الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في النصف الثاني من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة (1) ثم انزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة (2) لجواب كلام الناس وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجئ المشركون بمثل يخاصمون به الا جاءهم الله بجوابه وذلك قوله " وقال الذين كفروا لولا انزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل الا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " اه من تفسير ابن كثير
الباب الثاني
(وفيه خمسة فصول)
(الفصل الاول في جمع القرآن الكريم)
يطلق جمع القرآن تارة على حفظه في الصدور وتارة على كتابته فعلى المعنى الثاني نقول: ان القرآن جمع ثلاث مرات (الجمع الاول) كتب كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضوع واحد
(1) وهو البيت المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها (2) وفي رواية ابن عباس السابقة في ثلاث وعشرين سنة لان بعضهم يقول كان صلى الله عليه وسلم اول ما نزل عليه القرآن في الاربعين من عمره على أرجح الاقوال، وبعضهم يقول كان في الثالثة والاربعين وبعضهم يقول كان في الثانية والاربعين وهجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت بعد مضى ثلاث وخمسين سنة من مولده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (*)
ولا مرتب السور بل كان مفرقا في العسب واللخاف والرقاع والاقتاب (1) ونحوها مع كونه محفوظا في الصدور - فقد روي الحاكم في المستدرك عن زيد بن ثابت قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع الحديث - وعنه ايضا قال كنت أكتب الوحى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملى على فإذا فرغت قال اقرأه فأقرؤه فان كان فيه سقط أقامه وروى البخاري عن البراء قال لما نزلت " لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " قال النبي صلى الله عليه وسلم ادع لى زيدا وليجئ باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة ثم قال أكتب لا يستوى القاعدون الحديث، وأخرج مسلم من حديث ابى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكتبوا عنى شيأ غير القرآن (2) قال
(1) العسب بضم فسكون وبضمتين ايضا جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف بكسر اللام جمع لخفة بفتح فسكون وتجمع ايضا على لخف بضمتين وهى صفائح الحجارة الرقاق، والرقاع بالكسر جمع رقعة بالضم وهى القطعة من النسيج أو الجلد والاقتاب جمع قتب بفتحتين وهو رحل البعير (2) قال النووي في شرحه على صحيح مسلم عند هذا الحديث ما ملخصه: قيل انما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ وقيل ان حديث النهي منسوخ بجملة احاديث " ذكرها النووي في شرحه " ثم قال قال القاضي كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم واجازها اكثرهم ثم اجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف اه (*)
الحارث المحاسبى في كتاب فهم السنن كتابة القرآن ليست بمحدثة فانه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع والاكتاف والعسب اه وعدم جمعه في مجلد في حياته عليه الصلاة والسلام كان لامرين (الاول) الامن فيه من وقوع خلاف بين الصحابة لوجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم (الثاني) خوف نسخ شئ منه بوحى قرآن بدله، ففى الاتقان قال الخطابى انما لم يجمع صلى الله عليه وسلم القرآن في مصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته (1) ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الامة وإلى ما تقدم اشار العلامة الشيخ محمد العاقب الشنقيطى رحمه الله بقوله لم يجمع القرآن في مجلد * على الصحيح في حياة أحمد
للامن فيه من خلاف ينشأ * وخيفة النسخ بوحى يطرأ وكان يكتب على الاكتاف * وقطع الادم واللخاف وبعد إغماض النبي فالاحق * أن أبا بكر بجمعه سبق جمعه غير مرتب السور * بعد إشارة إليه من عمر ثم تولى الجمع ذو النوزين * فضمه ما بين دفتين مرتب السور والآيات * مخرجا بأفصح اللغات
(1) توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين 13 ربيع الاول سنة احدى عشرة للهجرة (*)
(الجمع الثاني) جمع ابى بكر الصديق رضى الله عنه روى البخاري في صحيحه عن عبيد بن السباق (1) ان زيد ابن ثابت رضى الله عنه قال أرسل إلى أبو بكر مقتل اهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضى الله عنه ان عمر اتانى فقال ان القتل قد استحر يوم اليمامة (2) بقراء القرآن وانى أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وانى ارى أن تأمر بجمع القرآن فقلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذى رأى عمر قال زيد قال أبو بكر انك رجل شاب عاقل لانتهمك وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فو الله لو كلفوني نقل
(1) قال في فتح الباري عبيد بن السباق بفتح المهملة وتشديد الموحدة مدني يكنى أبا سعد ذكره مسلم في الطبقة الاولى من التابعين
(2)
استحر القتل أي اشتد واليمامة واقعة جهة نجد وكانت مع مسيلمة الكذاب الذى ادعى النبوة وقد قتل في هذه الوقعة وابتدأت غزوتها في اواخر عام الحادي عشر وانتهت في ربيع الاول عام الثاني عشر للهجرة وفيها قتل من القراء سبعون قارئا من الصحابة وقيل سبعمائة وقد قتل منهم مثل هذا العدد في بئر معونة قرب المدينة في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، ولا يخفي ان قتل مثل هذا العدد من القراء ليس بقليل خصوصا والكتابة ما كانت منتشرة عندهم حتى يرجعوا إلى ما كتبوه بل كان اعتمادهم على ما في صدورهم (*)
جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرنى من جمع القرآن (1) قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل ابو بكر براجعنى حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر ابى بكر وعمر رضى الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع ابى خزيمة الانصاري لم أجدها مع احد غيره (2)" لقد جائكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم " حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند ابى بكر حتى توفاه الله
(1) استثقاله لهذا الامر لم يكن من جهة ما يحصل له من المشقة والتعب وانما كان خوفا من اقدامه على امر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به فلما ظهرت له المصلحة في ذلك اقدم عليه بهمة ونشاط (2) أي لم يجد صحيفتها والا فهي محفوظة في الصدور، أولم يجد في آخر سورة التوبة قراءة من الاحرف السبعة الا عند ابى خزيمة الانصاري فتأمل - ولم يذكره احد انه من حفاظ القرآن ولكن قد يحفظ منه بعض السور والايات وقد جاء من طريق ابى العالية انهم لما جمعوا القرآن في خلافة ابى بكر كان الذى
يملى عليهم ابى بن كعب فلما انتهوا من براءة إلى قوله يفقهون ظنوا ان هذا آخر ما نزل منها فقال ابى بن كعب اقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيتين بعدهن " لقد جاءكم رسول من انفسكم إلى آخر السورة " قال في فتح الباري شرح صحيح البخاري - الارجح ان الذى وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة بالكنية والذى وجد معه الآية من الاحزاب خزيمة، وابو خزيمة قيل هو بن اوس بن زيد بن أصرم مشهور بكنيته دون اسمه وقيل هو الحارث بن خزيمة واما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين اه من الفتح (*)
ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضى الله عنه (1) رواه البخاري في كتاب التفسير في باب جمع القرآن ورواه ايضا في الكتاب المذكور في سورة براءة وجاء في رواية ابن ابى داود أن عمر ابن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل كانت مع فلان قتل يوم اليمامة فقال انا لله فأمر بجمع القرآن - اي راجع ابا بكر حتى أمر بجمعه (ويحتار بعضهم) في فهم هذه الرواية كيف ان الآية التى سأل عنها عمر لا توجد الا مع فلان الذى قتل يوم اليمامة فنقول ان منطوق الرواية لا يدل على حصر الآية عند فلان فهناك غيره ممن يحفظها ايضا فعمر لما سمع بقتل فلان يوم اليمامة خاف من قتل حفاظ كلام الله تعالى ان يضيع
(1) تقول دائرة المعارف الاسلامية لماذا أو دعت الصحف عند حفصة ولم تودع عند الخليفة الجديد الذى ولى امر المسلمين وهو عثمان بن عفان (فنقول) أو دعت الصحف عند حفصة بوصية من ابيها عمر بن الخطاب لانها كانت تحفظ القرآن كله في صدرها وكانت تقرأ وتكتب وهى زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ام المؤمنين وابنة عمر بن الخطاب خليفة المسلمين، ثم انه لم يتعين خليفة
حين وفاة عمر حتي تسلم إليه لان عمر لم يوص بالخلافة إلى أحد وانما جعلها شورى في بضعة اشخاص فلهذه الاعتبارات كانت حفصة رضى الله عنها أولى من غيرها بحفظ المصحف، ونظر عمر أصوب وأحكم.
وفي كتاب الاصابة قال أبو عمر أوصى عمر إلى حفصة وأوصت حفصة إلى اخيها عبد الله بما اوصى به إليها عمر وبصدقة تصدقت بها بالغابة.
توفى عمر رضى الله عنه في ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين.
(*)
القرآن فراجع ابا بكر في ذلك حتى جمعه في الصحف.
وجاء في رواية اخرى: ان عمر بن الخطاب دخل على ابى بكر فقال ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار وانى اخشى ان لا يشهدوا موطنا الا فعلوا ذلك حتى يقتلوا وهم حملة القرآن فيضيع القرآن وينسى ولو جمعته وكتبته فنفر منها أبو بكر وقال أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتراجعا في ذلك ثم ارسل أبو بكر إلى زيد ابن ثابت (1) قال زيد فدخلت عليه وعمر مسربل (2) فقال لى أبو بكر
(1) هو زيد بن ثابت بن الضحاك الانصاري الخزرجي يقال انه شهد أحدا واستصغر يوم بدر ويقال اول مشاهده الخندق وكتب الوحى وغيره للنبى صلى الله عليه وسلم وكان من علماء الصحابة واعلمهم بالفرايض وفيه جاء الحديث افرض امتي زيد بن ثابت، وعن خارجة بن زيد عن ابيه قال اتي بى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة فقيل هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة فقرأت عليه فأعجبه ذلك فقال تعلم كتاب يهود فاني ما آمنهم على كتابي ففعلت فما مضى لى نصف شهر حتي حذقته فكنت اكتب له إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له، استخلفه عمر بن الخطاب على المدينة ثلاث مرات وكان عثمان إذا حج يستخلفه
على المدينة ايضا ورمى زيد يوم اليمامة بسهم فلم يضره - مات وهو ابن ست وخمسين وقيل اربع وخمسين واختلف في وقت وفاته فقيل سنة خمس واربعين وقيل غير ذلك قال أبو هريرة حين مات زيد اليوم مات حبر هذه الامة وعسى الله ان يجعل في ابن عباس منه خلفا اه ملخصا من الاصابة والاستيعاب، والمراد بكتاب يهود السريانية كما في الرواية الاخرى الآتية في الفصل الثاني، وقيل العبرانية والله تعالى اعلم (2) السربال ما يلبس من قميص أو درع - قاله في المصباح (*)
ان هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه وانت كاتب الوحى فان تكن معه اتبعتكما وان توافقني لا أفعل فاقتص أبو بكر قول عمر وعمر ساكت فنفرت من ذلك وقلت يفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال عمر كلمة وما عليكما لو فعلتما ذلك فذهبنا ننظر فقلنا لا شئ والله ما علينا في ذلك شئ قال زيد فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الادم وكسر الاكتاف والعسب (1) اه وهذه الرواية أوردها الطبري في تفسيره وهل اللفظ واحد ام لا يحتاج إلى المراجعة.
