الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
(ابْن التلميذ الطّيب)
هبة الله بن صاعد بن هبة الله بن إِبْرَاهِيم أَمِين الدولة أَبُو الْحسن ابْن التلميذ النَّصْرَانِي الْبَغْدَادِيّ شيخ الطِّبّ بِبَغْدَاد وبقراط عصره بالغَ العمادُ فِي ذكره فِي الخريدة وَهُوَ أَخُو أَبُو الْفرج مُعْتَمد الْملك يحيى بن صاعد ابْن التلميذ وَسَيَأْتِي ذكره فِي حرف الْيَاء إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ فِي المارستان العضدي إِلَى أَن مَاتَ سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ يكْتب خطا مَنْسُوبا خَبِيرا بِاللِّسَانِ السُرياني والفارسي واللغة الْعَرَبيَّة وَله نَظم رائق وَترسل حسن كثير ووالده أَبُو الْعَلَاء صاعد طَبِيب مَشْهُور وَكَانَ أَمِين الدولة وَأَبُو البركات أوحد الزَّمَان فِي خدمته المستضيء بِأَمْر الزَّمَان أُدخِل إِلَيْهِ برجلٍ مُنزَف يَعرَق دَماً فِي الصَّيف فَسَأَلَ تلاميذَه وَكَانُوا قَدرَ خمسين فَلم يعرفوا الْمَرَض فَأمره أَن يَأْكُل خبز شعير مَعَ باذنجان مَشوِيٍّ فَفعل ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام فبرىء فَسَأَلَهُ أَصْحَابه عَن ذَلِك فَقَالَ إنّ دمَه رقّ ومَسامَّه تفتحت وَهَذَا الْغذَاء من شانه تَغْلِيظ الدَّم وتكثيف المسامّ وأُحضِرَت إِلَيْهِ امْرَأَة مَحْمُولَة لَا يعلم أَهلهَا أَهِي فِي الْحَيَاة أم ميّتة فَأمر بتجريدها من ثِيَابهَا وَكَانَ الزمانُ شتاءً وصبّ المَاء الْبَارِد صَباًّ مُتَتَابِعًا ثمَّ أَمر بنقلها إِلَى مجْلِس دفيء قد بُخّر بِالْعودِ ودُثّر بأصناف الْفراء فعطَسَت ثمَّ تحرّكت ثمَّ قعدت)
وَخرجت مَعَ أَهلهَا مَاشِيَة واستأذنت عَلَيْهِ امْرَأَة وَمَعَهَا صبي صَغِير فَقَالَ لَهَا هَذَا صبيّك بِهِ حُرقة الْبَوْل وَهُوَ يَبُول الرمل فَقَالَت نعم فَسَأَلُوهُ عَن ذَلِك فَقَالَ رَأَيْته يُولَع بإحليله ويحكّه وأنامِل يدّيه مشقّقة وَلما أُعطي رياسة الطبّ بِبَغْدَاد اجْتمع عِنْده سَائِر الْأَطِبَّاء ليرى مَا عِنْدهم وَكَانَ من جملَة مَن حضر شيخ لَهُ هَيْبَة ووقار وَكَانَ الشَّيْخ دُربَة وَلَيْسَ لَهُ علمٌ فَلَمَّا انْتهى الْأَمر إِلَيْهِ قَالَ لَهُ مَا للشَّيْخ لَا يُشَارك الْجَمَاعَة فِيمَا يجثون فِيهِ حَتَّى نَعلم مَا عِنْده فَقَالَ كل شَيْء يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ أَنا أعرفهُ فَقَالَ لَهُ على من