الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نور، وتتجلى مظاهر الوسطية في سلوكهم، لأنهم يعتصمون بأشرف الذكر من مضلات الفتن، وحينما ربطت مؤسسات تعليم القرآن الناشئة بكتاب الله العزيز، وربتهم على ترتيله وتدبر نصوصه أنجبت جيلا من المتخلقين بأخلاق القرآن وأنتجت هذه الدور المباركة مجموعة من كنوز المستقبل مؤهلة لحمل الأمانة محصنة من الأهواء والزيغ يحملون مشعل الوسطية ويطبقون منهج الله سبحانه، فهم يتجاوزون مرحلة الإيمان النظري إلى مرحلة أزكى وأرقى، فهم من المجتمع غرته وخياره، يهدون إلى الرشد، ويحاربون كل بدعة، وينشرون التوجيهات الربانية بين الناس، تلاوة وعملا دون القصد على أحدهما.
فلذلك كانت هذه الفئة من مجتمعنا المسلم بمنأى عن مظاهر الغلو في الدين في عصرنا الحاضر، وتشكل سدا منيعا من التهاوي في دركات أهل الأهواء ويرفض التشدد في الدين والتنطع الذي يعتبر من المهلكات {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]
[تفاقم ظاهرة الغلو في الدين في عصرنا الحاضر]
تفاقم ظاهرة الغلو في الدين في عصرنا الحاضر والغلو في الدين ليس وليد اليوم على الساحة الإسلامية، بل هو مغرق في القدم له جذوره وتاريخه ودوافعه.
فقد كانت بذرة التغالي بادئة في النمو في العصر النبوي، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في قوله: «إِنْ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ
الْأَوْثَانِ» أخرج الشيخان (1) فكان الرجل المشار إليه في الحديث بذرة الخوارج الذين استحلوا دماء المسلمين وكفروا أهل القبلة، وقاتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإنما ضل هؤلاء لعدم فهمهم القرآن الكريم، فهم وإن كانوا يقرءون إلا أن تلك القراءة عرية عن الفهم الصحيح، فلذلك كانوا يأخذون آيات نزلت في الكفار فيحملونها على أهل القبلة، فيكفرونهم، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الخوارج (إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين)(2) .
وما دام هؤلاء كفروا مجتمعهم، فإن هذا يقضي باستحلال دمائهم، وهذا الذي كان كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان من أعلام نبوته. قال أبو قلابة:(ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف)(3) وهذه عامة المبتدعة الغالبة، والعلامة التي يشترك فيها جمهرتهم.
(1) البخاري (8 / 52) كتاب استتابة المرتدين: باب قتل الخوارج والملحدين ومسلم (1 / 740) رقم (1063) في الزكاة: باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
(2)
أخرجه البخاري تعليقا في (8 / 51) كتاب استتابة المرتدين: باب قتل الخوارج والملحدين، ووصله الطبري في تفسيره بإسناد صحيح، وانظر أيضا فتح الباري (1 / 282) .
(3)
رواه الدارمي (1 / 44) رقم (100) المقدمة: باب اتباع السنة.
ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية حين يقول: (طريقة أهل البدع يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعهم)(1) اهـ.
وقال ابن القيم في المدارج (2)(ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد) اهـ.
وهذا النص كالشرح لقول الإمام الحسن البصري: (سننكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما، بين الغالي والجافي)(3) وهو نحو قول مطرف بن عبد الله: (خير الأمور أوسطها: الحسنة بين السيئتين، وشر الأمور الحقحقة)(4) .
ومما أوردنا من النصوص عن هؤلاء الأئمة الأعلام ندرك أن هؤلاء المبتدعة من الخوارج ومن دار في فلكهم إنما وقعوا في براثن
(1) الرد على البكري (2 / 255) ط المطبعة السلفية بمصر.
(2)
مدارج السالكين (2 / 496) ط دار الكتاب العربي.
(3)
رواه الدارمي (1 / 63) رقم (222) المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي.
(4)
المحجة في سير الدلجة ص (18) ط الثانية دار البشائر الإسلامية.
الزيغ والضلال بسبب ركونهم إلى ما أملته عليهم أفهامهم السقيمة، وأفكارهم الموبوءة.
وكم من عائب قولا صحيحا
…
وآفته من الفهم السقيم
وإنما العلم بالتعلم، ولو رجع هؤلاء إلى علماء الصحابة ومحدثيها أمثال ابن عمر وغيره لشفوا من هذا الداء العضال.
ثم إن هذا الصنف المهيأ لانتحال الآراء المبتدعة، يتمسكون بالمتشابه من النصوص ويهملون عمدا المحكم القاضي على المتشابه، كما قال عز وجل في النصارى ومن سار على نهجهم. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]
وما أجمل كلام الشاطبي (1) في هذا الشأن فإنه قال: (وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونها مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتها على العامة، ويظنون أنهم على شيء، فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل) اهـ.
(1) الموافقات (3 / 72) ط الثانية دار المعرفة للطباعة والنشر.
رحمك الله تعالى أيها الشاطبي، فما أشبه الليلة بالبارحة، فما حذرت منه في القديم قد وقع في شباكه لفيف من المتشددين المعاصرين، فأحدثوا فقها أملته عليهم الزنزانات وظلمات السجون، ورجحه عندهم أفكار قاصرة، وأفهام سقيمة، ولم يلقوا لفهم الأولين بالا، ولم يعيروه التفاتة واحدة، فاستقلوا فضلوا ورحم الله صاحب الخلاصة إذ يقول:
وقد تزاد كان في حشو كما
…
كان أصح علم من تقدما
والحكم في الأمور العظام يتطلب مؤهلات علمية عالية، ولا توجد إلا في أفراد محصورين في كل عصر ومصر، ومن أهم ذلك معرفة المقاصد الشرعية التي لا يحيط بكنهها إلا الراسخون في العلم. يقول الشاطبي (1)(فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله) اهـ.
وهذا باب واسع دقيق لا يخوض غماره إلا أكابر العلماء، وكثير ممن تردى في مهاوي الغلو أتي من جهله بالمقاصد الشرعية، فخبط خبط عشواء وكأنما ركب متن ناقة عمياء، فضل السبيل، ولم
(1) الموافقات (4 / 106 -107) ط دار المعرفة.