الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
(عماد الدّين بن الْخَطِيب)
دَاوُد بن عمر بن يُوسُف بن يحيى بن عمر بن كَامِل الْخَطِيب عماد الدّين أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو سُلَيْمَان الزبيدِيّ الْمَقْدِسِي الشَّافِعِي خطيب بَيت الْآبَار وَابْن خطيبها ولد سنة ستٍ وَثَمَانِينَ وَخمْس مائَة وتوفِّي سنة سِتّ وَخمسين وست مائَة سمع من الخشوعي وَعبد الْخَالِق بن فَيْرُوز الْجَوْهَرِي وَعمر بن طبرزد وحنبل وَالقَاسِم بن عساكرٍ وَجَمَاعَة وروى عَنهُ الدمياطي وزين الدّين الفارقي والعماد بن البالسي وَالشَّمْس نقيب الْمَالِكِي والخطيب شرف الدّين وَالْفَخْر بن عساكرٍ وَولده الشّرف مُحَمَّد وَطَائِفَة من أهل الْقرْيَة وَكَانَ مهذباً فصيحاً مليح الخطابة لَا يكَاد يسمع موعظته أحد إِلَّا وَبكى وخطب بِدِمَشْق ودرّس بالزاوية الغزالية سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وست مائةٍ بعد الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام لما انْفَصل عَن دمشق ثمَّ عزل الْعِمَاد بعد سِتّ سِنِين وَرجع إِلَى خطابة الْقرْيَة
3 -
(النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك)
دَاوُد بن عِيسَى بن مُحَمَّد بن أَيُّوب السُّلْطَان الْملك
النَّاصِر صَلَاح الدّين أَبُو المفاخر وَأَبُو المظفَّر ابْن الْملك المعظّم ابْن الْملك الْعَادِل ولد بِدِمَشْق فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثلاثٍ وست مائَة وَتُوفِّي سنة سِتّ وَخمسين وست مائَة سمع بِبَغْدَاد من الْقطيعِي وَغَيره وبالكرم من ابْن اللَّتِّي وَأَجَازَ لَهُ الْمُؤَيد الطوسي وَأَبُو روح عبد الْمعز وَكَانَ حنفيّ الْمَذْهَب عَالما فَاضلا مناظراً ذكياً لَهُ الْيَد الْبَيْضَاء فِي الشّعْر وَالْأَدب لِأَنَّهُ حصّل طرفا جيدا من الْعُلُوم فِي دولة أَبِيه وَولي السلطنة سنة أَربع وَعشْرين بعد وَالِده وأحبّه أهل دمشق وَسَار عَمه الْكَامِل من مصر ليَأْخُذ دمشق مِنْهُ فاستنجد بِعَمِّهِ الْأَشْرَف فجَاء لنصرته وَنزل بالدهشة ثمَّ تغيِّر عَلَيْهِ وَمَال لِأَخِيهِ الْكَامِل وأوهم النَّاصِر أَنه يصلح قَضيته فاتفقا عَلَيْهِ وحاصراه أَرْبَعَة أشرعٍ وأخذا دمشق مِنْهُ
وَسَار إِلَى الكرك وَكَانَت لوالده وَأعْطِي مَعهَا الصَّلْت ونابلس وعجلون وأعمال الْقُدس وَعقد نِكَاحه على عَاشُورَاء بنت عَمه الْكَامِل ثمَّ إِن الْكَامِل تغيّر عَلَيْهِ فَفَارَقَ ابْنَته قبل الدُّخُول بهَا
ثمَّ إِن النَّاصِر بعد الثَّلَاثِينَ قصد الإِمَام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وقدَّم لَهُ تحفاً ونفائس وَسَار إِلَيْهِ على البريّة وَمَعَهُ فَخر الْقُضَاة ابْن بصاقة وشمس الدّين الخسروشاهي والخواصُّ من مماليكه)
وألزامه وَطلب الْحُضُور بَين يَدَيْهِ كَمَا فعل بِصَاحِب إربل فَامْتنعَ فنظم القصيدة البائية وأولها من الطَّوِيل
(ودانٍ ألمّت بالكثيب ذوائبه
…
وجنح الدُّجى وحفٌ تجول غياهبه)
(تقهقه فِي تِلْكَ الربوع رعوده
…
وتبكي على تِلْكَ الطلول سحائبه)
(أرقت لَهُ لمّا توالت بروقه
…
وحلّت عزاليه وأسبل ساكبه)
(إِلَى أَن بدا من أشقر الصُّبح قادمٌ
…
يراع لَهُ من أدهم اللِّيل هاربه)
(وَأصْبح ثغر الأقحوانة ضَاحِكا
…
تدغدغه ريح الصِّبا وتداعبه)
(تمرُّ على نبت الرياض بليلةً
…
تجمشِّه طوراً وطوراً تلاعبه)
(وَأَقْبل وَجه الأَرْض طلقاً وطالما
…
غَدا ومكفهرّاً موحشاتٍ جوانبه)
(كَسَاه الحيا وشياً من النبت فاخراً
…
فَعَاد قشيباً غوره وغواربه)
(كَمَا عَاد بالمستنصر بن محمدٍ
…
نظام الْمَعَالِي حِين فلَّت كتائبه)
(إمامٌ تحلَّى الدّين مِنْهُ بماجدٍ
…
تحلَّت بآثار النبيِّ مناكبه)
(هُوَ الْعَارِض الهتّان لَا الْبَرْق محلفٌ
…
لَدَيْهِ وَلَا أنواره وكواكبه)
(إِذا السّنة الشَّهْبَاء شحَّت بطلِّها
…
سخا وابلٌ مِنْهُ وسحَّت سواكبه)
(فأحيى ضِيَاء الْبَرْق ضوء جَبينه
…
كَمَا نجَّلت ضوء الغوادي مواهبه)
(لَهُ العزمات اللائي لَوْلَا نصالها
…
تزعزع ركن الدّين وانهدَّ جَانِبه)
(بصيرٌ بأحوال الزَّمَان وَأَهله
…
حذورٌ فَمَا تخشى عَلَيْهِ نوائبه)
(بديهته تغنيه عَن كلِّ مشكلٍ
…
وَإِن حنَّكته فِي الْأُمُور تجاربه)
(حوى قصبات السَّبق مذ كَانَ يافعاً
…
وأربت على زهر النُّجُوم مناقبه)
(تزيَّنت الدُّنْيَا بِهِ وتشرَّفت
…
بنوها فأضحى خافض الْعَيْش ناصبه)
(لَئِن نوَّهت باسم الإِمَام خلافةٌ
…
ورفَّعت الرّاكي الْمنَار مناسبه)
(فَأَنت الإِمَام الْعدْل والعرق الَّذِي
…
بِهِ شرفت أنسابه ومناصبه)
(جمعت شتيت الْمجد بعد انفراقه
…
وفرَّقت جمع المَال فانهال كَاتبه)
(وأغنيت حَتَّى لَيْسَ فِي الأَرْض معدمٌ
…
يجور عَلَيْهِ دهره ويحاربه)
(أَلا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمن غَدَتْ
…
على كَاهِل الجوزاء تعلو مراتبه)
)
(وَمن جدّه عمُّ النَّبِي وخدنه
…
إِذا صارمته أَهله وأقاربه)
(أيحسن فِي شرع الْمَعَالِي ودينها
…
وَأَنت الَّذِي تعزى إِلَيْهِ مذاهبه)
(وَأَنت الَّذِي يَعْنِي حبيبٌ بقوله
…
أَلا هَكَذَا فليكسب الْمجد كاسبه)
(بِأَنِّي أخوض الدوَّ والدوُّ مقفرٌ
…
سبارتيه مغبرَّةٌ وسباسبه)
(وأرتكب الهول الْمخوف مخاطراً
…
بنفسي وَلَا أعبا بِمَا أَنا رَاكِبه)
(وَقد رصد الْأَعْدَاء لي كلَّ مرصدٍ
…
فلكُّهم نَحْو تدبُّ عقاربه)
(وآتيك والعضب المهنَّد مصلتٌ
…
طريرٌ شباه فاتناتٌ ذوائبه)
