الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة صاحب التهذيب
نسأل الله حسن الخاتمة
رب يسر وأعن يا كريم
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، العظيم الجبار، أحمده (سبحانه) وحلاوة محامده تزداد مع التكرار، وأشكره تبارك وتعالى وفضله على من شكره مدرار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار {يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار} (الرعد: 8).
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمداً رسولُ الله، سيد الأبرار، وإمام المتقين الأخيار.
اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه كلما سكن ساكن وتحرك متحرك في ليل أو نهار.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار
…
فإن كتاب "بداية الهداية" للإمام أبي حامد الغَزَّالي رحمه الله (1) من الكتب التي تشتمل على مهمات لا ينبغي لسالك طريق الهداية أن يغفل عن دراستها والعمل بما فيها، وقد قدمه الكثيرون، وانطلقت ألسنتهم بالثناء عليه، وبعيب من هم في غفلة عنه وبغيره يبتدئون.
(1) الغَزَّالي: هو محمد بنُ محمد بنِ محمد بن أحمد. وهكذا يقال بتشديد الزاي، وقد رُويَ عنه أنه أنكر هذا وقال: إنما أنا الغَزَالي - بتخفيف الزاي -. منسوب إلى قرية من قرى طوس يقال لها: غزالة. ا. هـ أفاده الإمام النووي رحمه الله في آخر باب من كتابه "التبيان في آداب حملة القرآن".
ولا لوم عليهم في ذلك؛ فإن الطريق الموصلة إلى الله تبارك وتعالى ليست مما يقطع بالأقدام، إنما تقطع بالقلوب، فلا بد من أن يكون القلب سليماً ذا قوة وبصيرة حتى يصل، وإلا حالت دون ذلك الشبهات والشهوات التي تعرض له.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (1).
ولا يمتري أحد في أن الإمام الغزالي رحمه الله له يد طولى في الكلام على أمراض القلوب وعللها، وإجادة وصفها وتشخيصها، ووصف الدواء للخلاص منها واستئصالها، وجُل الناس بعده عيال عليه في هذا الباب.
ولكن اعلم - وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته -: أن كتب الإمام الغزالي رحمه الله تشتمل على الصحيح والسقيم، وتجد فيهما الغث والسمين، وترى فيها الدر الثمين ممزوجًا في الرصف بالخرز المهين.
وهذا ليس من كيسي، إنما هذا كلام أهل العلم والتحقيق الذين جاؤوا من بعده رحمه الله، قالوه نصيحة للمسلمين، وقد قال سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم:((الدين النصيحة)) (2).
(1) أخرجه البخاري (52، 2051)، ومسلم (1599)، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 267، 269، 270)، وأبو داود (3329)، والترمذي (1205)، والنسائي (4453، 5710)، وابن ماجه (3984)، والدارمي (2531)، وابن حبان (721 - إحسان)، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وفي "الزهد الكبير"(862، 863) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. قال الإمام الترمذي رحمه الله: ((حديث حسن صحيح))، وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله:((وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس. وحديث النعمان أصح أحاديث الباب)) اهـ.
(2)
أخرجه مسلم (55)، والإمام أحمد (4/ 102، 103)، وأبو داود (4944)، والنسائي (4197، 4198)، وابن حبان (4574، 4575 - إحسان)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1089، 1090، 1091)، وابن حزم في "المحلى"(8/ 591) طـ/ دار التراث، من حديث أبي رقية تميم بن أوس الدري. وراجع "جامع العلوم والحكم" للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله الحديث السابع (7).
