المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: مقاييس التفريق بين الأصول - تداخل الأصول اللغوية وأثره في بناء المعجم - جـ ١

[عبد الرزاق بن فراج الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: الأصول

- ‌المبحث الثاني: التَّداخُل

- ‌المبحث الثالث: المعجم

- ‌المبحث الرابع: مدرسة القافية

- ‌المبحث الخامس: سبب اختيار مدرسة القافية

- ‌الباب الأول: الأصول والزوائد

- ‌الفصل الأول: الأصول في عرف اللغويين

- ‌المبحث الأول: الأصول عند القدامى

- ‌المَبْحَثُ الثَّانِي: الأصُولُ عِنْدَ المتأخِّرِينَ

- ‌الفصل الثاني: الزوائد

- ‌المبحث الأول: الزيادات المقيسة: حروفها ومواضعها وأعراضها

- ‌المَبْحَثُ الثَّانِي: الإِلْحَاقُ

- ‌المَبْحَثُ الثَّالِثُ: الزِّيادَاتُ غَيرُ المَقِيسَةِ

- ‌الفَصْلُ الثَّالثُ: مقاييس التَّفريقِ بينَ الأُصُولِ

- ‌الباب الثاني: التداخل في البناء الواحد (الثلاثي، الرباعي، الخماسي)

- ‌الفصل الأول: التداخل في الثلاثي

- ‌المبحث الأول: التداخل بين المعتل والمعتل

- ‌المبحث الثّاني: التّداخل بين المعتلّ والمهموز

- ‌المبحث الثّالث: التَّداخل بين المعتلّ والصَّحيح

- ‌المبحث الرّابع: التَّداخل بين الصَّحيح والصَّحيح

- ‌الفصل الثاني: التداخل في الرباعي والخماسي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأوَّلُ: التَّداخل بين الرّباعي والرّباعيّ

- ‌المبحثُ الثَّاني: التَّداخل بين الخماسيّ والخماسيّ

- ‌الباب الثالث: التداخل بين بناءين مختلفين

- ‌الفصل الأول:‌‌ التداخل بين الثلاني والرباعي

- ‌ التداخل بين الثلاني والرباعي

- ‌المبحث الأوّل: ما جاء على (فعْلل) المضاعف

- ‌المبحث الثاني: ما تقارب فيه الأصلان فتداخلا

- ‌المبحث الثّالث: ما في آخره ميمٌ

- ‌المبحثُ الرَّابعُ: ما في حَشْوِهِ ميمٌ

- ‌المبحَثُ السَّادسُ: ما ثَانِيه نُونٌ

- ‌المبحث السَّابعُ: ما تنَوَّعَ فيه التَّدَاخلُ

الفصل: ‌الفصل الثالث: مقاييس التفريق بين الأصول

‌الفَصْلُ الثَّالثُ: مقاييس التَّفريقِ بينَ الأُصُولِ

تتفاوت الأصول في تداخلها بين الوضوح والغموض؛ وثَمَّة كلماتٌ تعمِقُ وتَدِقُّ؛ فتخفى أصولها - أوَّلَ وهلةٍ - على المختصِّين، وعلى أكثر العلماء دُربةً ودرايةً بأصول العربيَّة.

ومن هنا نشأت الحاجة في وقتٍ مبكِّرٍ إلى وضع مقاييسَ للتَّفريق بين الأصول؛ فجاءت في إشارات متفرِّقة في كتاب سيبويه، ومن جاء بعده، ثمَّ جُمعتْ على أيدي بعض العلماء، بعد القرن الرَّابع؛ فأوجزوها في سبعة أدلَّةٍ أو ثمانية1. وفيما يلي بيان لأهم الأدلَّة أو المقاييس، وتفصيلٌ لما استُنبط، أو جُمع ممَّا تناثر من كلام الأئمّة المتقدِّمين.

أوَّلاً- الاشتِقَاقُ:

يُعدُّ الاشتقاق من أهمِّ المقاييس أو الأدلَّة الّتي تُمَيَّزُ بها الأصول؛ بعضُها من بعضٍ، إن لم يكن أهمَّها على الإطلاق. والّذي أثبته الجمهور هو الاشتقاق الأصغر؛ وهو شقُّ كلمة من كلمةٍ، مع الحفاظ على أصلَي اللّفظ والمعنى، وترتيب الحروفِ؛ كَضَرَبَ يَضْرِبُ فهو ضَارِبٌ لا مَضْرُوبٌ من (الضَّرْبِ) ودَحْرَجَ يُدَحْرِجُ فهو مُدَحْرِجٌ لا مُدَحْرَجٌ من (الدَّحْرَجَةِ) .

