَّة قَالَ نعم هُوَ أول من أَشَارَ بهَا فَلَمَّا كَانَ من الْغَد جَاءَ كتبغا فِي طلب نَحْو أَلفَيْنِ من الخاصَّكية وَغَيرهم ثمَّ قَالَ كتبغا لبيدرا أَيْن السّلطان ورماه بالنشّاب ورموا كلّهم بالنشّاب وقتلوه وتفرَّق جمعه قَالَ فَلَمَّا رَأينَا ذَلِك التجأنا إِلَى جبلٍ واختلطنا بِالطَّلَبِ الَّذِي جَاءَ فَعرفنَا بعض أَصْحَابنَا فَقَالَ لنا شدّوا بالعجلة مناديلكم فِي أرقابكم إِلَى تَحت الْإِبِط يَعْنِي شعارهم
قَالَ ابْن المحفَّدار وَسَأَلت شهَاب الدّين ابْن الأشلّ كَيفَ كَانَ قتل السُّلْطَان قَالَ جَاءَ إِلَيْهِ بعد رحيل الدّهليز الْخَبَر أَن بترُّوجة طيراً كثيرا فَقَالَ لي امش بِنَا حَتَّى نسبق الخاصَّكيَّة فَرَكبْنَا وسرنا فَرَأَيْنَا طيراً كثيرا فَرمى بالبندق وصرع كثيرا ثمَّ قَالَ أَنا جيعان فَهَل مَعَك شيءٌ تطعمني فَقلت مَا معي سوى فرُّوجة ورغيف فِي سولقي فَقَالَ هاته فناولته فَأَكله ثمَّ قَالَ امسك فرسي حَتَّى أبول قَالَ فَقلت مَا فِيهَا حِيلَة أَنْت رَاكب حصان وَأَنا رَاكب حجر وَمَا)
يتفقان فَقَالَ انْزِلْ أَنْت واركب خَلْفي وأركب أَنا الْحجر الَّتِي لَك وَهِي تقف مَعَ الحصان إِذا كنت فَوْقه فَنزلت وناولته لجامها وَركبت خَلفه ثمَّ نزل هُوَ وَجعل يريق المَاء ويولع بِذكرِهِ ويمازحني ثمَّ ركب حصانه وَأمْسك الْحجر لي حَتَّى ركبت وَإِذا بغبار عَظِيم فَقَالَ لي سُقْ واكشف الْخَبَر فسقت وَإِذا ببيدرا والأمراء فسألتهم عَن سَبَب مجيئهم فَلم يردّوا عليّ وَسَاقُوا إِلَى السُّلْطَان وقتلوه ثمَّ إِنَّه بعد يَوْمَيْنِ طلع وَالِي ترّوجة وغسلوه وكفّنوه ووضعوه فِي تَابُوت وسيَّروا من الْقَاهِرَة الْأَمِير سعد الدّين كوجبا الناصري فأحضر التابوت وَدفن فِي تربة والدته وَذَلِكَ سنة ثلاثٍ وَتِسْعين وستّ مائَة وَكَانَ من أَبنَاء الثَّلَاثِينَ أَو أقلّ
ذكر فتوحاته عكا وصور وصيدا وبيروت وقلعة الرّوم وبهسنى وَجَمِيع السَّاحِل فِي أقرب مُدَّة وَكَانَ مُدَّة ملكه ثَلَاث سِنِين وشهرين وَخَمْسَة أَيَّام وَكَانَ كرمه زَائِدا وإطلاقاته عَظِيمَة
وَكَانَت واقعته تسمَّى وقْعَة الْأَيْدِي والأكتاف لِأَن جَمِيع من وَافق عَلَيْهِ قطِّعت أَيْديهم أَولا وَفِيهِمْ من سمِّر وَفِيهِمْ من أحرق وَفِيهِمْ من قتل وَلم يجدَّد فِي زَمَانه مظْلمَة وَلَا استجد ضَمَان مكس وَكَانَ يحب الشّام وَأَهله وَحدثت أَنه كَانَ بِدِمَشْق قبل ولَايَة الْأَشْرَف يُؤْخَذ عِنْد بَاب الْجَابِيَة على كل حملٍ يحمل غلَّةً خَمْسَة دَرَاهِم مكساً فَأول ولَايَة الْأَشْرَف وَردت إِلَى دمشق محامحة بِإِسْقَاط ذَلِك المكس وَبَين سطور المرسوم بذلك بِخَطِّهِ بقلم الْعَلامَة ولتسقط عَن رعايانا هَذِه الظُّلامة ويستجلب الدُّعَاء لنا من الخاصّة والعامّة من الْبَسِيط