وكان زيد لا يقبل من احد شيئا حتى يشهد شهيدان فان ابا بكر قال لعمر ولزيد اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه - اخرجه ابن ابى داود من طريق هشام بن عروة عن ابيه (2) جاء في كتاب نهاية القول المفيد (فان قيل) كان زيد حافظا للقرآن وجامعا له فما وجه تتبعه المذكورات (والجواب) انه كان يستكمل وجوه قراءاته ممن عنده ما ليس عنده وكذا نظره في
المكتوبات التى قد عرف كتابتها وتيقن امرها فلا بد من النظر فيها
(1) الادم بضمتين وبفتحتين ايضا جمع اديم وهو الجلد المدبوغ، والاكتاف جمع كتف وهو عظم عريض يكون في اصل كتف الحيوان، والعسب بضم فسكون وبضمتين ايضا جمع عسيب وهو جريد النخل إذا نزع منه خوصه (2) انظر الفصل الثاني في احتياط الصحابة في كتابة القرآن (*)
وان كان حافظا ليستظهر بذلك وليعلم هل فيها قراءة غير قراءته ام لا وإذا استند الحافظ عند الكتابة إلى اصل يعتمد علية كان آكد واثبت في ضبط المحفوظ وجاء في ارشاد القراء والكاتبين: ان زيدا كتب القرآن كله بجميع اجزائه وأوجهه المعبر عنها بالاحرف السبعة الواردة في حديث ان هذا القرآن انزل على سبعة احرف فاقرؤا ما تيسر منه وكان اولا اتاه جبريل فقال له إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد ثم راجعه إلى السابعة فقال ان الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤا عليه أصابوا (1) اه من عنوان البيان في علوم التبيان.
فأبوبكر رضى الله عنه هو اول من جمع القرآن الكريم بالاحرف السبعة التى نزل بها واليه تنسب الصحف البكرية وكان ذلك بعد وقعة اليمامة التى كان انتهاؤها سنة اثنتى عشرة للهجرة - فجمعه للقرآن كان في سنة واحدة تقريبا (2) لانه وقع ببن غزوة اليمامة وبين وفاته
(1) سيأتي شرح هذا الحديث في الفصل الخامس من الباب الثاني (2) لولا همة الصحابة الذين بذلوا أنفسهم لله لما تم في مدة سنة واحدة كتابة
المصحف بالاحرف السبعة كلها وجمعه من الاحجار والعظام والجلود ونحوها فانظر إلى توفيق الله لهم وعنايته بهم وتأمل كيف خدموا الدين ونشروا الاسلام رضى الله عنهم (*)
رضى الله عنه التى كانت في جمادى الثانيه سنة ثلاثة عشر - قال على بن ابى طالب أعظم الناس في المصاحف اجرا أبو بكر رحمة الله على أبى بكر هو أول من جمع كتاب الله.
(ويسأل بعضهم) لماذا لم يأمر أبو بكر أو عمر أن ينسخ الناس مصاحف مما كتبه زيد بن ثابت ولماذا لم يحرص كبار الصحابة على ان يكون لدي كل واحد منهم أو لدى بعضهم على الاقل نسخ من هذه الصحف التى تتضمن كتاب الله.
(فنقول) ان ابا بكر رضى الله عنه لم يجمع القرآن لحدوث خلل في قراءته وانما جمعه خوفا من ذهاب حملته بقتلهم في الغزوات وكان جمعه له بالاحرف السبعة والناس يقرؤن بها إلى زمن عثمان فلا يختلف مصحف ابى بكر عما يقرؤه الناس ويحفظونه فلا داعى إذا لحمل الناس على مصحفه.