وكان سيبويه يأنس بالاشتقاق، وكثيراً ما يعوِّل عليه في التَّعرِّف على الأصول، وتمييزها من الزَّوائد؛ كقوله: "وممَّا جعلتُه زائداً بثبتٍ:

1 ينظر: المنصف1/166،167، والتبصرة والتذكرة2/788، وشرح الكافية الشافية4/2045، وشرح الشافية للرضي2/334، والمساعد4/102.

ص: 247

العَنسَلُ؛ لأنَّهم يريدون العُسُولَ. والعَنبَسُ؛ لأنَّهم يريدون العُبُوسَ. ونونُ عَفَرْنَى؛ لأنَّها من العَفْر؛ يقال للأسد عَفَرْنَى. ونونُ بُلَهْنِيَةٍ؛ لأنَّ الحرف من الثلاثة، كما تقول: عَيْشٌ أبْلَهُ. ونونُ فِرْسِنٍ؛ لأنَّها من فَرَسْتُ. ونونُ خَنفَقِيقٍ؛ لأنَّ الخَنْفَقِيقَ الخفيفةُ من النِّساءِ الجريئَةُ؛ وإنَّما جُعلت من خَفَقَ يَخْفِقُ كما تَخْفِقُ الرِّيحُ"1.

وكان ابنُ مالكٍ لا يقدِّم على الاشتقاق شيئاً، ويقول:"الاشتقاق إذا ظُفِرَ به رُجِّحَ على غيره من الأدلَّةِ"2. ومن ثَمَّ استدلَّ على أصالة نونِ (رُمَّانٍ) ؛ لثبوتها في قولهم: (أرضٌ مَرْمَنَةٌ) للبُقْعَةِ؛ الّتي يكثر فيها الرُّمَّان؛ فهي عنده من (ر م ن) ولا يَعبأ بمذهب سيبويه3 فيها؛ إذ جعلها من (ر م م) بزيادة النُّون؛ حملاً على الأكثر.

وقال ابن مالك معقِّباَ على مذهب سيبويه: "ولو كان الأمر كما قال، لقيل: مَرَمَّةٌ لا: مَرْمَنَةٌ"4.

ويستدلُّ بالاشتقاق - أيضا ً- على زيادة همزة (الثُّدَّاء) وهو نبتٌ في البادية، يقال له (المُصَاصُ) و (المُصَّاخُ) 5 بقولهم: أَثْدَتِ الأرضُ وثَدِيَتْ؛ إذا أنبتت الثُّداءَ. ومنه قضاؤهم على نونِ (رَعْشَنٍ) بالزِّيادة؛ لقولهم: رَعْشَاءُ في

1 الكتاب4/320.

2 شرح الكافية الشافية4/2045.

3 ينظر: الكتاب3/218.

4 شرح الكافية الشافية4/2045.

5 ينظر: النبات والشجر43.

ص: 248

معناه؛ فوزنه (فَعْلَن)1.

واستدلُّوا على أنَّ (العُنْظُوانَ) وهو شَجَرٌ - من (ع ظ ي) وليس من (ع ظ ن) أو (ع ن ظ) أو (ع ن ظ ن) بقولهم: عَظِيَ البعيرُ عَظاً، فهو عَظٍ؛ إذا تأذَّى من أكل (العُنْظُوان)2.

وقضوا على ميم (الشَّدْقَمِ) بالزِّيادة، وأنَّه من (ش د ق) لا (ش د ق م) لأنَّه بمنزلة (الأشدَقِ) وهو العظيم الشِّدْقِ 3. وممَّا يدلَّ على أنّ أصل (التَّألَبِ) وهو الحمار (أل ب) وليس (ت أل ب) أو (ت ل ب) قولهم: أَلَبَ الحمارُ أَتُنَهُ يَألِبُهَا؛ إذا طردها4.

على أنَّه ينبغي أن يحذر كلَّ الحذر من التَّسليم المطلق للاشتقاق في تمييز الأصول؛ فثَمَّةَ ما يعكِّرُ صفوَه؛ وهو توهُّمُ أصالة الحرف الزَّائد؛ كما سبق به البيان في أنَّهم يقولون: تَمَسْكَنَ وتَمَدْرَعَ وتَمَنْدَلَ ونحو ذلك، والميم فيها زائدة، وقد توهَّموا أصالتها؛ فبنوا عليها الأفعال.

