الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبْحَثُ الثَّانِي: الأصُولُ عِنْدَ المتأخِّرِينَ
سار جُمهور المتأخّرين من اللّغويّين، في أصول العربيّة، على المذهب البصريِّ1.
وثَمَّةَ طائفةٌ غيرُ قليلةٍ من المحدّثين المعنيّين بأصول العربيّة، نحتْ منحى مختلفاً في الأصول؛ بقصد إعادة درس اللُّغة باسم التّجديد والتّطوير، والاستفادة من معطيات علم اللُّغة الحديثِ؛ فتوصّلت إلى نتائج جديدة، تخالف ما استقرَّ عليه علماء العربيّة القُدامى؛ ممَّا بهر بعض طلبة العلم، وجعلهم ينظرون إلى مفهوم علماء العربيّة في الأصول على أنَّه طَورٌ تجاوزه الزَّمن، وأصبح جزءاً من التّاريخ اللّغويّ.
ومن النّظريّات الحديثة في أصول اللُّغة ما يُعدّ صدًى لنظريّة (دارْوِن) 2 في نشوء الكائنات الحيّة وتطوّرها وارتقائها.
1 ينظر على سبيل التمثيل لا الحصر: الموجز في قواعد اللُّغة العربيّة 123، شذا العرف 29،67، تصريف الأفعال111، تصريف الأسماء10، المغني في تصريف الأفعال26، المحيط في أصوات اللُّغة العربيّة ونحوها وصرفها 1/143، دراسات في علم الصرف 70، دراسات في فقه اللُّغة166، توضيح الصرف70، الفعل زمانة وأبنيته 105، دروس التصريف29، في علم الصرف 19، دراسات في الفعل 61، نحو عربية ميسّرة14، الزوائد في الصيغ العربيّة15.
2 ينظر: اللُّغة العربيّة كائن حي25، وتطوّر البنية في الكلمات العربيّة166، والثنائية والألسنية السامية376.
وقد كان لتلك النّظريّة أثر كبير في توجيه بعض العلوم الإنسانيّة، ومن بينها علم اللُّغة1، الَّذي ازدهر - في أوَّل أمره - في الغرب؛ حيث ظهرت الموازنات للُّغات الهَندو - أوربيّة، وأدّت إلى استخلاص قوانين تَحْكم التّطوّرَ اللّغويّ لتلك اللُّغات غير العربيّة.
ومن أوائل من نادى بفكرة التّطوّر اللّغويّ (فرانزبوب) أحد العلماء الألمان؛ فقد كان يرى أن اللُّغة العربيّة نشأت أُحاديَّة المَقطع. ثم توالت الدِّراسات في الغرب.
ومع انفتاح الوطن العربيّ على الشرق والغرب اطّلع كثير من أبناء العربيّة على تلك القوانين؛ فوجدت قبولاً عند طائفة منهم؛ فأرادتْ دراسةَ اللُّغة العربيّة، والوقوفَ على تطوّرها، والإفادة من معطيات علم اللُّغة الحديث؛ بالقدر الَّذي يتلاءم مع طبيعة العربيّة؛ فظهرت بعض الدّراسات الخاصّة بالعربيّة أفادت من قوانين التّطوّر اللّغويّ في تفسير أصول العربيّة2.
وبالجملة؛ فهم يذهبون إلى أنّ أصول العربيّة تدرّجت من الأقلِّ إلى الأكثر؛ أي أنّ الثُّنائيّ أصل الثُّلاثيّ، والثُّلاثيّ أصل الرّباعيّ، والرّباعيّ أصل الخماسيّ؛ وهو ما يعني أنّ الثُّلاثيّ والرّباعيّ والخماسيّ ليست أصولاً مجرّدة، بل مزيدة.
وثَمَّةَ من يعكس ذلك؛ أخذاً بمبدأ التّخفيف؛ فيُرجّح "أنَّ
1 ينظر: نشوء الفعل الرّباعيّ28.
2 ينظر: نشوء الفعل الرّباعيّ28.
الكلمات بدأت طويلةً في أصل بنائها، ثم أسهمت طائفة من العوامل المختلفة في تقصيرها؛ فكان في معظم اللُّغات ألفاظ كثيرة الحروف؛ في أقدم نصوصها، وأشدّها إيغالاً في الماضي السّحيق، ثم تطوّرت اللُّغات، وكان من أماراتِ تطوّرها ميلها نحو التقصير من بنية كلماتها، وتيسير أصواتها، وتجريدها من تنافر الحروف"1.
وفيما يلي عرض لمذاهبهم في تطوّر الأصول:
أوَّلاً- الأصول الأحادية:
أصحاب نظريّة التَّطوّر يردّون الكلام كلَّه إلى المقطع الأُحاديِّ؛ وهو الثُّنائيّ، ومنهم من يرى أنَّ الثُّنائيّ يُردّ بدروه إلى الأحادي. ومن هؤلاء عبد الله العلايليّ؛ وهو من أشدّ المتحمّسين لنظريّة التَّطوّر في العربيّة؛ فهو يقول:"وبناءً على يقيننا في هذه النظريّة؛ الَّتي تمثّل معقول العرب، لا يوجد مزيدات نشأت من اختزالٍ وما أشبهه؛ وإنما بصورة مطّردة: السُّداسيّ يرجع إلى الخماسيّ؛ وهذا إلى الرّباعيّ؛ وهذا إلى الثُّلاثيّ؛ وهذا إلى الثُّنائيّ؛ وهذا إلى الأُحادي"2.
ثم يُعرّف الأُحادي بقوله: "وهو مجموعة حروف الهجاء؛ الَّتي هي في ظنّنا لغة الإنسان الأوَّل، المتباعد في القدم"3.
1 دراسات في فقه اللُّغة166.
2 تهذيب المقدمة اللغوية74.
3 تهذيب المقدمة اللغوية 74.
ويُغرب العلايليّ في فكرته ويتعسّف؛ حين يضع جدولاً لحروف الهجاء؛ يحدّد فيه معنى كلّ حرف، ويعدّه نواة للّغة في دورها القديم. وأكتفي بذكر الحروف العشرة الأُوَلِ في أبجديّته ومعانيها؛ وهي على النحو التالي1:
1-
الهمزة: تدلُّ على الجوفيّة، وعلى ما هو وعاء للمعنى، وتدلُّ على الصّفة تصير طبعاً.
2-
الباء: تدلُّ على بلوغ المعنى في الشيء بلوغاً تامّاً، وتدلُّ على القوام الصّلب.
3-
التّاء: تدلُّ على الاضطراب في الطبيعة، أو الملابس للطبيعة في غير ما يكون شديداً.
4-
الثّاء: تدلُّ على التّعلق بالشيء تعلقاً له علامته الظاهرة في الحِسِّ أو في المعنى.
5-
الجيم: تدلُّ على العِظَمِ مطلقاً.
6-
الحاء: تدلُّ على التَّماسك البالغ، وبالأخصِّ في الخفيّات، وتدلُّ على المائيَّة.
7-
الخاء: تدلُّ على المطاوعة والانتشار، وعلى التَّلاشي مطلقاً.
8-
الدَّال: تدلُّ على التَّصلُّب، وعلى التَّغيُّر المتَوَزِّع.
9-
الذَّال: تدلُّ على التَّفرُّد.
10-
الرَّاء: تدلُّ على الملكة، وتدلُّ على شيوع الوصف.
1 تهذيب المقدمة اللغوية 63.
وعلى هذا النَّحو يستمرُّ موضِّحاً معاني كلِّ حرف، حتَّى يأتي عليها جميعاً؛ بطريقة واضحة التَّكلُّفِ. وهو يضرب في (مِيتَافِيزِيقِيَا) 1 التَّاريخِ، وهذا المنحى يخرجه "من دائرة البحثِ العلمي المبني على الحقائق إلى دائرة الخرافة المبنيَّة على الأوهام"2 كما يقول محمَّد الأنطاكيُّ.
ومن ثمَّ فإنَّ الكلمات عند العلايليِّ من اليسير تحليلها إلى معانيها الأوَّلية بردِّها إلى أصولها الأُحاديَّة؛ المتمثِّلة في حروفها؛ إذ هي مجتمعة في كلمة تدلُّ على مجموع معاني تلك الحروف؛ فلذلك فإنَّ (عَبَى) تُحلَّل إلى حروفها؛ فالعين تدلُّ على الحيوان الزَّئيريِّ، والباء تدلُّ على البيت "وكأنَّ المعنى الأوَّل: حيوان البيت القويِّ؛ الَّذي هو كناية عن الرَّجل، ثم اشتقَّ منه بعد أطوار من التَّرقِّي اللُّغويِّ اسمٌ لِلباس الرَّجل الخاصِّ به (العَبَايَة) ثمَّ غلب الأصل في معنى الفرع المشتقِّ، وأميت معنى الأصل بالنِّسيان، أو بعدم الاحتياج؛ حتَّى صار في معنى الفرع حقيقة وضعيَّة"3.
وممَّا يشاكل ذلك أنَّ بعضهم يرى أنَّ الحروف تدلُّ على معانيها، مهما يكن موقعها من الثُّلاثيّ، فالغين في (غَرَفَ) تدلُّ على الغموض؛ وهي بذلك تناسب المرحلة الأولى من مراحل (الغرْفِ) وهو تغييب الغارف يده في المغروف منه. أمَّا الرَّاء فتدلُّ على الحركة؛ وهي تناسب المرحلة الثَّانية من الحدث؛ وهو تحريك الغارف مِغرفته في المغروف منه
1 يطلقون ذلك على ما وراء الطبيعة من غيبيات لا يعلمها إلا الله عز وجل.
2 الوجيز في فقه اللُّغة373،374.
3 تهذيب المقدمة اللغوية50.
قبل رفعها، وتدلُّ الفاء -أخيراً- على الظُّهور والانفتاح والفصل؛ وهو ما يناسب المرحلة الثَّالثة من (الغرْفِ) عندما تظهر المِغرفة بعد استتارها1.