اما عثمان رضى الله عنه فانه لم يجمع القرآن الا بعد أن رآى اختلاف الناس في قراءته حتى ان بعضهم كان يقول ان قراءتى خير من قراءتك وكان جمعه له بحرف واحد وهو لغة قريش وترك الاحرف الستة الباقية فكان من الواجب حمل الناس على اتباع مصحفه وعلى قراءته بحرف واحد فقط قبل ان يختلفوا فيه
اختلاف اليهود والنصارى كما ترى تفصيل ذلك في الجمع الثالث اما عدم نسخ كبار الصحابة مصاحف على نمط ما جمعه أبو بكر فلم يكن هناك ما يدعو لذلك لعدم اختلاف ما جمعه أبو بكر بما عند الناس، وان بعضهم كتبوا مصاحفهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتلقوه منه سماعا - فكان جمع ابى بكر بمثابة سجل للقرآن يرجع إليه إذا حدث أمر كما وقع لعثمان حين جمعه القرآن فانه رجع إلى الصحف البكرية وكانت عند حفصة بنت عمر (ويسأل بعضهم ايضا) لم لم يجتمع أبو بكر وعمر وعثمان وعلى على نسخ المصحف وهم يحفظونه كله في صدورهم (فنقول) ان ابا بكر هو خليفة المسلمين وهؤلاء هم كبار الصحابة وهم اصحاب الرأى والشورى ومنهمكون في الغزوات ونشر الاسلام والنظر في مصالح الامة فاشتغالهم بأنفسهم بجمع القرآن يمنعهم عن النظر في شؤن المسلمين لان التفرغ لجمعه يحتاج إلى مدة طويلة وعناء عظيم - وإذا عرفت انهم كانوا يجمعونه مما كتب على نحو العظام والالواح والحجارة وانهم ما كانوا يقبلون من احد شيئا من القرآن الا بشاهدين علمت انهم يحتاجون في البحث والترتيب والمراجعة
والتصحيح إلى مدة غير قصيرة، وظهر لك ما تحملوه من المشقة العظمى والتعب الكبير - خصوصا وانهم في هذه المرة جمعوه بالاحرف السبعة كلها وهذا يستلزم أن يكون حجم مصحف ابى بكر أضعاف حجم مصحف عثمان لان هذا جمعه على حرف واحد من الاحرف السبعة.
لذلك اسند الخلفاء الاربعة جمع القرآن إلى زيد بن ثابت كاتب الوحى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذى شهد العرضة الاخيرة وكان من حفظة القرآن وأعلم الصحابة فقام بهذه المهمة خير قيام في مصحف أبى بكر وفي مصحف عثمان رضى الله عنهم (1) وجزاهم عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء والحقيقة لو لم يلهم الله تعالى هؤلاء الصحابة الكرام بجمع القرآن العظيم بكتابته في الصحف لذهب بموت حفاظه وانقراض الصحابة وهذا مصداق عزوجل " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون " ولقد كان سعى عمر رضى الله عنه لجمع القرآن من فضائله التى
(1) كان عمر زيد حين كتب مصحف ابي بكر نحو اثنتين وعشرين سنة وكان عمره حين كتب مصحف عثمان نحو خمس وثلاثين سنة (*)
لا تحصى ومناقبه التى لا تستقصى كيف وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وقال * (لقد كان فيما قبلكم من الامم محدثون فان يكن في امتى أحد فانه عمر) * رواه البخاري ومسلم قوله محدثون هو بفتح الدال المهملة وتشديدها أي ملهمون وكما نزل القرآن بموافقته في أسرى بدر وفي الحجاب وفي تحريم الخمر وافق عمر الحق والصواب وفى اشارته على ابى بكر بجمع القرآن ولقد جمع بعضهم موافقات عمر رضى الله عنه في منظومة أولها الحمدلله وصلى الله * على نبيه الذى اجتباه يا سائلي والحادثات تكثر * عن الذى وافق فيه عمر وما يرى انزل في الكتاب * موافقا لرأيه الصواب
(الجمع الثالث) جمع عثمان بن عفان رضى الله عنه (1) ولم ينقل انه كتب بيده مصحفا وانما امر بجمعه وكتابته على حرف واحد من الاحرف السبعة التى نزل بها القرآن فلذلك ينسب إليه ويقال " المصحف العثماني "
(1) تولى عثمان لآخر يوم من ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين للهجرة فاستقبل بخلافته المحرم عام اربع وعشرين وقتل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين (*)
وسببه كما في البخاري عن أنس ان حذيفة بن اليمان (1) قدم على عثمان وكان يغازى أهل الشام في فتح أرمينية وأذريجان مع اهل العراق
(1) هو حذيفة بن اليمان العبسى واسم اليمان حسيل بن جابر واليمان لقب كان ابوه قد اصاب دما فهرب إلى المدينة فحالف بنى عبد الاشهل فسماه قومه اليمان لكونه حالف اليمانية وتزوج والدة حذيفة وهى من الانصار اسمها الرباب بنت كعب بن عدى فولد له بالمدينة واسلم حذيفة وابوه وأرادا شهود بدر فصدهما المشركون وشهدا أحدا فاستشهد اليمان بها وشهد حذيفة الخندق وله بها ذكر حسن وما بعدها * وروي حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير وهو معروف في الصحابة بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم روى مسلم عن عبد الله بن يزيد الخطمى عن حذيفة قال لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان وما يكون حتى تقوم الساعة وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم فان لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر وكان فتح همدان والرى والدينور على يد حذيفة، سئل حذيفة اي الفتن اشد قال ان يعرض عليك الخير والشر فلا تدرى أيهما تركب قال العجلى استعمله عمر على المدائن فلم يزل بها حتى مات بعد قتل عثمان وبعد بيعة على بأربعين
يوما وذلك سنة ست وثلاثين اه ملخصا من الاصابة والاستيعاب وحذيفة هذا هو الذي يقول " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى فقلت يارسول الله انا كنا الخ " وتمام الحديث في البخاري في كتاب الفتن وفي علامات النبوة أيضا وتمامه في صحيح مسلم في كتاب الامارة في باب الامر بلزوم الجماعة ولولا التطويل لسقنا الحديث بتمامه.