قرأتَ فَقَالَ لَهُ إِذا صَار الْإِنْسَان إِلَى هَذَا السنّ مَا يَلِيق بِهِ أَن يُسأل إِلَّا كم لَهُ من التلاميذ وَأما مشائخي فقد مَاتُوا قَالَ فَمَا قرأتَ من الْكتب قَالَ سُبْحَانَ الله صِرنا إِلَى حدّ مَا يُسأل عَنهُ الصّبيان سَيِّدي يسألني عَمَّا صنّفتُه وَلَا بدّ أَن أُعرفك بنفسي ثمَّ إِنَّه نَهَضَ إِلَيْهِ ودنا مِنْهُ وَقَالَ لَهُ سرّاً اعْلَم أنني شِختُ وَأَنا أُسَم بِهَذِهِ الصِّنَاعَة وَمَا عِنْدِي مِنْهَا إِلَّا معرفَة اصْطِلَاحَات مَشْهُورَة فِي المداواة وعُمري أتكسَّبُ بهَا وَعِنْدِي عائلة فسألتُك بِاللَّه سيدنَا مشِّي حَالي وَلَا تفضّحني بَين الْجَمَاعَة فَقَالَ لَهُ أَمِين الدولة على شريطة أَنَّك لَا تهجم على مرض بِمَا لم تعلمه فَقَالَ نعم فَقَالَ لَهُ أَمِين الدولة يَا شيخ اعذُرنا فَمَا كُنَّا نعرفك وَأَنت مُسْتَمر على حالك ثمَّ غنه شرع يتحدث مَعَ غَيره وَقَالَ لآخر على من قَرَأت فَقَالَ على هَذَا الشَّيْخ وَأَنا من تلاميذه ففهم أَمِين الدولة وتبسّم وَكتب إِلَيْهِ مؤيد الدّين الطغرائي
(يَا سَيِّدي وَالَّذِي مودَّتُه
…
عندِيَ روحٌ يحيا بهَا الجسَدُ)
(من أمل الظّهْر استغنثُ وَهل
…
يألَمُ ظهرٌ إِلَيْك يستنِدُ)
وَقَالَ أَمِين الدولة فكّرت يَوْمًا فِي الْمذَاهب فَلَمَّا نمتُ رَأَيْت من ينشدني
(أعوم فِي بحرك عَلِّي أرى
…
فِيهِ لِما أطلبُه قَعرا)
(فَمَا أرى فِيهِ سِوى موجةٍ
…
تدفَعني عَنْهَا إِلَى أُخرى)
وَكَانَ إِذا حضر أحدٌ من الطّلبَة لحانٌ أسلمه إِلَى نحوي يُقرئه النَّحْو وللنحوي عَلَيْهِ مَقَّدر من مَاله وَكَانَ ظَاهر دَاره يَلِي الْمدرسَة النظامية فَإِذا مرض فِيهَا ففقيهٌ نَقله إِلَى دَاره وعالجه وَإِذا أبل وهبه دينارين وَله من الْكتب كتاب القَراباذين وَهُوَ مَشْهُور وَآخر اسْمه الموجز صَغِير وَاخْتِيَار كتاب الْحَاوِي واختصار شرح جالينوس لفصول بقراط شرح مسَائِل حنين كُناش مُخْتَصر الْحَوَاشِي على القانون مقَالَة فِي الفصد وَكَانَت بَينه وَبَين أوحد)
الزَّمَان الطَّبِيب الْيَهُودِيّ تنافرٌ وتنافسٌ كَمَا جرت الْعَادة بِهِ بَين أهل علم وصناعة وَلَهُمَا فِي ذَلِك مجَالِس مَشْهُورَة ثمَّ إِن أوحد الزَّمَان أسلم فِي آخر عمره وأصابه جذامٌ فعالج نَفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أَن جوّعها فبالغت فِي نَهشه فبرىء من الجُذام وعَمِي فَقَالَ فِيهِ ابْن التلميذ
(لنا صديق يهوديٌّ حماقتُه