ومن هنا ندرك أنَّ استدلال ابن مالك على أصالة النُّون في (الرُّمَّانِ) بقولهم: أرضٌ (مَرْمَنَةٌ) واحتجاجه به على سيبويه –لا يخلو من مطعن. وثمَّة نوع من الاشتقاق من الممكن أن يُؤنس به؛ وهو الاشتقاق الأكبر؛ الّذي أثبته ابن جِنِّي 5، وكان أبو عليٍّ الفارسيُّ يأنس به في بعض الأصول؛ وهو عَقْدُ تقليبات الكلمة على معنى واحدٍ؛ نحو:(جَبَرَ)

1 المنصف1/166،167.

2 ينظر: اللسان (عظى) 15/72.

3 ينظر: الممتع 1/241.

4 ينظر: الممتع 1/274،275.

5 ينظر: الخصائص 2/133.

ص: 249

فكيف قلَّبتَها دلَّت على القوَّة والشِّدَّة.

وجعل عبد الله العلايليِّ هذا النَّوع من الاشتقاق وسيلة لمعرفة الأصول؛ فـ (المَحَارَةُ) وهي الصَدَفَةُ - من (م ح ر) وليست من (ح ور) كما فعل الجوهريُّ1؛ لأنَّ تقليباتها السِّتَّةَ تدلُّ على معنى واحدٍ؛ وهو "التَّخصيص في كيس الحمل الجَنِينَيِّ على فصائل النَّوع تخصيصاً ملاحَظاً فيه أدقُّ الميزات"2 ويظهر ذلك المعنى بوضوح في تقليبين؛ وهما (ر ح م) ومنه: الرَّحمُ، و (م ح ر) ومنه: المَحَارَةُ.

غير أنَّ هذا النَّوع من الاشتقاق لا يمكن التَّعويل عليه (لعدم اطِّراده) 3 ولو اطَّرد لعُدَّ من أعظم المقاييس للتَّفريق بين الأصول المتداخلة؛ لا سيَّما الواويَّةُ واليائِيَّةُ.

ثانياً- التَّصريفُ:

يستدلُّ بسقوط الحرف من فرعٍ على زيادته؛ كسقوط ألف (كتاب) في جمعه على (كُتُبٍ) ويعرف هذا بالتَّصريف؛ وهو يشمل الجمع والتَّصغير وغيرهما. والتَّصريف يشبه الاشتقاق إلى حدٍّ بعيد، وربَّما يعدَّان شيئاً واحداً، ومن يفرِّقُ بينهما يجعل الاشتقاق استدلالاً بالأصل، ويجعل التَّصريف استدلالاً بالفرع، وإلى هذا ذهب المراديّ4.

فمن ذلك استدلالهم على أصل (ضِبْعَانٍ) من قولهم في الجمع:

1 ينظر: الصحاح (حور) 2/639.

2 تهذيب المقدمّة اللّغوية 61.

3 المساعد 4/83.

4 ينظر: شرح المرادي5/236، وهو من الهامش رقم (1) لأنَّ ما في المتن معكوس.

ص: 250

الضِّباعُ؛ وأنَّه دليل على زيادة النُّون1، واستدلالهم على زيادة النّون في (سِرْحان) من جمعهم إياّه على (سَرَاحٍ) 2 وأنَّ قولهم في (إنسَانٍ) :(أَنَاسِي) دليل على زيادة نونه الأخيرة.

ومن التَّصريف (التَّصغيرُ) وهو ما يستدلُّ به على الزَّائد؛ كقولهم: عُفَيْجِجٌ وعُفَيْجِيجٌ، في تصغير (عَفَنجَجٍ) 3 فدلَّ سقوط النُّون على زيادتها. ومنه قولهم في تصغير (ذَرَحْرَحٍ) :(ذُرَيرِحٌ) 4 فدلَّ على أنَّ أصل ذَرَحْرَحٍ (ذ ر ح) .

ودلَّ قولهم في تصغير مَرْمَرِيسٌ: (مُرَيرِيسٌ) على أنَّه من (م ر س)"لأنَّ الياء تصير رابعةً؛ فصارت الميم أوْلَى بالحذف من الرَّاء؛ لأنَّ الميم إذا حذفت تبيَّن - في التَّحقير - أنَّ أصله من الثَّلاثة؛ كأنَّك حقَّرتَ: مَرَّاساً، ولو قلتَ: مُرَيميسٌ؛ لصارت كأنَّها من باب سُرْحُوبٍ وسِردَاحٍ وقِنْدِيلٍ"5 أي: صار رباعياً.