(وَأنزل آمالي ببابك راجياً
…
بواهر جاهٍ يبهر النَّجْم ثاقبه)
(فَتقبل مني عبد رقٍّ فيغتدي
…
لَهُ الدَّهْر عبدا طَائِعا لَا يغالبه)
(وتنعم فِي حَقي بِمَا أَنْت أَهله
…
وتعلي محلِّي فالسُّهى لَا يُقَارِبه)
(وتلبسني من نسج ظلَّك حلَّةً
…
تشرِّف قدر النيرين جلابيه)
(وتركبني نعمى أياديك مركبا
…
على الْفلك الْأَعْلَى تسير مواكبه)
(وتسمح لي بِالْمَالِ والجاه بغيتي
…
وَمَا الجاه إِلَّا بعض مَا أَنْت واهبه)
(ويأتيك غَيْرِي من بلادٍ قريبةٍ
…
لَهُ الْأَمْن فِيهَا صاحبٌ لَا يجانبه)
(وَمَا اغبَّر من جوب الْفَلاح حرُّ وَجهه
…
وَلَا اتَّصَلت بالسير فِيهَا ركائبه)
(فَيلقى دنوّاً مِنْك لم ألق مثله
…
ويحظى وَلَا أحظى بِمَا أَنا طَالبه)
(وَينظر من لألاء قدسك نظرةً
…
فَيرجع والنور الإماميُّ صَاحبه)
(وَلَو كَانَ يعلوني بنفسٍ ورتبةٍ
…
وَصدق ولاءٍ لست فِيهِ أصاقبه)
(لَكُنْت أسلّي النَّفس عَمَّا أرومه
…
وَكنت أذود الْعين عَمَّا تراقبه)
(وَلكنه مثلي وَلَو قلت إِنَّنِي
…
أَزِيد عَلَيْهِ لم يعب ذَاك عائبه)
(وَمَا أَنا ممّن يمْلَأ المَال عينه
…
وَلَا بسوى التَّقْرِيب تقضى مآربه)
(وَلَا بِالَّذِي يرضيه دون نَظِيره
…
وَلَو أنعلت بالنيِّرات مراكبه)
(وَبِي ظَمَأٌ رُؤْيَاك مَنْهَلُ ريّه
…
وَلَا غَرْوَ أَن تصفو لديَّ مشاربُهْ)
(وَمن عجبٍ أَنِّي لَدَى الْبَحْر واقفٌ
…
وأشكو الظما وَالْبَحْر جمُّ عجائبه)
(وَغير ملومٍ من يؤمِّل قَاصِدا
…
إِذا عظمت أغراضه ومآربه)
)
(وَقد رضت مقصودي فتمَّت صدوره
…
ومنك أرجِّي أَن تتمَّ عواقبه)
فَلَمَّا وقف الْخَلِيفَة عَلَيْهِ أَعْجَبته كثيرا فاستدعاه سرّاً بعد شطرٍ من اللَّيْل فَدخل من بَاب السِّرّ إِلَى إيوانٍ فِيهِ ستر مَضْرُوب فقبَّل الأَرْض فَأمر بِالْجُلُوسِ وَجعل الْخَلِيفَة يحدِّثه ويؤنسه ثمَّ أَمر الخدام فَرفعُوا السِّتر فقبَّل الأَرْض ثمَّ قبَّل يَده فَأمره بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ وجاراه فِي أنواعٍ من الْعُلُوم وأساليب الشّعْر وَأخرجه لَيْلًا وخلع عَلَيْهِ خلعةً سنيّة عِمَامَة مذهبّةً سَوْدَاء وجبّةً سَوْدَاء مذهبَة وخلع على أَصْحَابه ومماليكه خلعاً جليلةً وَأَعْطَاهُ مَالا جزيلاً وَبعث فِي خدمته رَسُولا مشربشاً من أكبر خواصِّه إِلَى الْكَامِل يشفع فِيهِ فِي إخلاص النيّة لَهُ وإبقاء مَمْلَكَته عَلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ وَخرج الْكَامِل إِلَى تلقيِّهما إِلَى الْقصير وَأَقْبل على النَّاس إقبالاً كثيرا وَنزل النَّاصِر بالقابون وَجعل رنكه أسود انتماءً إِلَى الْخَلِيفَة
