الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية: حسن الخلق
فلا تصحب من ساء خلقه، وهو الذي لا يملك نفسه عند الغضب والشهوة، وقد جمعه علقمة العطاردي رحمه الله تعالى في وصيته لابنه لما حضرته الوفاة، فقال: ((يا بني! إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك.
اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها)).
وقال علي رضي الله عنه:
إِن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك
الثالثة: الصلاح
فلا تصحب فاسقًا مصرًا على معصية كبيرة؛ لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غوائله، بل يتغير بتغير الأحوال والأعراض، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُه فُرُطًا} [الكهف: 28].
فاحذر صحبة الفاسق؛ فإن مشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية، وتهون عليك أمرها، ولذلك هان على القلوب معصية الغيبة لإلفهم لها، ولو رأوا خاتمًا من ذهب أو ملبوسًا من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه! والغيبة أشد من ذلك.
الرابعة: ألا يكون حريصًا على الدنيا
فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري، فمجالسه الحريص تزيد في حرصك، ومجالسه الزاهد تزيد في زهدك.
الخامسة: الوفاء، فلا خير في صحبة اللئيم، وقد أجمع الحصفاء الألباء من بني آدم على أن الإحسان إلى اللئيم إساءة، حتى قال سفيان الثوري رحمه الله:((وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام)) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 367/9277).
وعلى قدر إحسان المرء إلى اللئيم تكون إساءة اللئيم إليه، كما قال معن بن أوس متوجعًا من لئيم:
أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما استد (1) ساعده رماني!
أعلمه الفتوة كل وقت
…
فلما طر شاربه جفاني!!
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني!!!
ولله در أبي الطيب المتنبي إذ يقول:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا
…
مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع النَّدَى
وفي بعض الشعر التركي أو الفرنسي الذي ترجمه أمير الشعراء أحمد شوقي:
إن كنتَ ذا فضل فكُـ
…
ـنْهُ على ذكيٍّ أو كريم
فالفضلُ يَنْسَاهُ الغَـ
…
ـبيُّ وليس يحفظه اللئيم
السادسة: الصدق
فلا تصحب كذابًا فإنك منه على غرور، فإنه مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب.
ولعلك تعدم اجتماع هذه الخصال في سكان المدارس والمساجد، فعليك بأحد أمرين: إما العزلة والانفراد ففيها سلامتك، وإما أن تكون مخالطتك مع شركائك بقدر خصالهم، وذلك بأن تعلم أن الإخوةَ ثلاثة:
1 -
أخ لآخرتك: فلا تراع فيه إلا الدين.
2 -
وأخ لدنياك: فلا تراع فيه إلا الخلق الحسن.
3 -
وأخ لتأنس به: فلا تراع فيه إلا السلامة من شره وفتنته وخبثه.
والناسَ ثلاثة:
أحدهم: مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه.
والآخر: مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت.
والثالث: مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط، ولكن العبد قد يُبتلى به، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع، فتجب مداراته إلى الخلاص منه، وفي مشاهدته فائدة
(1) استد - بالسين المهملة: أي: استقام. ومَن رواه بالشين المعجمة فقد أخطأ؛ قال الإمام العلامة عبد الملك بن قُريب الأصمعي [المتوفى سنة ست عشرة ومائتين] رحمه الله: ((اشتد بالشين ليس بشيء)). نقله الجوهري رحمه الله في "الصحاح".
عظيمة إن وفقت لها، وهو: أن تشاهد من خبائث أحواله وأفعاله ما تستقبحه فتجتنبه، فالسعيد من وُعظ بغيره، و ((المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه)) (1) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ويُروى أن نبي الله عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام - قيل له: مَن أدبك؟ فقال: ((ما أدبني أحد ولكن رأيت جهل الجاهل فاجتنبته))، ولقد صدق على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فلو اجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم؛ لكملت آدابهم واستغنوا عن المؤدبين.
واعلم أنك إن طلبت منزهًا من كل عيب لم تجد، ومَن غلبت محاسنه على مساويه فهو الغاية،
ويعجبني ما ورد في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني (3/ 237) عن الشاعر بَشَّار بن برد، قال:
إذا كنت في الأمور معاتبًا
…
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبُهْ
فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه
…
مقارف ذنب مرة ومجانبُهْ
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى
…
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربُهْ؟
الوظيفة الثانية: مراعاة حقوق الصحبة
فمهما انعقدت الشركة وانتظمت بينك وبين شريكك الصحبة، فعليك حقوق يوجبها عقد الصحبة، وفي القيام بها آداب. وقد قال سلمان الفارسي رضي الله عنه:((مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى)) (2).