(وأزرق الصُّبح يَبْدُو قبل أبيضه
…
وَأول الْغَيْث قطرٌ ثمَّ ينسكب)
قلت هَكَذَا حدِّثت فَإِن كَانَ هَذَا من عِنْد السُّلْطَان نَفسه فَهَذِهِ غَايَة فِي البراعة وَإِن كَانَ من الكتّاب أَملوهُ عَلَيْهِ وَقت الْعَلامَة فَهِيَ أَيْضا دَالَّة على تيقُّظه كَونه كتب ذَلِك بقلمه لِأَنَّهُ أعجبه ولاق بِقَلْبِه وَمَا الْأَمر بِبَعِيد فَإِن صَلَاح الدّين يُوسُف بن عبيد الله أحد كتاب الْإِنْشَاء بِمصْر
أَخْبرنِي أَن الْملك الْأَشْرَف لما تولَّى الْملك منعنَا أَن نكتب إِلَى أحد بدعاءٍ فِي أول الْمُكَاتبَة مثل حرس الله نعْمَة الْمجْلس العالي وَمَا أشبه ذَلِك وَقَالَ من هُوَ الَّذِي افْتتح خطابه بِالدُّعَاءِ لَهُ وَقَالَ كَانَ يتأمَّل مَا يعلم عَلَيْهِ من أَوله إِلَى آخِره فَمَا أرضاه علّم عَلَيْهِ وَمَا لم يرضه خرَّج فِيهِ مَا أَرَادَ وَقَالَ لي كَانَ قد عظم فِي الآخر إِلَى أَن صَار لَا يكْتب اسْمه وَإِنَّمَا يكْتب خَ إِشَارَة إِلَى أوَّل حرف من اسْمه وَقَالَ إِنَّه لما توفّي فتح الدّين بن عبد الظَّاهِر ورتِّب عماد الدّين بن الْأَثِير مَكَانَهُ جَاءَت إِلَيْهِ ورقة بخطّ السّلطان فِيهَا مَكْتُوب يَا عماد اكْتُبْ بَكَيْت وَكَيْت)
ثمَّ بعد مدةٍ جَاءَت ورقة فِيهَا مَكْتُوب يَا عماد الدّين اكْتُبْ بِكَذَا وَكَذَا ثمَّ بعد مدةٍ جَاءَت ورقة مَكْتُوب فِيهَا يَا عماد الدّين كَاتب سرنا اكْتُبْ بِكَذَا وَكَذَا أَو كَمَا قَالَ وَكَانَ الموقّعون أَولا يَكْتُبُونَ فِي الطُّرَّة إِشَارَة إِلَى مَا يعلّمه السُّلْطَان على قدر الْمُكَاتبَة أما أَن يكْتب أَخُوهُ أَو يَقُولُونَ بيبرس أَو قلاون أَو خَلِيل بِحَسب من يكون من الْمُلُوك فَلَمَّا كَانَ فِي أَيَّام الْأَشْرَف أبطل ابْن عبد الظَّاهِر خَلِيل وَكتب الِاسْم الشريف فأعجبه ذَلِك وَأمر لَهُ لكل حرف بِأَلف دِرْهَم وَكَانَ قد منع كتَّاب الْإِنْشَاء أَن يكتبوا لأحدٍ فِي ألقابه الزعيمي وَقَالَ من هُوَ زعيم الجيوش غَيْرِي وَقَالَ لي القَاضِي شهَاب الدّين بن فضل الله كَانَ عندنَا فِي أوراق عمي شرف الدّين جملَة كَبِيرَة بِخَط الْملك الْأَشْرَف إِلَيْهِ فِيهَا مَقَاصِد مَا يَكْتُبهُ عَنهُ قَالَ وَهِي عبارَة مسددة ومقاصد مستوفاة للغرض الْمَقْصُود وَفِي بعض تِلْكَ الأوراق بخطّ يَده عجبا لذهنك الوقّاد وفكرك النقَّاد كَيفَ فاتك هَذَا وَكَانَ فِيهَا مَا يكْتب إِلَى أبي نميّ وَمن جملَة ذَلِك فركنت إِلَى الظّاهر وَهُوَ أَخبث الطَّير وَأَنت أحذر الْوَحْش ونقلت من خطّ القَاضِي محيي الدّين بن عبد الظَّاهِر فِي سيرة الْأَشْرَف قَالَ مَا رَأَيْت وَلَا سَمِعت بأسبق من ذهنه إِلَى فهمٍ وَلَا أدْرك مِنْهُ لما يزِيل الْوَهم وَلَقَد كتبت عَنهُ واستكتبت فَمَا علَّم على مَكْتُوب قطُّ إِلَّا وقرأه جَمِيعه وَفهم أصُول الْمَكْتُوب وفروعه لَا بل واستدرك عليَّ وعَلى الكتَّاب وخرَّج أَشْيَاء كَثِيرَة مَعَه فِيهَا الصَّواب وَذَلِكَ بِحسن تعطّفٍ وتلطفٍ ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَمِمَّا جرى لَهُ أَنه فِي بعض الْأَيَّام جَالس فِي الميدان والقرّاء بَين يَدَيْهِ يقرأون الْقُرْآن فِي خلوته وَكَانَ وَالِده يحاصر طرابلس فَقَالَ نَصره الله تَعَالَى فِي هَذِه السَّاعَة أخذت طرابلس وشاع ذك عَنهُ وذاع وَكَانَ الْأَمر كَذَلِك وَذَلِكَ لأمر كشفه الله لذهنه الشريف وأطلعه عَلَيْهِ إِن الْمُلُوك نقيَّة الأذهان وَفِيه يَقُول شمس الدّين مُحَمَّد بن سلمَان بن غانمٍ من المتقارب
(مليكان قد لقِّبا بالصَّلاح
…
فَهَذَا خليلٌ وَذَا يُوسُف)
(فيوسف لَا شكَّ فِي فَضله
…
وَلَكِن خليلٌ هُوَ الْأَشْرَف)
وَفِيه يَقُول الْحَكِيم شمس الدّين ابْن دانيال من الْبَسِيط
(خليلٌ تكسِّر أصنام الزَّمَان وَكم
…
جبرت قوما وَلَكِن بَعضهم هُبل)
(وكلُّ نمروذ قد أودى بهامته
…
ذُبَاب سَيْفك حَتَّى غاله الْأَجَل)
)
نقلت من خطّ محيي الدّين بن عبد الظَّاهِر قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه الْعَالم الْفَاضِل شرف الدّين
البوصيري رأى فِي مَنَامه قبل الْحَرَكَة إِلَى عكا فِي شَوَّال سنة تسعٍ وَثَمَانِينَ وست مائَة وَقَالَ ذَلِك لجَماعَة شهدُوا بِصِحَّة ذَلِك وَكَأن قَائِلا ينشد من مخلع الْبَسِيط
(قد أَخذ الْمُسلمُونَ عكّا
…
وأشبعوا الْكَافرين صكّا)
(وسَاق سلطاننا إِلَيْهِم
…
خيلاً تدكُّ الْجبَال دكّا)
(وَأقسم التُّرك مُنْذُ سَارَتْ
…
لَا تركُوا للفرنج ملكا)
وَقَالَ فِيهِ ابْن دانيال لما فتح عكا من الْخَفِيف
(مَا رأى النَّاس مثل ملكك ملكا
…
مَلأ الْخَافِقين للحرب تركا)
وجيوشاً لَو صادمت جبل الشّرك لدكَّته بالسَّنابك دكا مِنْهَا قد رَأينَا وَأَنت أَنْت صَلَاح الدّين مَا كَانَ عَن سميِّك يحْكى صدت صيدا قنصا وصور وعثليث وبيروت بعد فتح عكّا وَله فِيهِ أمداح كَثِيرَة من ذَلِك من قصيدةٍ مدحه بهَا لما عمر الإيوان الَّذِي بالقلعة وَقد زخرفه وعلَّى قبَّته من الْبَسِيط
(وقبَّة هِيَ للأفلاك عاشرةٌ
…
ودونها فِي علوّ الشان كيوان)
(كَأَنَّهَا الْعَالم العلويُّ تحرسها
…
الْأَمْلَاك لم يدن مِنْهَا ثمَّ شَيْطَان)
