الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال السَّامِري في "المستوعب"(1/ 49): (وما دون القلتين ينجس بأي نجاسة أصابته غيرته أو لم تغيره، إلا في حال وروده عليها للتطهير به لأجل الضرورة
…
وعنه: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة، قليلا كان أو كثيرا واردا كان أو مورودا).
قال الكلوذاني في "الهداية"(ص/47): (ماء نجس وهو ما دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة، وعنه لا ينجس الماء إلا بتغير أحد صفاته بالنجاسة، سواء كان قليلا أو كثيرا).
قال المرداوي في "الإنصاف"(1/ 55): (فإن لم يتغير، وهو يسير. فهل ينجس؟ على روايتين) إحداهما: ينجس، وهو المذهب: وعليه جماهير الأصحاب قال في الكافي: أظهرهما نجاسته. قال في المغني: هذا المشهور في المذهب، قال ابن منجا: الحكم بالنجاسة أصح، قال في المذهب: ينجس في أصح الروايتين.
قال ابن تميم: نجس في أظهر الروايتين، قال ابن رَزِين في شرحه: ينجس مطلقا في الأظهر، قال في الخلاصة: فينجس على الأصح، قال في تجريد العناية: هذا الأظهر عنه. قال الزركشي: هي المشهورة والمختارة للأصحاب.
والرواية الثانية: لا ينجس. اختارها ابن عقيل والشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق. قال في الحاويين: وهو أصح عندي. قال في مجمع البحرين: ونصر هذه الرواية كثير من أصحابنا).
-
حكم تنجس الماء القليل بمجرد ملاقاة النجاسة:
أدلة من قال بتنجيسه بمجرد الملاقاة:
استدل ابن ضويان للرواية الصحيحة في المذهب بقوله في "منار السبيل"(1/ 12): (لحديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض، وما ينو به من السباع والدواب فقال:"إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" رواه الخمسة وفي لفظ ابن ماجه وأحمد لم ينجسه شئ يدل على أن ما لم يبلغهما ينجس. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات" متفق عليه يدل على نجاسة من غير تغير، ولأن الماء اليسير يمكن حفظه في الأوعية، فلم يعف عنه. قاله في الكافي. وحمل حديث
بئر بضاعة على الكثير جمعاً بين الكل. قاله في المنتقى).
مناقشة وجه الاستدلال بهذه الأدلة:
أولا - حديث القلتين:
ووجه الاستدلال بحديث القلتين: اعتبار مفهوم المخالفة فيه وذلك بأن الماء القليل، وهو ما دون القلتين تؤثر فيه النجاسة، ولأنه ولقلته قد تبقى النجاسة فيه فيفضي استعماله إلى استعمالها.
ويجاب عن ذلك بأن هذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء جوابا لسؤال، وهذا مانع من اعتبار مفهوم المخالفة، ويكون معنى الحديث أن هذا الماء الذي تسألون عنه قد وصل من الكثرة لحد لا يحمل الخبث بل يستحيل فيه الخبث لكثرته، كما أن الاستدلال بمفهوم العدد هنا غير سديد، قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 771):(تحقيق الكلام في مفهوم العدد: أن الحكم إذا قيد بعدد مخصوص ; فمنه ما يدل على ثبوت الحكم فيما زاد على ذلك العدد بطريق الأولى، ولا يدل على ثبوته فيما نقص عنه: كقوله عليه السلام: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. دل بطريق الأولى على أن ما زاد على القلتين لا يحمل الخبث، ولم يدل على ذلك فيما دون القلتين).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحمل الخبث) يدل على أنه مدار التنجيس على حمل الماء للخبث.
قال تقي الدين في "الفتاوى الكبرى"(1/ 424): (في حديث القلتين: إنه سئل عن الماء يكون بأرض فلاة، وما ينويه من الدواب والسباع، فقال:«إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» وأما مفهومه إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد، فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت مخالف للحكم في المنطوق بوجه من الوجوه ليظهر فائدة التخصيص بالمقدار، ولا يشترط أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت مناقضة للحكم في كل صورة من صور المنطوق. وهذا معنى قولهم: المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن كل ما لم يبلغ القلتين ينجس. بل إذا قيل بالمخالفة في بعض الصور حصل المقصود.
وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا التقدير ابتداء، وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة التي تردها السباع والدواب، والتخصص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة باتفاق، كقوله تعالى:{ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31].
فإنه خص هذه الصورة بالنهي؛ لأنها هي الواقعة لا لأن التحريم يختص بها وكذلك قوله: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]. فذكر الزمن في هذه الصورة للحاجة، مع أنه قد ثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة» ، فهذا رهن في الحضر، فكذلك قوله:«إذا بلغ الماء قلتين» في جواب سائل معين بيان لما احتاج السائل إلى بيانه، فلما كان حال الماء المسئول عنه كثيرا قد بلغ قلتين، ومن شأن الكثير أنه لا يحمل الخبث، فلا يبقى الخبث فيه محمولا، بل يستحيل الخبث فيه لكثرته، بين لهم أن ما سألتم عنه لا خبث فيه، فلا ينجس، ودل كلامه صلى الله عليه وسلم، على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولا، فحيث كان الخبث محمولا موجودا في الماء كان نجسا، وحيث كان الخبث مستهلكا غير محمول في الماء كان باقيا على طهارته، فصار حديث القلتين موافقا لقوله:«الماء طهور لا ينجسه شيء» . والتقدير فيه لبيان صورة السؤال، لا أنه أراد أن كل ما لم يبلغ قلتين فإنه يحمل الخبث، فإن هذا مخالف للحس، إذ ما دون القلتين قد لا يحمل الخبث ولا ينجسه شيء، كقوله:«الماء طهور لا ينجسه شيء» وهو إنما أراد إذا لم يتغير في الموضعين، وأما إذا كان قليلا فقد يحمل الخبث لضعفه).
ثانيا - خبر الولوغ:
ووجه الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: (طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ)(1) على نجاسة الماء القليل دون تغير قياسه على هذا الماء الذي ولغ فيه الكلب.
ويجاب عن هذا الاستدلال بأن هذا القياس مع الفارق لأمرين:
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ لمسلم.
الأول - ما ثبت علميا من أن لعاب الكلب فيه جرثومة لا يزيلها إلا التراب.
الثاني - طريقة شرب الكلب للماء قال تقي الدين في " الفتاوى الكبرى"(1/ 425): (الكلب يلغ بلسانه شيئا بعد شيء، فلا بد أن يبقى في الماء من ريقه ولعابه ما يبقى وهو لزج، فلا يحيله الماء القليل، بل يبقى، فيكون ذلك الخبث محمولا، والماء يسيرا، فيراق ذلك الماء لأجل كون الخبث محمولا فيه، ويغسل الإناء الذي لاقاه ذلك الخبث).
ثالثا - خبر الاستيقاظ:
وقد سبق الكلام عنه تفصيليا وبيان أن الماء الذي غمس المستيقظ من النوم فيه يده طهور.
رابعا - حديث النهي عن البول في الماء الدائم:
وسبق مناقشته وبيان أن النهي ليس من أجل تنجيسه بمجرد البول، وإنما النهي لعلل وهي (1):
1 -
سد للذريعة؛ لأن الإذن بالبول فيه قد يفضي إلى تنجيسه من كثرة توارد من يبول فيه.
2 -
لأن البول فيه يؤدي إلى استقذاره فالنفوس مجبولة على استقذار الماء الراكد الذي يبال فيه فيذهب عنهم نفعه ووجوه استعماله، ومن هنا تفهم علة النهي عن الاغتسال منه أيضا.
3 -
النهي لقطع الوساوس التي تطرأ على من يستخدم الماء الذي بيل فيه، وتشكيكه هل استخدم البول باستخدام الماء أم لا؟
خامسا -
وأما قول ابن قدامة في "الكافي"(ص/30): (لأن الماء اليسير يمكن حفظه في الأوعية فلم يعف عنه).
فلا تصح هذه الملازمة طردا ولا عكسا، فليس كل ما يمكن حفظه لا يعف عنه، كما أنه ليس كل ما لا يمكن حفظه يعف عنه فالماء الكثير لا يمكن حفظه، ولكنه
(1) انظر موسوعة الدبيان في الطهارة (1/ 362).
إذا تغير بنجاسة تنجس كما سيأتي، كما أنه يمكن أن يقال أن حفظ هذا الماء في الأوعية يحتاج لكلفة ومشقة، والمشقة تجلب التيسير فيعفى عن تغيره للحاجة والمشقة، وأنا وإن لم أكن أقول هذا استدلالا به وإنما أردت بيان قطع الملازمة المذكورة، وأنها تحتاج للاستدلال لها، لا بها.
أدلة من قال بعدم تنجيسه ما لم يتغير:
أولا - حديث يئر بضاعة:
ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله، أتتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الماء طهور لا ينجسه شيء» ، والحديث صححه الإمام أحمد وغيره، وهو صحيح بطرقه وشواهده.
والماء صيغة عموم تشمل القليل والكثير، وكما سبق فإنه ليس مع من ذهب لتخصيصه بالكثير دليل يصح.
قال ابن المنذر في "الإجماع"(ص: 35): (وأجمعوا على أن الماء القليل، والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت للماء طعما، أو لونا، أو ريحًا: أنه نجس ما دام كذلك) فجعل مدار التنجيس التغير لا الكثرة ولا القلة.
قال تقي الدين في "مجموع الفتاوى"(21/ 33): (قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح. وهو في المسند أيضا عن ابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الماء طهور لا ينجسه شيء} وهذا اللفظ عام في القليل والكثير وهو عام في جميع النجاسات. وأما إذا تغير بالنجاسة فإنما حرم استعماله لأن جرم النجاسة باق ففي استعماله استعمالها بخلاف ما إذا استحالت النجاسة فإن الماء طهور وليس هناك نجاسة قائمة. ومما يبين ذلك: أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت ثم شربها شارب لم يكن شاربا للخمر؛ ولم يجب عليه حد الخمر؛ إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء: لم يصر ابنها من الرضاعة بذلك. وأيضا: فإن هذا باق على أوصاف خلقته؛ فيدخل في عموم قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً)[النساء: 43] فإن الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة لا طعمه ولا لونه ولا ريحه).