الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلو نظرنا إلى تربية الإنسان في القرآن الكريم لوجدنا نظاما محكما يبدأ مع الإنسان منذ أول خلقه حتى يلقى الله جل وعلا ويواجه مصيره الذي ينتظره.
إن منهج التربية في القرآن الكريم ينبثق من كمال هذا الدين ومعجزة هذا الكتاب المجيد، فتربيته تسع كل المجالات، كما أنها باقية وصالحة لكل عصر وجيل، حيث إن إعجاز القرآن الكريم لا ينحصر في ألفاظه ومبانيه، ولكنه يمتد إلى معانيه ومناهجه الحياتية والحيوية.
[الجانب التربوي الأخلاقي]
[أولا الوسائل الدافعة]
الجانب التربوي الأخلاقي حقيقة التربية الأخلاقية في نظر الإسلام تنشئة الإنسان وتكوينه متكاملا من الجانب الخلقي، بحيث يصبح مفتاحا للخير ومغلاقا للشر في كل الظروف والأحوال (1) .
وهي تستهدف ملكة استعداد النفس لتهذيبها وتنمية نزعات الخير لديها، فهي من الأهمية بمكان، لأنها ترجمة عملية للأخلاق النظرية المتمثلة في الإلزام والمسئولية والجزاء ((ذلك أنه إذا لم يعد هناك إلزام فلن تكون هناك مسئولية، وإذا عدمت المسئولية فلا يمكن أن تكون العدالة، وحينئذ تتفشى الفوضى ويفسد النظام)) (2) .
(1) انظر دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإسلامية ص 22.
(2)
دستور الأخلاق في القرآن الكريم ص 21.
حقا إن التربية الأخلاقية أحد الدعائم الأساسية في بناء الفرد المسلم، إذ هي عملية تؤدي إلى بناء فكر وفعل أخلاقي بما حوته من وسائل كفيلة يمكن من خلالها تطبيق دستور الأخلاق في القرآن الكريم، وهذه الوسائل تؤول إلى مجموعتين:
وسائل دافعة ووسائل مانعة، أما الوسائل الدافعة فهي التي تنمي الاستعداد النفسي لفعل الخيرات مثل القدوة الصالحة والموعظة والصحبة، والمجموعة الثانية هي الوسائل المانعة وهي التي تحول بين المرء ورغبته في سيئ الأخلاق، وتعطل إرادته واستعداده من الوقوع فيها ومن بين تلك الوسائل المانعة الاعتبار والترهيب والعقوبة (1) .
إن التربية الأخلاقية في نظرة الإسلام تتسم بالعمق والشمول، حيث إنها تتناول جميع الجوانب الإيجابية للتربية المتكاملة، من أهمها تكوين البصيرة عند المرء ليميز بين سلوكي الخير والشر وتلقي المبادئ التربوية ب افعل ولا تفعل وتطهير النفس من نوازع الشر وتحذير الغير منها، وتحليها بفضائل الخير، والدلالة إليها (2) .
والحق أن القرآن العظيم قد زود نظامه الأخلاقي بقاعدة تربوية غاية في الكمال (3) وقد انتظم في هذه القاعدة جملة من الوسائل الكفيلة بتفعيل التعاليم الأخلاقية، وإيجاد العلاج والحلول المناسبة لكل انحراف أو
(1) انظر الأخلاق بين النظرية والتطبيق ص 79.
(2)
انظر دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإسلامية ص 29.
(3)
انظر دستور الأخلاق 677.
تسيب في الأخلاق، ومعنى هذا أنها ذات طابع إصلاحي ودعوي، فالحاجة إلى إبرازها وإعمالها ضرورة اجتماعية.
أولا - الوسائل الدافعة وهي الوسائل التي تنمي الاستعداد لفعل الخيرات والمداومة عليها والترقي في معارج الفضيلة، ومنها:
الموعظة: وهي التذكير بالخير فيما يرق له القلب (1) وتعد الموعظة من أقوى الأساليب وأنجع الوسائل، ولهذا سمى الله القرآن الكريم موعظة كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57](سورة يونس: 57) وقد استعمل القرآن الكريم الموعظة في السياق التربوي في كثير من المناسبات، ويظهر ذلك جليا في مواعظ الحكيم لقمان لابنه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ - وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ - يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ - وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ - وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 13 - 19](سورة لقمان: 13 - 19) .