(علت فأفلاكها الأفلاك فِي شرفٍ
…
وتبرها الشُّهب والأركان أَرْكَان)
(وَأَنت يَا أشرف الْأَمْلَاك شمس علا
…
سما بهَا وعَلى ظَنِّي سُلَيْمَان)
(وَتَحْت دهليزك الزاهي بزركشه
…
من كلما تتمنَّى النَّفس ألوان)
(والجيش بالقبق الْمَنْصُور قد ولعوا
…
بكلِّ طايشةٍ والقوس مرنان)
(كَأَنَّمَا الْعرض يَوْم الْعرض إِذْ عرضوا
…
عَلَيْهِ صفّاً وللإعطاء ميزَان)
وَكَانَ مغرىً بالهدم لِأَنَّهُ هدم أَمَاكِن وَفِيه يَقُول عَلَاء الدّين الوداعيّ لما أَمر بهدم الْأَمَاكِن الَّتِي تجاور الميدان بِدِمَشْق ووزع عِمَارَته على الْأُمَرَاء وَمن خطه نقلت من السَّرِيع
(إِن أَمر السُّلْطَان فِي جلَّقٍ
…
بهدم مَا ضايق ميدانه)
(فَإِنَّهُ قد غَار لمّا رأى
…
غير بيُوت الله جِيرَانه)
)
وَقَالَ أَيْضا من الوافر
(أرى الْأُمَرَاء قد جدُّوا وجادوا
…
وشدُّوا فِي بنائهم وشادوا)
(وهم متسابقون وَلَا عجيبٌ
…
فَفِي الميدان تستبق الْجِيَاد)
وَقَالَ أَيْضا من الوافر
(جزيتم أَيهَا الْأُمَرَاء خيرا
…
على إتقانكم هذي البنيّه)
(فَلَا تخشوا على الميدان شَيْئا
…
سوى سيل العطايا الأشرفيه)
فاتفق أَن السُّلْطَان حضر بعد ذَلِك وَأنْفق فِي العساكر فِي الميدان فَقَالَ بَيْتَيْنِ أذكرهما فِي تَرْجَمَة الْأَمِير علم الدّين سنجر الشُّجاعي وَقَالَ أَيْضا فِي عمَارَة الميدان من الْكَامِل
(لَئِن ادَّعى ميداننا شرفاً إِلَى
…
شرفيه لم ينْسب إِلَى الْإِسْرَاف)
(أَو مَا ترى الْأُمَرَاء فِي تعميره
…
أضحوا فعول مجارفٍ وقفاف)
وَلما فتح الْملك الْأَشْرَف عكا امتدحه القَاضِي شهَاب الدّين مَحْمُود بقصيدته البائية الْمَشْهُورَة وَهِي من الْبَسِيط
(الْحَمد لله زَالَت دولة الصُّلب
…
وعزَّ بالتُّرك دين الْمُصْطَفى الْعَرَبِيّ)
(هَذَا الَّذِي كَانَت الآمال لَو طلبت
…
رُؤْيَاهُ فِي النّوم لاستحيت من الطّلب)
(مَا بعد عكا وَقد هدَّت قواعدها
…
فِي الْبَحْر للشِّرك عِنْد البِّر من أرب)
(عقيلةٌ ذهبت أَيدي الخطوب بهَا
…
دهراً وشدَّت عَلَيْهَا كفُّ مغتصب)
(لم يبْق من بعْدهَا للكفر مذ خربَتْ
…
فِي البِّر وَالْبَحْر مَا يُنجي سوى الْهَرَب)
(كَانَت تخيّلنا آمالنا فنرى
…
أنّ التفكُّر فِيهَا غَايَة الْعجب)
(أمُّ الحروب فكم قد أنشأت فتنا
…
شَاب الْوَلِيد بهَا هولاً وَلم تشب)
(سوران برّاً وبحراً حول ساحتها
…
دَارا وأدناهما أنأى من القطب)
(خرقاء أمنع سوريها وأحصنها
…
غلب الرِّجَال وأقواها على النُّوب)
(مصفَّحٌ بصفاحٍ حولهَا أكمٌ
…
من الرّماح وأبراجٌ من اليلب)
(مثل الغمائم تهدي من صواعقها
…
بالنَّبل أَضْعَاف مَا تهدي من السُّحب)
(كَأَنَّمَا كلُّ برجٍ حوله فلكٌ