على أنَّ خصيصة الحرف الدِّلاليَّة لم تغب عن علمائنا القدامى، وعلى رأسهم ابن جني الَّذي عقد بابين لذلك؛ أحدهما (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني) 2 وثانيهما (إمساس الألفاظ أشباه المعاني) 3 غير أنَّه لم يزعم قط أنَّ الأُحاديَّ أصل من الأصول؛ بل لم يتعدّ بما نقص عن الثُّلاثيّ في الأصول.
وممن أشاد بنظريَّة أحاديَّة الأصول الدُّكتور توفيق شاهين4؛ فمال إليها ودافع عنها بحرارة، واتَّهم منتقديها بعدم تقديم بديل لها! وقال عن الأحاديَّة أنَّها "ولا شكَّ -كانت مرحلة، ثم تخطّتها البشريَّة؛ عندما سنحت لها فرصة تطوّر، وظرف رقيٍّ"5.
وفي نظري أنَّ هذه النَّظريَّة غير مقبولة في أصول اللُّغة العربيّة؛ لأنَّها لا تستند إلى حقائق لغويَّة ثابتة، ولا يخلو الخوض فيها إلى العودة إلى ما وراء التَّاريخ، وارتكاب التَّعسُّف والشَّطط، والرَّجم بالغيب.
1 ينظر: الوجيز في فقه اللُّغة 373، وأصول اللُّغة العربيّة بين الثنائية والثُّلاثيّة20.
2 ينظر: الخصائص2/145.
3 ينظر: الخصائص 2/152.
4 ينظر: أصول اللُّغة العربيّة 21.
5 أصول اللُّغة العربيّة 21.
ثانياً- الأصُولُ الثُّنائيّة:
تُعدّ الثُّنائيّة حجرَ الزَّاوية في نظريَّة التَّطوّر عند المتأخِّرين. وينتهي أكثرهم بالأصول إلى بابها؛ ولا يجرؤ على إعادة الثُّنائيّة إلى الأحاديَّة، كما فعل العلايليُّ. ولهذه النَّظريَّة أنصار في الشَّرق والغرب؛ فهم يقولون: إنَّ الثُّلاثيّ إنما تولَّد عن الثُّنائيّ؛ عن طريق التَّصدير أو الحشو أو الكَسْع (التَّذْيِيلِ) .
فثلاثيٌّ كـ (ثَرَمَ) هو ثنائيٌّ عندهم؛ أصله: الرَّاء والميم، ثم صُدّر بحرف هو: الثَّاء. ومثله (جَرَمَ) و (حَزَمَ) و (شَرَمَ) و (صَرَمَ) و (عَرَمَ) .
وثلاثيٌّ كـ (رَتَمَ) وهو ثنائيٌّ في الأصل، أصوله: الرَّاء والميم، ثم زيدت فيه - عن طريق الحشو - الثَّاء، ومثله (رَثَمَ) و (رَجَمَ) و (رَدَمَ) و (رَسَمَ) و (رَشَمَ) و (رَخَمَ) و (رَغَمَ) و (رَقَمَ) و (رَكَمَ) .
وأما (نَبَأ) ونحوه فثلاثيٌّ مزيد بالهمزة في آخره؛ وهو ما يُسمَّى الكَسْعَ أو التَّذييل، وأصوله في الثُّنائيّة النُّون والباء. ومثله (نَبَتَ) و (نَبَثَ) و (نَبَجَ) و (نَبَحَ) و (نَبَذَ) و (نَبَرَ) و (نَبَذَ) و (نَبَسَ) و (نَبَشَ)1.
ويتَّضح ممَّا تقدم أنَّهم يرون أنَّ الألفاظ المتقاربة لفظاً ومعنىً هي تنوُّعاتُ لفظٍ واحد2.كما يتَّضح أنَّهم يَتَّفقون في عموم الثُّنائيّة ويختلفون في بعض التَّفاصيل.
1 ينظر: نشوء اللُّغة العربيّة ونموها واكتهالها4-6.
2 ينظر: الفلسفة اللغوية 33.
وفيما يلي عرض لأشهر القائلين بالثُّنائيّة، ورأي كلَّ منهم، مع التَّركيز على ما تفرَّد به:
إنَّ من أقدم القائلين بالثُّنائيّة أحمد فارس الشِّدْياق؛ الَّذي هداه قصده - كما يقول1 - إلى التَّوصل إلى معرفة معاني الألفاظ إلى أنَّ الفعل المضاعف أصل للمفكوك المشترك معه في الحرفين الأوَّلين؛ كـ (صَرَّ) و (صَرَأَ) و (أَلَّ) و (أَلَبَ) و (سَلَّ) و (سَلَبَ) و (كَفَّ) و (كَفَتَ) و (سَلَّ) و (سَلَتَ) و (دَحّ) و (دَحَجَ) و (نَبَّ) و (نَبَحَ) و (لَبَّ) و (لَبَدَ) و (غَمَّ) و (غَمَرَ) و (كَنَّ) و (كَنَزَ) و (قَشَّ) و (قَشَطَ) و (رَجَّ) و (رَجَفَ) و (زَلَّ) و (زَلَقَ) وغير ذلك.
ثم ذكر خمسة أسباب2 جعلته يعدّ المضاعف أصلاً:
أوَّلها: أنَّه رأى أنَّ معظم اللُّغة مأخوذ من حكاية صوت أو صفته؛ وهو ما يأتي من المضعّف؛ نحو (دَبَّ) و (دَقَّ) و (هَزَّ) و (سَفَّ) وغيره.
ثانيها: أنَّ اللُّغة كغيرها من الصنائع والموضوعات البشريَّة لا يحدث شيء منها تاماً كاملاً من أوَّل وهلة، ولكن على التَّدريج؛ فالأحرى - إذن - أن يُقال: إنّ الفعل السالم جاء آخر الأفعال. أما الأجوف فإنَّه - غالباً - يأتي على عقب المضاعف؛ كـ (طَبَّ) و (طَابَ) و (ضَرَّ) و (ضَارَ) . وأما الناقص فإنَّه صدى غيره من الأفعال!
1 ينظر: سرّ الليال في القلب والإبدال 21،22.
2 ينظر: سرّ الليال في القلب والإبدال 22-26.
ثالثها: أنَّه رأى أنَّ حكم المزيد على المضاعف لا يكاد يختلف؛ فقلَّما يوجد في المضاعف معنىً إلَاّ وفي المزيد مثله أو ما يقاربه.
رابعها: أنَّ زيادة حرف على المضاعف أليق بحكمة الواضع في التفنّن في نقصه؛ إذ لو جعلتَ السالم أصلاً لزم منه العدول من الكمال إلى النُّقصان. والاختصار في الأفعال ليس من مذهب العرب؛ كما يدلُّ على ذلك الأفعال المزيدة. زد على ذلك أنَّهم يشبعون الفتحة في آخر الفعل؛ فيتولد منها ألف كما في (سَلَقَ) و (سَلْقَى) .
خامسها: وجود أفعال مجهولة الأصل، وأصلها من المضاعف معلوم نحو (امْتَخَرَ) العظم، أي: استخرج مخّه؛ فلا بدّ أن يكون من (امْتَخَّ) إذ لم يجئ (المُخْرُ) .
ومن دعاة الثُّنائيّة المتحمِّسين لها (جُرْجي زَيْدان) الَّذي كان يقول: "إن الألفاظ المانعة الدَّالة على معنىً في نفسها يُردُّ معظمها - بالاستقراء - إلى أصول ثنائية (أحاديَّة المقطع) تُحاكي أصواتاً طبيعيَّة
…
واللُّغويون يردّون كلاًّ من الاسم والفعل إلى أصول معظمها ثلاثيَّة، وبعضها رباعيَّة، ولا يرون هذه الأصول قابلة للرَّد إلى أقلَّ من ذلك، وعندي أنَّها قابلة ولو بعد العناء"1.
ومثّل لذلك بـ (قَطَفَ) و (قَطَبَ) و (قَطَعَ) و (قَطَمَ) و (قَطَلَ) وذكر أنَّها جميعاً من أصل ثُنائي واحد؛ وهو (قَطَّ) لأنَّها تتضمن معناه.
1 الفلسفة اللغوية72.
ويجانس ذلك (قَصَمَ) و (قَصَلَ) و (قَصَبَ) و (قَصَرَ) و (قَصَفَ) فجعلها جميعاً من (قَصَّ) . أما (جَزَأَ) و (جَزَعَ) و (جَزَرَ) و (جَزَحَ) و (جَزَلَ) و (جَزَمَ) فهي من (الجَزِّ) وهو القطع1.
وقد جعل زيدان نظريَّة الثُّنائيّة (قاعِدَةً) أدار كتابه عليها، وذكرها في مقدمته، وأعادها غير مرَّة في ثنايا كتابه 2.
ولم يذهب (جِزِينيوس) مذهب زيدان في ردّه كلَّ الأصول إلى الثُّنائيّة؛ بل كان يرى أنَّ ثلاثيَّة الأصول تطّرد بدقَّة في اللُّغات السَّاميَّة ومنها العربيّة، ويَستثني من ذلك عدداً غير قليل من الأصول الثُّلاثيّة يمكن ردّه إلى الثُّنائيّة، وهو يسمّيها جذوراً تفرَّعت منها جذوع ثلاثيَّة وفوق الثُّلاثيّة 3.
ومال إلى ذلك (جُون مَكدونالد) إذ أخذ بفكرة الثُّنائيّة مع رفض تعميمها 4.
وممَّن مالوا إلى الثُّنائيّة (أحمد رضا) ؛ فقد عدّها مرحلة من مراحل النشوء اللَّغوي، عاشتها اللُّغات؛ ومنها العربيّة5. ومنهم (رشيد عطيّة) الَّذي كان يرى أنَّ اللُّغة العربيّة مؤلَّفة من
1 ينظر: الفلسفة اللغوية 74.
2 ينظر: الفلسفة اللغوية 9،32،100.
3 ينظر: أصول اللُّغة العربيّة43.
4 ينظر: نشوء الفعل الرّباعيّ43.
5 ينظر: متن اللُّغة21،22،24.
أصول قليلة أحاديَّة المقطع، ثنائيّة الأحرف في الأغلب1.