…
إِذا تكلّم تبدو فِيهِ من فيهِ)
(يتيه وَالْكَلب أَعلَى مِنْهُ منزلَة
…
كَأَنَّهُ بعدُ لم يخرج من التيه)
وَكَانَ ابْن التلميذ كثير التَّوَاضُع وأوحد الزَّمَان متكبِّراً فَقَالَ البديع الأسطرلابي فيهمَا
(أَبُو الْحسن الطَّبِيب ومُقتَفِيه
…
أَبُو البركات فِي طَرَفَي نقيضِ)
(فَهَذَا بالتواضع فِي الثريا
…
وَهَذَا بالتكبّر فِي الحضيض)
وَكَانَ ابْن التلميذ حَسَنَ السمت كثير الْوَقار حَتَّى قيل إِنَّه لم يُسمع مِنْهُ بدار الْخلَافَة مدةَ مَا تردَّد إِلَيْهَا شيءٌ من المجون سوى مرّة وَاحِدَة بِحَضْرَة المقتفي لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ راتبٌ بدار الْقَوَارِير بِبَغْدَاد فقُطع وَلم يعلم بِهِ الْخَلِيفَة فاتفق أَنه كَانَ عِنْده يَوْمًا فَلَمَّا عزم على الْقيام لم يقدر عَلَيْهِ إِلَّا بكلفة ومشقة من الكِبَر فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة كبرتَ يَا حكيمُ فَقَالَ نعم يَا مَوْلَانَا وتكسّرَت قواريري وَأهل بَغْدَاد يَقُولُونَ لمن كبر تَكَسَّرَتْ قواريره فَقَالَ الْخَلِيفَة هَذَا الْحَكِيم لم أسمع مِنْهُ هزلا قطّ فاكشِفوا قضيتّه فوجدوا راتبه بدار الْقَوَارِير قد قُطع فَتقدم
بِردها عَلَيْهِ وزاده إقطاعاً آخر ولمّا توفّي لم يبْق أحد من الْجَانِبَيْنِ بِبَغْدَاد من لم يحضر الْبيعَة وَشهد جنَازَته وَمن شعره لغز فِي الْمِيزَان الَّذِي للشمس
(مَا واحدٌ مختلفُ السماءِ
…
يعدِلُ فِي الأَرْض وَفِي السّماءِ)
(يحكم بالقِسط بِلَا رِياء
…
أعمى يُري الإرشادَ كلَّ رائي)
(أخرسَ لَا من علةٍ وداء
…
يُغني عَن التَّصْرِيح بِالْإِيمَاءِ)
(يُجيب إِن ناداه ذُو امتراء
…
بِالرَّفْع أَو بالخفض فِي النَّداء)
يُفصِح إِن عُلِّق فِي الْهَوَاء وَمِنْه فِي وَلَده وَكَانَ بَعيدا عَن أَبِيه فِي سَائِر أَحْوَاله
(أَشْكُو إِلَى الله صاحباً شَكِساً
…
تُسعِفُه النفسُ وَهُوَ يَعسِفها)
(فَنحْن كَالشَّمْسِ والهلالِ مَعًا
…
تكسبه النُّورَ وَهُوَ يَكسِفها)
)
وَمِنْه
(يَا من رماني عَن قَوسِ فُرقَتِه
…
بِسَهمِ هَجرٍ غلا تَلافِيهِ)
(إرضَ لمن غَابَ عَنْك غيبتَهُ
…
فذَاكَ ذَنبٌ عِقابه فِيهِ)
وَذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي الخريدة الْبَيْت الثَّانِي مَنْسُوبا إِلَى أبي مُحَمَّد ابْن جَكِّينا وضمّ إِلَيْهِ بعده
(لَو لَم يَنَله من العِقاب سوى
…
بُعدك عَنهُ لَكَانَ يَكْفِيهِ)