(1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(239)، وأبو داود (4918) وحسن إسناده الزين العراقي رحمه الله كما في "فيض القدير"(6/ 333)، وحسنه أيضًا تلميذه الحافظ ابن حجر رحمه الله في "بلوغ المرام"(1432).
(2)
أورده الإمام الغزالي رحمه الله في الأصل وكذا في "الإحياء" جازمًا بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم! وقال الحافظ العراقي رحمه الله: "رواه السلمي في "آداب الصحبة"، وأبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أنس. وفيه أحمد بن محمد بن غالب الباهلي كذاب. وهو من قول سلمان الفارسي في الأول من "الحزبيات" ا. هـ قلت: (وائل): وقد روى ابن المبارك في "الزهد" (874) بسند صحيح عن سليمان وهو ابن مهران الأعمش رحمه الله قال: ((مثل الذي يشكو إلى أخيه كمثل الذي يغسل إحدى يديه بالأخرى)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبًا لصاحبه)) (1).
وآداب الصحبة:
الإيثار بالمال، فإن لم يكن هذا، فبذل الفضل من المال عند الحاجة. والإعانة بالنفس في الحاجات على سبيل المبادرة من غير إحواج إلى التماس. وكتمان السر. وستر العيوب.
والسكوت على تبليغ ما يسوؤه من مذمة الناس إياه. وإبلاغ ما يسره من ثناء الناس عليه.
وحسن الإصغاء عند الحديث، وترك المماراة فيه. وأن يدعوه بأحب أسمائه إليه. وأن يثني عليه بما يعرف من محاسنه إن لم يخش مفسدة. وأن يشكره على صنيعه في وجهه.
وأن يذب عنه في غيبته إذا تُعرِّض لعرضه كما يذب عن نفسه.
وأن ينصحه باللطف والتعريض إذا احتاج إليه. وأن يعفو عن زلته وهفوته ولا يعتب عليه.
…
وأن يدعو له في خلوته في حياته وبعد مماته. وأن يحسن الوفاء مع أهله وأقاربه بعد موته.
وأن يؤثر التخفيف عنه فلا يكلفه شيئًا من حاجاته. ويروح قلبه من مهماته.
(1) رواه أبو يعلى (6/ 3419) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وقال المنذري وتبعه الهيثمي (10/ 276): "رواته رواة الصحيح إلا مبارك بن فضالة" وهو صدوق يدلس وقد صرح بالتحديث كما عند البخاري في "الأدب المفرد"(544)؛ فالإسناد حسن، وصححه ابن حبان (566) واللفظ المزبور له، والحاكم (7323). وله شاهد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عزاه المنذري للطبراني وقال:"إسناده جيد قوي".
تنبيه: قال الشيخ الألباني رحمه الله وطيب ثراه) في "الصحيحة"(450) بعد تخريجه للحديث وعزوه إياه لابن حبان وغيره: "تنبيه": جميع روايات الحديث بلفظ (رجلان). وأما الغزالي فذكره في "الإحياء"(2/ 139) بلفظ (اثنان). ولم أجده في شيء من هذه الروايات "اهـ. وأقول: اللفظ الذي ذكره الإمام الغزالي رحمه الله هو لفظ ابن حبان (566 - إحسان)، وبهذا اللفظ أورده الحافظ السيوطي في "الجامع الصغير" (7867) وعزاه للبخاري في "الأدب المفرد"، وابن حبان، والحاكم. ورمز لصحته. والله الموفق لا رب سواه.
وأن يظهر الفرح بجميع ما يرتاح له من مسارِّه. والحزن على ما يناله من مكارهه.
وأن يضمر في قلبه مثل ما يظهره فيكون صادقًا في وده سرًا وعلانية. وأن يبدأه بالسلام عند إقباله. وأن يوسع له في المجلس. وأن يخرج له من مكانه. وأن يشيعه عند قيامه. وأن يصمت عند كلامه حتى يفرغ من كلامه. ويترك المداخلة في كلامه.
وعلى الجملة فيعامله بما يحب أن يُعامَل به، فمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فأخوته نفاق، وهي عليه وبال في الدنيا والآخرة، واعلم أخيراً أن صديقك هو من صدقك لا من صدَّقك.
فهذا أدبك في حق العوام المجهولين وفي حق الأصدقاء المؤاخين.
*******