ومنهم العلايليُّ الَّذي انفرد برأي خاصٍّ في الثُّنائيّة؛ وهو أنَّ الزِّيادة في الثُّلاثيّ لا تكون إلَاّ في وسطه2، فلا تكون تصديراً، ولا تذييلاً (كَسْعاً) في غير ما يكون حلقياً من المواد؛ لأن هذه الأخيرة منقلبة عن أصوات هوائيَّة تصحب الحرف، ولم تستقر على الوجه الحرفي بالمعنى الدقيق إلا بعد بلوغات لغويَّة عديدة
…
فمثلاً (عصفور) ترجع إلى (صفر) ، وهذه ترجع إلى (صرّ)3.
ويَستثني من ذلك ما فيه نون؛ فالأكثر –عنده- زيادتها حيث وقعت "لأنَّها تنوين بالغ فقط [!] فمثلاً: (نَهْرٌ) ترجع إلى المعلِّ (رَوَىَ) [!] الَّذي منه الرّيُّ "4. ولا أدري كيف أعاد (نهر) إلى روى؟!
ولم يعدّ العلايليُّ الحروف الحلقيَّة أصليَّة في مباحث التأصيل؛ لأنَّها - في رأيه - منقلبة عن أصوات هوائيَّة تصحب الحرفَ "ولم تستقرَّ - على الوجه الحرفيِّ بالمعنى الدَّقيق - إلَاّ بعد بلوغات لغويَّة عديدة"5. هذا رأيه في نشوء الثُّلاثيّ عن الثُّنائيّ بزيادة الحرف في وسطه؛ وهي مرحلة أولى، ثم تتولَّد الموادُّ السِّتُّ بالتَّقليب، وهو ما يسمِّيه
1 ينظر: الدليل إلى مرادف العامي والدخيل17، واتجاهات البحث اللغوي 2/83، ونشوء الرّباعيّ 81.
2 ينظر: تهذيب المقدمة اللغوية 56.
3 ينظر: تهذيب المقدمة اللغوية 56،57.
4 تهذيب المقدمة اللغوية 57.
5 تهذيب المقدمة اللغوية 56.
اللُّغويُّون (الاشتقاق الأكبر) ويسميه العلايليُّ (قاعدةَ الدَّوائرِ)1.
ومثال ما ذكره (زَفَنَ) فتسير قاعدته في الدَّوائر والتّقليبات على النَّحو التَّالي2:
1-
أقْدم الموادَّ ما وافق ترتيب الجدول، الَّذي صنعه؛ وهو (زَفَنَ) .
2-
توليد الدَّائرة الأولى: زَفَنَ، فَنَزَ، نَزَفَ.
3-
توليد الدائرة الثانية: زَنَفَ، نَفَزَ، فَزَنَ.
وذكر أنَّ باستطاعته تحديد معنى ما لم يُذكر من تلك التّقْليبات في المعاجم؛ كمادتي (فَنَزَ) من الدَّائرة الأولى، و (فَزَنَ) من الدَّائرة الثَّانية؛ عن طريق "تطبيق القاعدة في تعيين الخصوص؛ وذلك بالبحث عن موقعها الدَّائري من وجه، وعن اجتماع الحروف من وجه آخر"3.
واستمرَّ في شرح مراده حتَّى وصل إلى معنى الكلمتين كما يزعم؛ اعتماداً على المنطق، وعلى ما قاله ابن جنّي في الاشتقاق الأكبر 4.
ومن القائلين بالثُّنائيّة (الأب أَنَسْتَاس ماري الكَرْمِلي) ؛ وكان من أشدّ المنادين بها، فقد قال فيها: "على أنَّنا اتبعنا الرأي الأوَّل [نظريَّة الثُّنائيّة] منذ أن أولعنا بهذه اللُّغة المبينة الرَّائعة؛ فأخذنا بنشره، وتفصيل دقائقه منذ سنة (1881م) وأوضحنا كثيراً من مناحيه؛ في الصُّحف
1 ينظر: تهذيب المقدمة اللغوية68.
2 تهذيب المقدمة اللغوية 65.
3 تهذيب المقدمة اللغوية 65.
4 ينظر: الخصائص1/12،13.
والمجلَاّت
…
حتَّى أنَّه لم يخف على أحد؛ بل عُرفنا به لدى الجميع، والنَّاس لنا بين مادحٍ وقادحٍ
…
"1.
وقد أقام الكرمليُّ حجَّته على أنَّ اللُّغة العربيّة وُضعت في أوَّل أمرها على هجاء واحد متحرِّكٍ فساكنٍ، محاكاة لأصوات الطَّبيعة، ثم زيد فيها حرف أو أكثر تصديراً أو حشواً أو تذييلاً.
ويُعدّ تلميذه (مَرْمَرْجِي الدُّومنكيُّ) من أبرز روّاد الثُّنائيّة؛ إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، ومن أشدّهم تحمّساً لتلك النّظريّة، وقد كرّس وقته وجهده للدِّفاع عنها؛ من خلال كتابه (هل العربيّة منطقيّةٌ) و (مُعْجَمِيَّات عربيّة ساميَّة) ومقالاته المتعدّدة الَّتي كان ينشرها في بعض الدَّوريَّات العربيّة.
وقد ساعد الدُّومنكيُّ على التعمُّقِ في تلك النظريَّة إلمامه بعدد من اللُّغات السَّاميَّة؛ كالسُّريانيّة، والعبْريَّة، والآراميّة، إلى جانب العربيَّة؛ فقد كان يعقد موازناتٍ بين العربيّة وتلك اللُّغات ملتمساً بعض ما يعدُّه دليلاً لمذهبه. وكان مَرْمَرْجي يرى أنَّ اللُّغة غير منطقيَّةٍ؛ إن عُولجت وَفق نظرة القدماء؛ باعتمادهم الثُّلاثيّ وتكون منطقيَّة إذا دُرست من خلال جذور الثُّنائيَّة2.
وكان يرى أنَّ "طريقة الاشتقاق والتَّوسُّع في السَّاميَّات قائمةٌ على
1 نشوء اللُّغة العربيّة ونموها واكتهالها2.
2 هل العربيّة منطقية4.
الارتقاء من الأقلِّ والأنقص إلى الأكثر والأكمل؛ أي: حسب السُّنَّة الطَّبيعيّة؛ سُنَّة الرُّقيِّ"1.
ولخَّص الدُّومنكيُّ بعض مبادئ الثُّنائيَّةِ، وذكر أنَّ من نتائجها أنَّ المثال والأجوف والنَّاقص مزيدات، أو توسُّعاتٌ في الرِّسِّ الثُّنائيِّ؛ الَّذي تجري فيه أوّل صور التّوسُّع؛ بتكرار الثُّنائيِّ منه أو بتشديده. ومن أمثلة ذلك - عنده (وَثَبَ) فهي مزيدة؛ وهي من الثُّنائيّ (ثَبَّ) وأنّ (قامَ) هي من الثُّنائيّ (قَمَّ) أشبعت حركة حرفه الأوَّل2.
وكان يحاول جاهداً إقناع القارئ بأنَّ (قَامَ) ونحوه: ثنائيٌّ، ويستدلُّ على زيادة الحرف الأوسط والألف المنقلبة عن الواو؛ وهي عين الكلمة عند الجُمهور أو الألف المشبعة عنده، بإسناد الفعل إلى الضَّمائر في التَّصريف؛ نحو (قُمْ) تُ، و (قُمْ) تَ، و (قُمْ) تِ، و (قُمْ) تُمْ، و (قُمْ) نَا، فما يبقى من الكلمة - حينئذٍ - هو رِسُّها.
والحقُّ أنَّه لا دليل فيما ذكره على الثُّنائيّة؛ لأنَّ حذف الحرف الأوسط في الكلمة إنَّما وقع لعلَّةٍ صوتيَّةٍ؛ وهي - عند الجُمهور من القدامى والمُحْدَثِينَ - اجتماع السَّاكنين في الكلمة؛ وهما الألف المنقلبة عن الواو، والميم السَّاكنة؛ للإسناد إلى الضَّمائر المتحرِّكة؛ لأنَّ من قوانين العربيّة ألَاّ يجتمع ساكنان إلَاّ في نحو: شابَّة ودابَّة.
وفَسَّرَ الدُّومنكيُّ كيف يردُّ الثُّلاثيُّ النَّاقص نحو (رَمَى) إلى الثُّنائيِّ
1 الثنائية والألسنية السَّاميّة376.
2 ينظر: معجميات عربية سامية97.
بأنَّ حرف العلَّة ما هو إلَاّ إشباع الفتحة السَّابقة في (رَمَ)1.
وثَمَّةَ رأيٌ آخر للدُّومنكيِّ في الثُّنائيَّة؛ وهو أنَّ الثُّلاثيَّ قد يكون غير ناشيء عن ثنائيٍّ واحدٍ فحسب؛ بل عن ثنائيَّين أو ثلاثة، ومثَّل له بكلمة (عَلِمَ) فذهب إلى أنَّها من:(عَلْ) و (لَمْ) وأنَّ (نَهْر) من: (نَهْ) و (نَرْ) و (هَرْ) !! ولا يخفى ما في ذلك من تكلُّفٍ.
ومن المنادين بالثُّنائيَّة الدُّكتور أمين فاخر؛ في كتابه (ثُنَائِيَّة الألفَاظِ في المَعَاجِمِ وعلاقَتُهَا بالأصُولِ الثُّلاثِيَّةِ) وقد ذكر أنَّه ينبغي أن يكون أصل الكلمات الثُّلاثيَّة، الَّتي ظهرت فيها العلاقة واضحةًَ بينها وبين الأصل الثُّنائيِّ القريب منها في اللَّفظ والمعنى - من ذلك الأصل الثُّنائيِّ، وأنَّه يقال فيما لم تظهر فيه العلاقة أنَّه ممَّا وُضعَ وضعاً، وعلى علماء اللُّغة أن يُنقِّبوا فيه للكشف عن خفاياه2.