فانه حديث مهم (ونقول) بما ان النبي صلى الله عليه وسلم حدث حذيفة بما كان وما يكون لى يوم القيامة لا يبعد أن يسر عليه الصلاة والسلام إليه ان يحرض عثمان لجمع القرآن على حرف واحد إذا رآى اختلاف الناس في قراءته فكتم حذيفة هذا الامر حتى جاء وقته (*)
فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا امير المؤمنين أدرك هذه الامة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى (1) فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها اليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد ابن ثابت (2) وعبد الله بن الزبير (3) وسعيد بن العاص (4) وعبد الرحمن
(1) وفي رواية قدم حذيفة من أرمينيا فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال يا امير المؤمنين أدرك الناس.
الخ.
وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري عند هذا الحديث روايات كثيرة فيما اختلفوا فيه من القراءات لم ننقلها هنا خوف التطويل فراجعها ان شئت (2) تقدمت ترجمة زيد عند جمع أبى بكر للمصحف في صحيفه 26 (3) هو عبد الله بن الزبير بن العوام وامه أسماء بنت ابى بكر ولدته سنة
ثنتين من الهجرة وقيل ولد في السنة الاولى وهو اول مولود ولد في الاسلام من المهاجرين بالمدينة وكانت به لسانة وفصاحة وكان كثير الصلاة والصيام بويع له بالخلافة سنة اربع وستين وقيل خمس وستين وقتل في ايام عبد الملك سنة ثلاث وسبعين.
اه ملخصا من الاستيعاب (4) هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن امية ولد عام الهجرة وقيل بل سنة احدي وكان احد اشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة وهو احد الذين كتبوا المصحف لعثمان استعمله عثمان على الكوفة وغزا بالناس طبرستان فافتتحها توفى في خلافة معاوية سنة تسع وخمسين.
اه ملخصا من الاستيعاب " وقد ورد ابن العاص بالياء وبغير ياء (*)
ابن الحارث بن هشام (1) فنسخوها في المصاحف (2) وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فانه انما نزل بلسانهم ففعلوا (3) حتى إذا نسخوا
(1) هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومى تزوج عمر أمه فنشأ في حجر عمر وتزوج بنت عثمان ثم كان ممن ندبه عثمان لكتابة المصاحف من شباب قريش قال ابن سعد كان من اشراف قريش قال ابن حبان مات سنة ثلاث واربعين.
اه ملخصا من الاصابة (2) واخرج ابن أبى داود انه جمع اثنى عشر رجلا من قريش والانصار وقال لهم إذا اختلفتم في لغة فاكتبوه بلغة قريش فلم يختلفوا الا في التابوت في البقرة فقال زيد بالهاء وقال عيره بالتاء فكتبوه بالتاء (3) وفي البخاري في كتاب التفسير في باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب " وقال لهم (أي عثمان لزيد ومن معه من المذكورين) إذا اختلفتم انتم
وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش فان القرآن انزل بلسانهم ففعلوا ".
جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري قال القاضى أبو بكر الباقلانى معنى قول عثمان نزل القرآن بلغة قريش أي معظمه وان لم تقم دلالة قاطعة على ان جميعه بلسان قريش فان ظاهر قوله تعالى انا جعلناه قرآنا عربيا انه نزل بجميع ألسنة العرب..الخ كلامه " وقال أبو شامة يحتمل ان يكون قوله نزل بلسان قريش اي ابتداء نزوله ثم أبيح ان يقرأ بلغة غيرهم كما سيأتي تقريره في باب انزل القرآن على سبعة احرف اه وتكميله ان يقول انه نزل أولا بلسان قريش احد الاحرف السبعة ثم نزل بالاحرف السبعة المأذون (*)
الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وارسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (1) قال ابن شهاب واخبرني خارجة بن زيد ابن ثابت سمع زيد بن ثابت قال فقدت آية من الاحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها
في قراءتها تسهيلا وتيسيرا كما سيأتي بيانه فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد راى ان الحرف الذى نزل القرآن اولا بلسانه أولى الاحرف فحمل الناس عليه لكونه لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولما له من الاولية المذكورة وعليه يحمل كلام عمر لابن مسعود ايضا اه من فتح الباري، وكلام عمر لابن مسعود سيأتي قريبا في الهامش (1) والسبب في احراقها هو قطع جذور اختلاف الناس في القراءة فقد يكون بعضهم كتب شيئا من القرآن على غير وجه صحيح لما نشأ فيهم من الخلاف الذى كان سببا في قيام عثمان بجمع القرآن وحمل الناس عليه - فباحراق تلك
الصحف تتوحد قراءتهم على حرف واحد حسب ما في مصحف عثمان * روي ابو بكر بن ابى داود باسناد صحيح عن مصعب بن سعد بن ابى وقاص قال ادركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك أو قال لم ينكر ذلك منهم احد اه " وانما لم يأمر عثمان بحرق صحف حفصة لانها كتبت بأمر ابى بكر بالاحرف السبعة لا يتطرقها الشك وعنها نقل مصحفه ولانه وعدها بردها إليها فبقيت عندها إلى وفاتها فلما توفيت استردها مروان حين كان اميرا بالمدينة من جهة معاوية وأمر بتشقيقها وغسلها وقال انما فعلت هذا لانى خشيت ان طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب " وقيل لما ماتت حفصة سلم عبد الله بن عمر هذه الصحف لجمع من الصحابة فغسلت غسلا (*)
مع خزيمة بن ثابت الانصاري (1)" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهداو الله عليه " فالحقناها في سورتها في المصحف - رواه البخاري في كتاب التفسير في باب جمع القرآن ورواه الطبري في تفسيره بلفظ اخر وفي رواية ابى قلابة فلما فرغ عثمان من المصحف كتب إلى اهل الامصار انى صنعت كذا وكذا ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم اه وفي رواية شعيب عند ابن أبى داود (2) والطبراني وغيرهما وأمرهم ان يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذى ارسل به اه.
(نقول) اكثر الروايات على الاحراق وبعضها على المحو فيمكن الجمع بينها بأن نقول كان الاحراق فيما كتب على نحو الجلود والعظام وكان المحو فيما كتب على نحو الالواح والحجارة والمحو قد يكون بالغسل وقد يكون بالطمس.
وفي رواية أن حذيفة قال يا أمير المؤمنين أدرك الناس فقال عثمان وما ذاك قال غزوت مرج أرمينيا فحضرها أهل العراق وأهل الشام فإذا أهل الشام يقرؤن بقراءة أبى بن كعب فيأتون
" 1 " ستأتي ترجمة خزيمة في الفصل الثالث في ضبط وتصحيح المصحف العثماني.
(2)
هو ابن داود الظاهرى وهو من جملة اصحاب الحديث (*)
بما لم يسمع أهل العراق فيكفرهم اهل العراق وإذا أهل العراق يقرؤن بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفرهم أهل الشام قال زيد فأمرني عثمان إلى آخر القصة (1) وفى رواية اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون (2) فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال عندي تكذبون به وتلحنون فيه فمن نآى عنى من الامصار كان اشد تكذيبا واكثر لحنا يا اصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما.
واخرج ابن ابى داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال قال على لا تقولوا في عثمان الا خيرا فو الله ما فعل الذى فعل في المصاحف الا عن ملا منا قال ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني ان بعضهم يقول قراءتى خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا قلنا فما ترى قال أرى ان يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف
(1) اعلم ان اهل دمشق وحمص اخذوا عن المقداد بن الاسود واهل الكوفة عن ابن مسعود واهل البصرة عن ابى موسى الاشعري وكانوا يسمون مصحفه لباب القلوب وقرأ كثير من اهل الشام بقراءة ابى بن كعب.
انظر في الفصل الخامس من الباب الثاني في حديث انزل القرآن على سبعة احرف (2) فان قيل - كيف يتصور ذلك مع ان الطالب هو الذى يتلقى القرآن والعلم من معلمه - نقول - يمكن ذلك بان يسمع من اهله وجيرانه قراءة غير قراءة معلمه وتأكيدهم له بصحتها.
(*)
قلنا فنعم ما رأيت (1) وقال على ايضا لو وليت لعملت بالمصاحف التى عمل بها عثمان.
وفي عنوان البيان قال الالوسى في تفسيره وهذا الذى ذكرناه من فعل عثمان هو ما ذكره غير واحد من المحققين حتي صرحوا بان عثمان لم يصنع شيئا فيما جمعه أبو بكر من زيادة أو نقص أو تغيير ترتيب سوى انه جمع الناس على القراءة بلغة واحدة وهى لغة قريش محتجا بأن القرآن نزل بلغتهم اه (2) وهو ظاهر في ان ترتيب السور كترتيب الآيات كان في عهد ابى بكر رضى الله عنه خلافا لما ذكره الحاكم في مستدركه.
انتهى من عنوان البيان.