وَأورد الحظيري فِي زِينَة الدَّهْر لِابْنِ التلميذ
(عاتبتُ إِذْ لم يَزُرخيالُك والن
…
ومُ بشوقي إِلَيْك مسلوبُ)
(فزارني مُنعِماً وعاتبني
…
كَمَا يُقَال الْمَنَام مَقلوب)
وَمن شعر ابْن التلميذ
(بُلَهِنَةُ الشبيبةِ سَكرةً
…
فَصَحَوتُ واستأنفتُ سِيرةَ مُجمِلِ)
(وقعدتُ أنْتَظر الفناءَ كراكبٍ
…
عَرَفَ المحلَّ فَنَامَ دُونَ المَنزِل)
وَذكر أَن أَبَا مُحَمَّد بن جكينا مرض فقصده ليعالجه فلمّا عُوفِيَ أعطَاهُ دَرَاهِم فَقَالَ فِيهِ
(جادَ واستنفّ المريضَ وَقد كَا
…
د ضَنىً أَن يلُفَّ ساقاً بساق)
(وَالَّذِي يَدفع المنونَ عَن النف
…
س جديرٌ بِقسمةِ الأرزاق)
وقصده مرّة أَن يَعبُرَ إِلَيْهِ دجلة ليداويَهُ فَكتب إِلَيْهِ
(إنّ امْرُؤ الْقَيْس الَّذِي
…
هام بِذَات الْمحمل)
(كَانَ شفَاه عَبرةٌ
…
وعَبرةٌ تصلُح لي)
وَكَانَ ابْن جكينا قد عمِي فِي آخر عمره وَجَرت بَينهمَا منافرة فِي أَمر واشتهى مصالحته فَكتب إِلَيْهِ
(وَإِذا شِئتَ أَن تصالح بشّا
…
ر بن بُردٍ فاطرَح عَلَيْهِ أباهُ)
فسيّر إِلَيْهِ بُرداً وَله مَعَه وقائع وحكايات وَبَين ابْن التلميذ مُجاراتٌ ومُحاوراتٌ وَمن شعره ابْن التلميذ
(جُودُه كالطبيب فِينَا يداوي
…
سوءَ أحوالنا بحسنِ الصنيعِ)
(فَهُوَ كالمومِيا إِذا انْكَسَرَ العَظ
…
مُ ومِثل التِرياق للملسوع)
وَقَالَ فِي وَلَده سعيد)
(حُبي سعيدا جوهرٌ ثابتٌ
…
وحُبُّه لي عَرَض زائلُ)
(بِهِ جهاتي الستُّ مشغولةٌ
…
وَهُوَ إِلَى غَيْرِي بهَا مائل)
وَقَالَ أَيْضا
(تقسَّم قلبِي فِي محبَّة معشرٍ
…
بِكُل فَتى مِنْهُم هَوايَ منوطُ)
(كأنّ فُؤَادِي مركزٌ وهمُ لَهُ
…
مُحيطٌ وأهوائي إِلَيْهِ خطوط)
وَكَانَ دَائِما يؤنّب وَلَده بِهَذَا الْبَيْت
(والوقتُ أنفَسُ مَا عيِنتُ بِهِ
…
وَأرَاهُ أشهَلُ مَا عليكَ يَضِيع)
وَيُقَال إِن الْبَيْتَيْنِ قبل هَذَا لأبي عَليّ المهندس الْمصْرِيّ وَقَالَ ابْن التلميذ
(تَعِسَ القياسُ فللغَرام قضيةٌ
…
لَيست على نهج الحِجَى تنقادُ)
(مِنْهَا بَقَاء الشوقِ وَهُوَ بزَعمهم
…
عَرَضٌ وتَفَنى دُونه الأجسادُ)
وَيُقَال إنَّهُمَا لِابْنِ الدّهان نَاصح الدّين وَلابْن التلميذ
(أكثرتَ حَسوَ البَيض حتّ
…
ى يستقيمُ قيامُ أيرِك)
(مَالا يقومُ بِبَيضتَي
…
ك فَلَا يقوم ببيضِ غيرِك)
وَله أَيْضا
(بزجاجتين قطعتُ عمري
…
وَعَلَيْهِمَا عوّلتُ دهري)
(بزُجاجة مُلِئتْ بحِبرٍ
…
وزجاجةٍ مُلِئت بِخَمْر)
(فبذي أُثبِّتُ حِكمتي
…
وبذي أُزيلُ هُمومَ صَدْرِي)