الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آداب العلاقة بالمعارف
وأما القسم الثالث وهم المعارف: فاحذر منهم فإنك لا تر الشر إلا ممن تعرفه. أما الصديق فيعينك، وأما المجهول فلا يتعرض لك، وإنما الشر كله من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم.
فأقلل من المعارف ما قدرت، فإذا بليت بهم في مدرسة أو مسجد أو جامع أو سوق أو بلد فيجب ألا تستصغر منهم أحدًا، فإنك لا تدري لعله خير منك، ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم فتهلك؛ لأن الدنيا صغيرة عند الله تعالى صغير ما فيها، ومهما عظم أهل الدنيا في قلبك فقد سقطت من عين الله تعالى، وإياك أن تبذل لهم دينك لتنال به من دنياهم، فلا يفعل ذلك أحد إلا صغر في أعينهم ثم حُرِمَ ما عندهم.
وإن عادوك فلا تقابلهم بالعداوة؛ فإنك لا تطيق الصبر على مكافأتهم فيذهب دينك في عداوتهم، ويطول عناؤك معهم، ولا تسكن إليهم في حال إكرامهم إياك وثنائهم عليك في وجهك
وإظهارهم المودة لك، فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة واحداً، ولا تطمع أن يكونوا لك في السر والعلن واحدًا. ولا تتعجب إن ثلبوك في غيبتك، ولا تغضب منه؛ فإنك إن أنصفت وجدت من نفسك مثل ذلك حتى في أصدقائك وأقاربك، بل في أستاذك ووالديك. فإنك تذكرهم في الغيبة بما لا تشافههم به. فاقطع طمعك عن مالهم وجاههم ومعونتهم؛ فإن الطامع في الأكثر خائب في المال، وهو ذليل لا محالة في الحال.
وإذا سألت واحدًا حاجة فقضاها فاشكر الله تعالى واشكره، وإن قصر فلا تعاتبه ولا تشكه فتصير عدواة له، وكن كالمؤمن يطلب المعاذير، ولا تكن كالمنافق يطلب العيوب. وقل: لعله قصر لعذر له لم أطلع عليه.
ولا تعظن أحدًا منهم ما لم تتوسم فيه أولاً مخايل القبول، وإلا لم يستمع منك وصار خصمًا عليك، وإذا أخطئوا في مسألة وكانوا يأنفون من التعلم منك
فلا تعلمهم، فإنهم يستفيدون منك علمًا ويصبحون لك أعداء، إلا إذا تعلق ذلك بمعصية يقارفونها عن جهل منهم، فاذكر الحق بلطف من غير عنف.
وإذا رأيت منهم كرامة وخيرًا فاشكر الله الذي حببك إليهم. وإذا رأيت منهم شرًا فكلهم إلى الله تعالى واستعذ بالله من شرهم، ولا تعاتبهم، ولا تقل لهم: لمِ لَم تعرفوا حقي وأنا فلان بن فلان وأنا الفاضل في العلوم؟! فإن ذلك من كلام الحمقى، وأشد الناس حماقة من يزكي نفسه ويثني عليها.
واعلم أن الله تعالى لا يسلطهم عليك إلا بذنب سبق منك، فاستغفر الله من ذنبك، واعلم أن ذلك عقوبة من الله تعالى.
وكن فيما بينهم سميعًا لحقهم، أصم عن باطلهم، نطوقًا بمحاسنهم، صموتًا عن مساويهم، واحذر مخالطة متفقهة الزمان، لا سيما المشتغلين بالخلاف والجدال.
واحذر منهم؛ فإنهم يتربصون بك ـ لحسدهم ـ ريب المنون، ويقطعون عليك بالظنون، ويتغامزون وراءك بالعيون، ويحصون عليك عثراتك في عشرتهم حتى يجبهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك عورة. يحاسبونك على النقير والقطمير، ويحسدونك على القليل والكثير، ويحرضون عليك الإخوان بالنميمة والبلاغات والبهتان. إن رضوا فظاهرهم الملق، وإن سخطوا فباطنهم الحنق، ظاهرهم ثياب، وباطنهم ذئاب.
هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم إلا من عصمه الله تعالى. فصحبتهم خسران، ومعاشرتهم خذلان.
هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف من يجاهرك بالعداوة؟!.
قال القاضي ابن معروف رحمه الله تعالى:
فاحذر عدوك مرة
…
واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق
…
فكان أعرف بالمضرة
وكذلك قال أبو تمام:
عدوك من صديقك مستفاد
…
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أَكثر ما تراه
…
يكون من الطعام أو الشراب
وكن كما قال هلال بن العلاء الرقى:
إني أحيي عدوي عند رؤيته
…
لأَدفع الشر عنى بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
…
كأن قد ملا قلبي محبات
ولست أسلم ممن لست أعرفه
…
فكيف أسلم من أهل المودات
الناس داء دواء الناس تركهم
…
وفي الجفاء لهم قطع الأَخوات
فسالم الناس تسلم من غوائلهم
…
وكن حريصاً على كسب التقيات
وخالق الناس واصبر ما بليت بهم
…
أصم أبكم أعمى ذا تقيات
وكن أيضا كما قال بعض الحكماء: ((الق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير مذلة لهما، ولا هيبة منهما. وتوقر من غير كبر. وتواضع من غير مذلة. وكن في جميع أمورك في أوسطها، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم))، كما قيل:
عليك بأَوساط الأَمور فإنها
…
طريق إلى نهج الصراط قويم
ولا تك فيها مفرطًا أو مفرطًا
…
فإن كلا طرفي الأمور ذميم
واعلم أن العاقل هو الفطن المتغافل، كذا قال الإمام الشافعي رحمه الله، ولله در من قال:
ليس الغبي بسيد في قومه
…
لكن سيد قومه المتغابي
ولقد صدق الأصمعي رحمه الله حين قال:
وما شيء أحب إلى لئيم
…
إذا شتم الكريم من الجواب
متاركة اللئيم بلا جواب
…
أشد على اللئيم من السباب
وكان الإمام سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله يقول:
((جواب الأحمق السكوت. والتغافل يطفئء شرًّا كثيرًا. ورضا المتجني غاية لا تدرك. والاستعطاف عون للظفر. ومَن غضب على من لا يقدر عليه طال حزنه)).
ومِن أجمل ما قرأت:
لن يبلغ المجدَ أقوام وإن شرفوا
…
حتى يَذِلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة
…
لا صفح ذل ولكن صفح إكرام
وأنشد الإمام الشافعي رحمه الله:
قالوا سكتَّ وقد خوصمت قلت لهم:
…
إن الجواب لباب الشر مفتاح
فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب
…
نعم وفيه لصون العرض إصلاح
إن الأسود لتُخشى وهي صامتة
…
والكلب يحثى ويرمى وهو نباح
ولا تنسَ وصية ربك تبارك وتعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت: 34، 35].
وما أجمل قول بعض الشعراء الذي ذكره ابن قتيبة رحمه الله في "عيون الأخبار":
إنَّ الهديةَ حُلْوةٌ
…
كالسِّحر تَجْتَلِبُ القلوبا
تُدْنِي البغيضَ من الهوى
…
حتى تُصَيِّرَهُ قريبا
وتُعِيدُ مُضطغِنَ العَدَا
…
وَةِ بعد نُفْرَتِهِ حبيبا