وقد أتى الدُّكتور فاخر على طائفة من الألفاظ؛ تجاوزت المائتين؛ حاول فيها الكشف عن العلاقة المعنويّة بين الأصول الثُّنائيّة المضعّفة والأصول الثُّلاثيّة. ومنهم الدُّكتور توفيق شاهين - أيضاً - إذ انتصر للثُّنائيّة؛ في كتابه (أصول اللُّغة العربيّة بين الثُّنائيّة والثُّلاثيّةِ) وحاول أن يبطل رأي القائلين بالثُّلاثيّة.
1 ينظر: معجميات عربية سامية97.
2 ينظر: ثنائية الألفاظ6.
وبالجملة فإن عموم مذهبهم في ردّ الثُّلاثيّ إلى الثُّنائيّ لا يكاد يخرج عن أربعة طرق:
أحدها: أنّ المضعّف هو أصل الثُّلاثيّ، وتقع الزّيادة في آخره؛ فـ (غَمَّ) أصلٌ لـ (غَمَتَ) و (غَمَرَ) و (غَمَطَ) ونحو ذلك.
ثانيها: أنَّ الزِّيادة في الثُّنائيِّ تكون في وسطه فحسب؛ نحو (صَفَرَ) من (صَرَّ) و (زَفَنَ) من (زَنَّ) .
ثالثها: أنَّ الثُّنائيَّ قابل للزِّيادة في صدره أو حشوه أو ذيله؛ أي أنَّ الزِّيادة فيه لا تقصر على موضعٍ معيَّنٍ؛ فمثال زيادة التَّصدير: (تَرَمَ) و (جَرَمَ) و (حَرَمَ) و (حَزَمَ) و (صَرَمَ) .
ومثال زيادة الحشو: (رَتَمَ) و (رَثَمَ) و (رَجَمَ) و (رَدَمَ) .
ومثال زيادة التَّذييل: (نَبَأَ) و (نَبَتَ) و (نَبَجَ) و (نَبَحَ) .
رابعها: أنَّ الثُّلاثيَّ مكوَّنٌ من ثنائيِّين أو أكثر بطريق النَّحتِ، فـ (قَطَفَ) من (قَطَّ) و (لَفَّ) و (نَهْرٌ) من:(نَهْ) و (نَرْ) و (هَرْ) .
ومهما يكن من أمرٍ، فإنَّ ذلك لا يرتقي بالثُّنائيَّة عند المُحْدَثِينَ إلى درجة التَّعميم والتَّقنين، ولا يكاد يَعْدُو ما قُدِّم فيها أن يكون اجتهاداتٍ ومَنَازِعَ، وأنا لا أنكرها في التأصيل اللغوي الذي يبحث في نشوء الألفاظ أو طفولتها، ولكنني أنكره في الدرس التصريفي للعربية في مرحلة نضجها، وأرى ألاّ نخلط بين هدفين: التأصيل والتصريف، وهذا الثاني هو هدفي في هذا البحث.
ثالثاً- الأُصُولُ الثُّلاثيَّةُ:
رأينا - من قبل - كيف أعاد كثير من اللُّغويّين المتأخِّرين الكلامَ؛ ومنه الثُّلاثيُّ؛ إلى أصول ثنائيَّةٍ، وجعلوها حجر الزَّاوية في نشوء اللُّغة وتطوُّرها، وأداروا أبحاثهم عليها.
غير أنَّ هذا الرأيَ كان يعبِّر عن اتِّجاه فريقٍ خاصٍّ في الأصول؛ فقد انتهى البحث بفريق آخر من العلماء المتأخِّرين بالإقرار بأصالة الثُّلاثيِّ، وبأنَّه أكثر الأصول غزارةً، وعليه استقرَّت العربيَّة في الثَّروة البالغة عِظَماً واتِّساعاً؛ وهم يوافقون في ذلك ما انتهى إليه علماء العربيَّة القدامى، وهؤلاء كُثُر، وأكتفي بإيراد بعض أقوال المتأخِّرين منهم؛ ممّن كان على صلةٍ وثيقةٍ بالنَّظريَّة الثُّنائيَّة.
فقد كان بروكلمان يقول: "ترجع الكثرة العظيمة لأبنية الاسم في اللُّغات السَّامية إلى ثلاثة أصول من الأصوات الصَّامتة "1.
وذهب أَنِيس فُرَيْحَة2 إلى أنَّ الكلمات تُرَدُّ - في جميع اللُّغات السَّامية - إلى جذورٍ ثلاثيَّة.
وكان ريمون طحَّان يرى أنَّ "معظم الكلمات في اللُّغة العربيّة ينشأ عن أصول ثلاثيَّة
…
وهي حجر الزَّاوية في إقامة التّنظيم الرِّياضيِّ اللُّغويِّ المتكامل"3.
1 فقه اللُّغات السّاميّة93.
2 ينظر: نحو عربية ميسرة14.
3 ينظر: الألسنية83.
غير أنَّه كان يستثني من الأصول الثُّلاثيَّة المضعَّفَ والمهموزَ والمعتلَّ، ويدعو إلى معالجتها على ضوء مبادئ علم اللُّغة الحديثِ؛ كما يدعو إلى إهمال بابي الإعلال والإدغام1.
واتَّخذ الأستاذ عبد الله أمين موقفاً متأرجحاً بين الفريقين، وهو أنَّه يرى "أنَّ أكثر الكلمات الثُّلاثيَّة والرُّباعيّة والخماسيّة - إن لم يكن كلُّها - أصلها ثنائيّة، ثمّ زيدت من أصل الوضع حرفاً أو حرفين أو ثلاثة، حتَّى صارت ثلاثيّة ورباعيّة وخماسيّة، وصارت الزِّيادات من أصول الكلمات"2 فهي مجردة لا مزيدة "لأنَّ الزّيادات الَّتي لحقت الكلمات الثُّنائيَّة، زيدت من أصل الوضع "3.
ولم تكن نظريّة ثنائيَّة الأصول مقبولةً عند كثير من اللُّغويّين، ممّن رأوا أصالة الثُّلاثيِّ؛ فقد أعلن بعضهم رفضه لها؛ ومنهم الدَّكتور إبراهيم أنيس4 الَّذي كان يرى أنَّ كثيراً من الألفاظ العربيّة لم تَعُدْ مستعلمةً في العصر العبَّاسيِّ وما بعده؛ لطول بنيتها؛ كإهمالهم (الشَّرَنبَثَ) بمعنى الرَّجلِ الغليظِ الكفَّين، كما أنَّ أوزاناً مثل (ابْذَعَرَّ) و (اجْلَوَّذَ) و (اذْلَعَبَّ) ونحوها قد اندثرتْ أو كادتْ. وهجرهم الأبنية الطَّويلة إلى الأبنية الأقصر لا يخلو من دليل على أصالة تلك الأبنية الطَّويلة (أي أنَّنا في كلِّ الأمثلة
1 ينظر: الألسنية 125.
2 الاشتقاق 412.
3 الاشتقاق 417.
4 ينظر: تطور البنية في الكلمة العربية170.
القليلة، الَّتي رويت لنا، ولكلٍّ منها صورتان؛ إحداهما كبيرة، والأخرى صغيرة من نفس المادَّة، وبنفس المعنى نشعر أنَّ الصُّورة الكبيرة هي الأصل
…
في حين أنَّ افتراض الصُّورة الصَّغيرة هي الأصل يوقعنا -دائماً- في مشاكل وصعوباتٍ؛ فلا نكاد ندري العلَّة في زيادة الحرف عليها) 1 أو العلَّةَ في تحديد حرف الزِّيادة دون غيره، أو تحديدِ موضع الزِّيادة دون المواضع الأخرى.
ثمَّ أورد اعتراضاً يدلُّ على طول تدبُّرٍ حين قال: "وإذا صحَّ -بعد هذا- ما يقول به بعض الدَّارسين من أنَّ الإنسان الأوَّل بدأ كلامه بألفاظٍ ثنائيَّةِ الحروف، ثمّ تطوَّرت إلى ثلاثيَّة الحروف
…
الخ؛ فقد كنَّا نتوقّع - بعد مرور تلك الملايين من السِّنين على النُّطق الإنسانيِّ - أن تصبح كلماته الآن معظمها من رباعيَّات الأصول أو أكثر من عدد الكلمات الثُّلاثيَّة الأصول أو مساويةً لها"2.
وانتهى به البحث إلى أنَّه لا يكاد يُعرفُ شيء محقَّقٌ عن صور الكلمات في نشأتها الأولى.
وربط الدُّكتور أنيس بين ظهور الثُّنائيَّة في أصول اللُّغة ونظريَّة دارون في النُّشوء والارتقاء للكائنات الحيَّة، وأنَّ هؤلاءِ افترضوا أنَّ الكلمات نشأت صغيرة الصُّورة، ثم نمت حتَّى صارت إلى ما نشهده الآن.
1 تطور البنية في الكلمة العربية 172.
2 تطوّر البنية في الكلمة العربية172.
وممَّن رجَّح القول بالأصل الثُّلاثيِّ، وردَّ الثُّنائيَّة: الدُّكتور صبحي الصَّالح1، فقد ردَّ على العلايليِّ، ورماه بالتَّكلُّف، والبعدِ عن الواقعيَّة، وأنَّ نظريَّته لا تمتُّ إلى الحقيقة التَّاريخيَّة بسببٍ، فكيف لنا أن نردَّ (عَبْد) إلى (عَدَا) و (عَبَثَ) إلى (عَثَا) ونحو ذلك؟
ومنهم الدُّكتور إبراهيم نَجَا، الَّذي كان يرى أن نتَّبع مذهب القدامى في الأصول؛ لأنّها توافق ما هو جارٍ في الاستعمال؛ ولأنّ مرحلة الاشتراك في الحرفين مرحلةٌ تاريخيَّة لم يعدِ البحث فيها مُجْدِياً، إلَاّ ضمن بحثٍ تاريخيٍّ، ولأنَّ الأمثلة الَّتي ذكرها الثُّنائيُّون لا تكفي لإثبات نظريَّتهم2.