- قال العلامة أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله {المتوفى سنة 597 هـ} في مقدمة كتابه الموسوم بـ"منهاج القاصدين ومفيد الصادقين" وهو اختصار لكتاب "الإحياء" للغزالي:
((اعلم أن في كتاب " الإحياء " {وغيره} (1) آفات لا يعلمها إلا العلماء،
وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة، والموقوفة وقد جعلها مرفوعة (2)، وإنما
(1) أضفت هذه الكلمة؛ لأن جُل كتب الإمام الغزالي رحمه الله تشتمل على بعض هذه الآفات التي يشير إليها ابن الجوزي رحمه الله، ومن جملة ذلك كتاب "بداية الهداية"، وهو بمثابة صورة مصغرة لكتاب "الإحياء"، فما يقال في "الإحياء" يقال فيه. والله الموفق لا رب سواه.
(2)
ومن أوضح الأدلة على ذلك كتاب الحافظ زين الدين العراقي رحمه الله {المتوفى سنة 806 هـ} المسمى: " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار "، فكم من الأحاديث التي جزم الغزالي رحمه الله بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول فيها الحافظ العراقي رحمه الله:((لا أصل له))، و ((لم أجد له أصلاً))
…
فضلاً عن الأحاديث الموضوعة، فضلاً عن المنكرة والشاذة والضعيفة المعلولة، حتى قال بعض أهل العلم:((ما رأيت كتاباً أكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من " الإحياء "))!، ولكننا نقول كما قال ابن الجوزي رحمه الله: إن الإمام الغزالي لم يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشاه من ذلك - ولكنه نقل الأحاديث ((كما اقتراها، لا أنه افتراها))، والإمام رحمه الله لم يكن من ذوي الاختصاص في علم الحديث حتى يستطيع تمييز صحيح الأخبار من سقيمها، وطيبها من خبيثها، وقد اعترف رحمه الله بذلك حيث قال:((أنا مزجى البضاعة في الحديث)).
بيد أن الإمام رحمه الله مال في آخر عمره إلى سماع الحديث وحفظه، ومات وصحيح البخاري على صدره.
وراجع ترجمة الإمام رحمه الله في " البداية والنهاية " للعماد ابن كثير أبي الفداء رحمه الله {المتوفى سنة 774 هـ} (ج12/ 149) طـ مكتبة الصفا، حوادث سنة (505 هـ). وراجع أيضاً "سير أعلام النبلاء" للحافظ العالم العلامة شمس الدين الذهبي رحمه الله {المتوفى سنة 748هـ} .
ومن الأهمية بمكان أن نذكر بأنه ليس معنى تبيين ما في كتب الإمام من الآفات أن نهضمه حقه، وننسى جهودَه وحسناتِه!
…
كلا ثم كلا؛ فالغزالي هو الغزالي، وكفى الغزاليََّ فخرًا أنه الغزالي، ذلك الإمام العلامة الجهبذ النحرير الحِبل الزاهد العابد العارف الورع، الذي تشهد الدنيا بورعه وزهده وعلمه، ومن أنكر ذلك فكأنما أنكر ضوء الشمس في رابعة النهار:
وكيف يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وإنما ذكرنا ما ذكرناه من باب النصيحة كما أسلفنا، وإلا فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم:((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))، ولله در من قال:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
…
جاءت محاسنه بألف شفيع
وأجمِل بقول القائل:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدًا
…
فأفعاله اللاتي سررن كثير.
نقلها كما اقتراها، لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مصنوع.
وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام {وأن تذكر الله تعالى بأذكار} ليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه وندب إلى العمل به ما لا حاصل له من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد، إلى غير ذلك مما قد كشفت عن عواره في كتابي المسمى بـ "تلبيس إبليس"(1) انتهى.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله {المتوفى سنة 728} في " مجموع الفتاوى ":
((وأما ما في " الإحياء " من الكلام في المهلكات، مثل الكلام على الكبر، والعجب، والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في "الرعاية"، ومنه ما هو مقبول، ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه. و " الإحياء " فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين. وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه. وقالوا: ((مرضه " الشفاء ")) يعني: " شفاء " ابن سينا في الفلسفة. وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه)) ا. هـ.