(1) انظر مادة (وعظ) في العين للخليل 2 / 228 والمفردات للراغب ص 527.
والموعظة تأتي في القرآن الكريم صريحة كما في الآيات السابقة، وتأتي من خلال الاعتبار بمن سبق، قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور:((وقوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] (سورة النساء: 171) وقوله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27](سورة الحديد: 27) فإن ذلك متعلق بأهل الكتاب ابتداء، ومراد منه موعظة هذه الأمة لتجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة وسقوطها)) (1) وتصديق ذلك في القرآن الكريم حيث يقول الحق تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ - فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65 - 66](سورة البقرة: 65 - 66) .
(1) مقاصد الشريعة ص 268.
الصحبة: لا يخفى ما للصحبة من أثر فاعل في اكتساب الأخلاق سلبا أو إيجابا، ومسارقة الطبع تؤدي في ذلك دورا كبيرا، ((إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعا)) (1) .
وقصة أصحاب الجنة في سورة القلم شاهد حي على ما للصحبة من أهمية في استمداد القرناء بعضهم من بعض الطاقات الأخلاقية حيث يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ - وَلَا يَسْتَثْنُونَ - فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ - فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ - فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ - أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ - فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ - أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ - وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ - فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ - بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ - قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ - قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ - فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ - عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ - كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17 - 33](سورة القلم: 17 - 33) .
(1) إحياء علوم الدين للغزالي 3 / 60.
أوسطهم أي: ((أعدلهم قولا وعقلا وخلقا)) (1) والآية تدل على أن هذا الأوسط حذرهم من الوقوع في المعصية قبل وقوع العذاب فلم يطيعوه، فلما رأوا العذاب ذكرهم ذلك الكلام (2) {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29] فكان تذكير أوسطهم أحد أسباب توبتهم، ولو استجابوا له أولا لانتفعوا ببستانهم، بيد أنهم استطاعوا أن يؤثروا عليه، حتى أزرى به بخله فأصابه ما أصابهم. وقد جاء التنويه بالصحبة وما لها من أثر فاعل في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27](سورة الفرقان: 27)، وقوله تعالى:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71](سورة الأنعام: 71) .
القدوة الحسنة: وهي وسيلة عملية في البناء الخلقي، ((ولن تصلح التربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة)) (3) والقرآن الكريم حافل بنماذج حية للشخصيات الأخلاقية الكريمة، للترغيب في أخلاقهم، ومحاكاة الحسن منها،
(1) المحرر الوجيز لابن عطية 15 / 42.
(2)
انظر مفاتيح الغيب للرازي 29 / 90 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 244.
(3)
خلق المسلم للشيخ محمد الغزالي ص 16.
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90](الأنعام: 90) ، كما حفل بنماذج أخرى ضدها للتنفير من محاكاتها، قال ابن حزم:((ولهذا يجب أن تؤرخ الفضائل والرذائل، لينفر سامعها من القبيح المأثور عن غيره، ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه ويتعظ بما سلف)) (1) .
ومن ثم سيق في القرآن الكريم تجارب الأنبياء الأخيار لينتفع منها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ((فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم)) (2) وبهذا يتضح مفاد التعبير بحرف الاستعلاء في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4](القلم: 4) إذ دل على استعلاء الرسول صلى الله عليه وسلم على جميع الأخلاق الجميلة وتمكنه منها (3) ولا سيما أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وفي الحديث الشريف:«إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» (4) .
وإذا كانت طريقة القرآن فيما يذكره الله عن أهل العلم والأنبياء والمرسلين على وجه المدح للتأسي (5) بهم، فلا جرم أن ما امتدح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق يقتضي اتخاذه مثلا أعلى، ثم إنه قد جاء ذلك
(1) الأخلاق والسير 195.
(2)
مفاتيح الغيب للرازي 29 / 80.
(3)
انظر المصدر السابق 29 / 81 والتحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر 29 / 64.
(4)
أخرجه أحمد في مسنده 14 / 513 رقم الحديث 8952 وصححه محققوه.
(5)
انظر مجموع الفتاوى ابن تيمية 15 / 338.