نعم، وثَمَّةَ خلاف بين اللُّغويِّين المتأخِّرين في أصل المشدَّدِ نحو (عَدَّ) و (صَدَّ) أثلاثيٌّ هو أم ثُنائيٌّ؟
فقد ذهب فريق إلى أنَّه ثنائيٌّ لا زيادة فيه، وأنَّ الحرف المشدَّد حرفٌ واحدٌ.
أمَّا الفريق الآخر فيوافق القدامى في أنَّ ذلك ثلاثيٌّ، وأنَّ الحرف المشدَّد حرفان؛ أوَّلهما ساكن، وثانيهما متحرِّكٌ.
ويحتجُّ الفريق الأوَّل بالنَّظرة الوصفيَّة الصَّوتيَّة للأصوات المتحرِّكة والصَّوامت الَّتي تؤكِّد –بزعمهم- أنَّ المشدَّد حرفٌ واحدٌ طويلٌ يساوي
1 ينظر: دراسات في فقه اللغة163، 164.
2 ينظر: فقه اللغة العربية88، 89.
زمنه زمن صوتين1.
ومن هنا كان يقول (ماريوباي) : إنَّ "اصطلاح: السَّاكن المضعَّفِ (double consonant) هو اصطلاحٌ مُضَلَّلٌ حقًّا [!] لأنَّه قد استعير من طريقة الكتابة؛ ففي النُّطق يُمَدُّ الصُّوت السَّاكن بتطويل مُدَّة النُّطق به؛ إذا كان هذا المدُّ ممكناً. ويكون هذا ممكناً إذا لم يكن الصُّوت السَّاكن انفجاريًّا.
وبما أنَّ الانفجاريَّ لا يمكن مدُّه عند نُقْطَةِ مخرجه، فإنَّ ما يسمَّى تطويلاً بالنِّسبة له يكون عن طريق إطالة مُدَّةِ قفل الطَّريق أمام الصَّوت قبل تفجيره"2.
ومن ثَمَّ قال (فندريس) : "من الخطأ أن يقال بأنَّه يوجد ساكنان في: أَتَّ (atta) وساكنٌ واحدٌ في: أَتَ (ata) فالعناصر المحصورة بين الحركتين في كلتا المجموعتين واحدة، عنصر انحباسيٌّ يتبعه عنصر انفجاريٌّ، ولكن بينما نجد العنصر الانحباسيَّ في: أتَ (ata) يتبع العنصر الإنفجاريَّ مباشرةً، نجده في (atta) ينفصل عنه بإمساكٍ يطيل مدى الإغلاق"3.
ومن هنا رأى (رِينَان) 4 - أيضاً - أنَّ المضعَّف ثنائيٌّ، ولا يعدُّ
1 ينظر: المدخل إلى علم اللّغة97.
2 ينظر: أسس علم اللغة146.
3 اللغة49.
4 ينظر: أصول اللغة العربية70.
ثلاثيًّا إلَاّ لاعتباراتٍ صرفيَّةٍ.
ووافقهم الدُّكتور سلمان العانيُّ في تعريف التَّضعيف بأنَّه "إطالة الأصوات المتمادَّة، وقَفْلٌ أطولُ في الوقفيَّات"1.
والحروف المضعَّفة عند (كانتينو)"هي الَّتي يمتدُّ النُّطق بها، فيضاهي مداها مدى حرفين بسيطين تقريباً، وتُرسم هذه الحروف عادةً في الأبجديَّة الأوروبِّيَّة بحرفين متتابعين: ب ب (bb) م م (mm) "2.
وأخذ برأيهم الدُّكتور رمضان عبد التَّوَّاب بقوله: "إنَّ ما نعرفه باسم الحرف المشدَّد، أو الصَّوت المضعَّف ليس –في الحقيقة- صوتين من جنس واحدٍ؛ الأوَّل ساكنٌ، والثَّاني متحرِّكٌ؛ كما يقول نحاة العربيَّة؛ وإنَّما هو في الواقع صوتٌ واحدٌ طويلٌ؛ يساوي زمنه زمن صوتين اثنين"3.
وهذا الَّذي قالوه لم يكن خافياً على القدامى؛ فقد كان ابن جِنِّي يرى أنَّ "الحرف لمَّا كان مُدْغَماً خَفِيَ؛ فنبا اللِّسان عنه وعن الآخر بعده نبوةً واحدةً؛ فجريا لذلك مجرى الحرف الواحد "4. ورُويَ عن الزَّمخشريِّ5 وغيره6 نحوه.
وعلى الرّغم من ذلك فإنَّ القدامى كانوا يفرِّقون بين وصف
1 التشكيل الصوتي119.
2 دروس في علم أصوات العربيَّة 25.
3 المخل إلى علم اللُّغة97.
4 الخصائص1/92.
5 ينظر: الفلاح في شرح المراح98.
6 ينظر: بغية الآمال115، وشرح المراح98.
الظَّاهرة الصَّوتيَّة وحقيقة الأصول؛ فلم يؤثر عنهم أنَّهم يعُدُّون المضعَّف أصلاً وحداً؛ وليس في وضعهم الثُّلَاثِيَّ المضعَّفَ في باب الثُّنائيِّ في معاجم التَّقليبات دليلٌ؛ كما سبق به البيان1، بل كانوا ينصُّون على أنَّ المضعَّف حرفان. ومن أقدم من نبَّه على ذلك الخليل في قوله2:"اعلم أنَّ الرَّاء في اقْشَعَرَّ واسْبَكَرَّ هما راءان أُدغمتْ واحدةٌ في الأخرى، والتَّشديد علامة الإدغام"3. ونحو ذلك ما قاله ابنُ يعيش4 وابنُ الحاجبِ5.
ولعلَّ وراء عَدِّ بعض المتأخِّرين المضَعَّفَ حرفاً واحداً مذهَبَهم في الثُّناءيَّةِ، ومحاولةَ الانتصارِ له؛ لأنَّ الثُّلاثيَّ المضعّف نحو (صَدَّ) هو الأصل الثَّنائيُّ عند كثير من الثُّنائيِّين، ولابُدَّ أن يكون كذلك، لأنَّ الثُّلاثيَّ - عندهم - ليس أصلاً.
ومهما يكن من أمرٍ، فإنَّ مذهبهم في عدَّ المشدَّدِ حرفاً واحداً؛ أطيلَ صوته، فيه نظرٌ؛ فالإدغام أن يؤتى بحرفين ساكنٍ فمتحرِّكٍ فيتَّصلان من غير أن يُفَكَّ بينهما، إلَاّ إذا أريد ذلك بالوقوف وقفةً لطيفةً على السَّاكن، ثمَّ الاستئناف بالمتحرِّك.
1 ينظر: ص 72 من هذا البحث.
2 العين1/49.
3 العين1/49.
4 ينظر: شرح المفصل10/99.
5 ينظر: الشَّافية (ضمن كتاب أبنية الفعل في شافية ابن الحاجب) 250، وشرح الشافية للرَّضيِّ3/233.
ويظهر ذلك في الموازنة بين كلمتين متشابهتين في الفاء والعين، ومختلفتين في اللَاّم؛ وإحداهما مضَعَّفةٌ؛ نحو (عَدْلٍ) و (عَدٍّ) فإنَّكَ إذا تأمَّلتَ ذلك، ونطقتَ الكلمتين، ووقفتَ وقفةً لطيفةً على السَّاكن فيهما لن تجد فرقاً بينهما في عدد الحروف والحركات والسَّكنات؛ فالأولى ثلاثيَّةٌ، وكذلك الثَّانية؛ وهي (عَدْ-دٌ) وأصلها (عَدَدٌ) وكذلك (شَرْقٌ) و (شَرٌّ) و (بَرْقٌ) و (بَرٌّ) و (سِلْمٌ) و (سِلٌّ) ونحو ذلك. والفرق بينهما أنَّ اللِّسان انتقل من مخرج الدَّال إلى مخرج اللَاّم في الكلمة الأولى، ولم ينتقل من مخرج الدَّال السَّاكنة في الكلمة الثَّانية؛ لأنَّ ما بعدها دالٌ فبقي في مخرجه. وقد سُكِّنَ الحرفُ الأوَّلُ وأدغمَ فيما بعده طلباً للخفَّةِ؛ فالأصل (عَدَدٌ) و (شَرَرٌ) .
ولعلَّ الإدغام مرحلة متأخِّرة في الاستعمال اللُّغويِّ؛ فيكون الأصل عدم الإدغام؛ أي: بنطق السَّاكن بوقفةٍ بسيطةٍ دون إدغامًٍ في المتحرِّك، فلمَّا ثقل ذلك -لاحتياجه لشيء من الأناة- أُدْغِمَ طلباً للخفَّةِ. ويمكن أن يستدلَّ بورود كلمة لم يقع فيها الإدغام؛ وهي (رِيْيَا) 1 بمعنى المنظرِ الحسنِ، وأصلها (رِئْيَا) 2 فلعلَّ ذلك من بقايا الأصل القديم
1 ينظر: شرح الشافية للرَّضي3/234، وشرح الشافية للجاربرديّ326.
2 يوجه بعضهم عدم الإدغام في (رِيْيَا) بأنَّ الهمزة فيها لم تقلب ياء لقصد الإدغام، بل لكسر الرّاء فحسب، ولو كان قصدهم الإدغام لأدغموا. ويرد عليهم أنّ موجب الإدغام طرأ بعد القلب، فما المانع من ارتكابه؟ ولو قالوا: إنَّها جاءت على الأصل القديم؛ وهو عدم الإدغام- لكان وجهاً.
في عدم الإدغام.
ومذهب القدامى في المضعَّف قويٌّ. ومن اليسير أن يستدلَّ على قوَّته ورجحانه بجملةٍ من الأدلّة؛ وهي تُضْعِفُ - في المقابل - مذهب هؤلاء المتأخِّرين.
وأحدُ تلك الأدلّة: جواز تضعيف الحرف الأوسط الصَّحيح قياساً من الفعل الثُّلاثيِّ؛ فيقال في (كَسَرَ) و (قَتَلَ) و (خَرَمَ) : (كَسَّرَ) و (قَتَّلَ) و (خَرَّمَ) .