(1) وراجع لذلك أيضاً كتاب العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله {المتوفى سنة 751 هـ} المسمى بـ " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان "، فإنه من أحسن ما صُنف في هذا الباب.
ولهذا صح عزمي أن أقدم كتاب "بداية الهداية" للإمام الغزالي رحمه الله للمكتبة الإسلامية بعد تهذيبه مما علق به من أحاديث لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وما أكثرها!، ومن أقوال وأفعال استحسنها الإمام وارتآها وقال أهل العلم: لا دليل عليها. وأضفت إلى ذلك مما صح ما يغني عنها، بل ويربو عليها.
وقد بذلت جهدًا أحتسبه في تخريج الأحاديث التي أوردتها، وهي - إن شاء الله - ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برمتها، وفيها غنية عن غيرها، لمن أراد أن يزكي نفسه ويرقق قلبه بها، لا بالأحاديث المكذوبة الموضوعة، ولا الآثار والقصص المفتعلة المختلقة المصنوعة؛ فإن الله لم يجعل شفاء أمة محمد فيما حرم عليها.
ولم ألتزم ذكر ألفاظ الإمام بعينها، بل قد أذكرها بالمعنى، وزدت في متن الكتاب أشعارًا وآثارًا أشبه بمستطاب الجَنَى، فضلاً عن حواشي أرى أن ليس عنها غنى (1).
وبعد هذا أذكرك أخي بقول أبي القاسم الحريري رحمه الله في "ملحة الإعراب":
إن تجد عيباً فسد الخللا
…
فجل من لا يسهو وعلا
((فإني من بعد ذلك موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن
المَضَاء في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، النظرَ بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء؛ فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللوم منجاة، والحسنى من الإخوة مرتجاة)) (2).
وأنا سائل أخًا انتفع بشيء من هذا الكتاب أن لا يغفل عن دعوة بظهر الغيب للإمام الغزاليّ، وكذا لي ولوالديّ، ولأصحاب الحقوق عليّ، وليبشر؛ فقد قال
(1) ووسمت صنيعي هذا بـ "بلوغ الغاية من تهذيب بداية الهداية".
(2)
اقتباس من كلام العلامة ابن خلدون رحمه الله في "مقدمته" المشهورة، ص11 بتحقيقي ط/دار العقيدة للتراث بالاسكندرية.
النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل)) (1).
وإني لأبتهل إلى الله تبارك وتعالى أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يدخر لي ثوابه {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء: 88، 89)، وأن يوفقني ووالدي ومشايخي وسائر أقاربي وأحبابي ومن أحسن إلينا بحسن النيات، وأن ييسر لنا الطاعات، وأن يهدينا لها دائمًا في ازدياد حتى الممات، وأن يجود علينا برضاه ومحبته ودوام طاعته والجمع بيننا في دار كرامته وغير ذلك من أنواع المسرات، وأن ينفعنا أجمعين ومن يقرأ في هذا الكتاب به، وأن يجزل لنا المثوبات، وأن لا ينزع منا ما وهبه لنا ومَنَّ به علينا من الخيرات، وأن لا يجعل شيئًا من ذلك فتنة لنا وأن يعيذنا من كل شيء
من المخالفات؛ إنه مجيب الدعوات جزيل العطيات (2). والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكتب
أبو عبد الرحمن البحيري
وائل بن حافظ بن خلف
غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه
مساء الأحد الرابع عشر من شهر رمضان المبارك لسنة 1429هـ
الموافق: الرابع عشر من شهر سبتمبر لسنة 2008 مـ
كفر الدوار - البحيرة- جمهورية مصر العربية
(1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 195 - 196)، (6/ 452)، والبخاري في "الأدب المفرد"(625)، ومسلم في "صحيحه"(2733)، وابن ماجه (2895).
(2)
اقتباس من مقدمة الإمام النووي رحمه الله لشرح "صحيح مسلم"، المسمى:"المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج".