الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تتمة - التفريق بين التضبيب بالذهب والفضة:
الراجح أن التضبيب يجوز بالفضة دون الذهب وذلك لبعض الوجوه ومنها:
أولا - أن معدن الذهب أنفس من معدن الفضة وعلل التحريم تتحقق فيه بجلاء أكثر من الفضة فتحريمه أشد من الفضة.
ثانيا - أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في خاتم الفضة للرجال ولم يرخص في خاتم الذهب.
ثالثا - الاستئناس بكلام العلماء في التفريق بينهما، وقد ذهب كثير منهم إلى أن الجائز التضبيب بالفضة دون الذهب.
رابعا - الاستئناس بما ورد من الأدلة التي سبق ذكرها في أدلة الجواز وكلها في الفضة دون الذهب وهي وإن كانت حوادث أفعال لا تقوى على التخصيص إلا أنني قلت بمقتضاها استئناسا.
آنية الكفار وثيابهم
.
قال الماتن: (وآنية الكفار وثيابهم طاهرة).
يعني أن هذا هو الأصل ما لم يعلم نجاستهما أو يغلب على الظن.
وهذا القول الذي اختاره الماتن هو الصحيح في المذهب وهو الراجح.
قال ابن مفلح في الفروع (1/ 108): (وثياب الكفار وأوانيهم مباحة إن جهل حالها (وهـ) وعنه الكراهة (وم ش) وعنه المنع ، وعنه فيما وَلِي عوراتهم ، وعنه المنع في الكل ممن تحرم ذبيحته).
قال موفق الدين: (وثياب الكفار وأوانيهم، طاهرة مباحة الاستعمال، ما لم تعلم نجاستها).
وقال المرداوي في "الإنصاف"(1/ 85) معلقا على قول الموفق السابق: (هذا المذهب مطلقا وعليه الجمهور
…
).
قال الكلوذاني في "الهداية"(ص: 49): (أواني الكفار - ما لم تتيقن نجاستها - طاهرة مباحة الاستعمال، وكذلك ثيابهم).
الأدلة والمناقشة (1):
استدل من قال بالجواز بالأدلة الآتية:
الدليل الأول:
استدلوا بما رواه مسلم في "صحيحه"(3/ 1393) حديث رقم (1772) عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قال: أصبت جرابا من شحم، يوم خيبر، قال: فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، قال:«فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما» .
وجه الاستدلال:
تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والجراب يدخل ضمن أوانيهم ولو كان نجسا لأمره النبي بغسله وغسل الشحم الذي بداخله.
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5].
وجه الاستدلال:
أن الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب، ومن المعلوم أنهم يأتون به إلينا أحياناً في أوانيهم فدل على جواز الأكل من أوانيهم وأنها لا تنجس ما بها من طعام، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكل من الشَّاة المسمومة التي أُهديت له صلى الله عليه وسلم في خيبر.
تنبيه:
وأما ما رواه أحمد في "المسند"(3/ 133) من طريق أبان، حدثنا قتادة، عن أنس، أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه " فقوله:(يهوديا) قد اختلف في هذا اللفظ على أبان فروى عنه بلفظ أن خياطا، وهذه الرواية هي الموافقة لباقي الروايات في الصحيح وغيره عن أنس، وقد حكم الشيخ الألباني في "الإرواء"(35) على هذا اللفظ بالشذوذ وعلى ذلك فلا
(1) وانظر موسوعة الطهارة للدبيان (1/ 488).
يستقيم الاستدلال بها على طهارة آنية الكفار.
الدليل الثالث:
ما قاله ابن عبد الهادي في "المحرر"(1/ 92) حديث رقم (21): (عن عمران بن حصين رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضأوا من مزادة امرأة مشركة " متفق عليه، وهو مختصر من حديث طويل).
وجه الاستدلال:
ظاهر ما نقله ابن عبد الهادي أن هذا الماء الذي كان في مزادتي المشركة هو ماء طهور؛ لتوضؤ النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم منه فدل على طهارة أوعيتهم.
مناقشة الاستدلال:
وفي هذا الاستدلال نظر فالحديث مساق بالمعنى وليس فيه أحد ألفاظه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من هذا الماء ولكنه فيه أنه أعطى منه الصحابي الذي أصابته جنابة ماء ليغتسل، ويحسن أن أسوق من الحديث موضع الشاهد ليتضح ضعف هذا الاستدلال فقد روى البخاري (1/ 76) حديث رقم (344)، ومسلم (1/ 474) حديث رقم (682) وغيرهما من حديث عمران وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فاستنزلوها - أي المرأة المشركة - عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرغ فيه من أفواه المَزَادَتَيْنِ - أو سَطِيحَتَيْنِ - وأوكأ أفواههما وأطلق الْعَزَالِي، ونودي في الناس اسقوا واستقوا، فسقى من شاء واستقى من شاء وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال:«اذهب فأفرغه عليك»
…
الحديث واللفظ للبخاري.
والمقصود بالْعَزَالِي فم المزادة الأسفل وللمعترض أن يقول أن هذا الماء طهر بالمكاثرة التي حدثت ببركة مج النبي صلى الله عليه وسلم في المزادتين كما في رواية مسلم.
الدليل الرابع:
ما رواه أحمد في "مسنده"، والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 473) حديث رقم (2715) وغيرهما من حديث جابر رضي الله عنه قال: «كنا نصيب مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغانمنا من المشركين الأسقية، والأوعية فَنَقْتَسِمُهَا، وَكُلُّهَا ميتة».
وجه الاستدلال:
وهذا يدل على طهارة أوعيتهم وأسقيتهم.
مناقشة الاستدلال:
قوله: (وكلها ميتة) أي أن هذه الأوعية نجسة العين لأنها من جلود ميتة إذ لا عبرة بذبح الكافر. وقوله هذا يدل على أن الدباغ لا يطهر، إلا أن اقتسامها يشير إلى جواز استعمالها، وأنها ليست نجسة العين بل طهرت بالدباغ، وإلا لكان الأمر بإتلافها.
فهذا الحديث يدل على أن الدبغ يطهر جلد الميتة على خلاف المذهب - وسوف يأتي بإذن الله مناقشة هذه المسألة في محلها - إلا أن الاستدلال به على طهارة أوعية الكفار ففيه نظر من ناحيتين:
الأول - أن تكرار وضع الماء فيها يزيل أثر النجاسة منها كالخمر ونحوه حتى وإن كان من كافر لأن إزالة النجاسة من باب التروك فلا تحتاج لنية، فيكون كقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ في حق قُدُور وآنية أهل الكتاب:«إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء» .
الثاني - إذا ليس في الحديث ما يدل على أنهم كانوا يشربون منها فور قسمتها، فللمعترض أن يقول أنهم أراقوا ما فيها وغسلوها قبل الاستعمال فلا يتم الاستدلال باللفظ المجمل على أحد معانيه إلا بقرينة.
الدليل الخامس:
ما رواه الدارقطني في "سنه"(1/ 39) حديث رقم (64)، والبيهقي في "السنن الصغرى"(1/ 90) حديث رقم (221، 222)، وغيرهما عن سفيان بن عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر، «توضأ من ماء نصرانية في جَرَّةٍ نصرانية» واللفظ للبيهقي.
مناقشة الاستدلال:
وهذا الأثر غير صحيح، فالإسناد منقطع فسفيان لم يسمعه من زيد بن أسلم وقد
ذكره ابن حجر في "تغليق التعليق"(2/ 131) فقال: (وهذا إسناد ظاهرة الصحة وهو منقطع رواه سعدان بن نصر عن سفيان بن عيينة قال حدثنا عن زيد بن أسلم ولم أسمعه عن أبيه
…
فذكره مطولا بنحوه).
أدلة من قال بالمنع:
استدلوا بما رواه البخاري في "صحيحه"(7/ 86) حديث رقم (5478)، ومسلم في "صحيحه"(2/ 1532) حديث رقم (1930) من طريق عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ، قال: قلت: يا نبي الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقَوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال:«أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقَوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل»
وجه الاستدلال:
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها) صريح في المنع من استعمالها عند توفر غيرها، أو قبل غسلها بالماء، فدل على أن الأصل في آنيتهم المنع وأن العلة هي نجاستها وعدم تحرزهم من شرب الخمر أو أكل الخنزير فيها كما ورد في بعض الروايات والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
مناقشة الاستدلال:
وزيادة أنهم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر مختلف فيها فقد وردت من بعض الطرق الضعيفة والروايات الصحيحة لم تثبت هذه الزيادة.
وعلى فرض ثبوتها أو عدم ثبوتها (1) أي سواء أكانت العلة منصوص عليها أو مستنبطة فالنهي يكون معللا ولا يقال أن العبرة بعموم اللفظ بل يقال: العلة تعمم معلولها وقد تخصصه، فمتى تحققت العلة وجد المنع، وإلا فلا منع هذا هو مقتضى إعمال القواعد الأصولية.
(1) وقد تتبع طرقها الدبيان في "موسوعة الطهارة"(1/ 493) وظاهر صنيعه أنه لا يميل لثبوتها.