ويقال - أيضاً - في نحو (عَدَّ) و (شَدَّ) و (مَدَّ) : (عَدَّدَ) و (شَدَّدَ) و (مَدَّدَ) فهو كالثُّلاثيِّ الصّحيح. فماذا يقولون في ذلك؟ هل يقولون: إنَّ الحرفَ الواحدَ المشدَّدَ؛ أطيلَ صوته وزمنه حتَّى غدا يماثل ثلاثة أحرفٍ، ثمَّ فُصِلَ ثُلُثُهُ، وهو الحرف الأخير؟ أو يقولون: إنَّ نصف الحرف المشدَّد في نحو (عَدَّ) هو الَّذي أطيل بالتَّشديد؛ فانفصل نصفه الثَّاني المتحرِّك؟ أو يقولون: إنَّ الدَّال الطَّويلةَ (المشدَّدَةَ) في (عَدَّ) بقيت على حالها؛ فاجتُلِبَتِ الدَّالُ الأخيرةُ اجتلاباً؟ أو يقولون: إنَّ (عَدَّ) فعلٌ و (عَدَّدَ) فعلٌ آخر مستقلٌّ بنفسه؛ ولا صلة بينهما؟ فيلزم -حينئذٍ- انتفاءُ العلاقة بين (كَسَرَ) و (كَسَّرَ) ونحوهما، وكُلُّ ذلك بعيدٌ.
وثانيها هو: إدغام تاء الافتعال في فاء الكلمة؛ كقولهم (اذَّكَرَ) و (اطَّلَبَ) و (اصَّبَرَ) ونحو ذلك؛ فيلزمهم أن يقولوا: إنَّ الذَّالَ والطَّاءَ والصَّادَ المضعَّفات كلٌّ منها حرف واحد، ولا يجوز ذلك؛ لأنَّ أصل (اذَّكَرَ) و (اطَّلَبَ) و (اصَّبَرَ) :(اذْتَكَرَ) و (اطْتَلَبَ) و (اصْتَبَرَ) قبل إبدال تاء الافتعال.
ومثله: (مُتَّقِدٌ) و (مُتَّعِدٌ) وأصلهما (مُوتَقِدٌ) و (مُوتَعِدٌ)1.
ويَلحقُ بذلك نحو (عُدُّ) فيلزمهم أن يقولوا: إنَّ الدَّال حرف واحد؛ أطيل صوته، وأنَّى يكون ذلك؛ لأنَّ الدَّال الثَّانية هي الفاعل؛ ألا ترى أنَّها مبدلة من التَّاء وأنَّ أصلها (عُدْتُ؟)
ومثلها (خَبَطُّ) وأصلها (خَبَطْتُ) .
وثالثها: أنَّ نظريَّة المخالفة الصَّوتيَّة3، الَّتي تبنَّاها الكثير من المتأخِّرين؛ ممَّن قالوا بأنَّ المشدَّد حرف واحد تنقض مذهبهم؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ من المخالفة الصَّوتيَّة نوعاً يقوم على فَكِّ الإدغام بالإبدال؛ مثل (القُنْفُذِ) أصلها - عندهم - (القُفُّذُ) . وهذا النَّوع من تخالف الحروف المشدَّدةِ؛ الَّذي يكون بقلب أوِّل الحرفين إلى النُّون هو الأكثر وقوعاً في العربيَّة. وقد يصير الحرف الأوَّل من المشدَّدِ راءً، أو لاماً؛ نحو كلمة (فَرْقَعَ) الَّتي يرى (بر جشتراسر) 4 أنَّ أصلها (فَقَّعَ) بتشديد القاف، ويرى أنَّ أصل (بَلْطَحَ) :(بَطَّحَ) أي: ضرب بنفسه الأرض. والمخالفة تكون بين صوتين، وتفسيرهم وُقُوعَهَا في المشدَّد على هذا
1 ينظر: الكتاب4/334.
2 ينظر: شرح الشافية للرضي3/283،288.
3 ينظر: فقه اللغات السامية74، والأصوات اللغوية210، والتطور النحوي33-35، واللغة العربية معناها ومبناها329، وأصوات اللغة العربية318، وأثر القوانين الصوتية302.
4 ينظر: التطور النَّحويّ35.
النَّحو يخالف مذهبهم في أنَّ المشدَّد حرف واحد.
ورابع الأدلَّةِ: الإدغام بين حرفين في كلمتين؛ نحو (مَن نّامَ) و (مِن نّعِيم) وكذلك الإدغام بين حرفين من كلمتين؛ بعد قلب أحدهما؛ نحو (مَن يَّشَاءُ) و (مَن رَّامَ) و (هَرَّ أيْتَ) ونحو ذلك من الإدغام المذكور عند القُرَّاء1.
وقريب من ذلك إدغام لام التَّعريف2 في ثلاثة عشر حرفاً؛ وهو ما يعرف بـ (لام التَّعريف الشَّمسيَّة) نحو (الدَّلْوِ) و (الشَّرْقِ) و (الصَّبْرِ) . وقد قلبت اللَاّم فيهنَّ من جنس ما بعدها، ثمَّ أدغمت فيه لسكونها. ولا أحدَ –خلا هؤلاء- يقول: إنَّ المُدْغَمَين حرفٌ واحدٌ.
وآخر الأدلَّة من العروض، ودلالته قويَّةٌ؛ لأنّه مبنيٌّ على أساسٍ صوتيٍّ لا وظيفيٍّ - كما يقولون - وذاك الأساس هو: المتحرِّك والسَّاكن؛ فقد أجمع العَرُوضيُّون - منذ زمن الخليل إلى زمننا هذا - على أنَّ الحرف المشدَّدَ حرفان؛ أوَّلهما ساكن.
قال الأخفش: "فأمَّا الثَّقيل فحرفان في اللَّفظ؛ الأوَّل منهما ساكن، والثَّاني متحرِّكٌ؛ وهو في الكتاب حرف واحدٌ؛ نحو راء شَرٍّ"3.
1 ينظر: إدغام القرّاء3 وما بعدها، وما ذكره الكوفيون من الإدغام59، والكتاب4/437، والكشف عن وجوه القراءات السبع1/134-169.
2 ينظر: الكتاب4/457.
3 العروض2.
وبمثل ذلك قال الجوهري1، وابن القطَّاع2.
وبه استدلَّ عَلَمُ الدِّين السَّخاوي على أنَّ المدغم حرفان بقوله: "والدَّليل على ما قلته من كون الأوَّل ساكناً أنَّ كلَّ حرفٍ مشدَّدٍ في تقطيع العروض حرفان، الأوَّل ساكنٌ؛ تقول:
…
بِسِقْطِلْ لِوَىَ بَيْنَدَ دَخُوْلِ فَحَوْمَلِ 3
فإن قلتَ: فلِمَ أسكنوا الأوَّل: قلتَ: لو لم يُسكنوه لفصلت الحركة بينهما؛ فلم تحصل الدَّفعة الواحدة"4.
وبالجملة فإنَّ مذهب القدامى في المشدَّدِ هو الصَّحيح، وعليه المعوَّل في الأصول وتداخلها. وأنَّ ما ذهب إليه بعض المتأخِّرين في المشدَّدِ اجتهاد لم يحالفه التَّوفيق. ولعلَّ من أهمِّ دوافعهم في تزعُّمِ ذلك: الانتصار لنظريَّة الثُّنائيَّة في الأصول؛ لعدِّهم المضعَّفَ أصلَ الثُّلاثيِّ.
رابعاً- الأصولُ الرُّباعيَّةُ والخماسيَّةُ:
امتدَّ خلاف اللُّغويِّين المتأخِّرين في موضوع الأصول –إلى الأصول الرُّباعيَّة والخماسيَّة؛ وهو نتيجة حتميَّةٌ لخلافهم في الأصول الثُّنائيَّة
1 ينظر: عروض الورقة56.
2 ينظر: البارع85.
3 عجز بيت من الطَّويل لامرئ القيس، والبيت بتمامه:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدَّخول فحومل.
4 جمال القرَّاء2/485.
والثُّلاثيَّة. فمن أقرَّ الأصول الثُّنائيَّة أنكر ما زاد عليها، وجعله مزيداً. ومن أخذ بمذهب القدامى في الأصول، أقرَّ ما أقرُّوا، وأنكر ما أنكروا، وجُلُّهم يسير على مذهب البصريِّين في الأصول؛ فالأصول عندهم ثلاثة؛ ثلاثيَّة، ورباعيَّة، وخماسيَّة.
والَّذي يعنينا - هنا - هو الوقوف على أبرز اجتهاداتهم فيما يعتدّه جمهور اللُّغويِّين من المتقدِّمين والمتأخِّرين رباعيًّا أو خماسيًّا. ولعلَّ أوَّل ما يخرج به الباحث في ذلك أنَّ مذهبهم كان صَدَىً لبعض ما جاء عند ابن فارسٍ1، وأنَّهم تفنَّنوا في التَّوسُّع فيه بما يتوافق مع نظريَّة الثُّنائيَّة؛ فيرى كثير منهم أنَّ الخماسيَّ تطوَّرَ عن الرُّباعيِّ، والرُّباعيُّ تطوَّرَ عن الثُّلاثيِّ، والثُّلاثيُّ متطوِّرٌ عن الثُّنائيِّ، كما تقدَّم.
وفيما يلي بيان ذلك مع الوقوف على بعض الفروق فيما بينهم:
يتشكَّل الفعل الرُّباعيُّ عند (وليام رايت) 2 بالطُّرق التَّالية:
أ- مُضاعفة جَذْرٍ ثنائيٍّ، يحاكي الصَّوتَ أو الحركة؛ مثل (وَسْوَسَ) و (بَأْ بَأْ) .
ب- إضافة حرفٍ إلى الثُّلاثيِّ، وعادةً ما يكون من الحروف التَّالية: النَّونِ، واللَاّمِ، والرَّاءِ، والزَّايِ، والسِّينِ، والصَّادِ. وهذه الزِّيادة قد تكون في صدر الثُّلاثيِّ؛ نحو (سَنْبَسَ) من (نَبَسَ)
1 ينظر: ص (140) من هذا البحث.
2 ينظر: نشوء الفعل الرباعي32، 33.