وَكَانَ الْخَلِيفَة زَاد فِي ألقابه الوليّ المُهَاجر مُضَافا إِلَى لقبه وتوجّه من دمشق وَالرَّسُول مَعَه ليرتبه فِي الكرك وَذَلِكَ سنة ثلاثٍ وَثَلَاثِينَ وست مائَة قلت إِنَّمَا امْتنع الإِمَام الْمُسْتَنْصر من استحضار النَّاصِر مُرَاعَاة لعمّه الْكَامِل فَجمع بَين المصلحتين وأحضره فِي اللَّيْل وَلما كَانَ النَّاصِر بِبَغْدَاد حضر فِي المستنصريّة وَبحث وَاعْترض وَاسْتدلَّ والخليفة فِي روشنٍ يسمع
وَقَامَ يومئذٍ الْوَجِيه القيرواني ومدخ الْخَلِيفَة وَمن ذَلِك من الْكَامِل
(لَو كنت فِي يَوْم السَّقِيفَة حَاضرا
…
كَانَت المقدَّم وَالْإِمَام الأروعا)
فَقَالَ لَهُ النَّاصِر أَخْطَأت قد كَانَ العبّاس حَاضرا جدّ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلم يكن المقدّم إِلَّا أَبُو بكر رضي الله عنه فَخرج الْأَمر بِنَفْي الْوَجِيه فَذهب إِلَى مصر وَولي تدريس مدرسة ابْن شكر
رَجَعَ الْكَلَام ثمَّ وَقع بَين الْكَامِل والأشرف وَأَرَادَ كل مِنْهُمَا أَن يكون النَّاصِر مَعَه فَمَال إِلَى الْكَامِل وجاءه فِي الرسلية القَاضِي الْأَشْرَف ابْن الْفَاضِل وَسَار النَّاصِر إِلَى الْكَامِل فَبَالغ فِي تَعْظِيمه وَأَعْطَاهُ الْأَمْوَال والتحف ثمَّ اتّفق موت الْكَامِل والأشرف والناصر بِدِمَشْق فِي دَار أُسَامَة فتشوّف إِلَى السلطنة وَلم يكن يومئذٍ أميز مِنْهُ وَلَو بذل المَال لحلفوا لَهُ فتسلطن
الْجواد فَخرج النَّاصِر عَن دمشق إِلَى القابون وَسَار إِلَى عجلون قندم فحشد وَجَاء فَخرج الْجواد بالعساكر وَوَقع المصافّ بَين نابلس وجينين فَكسر النَّاصِر وَأخذ الْجواد خزائنه وَكَانَت على سبع مائَة جمل فافتقر النَّاصِر
وَلما ملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب دمشق وَسَار لقصد مصر جَاءَ عمّه الصَّالح إِسْمَاعِيل وَملك)
دمشق فتسحّب نجم الدّين عَنهُ وَبَقِي فِي نابلس فِي جماعةٍ قَليلَة فَجهز النَّاصِر عسكراً من الكرك فأمسكوه وأحضروه إِلَى الكرك فاعتقله مكرماً عِنْده
وَنزل النَّاصِر عِنْد موت الْكَامِل من الكرك على القلعة الَّتِي عمرها الفرنج بالقدس وحاصرها وملكها وطرد من بِهِ من الفرنج وَفِي ذَلِك يَقُول جمال الدّين ابْن مطروح من السَّرِيع
(الْمَسْجِد الْأَقْصَى لَهُ عادةٌ
…
سَارَتْ فَصَارَت مثلا سائرا)
(إِذا غَدا للكفر مستوطناً
…
أَن يبْعَث الله لَهُ ناصرا)
(فناصرٌ طهَّره أَولا
…
وناصرٌ طهَّره آخرا)
ثمَّ إِنَّه اتّفق مَعَ الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب فِي أَنه إِن ملك مصر مَا يفعل فَقَالَ الصَّالح أَنا غلامك وَشرط عَلَيْهِ أَشْيَاء فَلَمَّا ملك مصر وَقع التسويق مِنْهُ والمغالطة فَغَضب النَّاصِر وَرجع ثمَّ إِن الصَّالح بعث عسكراً فاستولوا على بِلَاد النَّاصِر وَأخذ مِنْهُ أَطْرَاف بِلَاده ثمَّ إِن ابْن الشَّيْخ نازله فِي الكرك وحاصره أَيَّامًا ورحل فقلّ مَا عِنْد النَّاصِر من الذَّخَائِر وَالْأَمْوَال واشتدّ عَلَيْهِ الْأَمر فَجهز شمس الدّين الخسروشاهي وَمَعَهُ وَلَده إِلَى الصَّالح وَقَالَ تسلَّم مني الكرك وعوِّضني الشَّوبك وخبزاً بِمصْر فَأَجَابَهُ فَرَحل إِلَى مصر مَرِيضا ثمَّ إِن الْأَمر ضَاقَ عَلَيْهِ فَترك وَلَده
الْمُعظم نَائِبا على الكرك وَأخذ مَا يعزّ عَلَيْهِ من الْجَوَاهِر وَمضى إِلَى حلب مستجيراً بصاحبها فَأكْرمه ونزَّله وَسَار من حلب إِلَى بَغْدَاد وأودع مَا مَعَه من الْجَوَاهِر عِنْد الْخَلِيفَة وَكَانَت قيمتهَا أَكثر من مائَة ألف دينارٍ وَلم يصل بعد ذَلِك إِلَيْهَا
وَكَانَ لَهُ ولدان الظَّاهِر والأمجد فتألمّا من النَّاصِر أَبِيهِمَا لكَونه استناب أخاهما الْمُعظم على الكرك وَهُوَ ابْن جَارِيَة وهما من بنت الْملك الأمجد ابْن الْعَادِل فأمهما بنت عَمه وبن عمّ الصَّالح فاتفقت مَعَ أمهما على الْقَبْض على المعظّم فقبضاه واستوليا على الكرك ثمَّ سَار الأمجد إِلَى المنصورة فَأكْرمه الصَّالح فَكَلمهُ فِي الكرك وتوثَّق مِنْهُ لنَفسِهِ وَإِخْوَته وَأَن يُعْطِيهِ خبْزًا بِمصْر فَأَجَابَهُ وسيّر الطواشي بدر الدّين الصّوابي إِلَى الكرك نَائِبا وأقطع أَوْلَاد النَّاصِر إقطاعات جليلة وَفَرح بالكرك وَبلغ النَّاصِر الْخَبَر وَهُوَ بحلب فَعظم ذَلِك عَلَيْهِ فَلَمَّا مَاتَ الصَّالح وتملّك ابْنه المعظّم توران شاه وَقتل عمَّه الصوابي فَأخْرج المغيث عمر بن الْعَادِل بن الْكَامِل بن حبس الكرك وملّكه الكرك والشَّوبك وَجَاء صَاحب حلب فَملك دمشق وَمَعَهُ الصَّالح إِسْمَاعِيل والناصر دَاوُد وَقد مرض صَاحب حلب فَقيل لَهُ أَن النَّاصِر سعى فِي السلطنة فَلَمَّا)
عوفي قبض على النَّاصِر وحبسه بحمص ثمَّ إِنَّه أفرج عَنهُ بشفاعة الْخَلِيفَة فتوجّه إِلَى الْخَلِيفَة فَلم يُؤذن لَهُ فِي الدُّخُول إِلَى بَغْدَاد فَطلب وديعته فَلم تحصل لَهُ فَرد إِلَى دمشق ثمَّ سَار إِلَى بَغْدَاد لأجل الْوَدِيعَة وَالْحج وَكتب مَعَه النَّاصِر يُوسُف إِلَى الْخَلِيفَة يشفع فِيهِ فَيرد الْوَدِيعَة فسافر وَنزل بمشهد الْحُسَيْن بكربلاء وسيَّر قصيدة إِلَى الْخَلِيفَة بمدحه ويتلطَّف فَلم يرد عَلَيْهِ جَوَاب مُفِيد فحجّ وأتى الْمَدِينَة وَقَامَ بَين يَدي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَأنْشد قصيدته الَّتِي أَولهَا من الطَّوِيل
(إِلَيْك امتطينا اليعملات رواسماً
…
يجبن الفلا مَا بَين رضوى ويذبل)