…
من المجانيق يَرْمِي الأَرْض بالشُّهب)
(ففاجأتها جنود الله يقدمهَا
…
غَضْبَان لله لَا للْملك والنِّشب)
)
(لَيْث أَبى أَن يردَّ الْوَجْه عَن أممٍ
…
يدعونَ ربَّ العلى سُبْحَانَهُ بأب)
(كم رامها ورماها قبله ملكٌ
…
جمُّ الجيوش فَلم يظفر وَلم تجب)
(لم يلهه ملكه بل فِي أَوَائِله
…
نَالَ الَّذِي لم ينله النَّاس فِي الحقب)
(لم ترض همَّته إِلَّا الَّذِي قعدت
…
للعجز عَنهُ مُلُوك الْعَجم وَالْعرب)
(فَأَصْبَحت وَهِي فِي بحرين ماثلةً
…
مَا بَين مضطرمٍ نَارا ومضطرب)
(جيشٌ من التُّرك ترك الْحَرْب عِنْدهم
…
عارٌ وراحتهم ضربٌ من الضَّرب)
خَاضُوا إِلَيْهَا الرَّدى وَالْبَحْر فَاشْتَبَهَ الْأَمْرَانِ وَاخْتلفَا فِي الْحَال والسَّبب
(تسنَّموها فَلم يتْرك تسنُّمهم
…
فِي ذَلِك الْأُفق برجاً غير مُنْقَلب)
(تسلَّموها فَلم تخل الرّقاب بهَا
…
من فتك منتقمٍ أَو كفِّ منتهب)
(أَتَوا حماها فَلم يمْنَع وَقد وَثبُوا
…
عَنْهَا مجانيقهم شَيْئا وَلم تثب)
(يَا يَوْم عكا لقد أنسيت مَا سبقت
…
بِهِ الْفتُوح وَمَا قد خطَّ فِي الْكتب)
(لم يبلغ النُّطق حدَّ الشُّكْر مِنْك فَمَا
…
عَسى يقوم بِهِ ذُو الشّعْر والخطب)
(كَانَت تمنِّي بك الْأَيَّام مبعدةً
…
فَالْحَمْد لله نلنا ذَاك عَن كثب)
(أغضبت عبّاد عِيسَى إِذْ أبدتهم
…
لله أيُّ رضى فِي ذَلِك الْغَضَب)
(وأطلع الله جَيش النَّصْر فابتدرت
…
طلائع الْفَتْح بَين السُّمر والقضب)
(وأشرف الْمُصْطَفى الْهَادِي البشير على
…
مَا أسلف الْأَشْرَف السُّلْطَان من قرب)
(فقرَّ عينا بِهَذَا الْفَتْح وابتهجت
…
بفتحه الْكَعْبَة الغرّاء فِي الْحجب)
(وَسَار فِي الأَرْض سير الرّيح سمعته
…
فالبُّر فِي طربٍ وَالْبَحْر فِي حَرْب)
(وخاضت الْبيض فِي بَحر الدِّمَاء وَمَا
…
أبدت من الْبيض إلَاّ سَاق مختضب)
(وغاص زرق القنا فِي زرق أَعينهم
…
كنها شطنٌ تهوي إِلَى قلب)
(توقَّدت وَهِي غرقى فِي دِمَائِهِمْ
…
فزادها الطَّفح مِنْهَا شدَّة اللهب)
(أجرت إِلَى الْبَحْر بحراً من دِمَائِهِمْ
…
فراح كالراح إِذْ غرقاه كالحبب)
(وذاب من حرِّها عَنْهُم حديدهم
…
فقيَّدتهم بِهِ ذعراً يَد الرَّهب)
(تحكَّمت وسطت فيهم قواضبها
…
قتلا وعفَّت لحاويها عَن السَّلب)
(كم أبرزت بطلاً كالطَّود قد بطلت
…
حواسُّه فغدا كالمنزل الخرب)
)
(كَأَنَّهُ وَسنَان الرمْح يَطْلُبهُ
…
برجٌ هوى ووراه كَوْكَب الذَّنب)
(بِشِرَاك يَا ملك الدُّنْيَا لقد شرفت
…
بك الممالك واستعلت على الرُّتب)
(مَا بعد عكّا وَقد لانت عريكتها
…
لديك شيءٌ تلاقيه على تَعب)
(فانهض إِلَى الأَرْض فالدّنيا بأجمعها
…
مدَّت إِلَيْك فواصلها بِلَا نصب)