أو في حشوه؛ نحو (زَحْلَفَ) من (زَحَفَ) أو في آخره؛ نحو (شَمْعَلَ) من (شَمَعَ) .
ج- المزجُ بين بعض الأصولِ؛ وهو ما يعرفُ بالنَّحتِ؛ نحو (حَمْدَلَ) و (حَوْلَقَ) ويلْتَقِي (رايت) بذلك مع ابنِ فارسٍ في ردِّه الرُّباعيَّ والخماسيَّ إلى الثُّلاثيِّ؛ بطريق الزِّيادة أو النَّحْتِ.
ويبدو أنَّ (جُرْجِي زيدان) متأثِّرٌ بما قاله (رايت) إذ يفصِّل في زيادة الرُّباعيِّ؛ فهي عنده: إمَّا قياسيَّةٌ أو غير قياسيَّةٍ. وتكون الزِّيادة القياسيَّة عند (زيدان) 1 سيناً أو شيناً في أوَّل الكلمة؛ على وزني (سَفْعَلَ) و (شَفْعَلَ) .
فمثال الأوَّلِ (سَقْلَبَهُ) أي: صَرَعَهُ، من (قَلَبَهُ) و (سَلْغَفَهُ) بمعنى ابتلَعَهُ، من (لَغَفَهُ) و (سَمْلَجَ) أي: جَرَعَ جرعاً سهلاً؛ وهو من (مَلَجَ) الصَّبِيُّ ضَرَعَ أمِّهِ.
ومثال الثَّاني (شَبْرَقَ) من (بَرَقَ) .
أمَّا المزيداتُ غير القياسيَّةِ فتأخذ صوراً مختلفةً؛ فقد تكون بمضاعفة حرفٍ أو أكثر، من الحروف الأصليَّة؛ كَجَلْبَبَ وبُلْبُلٍ وقَصْقَصَ، أو أن تكون بزيادة حرفٍ؛ وهو في الغالب أحد حروفٍ أربعةٍ؛ وهي (ل، م، ن، ر) . وربَّما تكون الزِّيادةُ في أوَّل الرُّباعيِّ؛ نحو (نَبْذَرَ) بمعنى (بَذَرَ) و (لَهْذَمَ) بمعنى (هَذَمَ) .
1 ينظر: الفلسفة اللغوية72،73.
أو في وسطها؛ كـ (سَطْلَحَ) بمعنى (سَطَحَ) أي: اتَّسَعَ، و (سَلْحَفَ) بمعنى (سَحَفَ) أو في آخرها؛ كقولهم (بَعْثَرَ) من (بَعَثَ) .
ولا يرضى العلايليُّ1 برأيَي (رايت) و (زيدان) فالرُّباعيُّ أو الخماسيُّ عنده مردودٌ إلى الثُّلاثيِّ بزيادة الحرف الأخير في الرُّباعيِّ، والحرفين الأخيرين في الخماسيِّ.
فـ (جُخْدَبٌ) وهو الضَّخم الغليظ يرجع إلى (جَخَدَ) الضَّخمُ. ويرجع هذا إلى (جَدَىَ) الَّذي يظهر معناه في (جَدَّ) كما يقول.
و (طُحْلُبٌ) وهو الخُضرة؛ الَّتي تعلو الماءَ الآسنَ يرجع إلى (طَحَلَ) ويرجع هذا إلى (طَلَى) .
وكذلك (سَفَرْجَلٌ) و (شَمَرْدَلٌ) يجرَّدان من زوائدهما حتَّى يعودا إلى الثُّلاثيِّ؛ على النَّحو التَّالي:
سَفَرْجَل< سَفْرَجَ < سَفَرَ.
شَمَرْدَل< شَمْرَدَ < شَمَرَ.
ولا يبتعدُ (هنري فلش) 2 في رأيه، في أصل الرُّباعيِّ أو الخماسيِّ، عن رأي (رايت) و (زيدان) .
وممَّا يتفرَّد به أنَّ الرُّباعيَّ يكون تطوُّراً لأصلٍ ثلاثيٍّ عن طريق إدخال واوٍ أو ياءٍ بعد الصَّامت الأوَّلِ؛ نحو (شَوْقَلٍ) و (نَيْسَبَ) .
1 ينظر: تهذيب المقدمة اللغوية164-175.
2 ينظر: العربية الفصحى155-158.
ويرى (مَكدونالد) 1 أنَّ الرُّباعيَّ قد ينشأ بإضافة الرَّاء أو اللَاّم إلى الثُّلاثيِّ؛ نتيجةً للمخالفة الصَّوتيَّة النَّاتجة عن فكِّ الإدغام؛ كما في (قَرْطَمَ) من (قَطَمَ) و (قَرْطَبَ) من (قَطَبَ) .
ويقول بمثل هذا الرأي (برجشتراسر) 2 و (ديلاسي أو ليري) 3 وغيرهما.
ويُضيف الدُّكتور مصطفى جَوَاد4 بعض الحروف الصالحة لأن تكون عناصر تعويضٍ من التَّضعيف؛ كالحا والهاء. وبالجملة فإنَّهم يرون أنَّ كثيراً من الكلمات (الكبيرة) أي: من الرُّباعيِّ والخماسيِّ ممَّا فيه راءٌ أو لامٌ أوميمٌ أو نونٌ أو حاءٌ أو هاءٌ - قد تولَّدَ تبعاً لقانون المخالفة المذكور5.
وقد كان كثير من القدامى على وعيٍ بهذا القانون، ولكنَّهم يعبِّرون عنه بالكراهة والاستثقال، أو التَّقريبِ، أو المضارعةِ، أو التَّجنيسِ، أو فَكِّ الإدغامِ. وقد فسَّر بعضهم نشوء الفعل الرُّباعيِّ المضعَّفِ؛ (كَبْكَبَ) و (حَثْحَثَ) كما تقدَّمَ -6 على نحوٍ قريبٍ ممَّا ارْتآهُ المتأخِّرون.
1 ينظر: نشوء الفعل الرباعي43.
2 ينظر: التطور النحوي34،35.
3 ينظر: نشوء الفعل الرُّباعيّ33.
4 ينظر: أثر التَّضعيف في تطور العربية (مجلة مجمع اللُّغة العربيَّة بالقاهرةم19 ص61-64) .
5 ينظر: دراسة الصَّوت اللُّغوي330.
6 ينظر: ص (105) من هذا البحث.
ومن المنكرين لأصول تعدُّ رباعيَّةً عند القدامى الدُّكتور تمَّام حسَّان الَّذي قال: "وهناك طائفة من الأفعال في اللُّغة العربيَّة تعتبر رباعيَّة أصليَّة الحروف الأربعة في نظر الصَّرفيِّين، ولكنَّنا نرى أنَّ أحد هذه الحروف مزيد، حتَّى ولو لم يكن من حروف: سَأَلْتُمُونِيهَا، فمن ذلك: دَحْرَجَ < دَرَجَ، وبَعْثَرَ < بَثَرَ، وسَقْلَبَ <قَلَبَ، وعَرْبَدَ < عَرَدَ، وشَقْلَبَ < قَلَبَ، وزَغْرَدَ < غَرَدَ "1.
ومنهم الدُّكتور محمّد سالم الجَرْح2 الَّذي جزَمَ بأنَّه لا يوجد جَذْرٌ رباعيٌّ أو خماسيٌّ في العربيَّة وأخواتها السَّاميات، وأنَّ ما جاء على هيئة الرُّباعيِّ من اليسير ردُّه إلى جذورٍ ثنائيِّةِ.
ومن أغرب ما وقفتُ عليه في الأصول عند المتأخِّرين رأي لكَرَامتْ حسين الكَنتُوريِّ3 مُحَصِّلَتهُ أنَّ الرُّباعيَّ قد ينشأ من الثُّلاثيِّ بصيرورة لام التَّعريف مخلوطةً بحروف الكلمة [هكذا] ومثَّل له بكلمة (العَظْلَمِ) وهو اللَّيل؛ لاشتقاقه من الظُّلمة. وهذا غريب!!
وثَمَّةَ نوع من الرُّباعيِّ نال شيئاً يسيراً من العناية عند القدامى والمتأخِّرين، وهو الرُّباعيُّ المضاعف4؛ نحو: زَلْزَلَ، فلهم فيه مذهبان:
أنه على وزن (فعفع) .
1 مناهج البحث في اللغة219.
2 ينظر: نشوء الفعل الرباعي57.
3 ينظر: نشوء الفعل الرباعي 62.
4 أرى أن الرباعي المضاعف يحتاج إلى دراسة مستقلة.
أنه على وزن (فعفل) .
فمن جعله على وزن (فَعْفَعٍ) سار في موكب الثُّنائيَّة.
وخيرُ من يمثِّل هذا الرأيَ الدَّومنكيُّ بقوله: "أمَّا المضاعف فهو- بالحقيقة - مركَّبٌ من حرفين، ويرى ذلك في المضاعف الرُّباعيِّ الَّذي ما هو سوى ثنائيَّين مكرَّرين
…
وما هذه الأفعال وأسماؤها إلَاّ حكاية أصوات الطَّبيعة والحيوانات المندفعة إلى تَكرار مَقاطع لا حروف، وكلُّ مقطع مركَّبٌ من حرفين، متحرِّكٍ فساكنٍ"1. وعلى ذلك النَّحو فُسِّرَ عند أكثرهم 2.
أمَّا المذهب الثَّاني؛ القائل بأنَّ وزنه (فَعْفَلَ) فممَّن كان يراه، ويقول به: الدُّكتور تمّام حسّان؛ وهو يوافق ما ذهب إليه جماعة من القدامى 3.
وممَّا يحسب للّغويِّين المتأخِّرين: استعانتهم –للكشف عن أصول العربيَّة - بالمنهج المقارن للُّغات السَّامية الَّتي تشترك في كثير من الخصائص4.
وممَّن عوَّل على هذا المنهج مَرْمَرْجِي الدُّومنكيُّ في أكثر كتاباته عن العربيَّة؛ فمن دأبه عرض الأصول على الحبشيَّة والأكَدِيَّةِ والعِبْريَّةِ
1 معجميات97.