ثمَّ أحضر شيخ الْحرم والخدّام ووقف بَين يَدي الضريح مستمسكاً بسجف الْحُجْرَة وَقَالَ اشْهَدُوا أَن هَذَا مقَامي من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد دخلت عَلَيْهِ مستشفعاً بِهِ إِلَى ابْن عَمه أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي رد وديعتي فأعظم النَّاس هَذَا وَبكوا وَكتب بِصُورَة مَا جرى إِلَى الْخَلِيفَة
وَلما كَانَ الركب فِي الطَّرِيق خرج عَلَيْهِم أَحْمد بن حجي بن بريد من آل مرى فَوَقع الْقِتَال وكادوا يظفرون بأمير الْحَاج فشقّ النَّاصِر الصُّفُوف وكلّم أَحْمد بن حجي وَكَانَ أَبوهُ صَاحبه فَترك الركب وانقاد لَهُ
وَنزل النَّاصِر بالحلّة فقرِّر لَهُ راتب يسير وَلم يحصل لَهُ مَقْصُود فجَاء إِلَى قرقيسياء وَمِنْهَا إِلَى تيه بني إِسْرَائِيل وانضم إِلَى عربان فخاف المغيث مِنْهُ وراسله وخادعه إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ وعَلى
من مَعَه وحبسه بطور هرون فَبَقيَ ثَلَاث ليالٍ وَاتفقَ أَن المستعصم دهمه أَمر التتار فَكتب إِلَى صَاحب الشَّام يستمدّه وَيطْلب جَيْشًا يكون مقدَّمه النَّاصِر دَاوُد فَطَلَبه من المغيث فَأخْرجهُ وَقدم إِلَى دمشق وَنزل بقربة البويضا قرب الْبَلَد وَأخذ يتجهَّز للمسير فَجَاءَت الْأَخْبَار بِمَا جلى على بَغْدَاد من التتار وَعرض طاعون بِالشَّام عقيب وَاقعَة بَغْدَاد فطعن النَّاصِر فِي جنبه فَتوفي لَيْلَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَخمسين وست مائَة وَركب السُّلْطَان إِلَى البويضا وَأظْهر التأسف عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا كَبِيرنَا وَشَيخنَا ثمَّ حمل إِلَى تربة وَالِده بسفح قاسيون وَكَانَت أمه خوارزمية فَعَاشَتْ بعده مُدَّة
وَكَانَ رحمه الله معتنياً بتحصيل الْكتب النفيسة ووفد عَلَيْهِ رَاجِح الحلِّي ومدحه فوصل إِلَيْهِ مِنْهُ مَا يزِيد على أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم وَأَعْطَاهُ على قصيدةٍ واحدةٍ ألف دِينَار وَأقَام عِنْد الخسروشاهي فوصله بأموالٍ جزيلة وَكتب الْملك النَّاصِر دَاوُد إِلَى وزيره فَخر الْقُضَاة أبي)
الْفَتْح نصر الله ابْن بصاقة من الْكَامِل
(يَا لَيْلَة قطَّعت عمر ظلامها
…
بمدامةٍ صفراء ذَات تأجُّج)
(بالسَّاحل النامي رَوَائِح نشره
…
عَن روضه المتضوَّع المتأرِّج)
(واليمُّ زاهٍ قد جرى تياره
…
من بعد طول تقلُّق وتموُّج)
(طوراً يدغدغه النسيم وَتارَة
…
يكرى فتوقظه بَنَات الْخَزْرَج)
(والبدر قد ألْقى سنا أنواره
…
فِي لجِّه المتجعِّد المتدبِّج)
(فَكَأَنَّهُ إِذْ قدَّصفحة مَتنه
…
بشعاعه المتوقِّد المتوهِّج)
(نهر تكوّن من نضارٍ يانعٍ
…
يجْرِي على أرضٍ من الفيروزج)