(1) الظاهر من هذه الرواية والتى قبلها ان عثمان رضى الله عنه كان في نيته جمع الناس على مصحف واحد وعلى قراءة واحدة حين رآى اختلاف الناس في قراءة القرآن غير أنه لم يعزم علي تنفيذ ما كان يضمره الا بعد ان انذره حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاقبة هذا الاختلاف * بل ان عمر شعر بهذا في ايام خلافته فكتب إلى ابن مسعود يأمره ان يقرئ الناس القرآن بلغة قريش كما يأنى بعد هذا الكلام (2) واخرج أبو داود من طريق كعب الانصاري ان عمر كتاب إلى ابن مسعود ان القرآن نزل بلسان قريش فاقرئ الناس بلغة قريش لا بلغة هذيل
قال ابن عبد البر يحتمل ان يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار لان الذى قرأ به ابن مسعود لا يجوز قال وإذا ابيحت قراءته على سبعة اوجه انزلت جاز الاختيار فيما أنزل اه من فتح الباري على صحيح البخاري - وابن مسعود كان من هذيل وستأنى ترجمته (*)
قال ابن حجر وكان ذلك (أي جمع عثمان للمصحف) في سنة خمس وعشرين قال وغفل بعض من أدركناه فزعم انه في حدود سنة ثلاثين ولم يذكر مستندا (1) قال ابن التين وغيره الفرق بين جمع ابى بكر وجمع عثمان أن جمع ابى بكر كان لخشية ان يذهب من القرآن شئ بذهاب حملته لانه لم يكن مجموعا في موضع واحد فجمعه في صحائف مرتبا لايات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشى من تفاقم الامر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم وان كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الامر فرآى ان الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة اه فلو تأملت ما كان يحصل لبعضهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الفزع وتغير الحال عند سماعه قراءة لا يعرفها كما سيأتي بيانه عند
(1) إذا تحققنا متى كانت غزوة ارمينيا واذربيجان وقدرنا المدة التى تستغرق كتابة المصحف ظهر لنا ذلك.
وقد غزا العرب أرمينيا مرتين الاولى في عهد عمر بن الخطاب سنة ثمانية عشر هجرية والثانية في عهد عثمان بن عفان سنة ست وعشرين كما ذكره الاستاذ عبد الوهاب النجار في كتابة تاريخ الاسلام قال وجعل
الطبري ذلك سنة احدى وثلاثين (*)
حديث انزل القرآن على سبعة احرف، لم تستغرب حدوث الاختلاف في قراءة القرآن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بنحو خمسة عشر عاما وان جمع عثمان القرآن بحرف واحد وحمل الناس عليه لهو عين الحكمة وعين الصواب، وهو سر قوله تعالى " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون " ولو ترك الناس على ما كانوا عليه ولم تتوحد قراءتهم للقرآن لوقع التحريف والتبديل فيه إلى يوم القيامة..فرضى الله تعالى عن صحابة رسول الله اجمعين (فان قيل) لم امتثل زيد بن ثابت امر عثمان بجمع القرآن ولم يمتثل أمر أبى بكر الا بعد نظر ومراجعة (نقول) كان ذلك مع ابى بكر لان هذا الامر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به فخوفا من وقوعهم في محظور توقف هو وابو بكر ايضا عن موافقة عمر ثم بعد روية وتفكر ظهر لهم أن ذلك من المصلحة الدينية وأن تركهم له قد يؤدى إلى ضياع ما أنزله الله على رسوله، فبعد أن جمع زيد المصحف لابي بكر لا مبرر له في عدم موافقته وامتثاله امر عثمان خصوصا وقد رآى اختلاف الناس في قراءة القرآن (وان قيل) لم اسند أبو بكر حمع المصحف لزيد وحده واسنده إليه عثمان واشرك معه رجالا من قريش (نقول) اختص أبو بكر زيدا
وحده لما يعهده فيه من النشاط وقوة الشباب ولانه كان يكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ادرى بأوجه القراءات كلها وعثمان انما اشرك
معه نفرا من قريش لانه يريد جمع القرآن على حرف واحد وهو لغة قريش ويد من الانصار، ولانه يريد سرعة انجاز جمعه خوفا من تفاقم امر اختلاف الناس في القراءة ولننقل هنا شيئا مناسبا مما ذكره الامام محمد بن جرير الطبري المولود سنه اربع وعشرين ومائتين في اول تفسيره بعد أن بين وجهة حمل عثمان الناس على مصحفه وهو (فان قال) بعض من ضعفت معرفته وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرهم بقراءتها (قيل) ان امرهم بذلك لم يكن أمر ايجاب وفرض وانما كان أمر اباحة ورخصة الخ (ويسأل بعضهم) لم لم تكن الاحرف الستة الموجودة وقد انزلت من عند الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو أقرأها اصحابه فان نسخت فرفعت فما الدليل عليه، وان نسيتها الامة وتركتها فذلك تضييع ما قد امروا بحفظه (فأجاب الامام ابن جرير الطبري) على هذه الاسئلة بقوله: لم تنسخ الاحرف الستة فترفع ولا ضيعتها الامة وهى مأمورة بحفظها ولكن الامة أمرت بحفظ القرآن
وخيرت في قراءته وحفظه بأى تلك الاحرف السبعة شاعت وضرب لها مثلا في الفقه وهو إذا حنث موسر في يمين فله ان يختار كفارة من ثلاث كفارات اما بعتق أو اطعام أو كسوة فكذلك الامة امرت بحفظ القرآن وقراءته وخيرت في قراءته بأى الاحرف السبعة شاءت فرأت لعلة من العلل اوجبت عليها الثبات على حرف واحد (1) قراءته بحرف واحد ورفض القراءة بالاحرف الستة الباقية ولم تحظر قراءته
بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته به ثم اورد الطبري انباء ما قد حدث في ايام ابى بكر وعثمان من جمع المصحف اه كلام ابن جرير رحمه الله تعالى ولا يخفى ان جوابه سديد ومعتمد، وقد اطال البحث في هذا الموضوع فراجع تفسيره ان شئت وجاء في فتح الباري على صحيح البخاري قال أبو شامة وقد اختلف السلف في الاحرف السبعة التى نزل بها القرآن هل هي مجموعة في المصحف الذى بأيدى الناس اليوم أو ليس فيه الا حرف واحد منها مال الباقلانى إلى الاول وصرح الطبري وجماعته بالثاني وهو المعتمد اه منه
(1) فان قال قائل ما العلة التي اوجبت على الامة الثبات على حرف واحد من الاحرف السبعة قيل الخوف من ضياع القرآن باختلافهم في قراءته كما في تفسير الطبري (*)
وجاء في فتح الباري ايضا ما نصه: وسبب اختلاف القراءات السبع وغيرها كما قال ابن ابى هشام ان الجهات التى وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه اهل تلك الجهة وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل قال فثبت اهل كل ناحية على على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا ما يخالف الخط امتثالا لامر عثمان الذى وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراءة الامصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة اه من فتح الباري لابن حجر (فخلاصة ما تقدم) أن أبا بكر أول من جمع القرآن باشارة عمر
رضى الله عنهما وكان جمعه بالاحرف السبعة كلها التى نزل بها القرآن وسببه الخوف من ضياعه بقتل القراء في الغزوات - ثم في خلافة عثمان كثر اختلاف الناس في قراءة القرآن فخشى رضى الله عنه عاقبة هذا الامر الخطير وقام بجعع القرآن على حرف واحد من الا حرف السبعة وهو حرف قريش وترك الا حرف الستة الباقية حرصا منه على جمع المسلمين على مصحف واحد وقراءة واحدة وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف لمصحفه الذى جمعه أن يحرقه فأطاعوه واستصوبوا رأيه - فالمصحف العثماني لم يجمع الا بحرف واحد من
الاحرف السبعة وان القراءات المعروفة الآن جميعها في حدود ذلك الحرف الواحد فقط واما الاحرف الستة فقد اندرست بتاتا من الامة كما صرح بهذا الامام ابن جرير الطبري في تفسيره حيث قال " فتركت الامة القراءة بالاحرف الستة التى عزم عليها امامها العادل (يعنى عثمان) في تركها طاعة منها له ونظرا منها لانفسها ولمن بعدها من سائر اهل ملتها حتى درست من الامة معرفتها وتعفت آثارها فلا سبيل لاحد اليوم إلى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها وتتابع المسلمون على رفض القراءة بها من غير جحود منها بصحتها وصحة شئ منها ولكن نظرا منها لانفسها ولسائر اهل دينها فلا قراءة اليوم للمسلمين الا بالحرف الواحد الذى اختاره لهم امامهم الشفيق الناصح دون ما عداه من الا حرف الستة الباقية فان قال بعض من ضعفت معرفته وكيف جاز لهم ترك قراءة اقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها قيل ان امرهم بذلك لم يكن امر ايجاب وفرض وانما كان اباحة ورخصة..الخ اه
فتنبه لهذا الموضوع المهم ولا تفوتك معرفته فانه مبحث نفيس.
ولقد اتينا بكلام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى لانه من كبار الائمة ولان عصره كان قريبا من عصر الصحابة والتابعين فانه ولد سنة مائتين واربع وعشرين وطاف الاقاليم في طلب العلم وسمع
عن الثقات الاجلة وجمع من العلوم ما لم يشاركه احد في عصره وله تصانيف عديدة حكى انه مكث اربعين سنة فكتب في كل يوم منها اربعين ورقة توفى في شوال عام ثلاثمائة وعشره وصلى على قبره عدة شهور ليلا ونهارا اه باختصار من طبقات الشافعية الكبرى ولنختم هذا الفصل بابيات في موضوع جمع القرآن من نظم الامام الشاطبي رحمه الله تعالى في عقيلة اتراب القصائد وهى: ان اليمامة أغواها مسيلمة الك * - ذاب في زمن الصديق إذ خسرا وبعد بأس شديد حان مصرعه * وكان بأسا على القراء مستعرا نادى أبا بكر الفاروق خفت على الق * - راء فادارك القرآن مستطرا فأجمعوا جمعه في الصحف واعتمدوا * زيد بن ثابت العدل الرضى نظرا فقام فيه بعون الله يجمعه * بالنصح والجد والحزم الذي بهرا من كل أوجهه حتى استتم له * بالاحرف السبعة العليا كما اشتهرا فأمسك الصحف الصديق ثم إلى الف * - اروق أسلمها لما قضى العمرا وعند حفصة كانت بعد فاختلف الق * - راء فاعتزلوا في أحرف زمرا وكان في بعض مغزاهم مشاهدهم * حذيفة فرآى في خلفهم عبرا فجاء عثمان مذعورا فقال له * أخاف أن يخلطوا فادارك البشرا فاستحضر الصحف الاولى التي جمعت * وخص زيدا ومن قريشهم نفرا
على لسان قريش فاكتبوه كما * على الرسول به انزاله انتشرا فجردوه كما يهوى كتابته * ما فيه شكل ولا نقط فيحتجرا