2 ينظر: التَّطوُّر النّحويّ97، وغرائب اللّغة48، والعربية الفصحى157، والألسنية العربيّة376، ونشوء الفعل الرّباعيّ64.
3 ينظر: ص (103، 104) من هذا البحث.
4 ينظر: تاريخ اللّغات السّاميّة14، وفقه اللّغة لوافي17، والثّنائيّة والألسنية السّاميّة376، وعلم اللّغة العربيّة139
والسُّريانيَّةِ والآرامِيَّةِ وغيرها. ومنهم جُرْجِي زيدان، غير أنه كان يَسْتَلْهِمُ ذلك من كتابات المستشرقين.
ومن أبرز المستشرقين ممَّن عوَّل على المنهج المقارن في اللُّغات السَّامية، ومنها العربيَّة: لِيتمان، ووليم رايت، ونُولدكه، وجزينيوس، وهوروفتس، وأوليري، وموسكاتي، وهِنرِي فِلِش، وبُروكلمان، وبِرْجِشتراسَر. وقد حذَّر فَندرس1 من التّمادي في الاعتماد على المنهج المقارن بين اللّغات، ورأي أنَّ استعمال عبارة القرابة في مسائل اللّغة ربّما أدّى إلى لَبْسٍ كبيرٍ، وكثيراً ما أوقع في الخطأ.
وممَّا يدخل في هذا السياق ما وجَّهه الدُّكتور رمضان عبد التّوّاب إلى مَرْمَرْجي الدُّومنكيّ في مبالغته في التّعويل على المنهج المقارن بين اللّغات السَّاميّة، ومحصوله أنَّ المضعَّفَ العربيَّ؛ الَّذي يقال إنَّه مركَّبٌ من ثلاثة أحرفٍ لا تجد مقابلَه في السُّريانيّة إلَاّ بحرفين اثنين لا أكثر، ومثَّل له بأنَّ (قَصَّ) و (جَمَّ) و (مَسَّ) يقابلها:(قَصْ) و (جَمْ) و (مَسْ) وكذلك كلُّ المضاعفات؛ وهو دليل على أنَّها من الثُّنائيَّات - أيضاً - في العربيَّة على الرَّغم من تضعيفها فيها.
فقال الدُّكتور عبد التَّوَّاب: "وقد خدعه ما آل إليه المضعَّف الثُّلاثيُّ في بعض اللُّغات السَّاميَّة، بعد أن سُكِّنت أواخر كلماتها لسقوط
1 ينظر: اللّغة 367.
الحركات الإعرابيَّة وغيرها؛ فضاع التَّضعيف منها، وصارت على حرفين، فظنَّ أنَّ هذا هو الأصل فيها
…
ونسي الأَب مَرْمَرْجي أنَّه عند إسناد المضاعف إلى الضَّمائر في العربيَّة والسُّريانيَّة يظهر التَّضعيف؛ فيقال في العبريَّةِ مثلاً (s?b) بمعنى: أحاطَ، بغير تضعيفٍ، وعند إسنادها إلى المتكلِّم مثلاً يقال (s?bb?ti) فيظهر التَّضعيفُ"1.
ولا يعني ذلك أن تُفقدَ الثِّقة في المنهج المقارن؛ بل إنَّ علماء اللّغة يثقون فيه، ويعدُّونه واحداً من وسائل دراسة اللُّغات السَّاميّة، والتَّعرُّف على أدقِّ دقائقها. وعليه اعتمد جماعة في تفسير نوع من الرُّباعيِّ ينتهي بالميم؛ نحو (بُلْعُومٍ) و (خُرْطُومٍ) و (فُسْحُمٍ) و (زُرْقُمٍ) ونحوها؛ فتوصَّلوا إلى أنَّ تلك الميم هي علامة التَّنوين في اللُّغة الحِمْيَرِيَّةِ2 القديمة، وأنَّ هذا الأصل قد تُنُوسيَ في هذه الكلمات وأمثالها، واستعملتها لهجات الشَّمال على توهُّم الأصالة في (الميم) 3 وسمُّوا ذلك (تمييماً) واستدلُّوا - أيضا ً- على وجوده في العربيَّة بوجوده في العبريَّة في نحو (صورة 5) حَرْطَمَ؛ وهو مشتقٌّ من (حَرَطَ) أي: نَحَتَ ونَقَشَ، و (صورة6) فَدْيُوم أي: فِدْيَةٌ، وهو مشتقٌّ من (فده) أي: افْتَدَىَ ولحظوا أنَّ تلك الميم
1 فصول في فقه اللغة300.
2 اختلفوا في الحميرية أعربيّة هي أم غير عربيّة، فذهب بعضهم إلى أنّها عربيّة، وذهب بعضهم إلى أنَّها غير عربيّة، والحق أنها عربية وإن كانت تختلف عن العربيّة بعض اختلاف. وينظر: مولد اللّغة93-95.
3 من أسرار اللّغة9.
تقابل في العربيَّة بالنُّون 1. وهذا الَّذي ذكروه اجتهادٌ حسنٌ؛ قد يفسِّر كثيراً ممَّا نصَّ القدامى على زيادة الميم في آخره 2 نحو (شَدْقَمٍ) و (سُتْهُمٍ) و (بُلْعُمٍ) وغيره.
النَّحْتُ عندَ المُحْدَثِينَ:
ما قيل عن النَّحت في المبحث الأوَّل يغني عن إعادة بحثه هنا؛ إذ لا كبير فرقٍ في آراء المتأخِّرين فيه؛ فأغلب الآراء الَّتي قيلت هي صَدَىَ لما جاء به ابن فارسٍ رحمه الله ومن السَّهل ردُّها إلى مذهبه؛ وإن كان بعضها أكثر تنظيماً، وأدقَّ عرضاً. ولم يكن النَّحتُ مقبولاً على إطلاقه عند بعض المتأخِّرين؛ فكان بعضهم أكثرَ تحفُّظاً فيه من ابن فارس. ومن هؤلاء: عبد الله العلايليّ3، والكَرْمِليُّ4، ومصطفى جَوَاد5، ولُويس شَيخو6، وعليّ عبد الواحد وافي7.
وبالغ بعضهم في قبول النَّحت في العربيَّة؛ كجُرجِي زيدان،
1 ينظر: التَّمييم والتّنوين (مجلّة مجمع اللّغة بالقاهرة13 ص54،58) .
2 ينظر: الجمهرة3/1332.
3 ينظر: تهذيب المقدّمة اللّغويّة68، 165.
4 ينظر: مجلة لغة العرب (نيسان1928 ص60) .
5 ينظر: دراسات في فقه اللّغة267.
6 ينظر: نشوء الفعل الرّباعيّ100.
7 ينظر: فقه اللغة 188، 189.
ومَرْمَرْجي الدُّومنكيّ، اللّذين بالَغَا في نظرتهما إلى النَّحت؛ حين أعادا بعض الكلمات الثُّلاثيَّة إلى كلمتين ثنائيَّتين، أو ثلاث كلمات ثنائيَّة.
فقد كان جُرجي زيدان1 يرى أنَّ (قَطَفَ) الَّتي تفيد القطع والجمع منحوتة من (قَطَّ) و (لَفَّ) فتدلُّ الأولى على القطع، والثَّانية على الجمع، وأهملت اللَاّم لكثرة الاستعمال.
وذكر أنَّ (قَمَشَ) بمعنى: جمع ما على الأرض من الفُتات تردُّ إلى أصلين؛ هما (قَمَّ) و (قَشَّ) فالأولى بمعنى (كَنَسَ) والثَّانية بمعنى (جَمَعَ) . وتقدَّم أنَّ الدُّومنكيَّ2 كان يرى أنَّ كلمة (نَهْرٍ) منحوتة من ثلاث كلمات: وهي (نَهْ) و (نَرْ) و (هَرْ) .
وما ذهبا إليه تكلُّفٌ لا دليل على صِحَّتِه، ولم يرضَ عنه كثير من الباحثين؛ ومنهم: الدّكتور صُبحي الصَّالح؛ الَّذي قال: "ولا ينادي بمثل هذا الرأي؛ على ذاك النَّحو من الغلوِّ؛ إلَاّ مُولَعٌ بضروب الاشتقاق؛ مأخوذٌ بما في الألفاظ من دِلالةٍ سحريَّةٍ؛ مؤمنٌ بأنَّ السَّوابق واللَّواحق بقايا كلمات قديمةٍ مستعلمة، ولكنَّ الغلوَّ في الاشتقاق والنَّحتِ لا يأتي بخيرٍ"3
وبعدُ؛ فالرأي - بعد أن سقنا آراء القدامى والمتأخِّرين - ما ذهب إليه جُمهور اللُّغويِّين البصريِّين؛ كسيبويه، والمازِنِيِّ، والفَارِسِيِّ، وابنِ جِنِّي، وابنِ سِيدَه، ومن تابعهم من القدامى والمتأخِّرين؛ وهم أكثرُ أهل
1 ينظر: الفلسفة اللغوية76.
2 ينظر: معجميّات97.
3 دراسات في فقه اللّغة166.
اللُّغة قديماً وحديثاً؛ وهم أكثرُ درايةً، وأصدقُ لَهْجةً، وأقوى حُجَّةً.
ولا يعني هذا أنَّ ما عدا هذا المذهب لا يلتفتُ إليه البتَّةَ، فمن الإنصاف أن ينظر إلى أكثره - قديمِهِ وحديثِهِ - بعين الاحترام؛ فلعلَّ له ما يعضده ممَّا تأتي به الدراسات اللاحقة في مستقبل الأيام.
ومهما يكن من أمرٍ فإنَّ للمذهب البصريِّ؛ الَّذي آخذ به في هذا البحث –أكثرَ من وجهٍ يعضده، ويدعو للأخذ به، ويكفي أنَّه مذهب الجمهور من اللُّغويِّين؛ فهو ضاربٌ بجذوره في الفكر اللُّغويِّ العربيِّ، وعليه أُسِّستْ أكثر القواعد في اللُّغة والتصْرِيف والنَّحو، وقامتْ على أُسُسِه جُلُّ المعاجم العربِيَّةِ.