فَكتب إِلَيْهِ ابْن بصاقة وَأما الأبيات الجيميّة الجمَّة الْمعَانِي المحكمة المباني المعوَّذة بالسبع المثاني فَإِنَّهَا حَسَنَة النِّظام بعيدَة المرام مُتَقَدّمَة على شعر الْجَاهِلِيَّة وَمن عاصرها فِي الْإِسْلَام
قد أخذت بِمَجَامِع الْقُلُوب فِي الإبداع واستولت على المحاسن فَهِيَ نزهة الْأَبْصَار والأسماع ولعبت بالعقول لعب الشَّمول إِلَّا أَن تِلْكَ خرقاء وَهَذِه صناع فَإِذا اعْتبرت ألفاظها كَانَت درّاً منظوماً وَإِذا اختبرت مَعَانِيهَا كَانَت رحيقاً مَخْتُومًا جلَّت بعلوِّها عَن الْمعَانِي المطروقة والمعاني المسروقة ودلَّت بعلوّها أَنَّهَا من نظم الْمُلُوك لَا السُّوقة فَلَو وجدهَا ابْن المعتزّ لألقى زورقه الْفضة فِي نهرها وَألقى حمولته العنبر فِي بحرها وألفى تشبيهاته بأسرها فِي أسرها
وَلَو لقيها ابْن حمدَان لاغتمّ فِي قَوس الْغَمَام وانبرى بري السِّهَام وتعطّى من أذيال غلائله المصبغّة بذيل الظَّلام وَلَو سَمعهَا امْرُؤ
الْقَيْس لعلم أَن فكرته قَاصِرَة وكرَّته خاسرة وأيقن أَن وحوشه غير مَكْسُورَة وَأَن عِقَابه غير كاسرة فَأَيْنَ الْجزع الَّذِي لم يثقّب من الدّرّ الَّذِي قد تنظّم وَأَيْنَ ذَلِك الحشف الْبَالِي من هَذَا الشّرف العالي وَالله تَعَالَى يَكْفِي الخاطر الَّذِي سمح بهَا عين الْكَمَال الشحيحة ويشفي الْقُلُوب العليلة بِمَا روته هَذِه الأبيات الصَّحِيحَة وَمن شعر الْملك النَّاصِر من الْخَفِيف
(صبِّحاني بِوَجْهِهِ القمريِّ
…
وأصبحاني بالسلسبيل الرويِّ)
(بدر ليلٍ يسْعَى بشمس نهارٍ
…
فشهيٌّ ينتابنا بشهيٍّ)
(وأعجبا لِاجْتِمَاع شمسٍ وبدرٍ
…
فِي سنائي سنا كمالٍ بهيٍّ)
مِنْهَا)
(إِن تبدَّت بوجهها ذهبياً
…
قلت هَذَا من وَجهه الفضِّيِّ)
مِنْهَا
(يَا ولوعاً بالنَّبل أصميت قلبِي
…
بسهامٍ من لحظك البابليِّ)
(رشقته من حاجبيك سهامٌ
…
منبضاتٌ أحسن بهَا من قسيِّ)
وَمن شعره من الْكَامِل
(لَو عَايَنت عَيْنَاك حسن معذِّبي
…
مَا لمتني ولكنت أول من عذر)
(عين الرَّشا قدُّ القنا ردف النَّقا
…
شعر الدُّجى شمس الضُّحى وَجه الْقَمَر)
قلت كَذَا نقلته من خطٍ موثوقٍ بِهِ وَالظَّاهِر أَنه نور الضُّحَى وَإِلَّا فشمس الضُّحَى مَا لَهُ معنى وَمِمَّا نسب إِلَى النَّاصِر دَاوُد وَهُوَ غَايَة من الْخَفِيف
(بِأبي أهيفٌ إِذا رمت مِنْهُ
…
لثم ثغرٍ يصدُّني عَن مرامي)
(قد حمى خدَّه بسور عذارٍ
…
مقلتاه أضحت عَلَيْهِ مرامي)
وَنسب إِلَيْهِ أَيْضا من الطَّوِيل
(تراخيت عني حِين جدَّ بِي الْهوى
…
وجرَّبت صبري عِنْدَمَا نفذ الصَّبْر)
(فَلَو عَايَنت عَيْنَاك فِي اللَّيْل حالتي
…
وَقد هزَّني شوقٌ وأقلقني فكر)
(رَأَيْت سليما فِي ثِيَاب مسلِّمٍ
…
ومستشعراً قد ضمَّ شرسوفه الشّعْر)
وَمن شعره من الطَّوِيل
(إِذا عَايَنت عَيْنَايَ أَعْلَام جلَّقٍ
…
وَبَان من الْقصر المشيد قبابه)
(تيقَّنت أنّ الْبَين قد بَان والنَّوى
…
نأى شخصها والعيش عَاشَ شبابه)
وَمِنْه من الْكَامِل
(طرفِي وقلبي قاتلٌ وشهيد
…
وَدمِي على خدَّيك مِنْهُ شُهُود)
(يَا أَيهَا الرشأ الَّذِي لحظاته
…
كم دونهنَّ صوارمٌ وأسود)
(من لي بطيفك بعد مَا منع الْكرَى
…
عَن ناظريَّ الْبعد والتسهيد)
(وَأما وحبَّك لست أضمر تَوْبَة
…
عَن صبوتي ودع الْفُؤَاد يبيد)
(وألذُّ مَا لاقيت فِيك منيَّتي
…
وأقلُّ مَا بِالنَّفسِ فِيك أَجود)
(وَمن الْعَجَائِب أَن قَلْبك لم يلن
…
لي وَالْحَدِيد ألانه دَاوُد)
)
وَحكى بعض المؤرخين أَنه لما حصلت المباينة بَين الْملك الْكَامِل وَالْملك الْأَشْرَف وعزما على الْمُحَاربَة وانضم إِلَى الْملك الْأَشْرَف جَمِيع مُلُوك الشَّام وسيّر الْأَشْرَف إِلَى النَّاصِر دَاوُد يَدعُوهُ إِلَى مُوَافَقَته على أَن يحضر إِلَيْهِ ليزوجه وَابْنَته ويجعله وليَّ عَهده ويملِّكه الْبِلَاد بعده
وسيّر الْملك الْكَامِل إِلَى النَّاصِر دَاوُد أَيْضا يَدعُوهُ إِلَى الِاتِّفَاق مَعَه وَأَنه يجدد عقده على ابْنَته وَيفْعل مَعَه كل مَا يخْتَار وتوافى الرسولان عِنْد النَّاصِر دَاوُد بالكرك فرجح الْميل إِلَى الْكَامِل وسرح رَسُول الْأَشْرَف بجوابٍ إقناعي وَيُقَال أَنه إِنَّمَا فعل ذَلِك حَتَّى أَنه كتب الْجَواب إِلَى الْكَامِل عَن ميله إِلَيْهِ دون أَخِيه الْأَشْرَف وَاسْتشْهدَ فِيهِ بقول أبي الطّيب من الطَّوِيل
(وَمَا شئتُ إِلَّا أَن أدُلَّ عواذلي
…
على أَن رَأْيِي فِي هَوَاك صَوَاب)
(وَيعلم قومٌ خالفوني وشرَّقوا
…
وغرّبتُ أَنِّي قد ظفرتُ وخابوا)
فاتفق أَن الْملك الْأَشْرَف توفّي رَحمَه الله تَعَالَى عقيب ذَلِك وَلَو كَانَ النَّاصِر توجّه إِلَيْهِ لَكَانَ فَازَ بزواج ابْنَته وبمملكة بِلَاده وَمَات الْكَامِل وَلم يحصل للناصر مِنْهُ مَا أَرَادَ
وعَلى الْجُمْلَة فَلم يكن مَسْعُود الحركات لِأَنَّهُ قضى عمره فِي أَسْوَأ حالٍ مشرَّداً عَن الأوطان معكوس الْمَقَاصِد وَقيل أَنه كَانَ إِذا دخل فِي الشَّرَاب وَأخذ السّكر مِنْهُ يَقُول أشتهي أبْصر فلَانا طائراً فِي الْهَوَاء فَيرمى ذَلِك الْمِسْكِين فِي المنجنيق وَيَرَاهُ وَهُوَ فِي الْهَوَاء فيضحك ويسرّ بِهِ وَيَقُول أشتهي أشمّ رَوَائِح فلَان وَهُوَ يشوى فيحضر ذَلِك المعثَّر ويقطَّع لَحْمه ويشوى وَهُوَ يضْحك من فعلهم بذلك الْمِسْكِين وَله من هَذِه الْأَفْعَال الرديَّة أَنْوَاع كَثِيرَة وَفِي النَّاصِر دَاوُد يَقُول الصاحب جمال الدّين ابْن مطروح من السَّرِيع
(ثلاثةٌ لَيْسَ لَهُم رابعٌ
…
عَلَيْهِم مُعْتَمد الْجُود)
(الْغَيْث وَالْبَحْر وعزِّزهما
…
بِالْملكِ النَّاصِر دَاوُد)