ثالثاً- انعدامُ النَّظيرِ:

إذا لزم عدم النَّظير في أوزان أصول العربيّة بتقدير أصالة الحرف في كلمة حكم عليه بالزِّيادة؛ وهو من أقوى الأدلة. فقد قضوا بزيادة تاءِ (تَتْفُلٍ) وهو ولد الثَّعلب؛ لأنّها لو جعلت أصلاً لكان وزنه (فَعلُل) وهو

1 ينظر: الكتاب 3/216.

2 ينظر: الكتاب 3/216.

3 ينظر: الكتاب 3/429.

4 الكتاب 3/432.

5 الكتاب 3/432.

ص: 251

بناء مفقود في الرُّباعيّ؛ فوزنه (تَفْعُل) . ونون (سَعْدَان) و (مَرْجَان) زائدتان (لأنَّه ليس في الكلام مثل سَرْداحٍ ولا فَعْلالٍ إلَاّ مضعَّفاً) 1 كـ (زَلْزَالٍ) و (وَسْوَاسٍ) .

ويُقضى على تاءِ عِزْوِيتٍ بالزّيادة (لأنّه ليس في الكلام فِعْوِيل)2.

وأمَّا كَنَهْبُلٌ فنونه زائدةٌ؛ لأنّه ليس في الكلام (سَفَرْجُلٌ) على مثال (فَعَلُّل)3.

ويُقضى على أنَّ أصول (خَيوان) بلد باليمن (خ ون) وليس (خ ي و) لأنَّه ليس في الكلام شيء عينه ياءٌ ولامه واو4، فهو (فَيعَال) وليس (فَعْلان) . وليس في ترك صرفه دليل على زيادة النُّون؛ لأنَّ ذاك كان للاسم والبُقعة. ويحكم على الميم في (المِلْوَطّ) وهو ما يضرب به من عصاً ونحوه- بالأصالة؛ لأنَّها لو قُدِّرت زائدةً لأدَّى ذلك إلى ثبوت (مِفْعَلّ) وهو وزن مهمل. فإذا جعلتَ الميمَ أصليَّةً كان الوزن (فِعْوَلاًّ) وهو وزن مستعمل؛ نحو (عِثْوَلّ) للكثير الشَّعر، و (عِسْوَدٍّ) للحيَّة؛ فوجب المصير إليه5.

وكان ابن سِيده يعتدُّ بهذا المقياس في التَّفريق بين الأصول؛ وهو عنده (من أصحِّ ما تُحرَّرُ فيه أنواع التَّصاريف)6.

1 الكتاب 3/218.

2 الكتاب 4/316.

3 ينظر: المنصف 1/135.

4 ينظر: اللّسان (خون) 13/146.

5 ينظر: شرح الكافية الشافية 4/2062، والارتشاف 1/16.

6 المحكم 4/59.

ص: 252

رابعاً- سقوط الحرف لغير علَّة من نظير؛ كسقوط ياءِ (أَيْطَلٍ) وهو الخاصرة- من: إِطِلٍ بمعناه 1.

وكذلك شأملٌ وشَمْأَلٌ من: شَمَالٍ، وشَمَلَتِ الرَّيْحُ.

خامساً- وقوع الحرف - مع عدم الاشتقاق - في موضع تلزم فيه زيادته مع الاشتقاق في نحو (العَفَنقَسِ) وهو عَسِرُ الأخلاقِ؛ فإنَّ النُّون محكوم بزيادتها؛ مع أنَّه لا يعرف اشتقاقه.

وكذلك (عَصَنصَرٌ) اسم جبل- فإنَّ نونه في موضع لا تكون فيه مع الاشتقاق إلَاّ زائدةً؛ نحو (الجَحَنفَلِ) وهو العظيم الشَّفة من الجَحْفَلَةِ؛ وهي لذي الحافر كالشَّفة للإنسان2.

سادساً- اختصاص الحرف بموضعٍ لا يقع فيه إلَاّ حرفٌ من حروف الزِّيادة؛ كالنُّون في (كِنْثَأْوٍ) وهو العظيم اللِّحية، وفي (حِنْطَأْوٍ) وهو العظيم البطن، وفي (سِنْدَأْوٍ) وهو الشَّديدُ المُقدِمُ؛ فنوناتها زوائد؛ لأنَّهم لم يضعوا مكان حرف الزِّيادة حرفاً صحيحاً؛ فلم يقولوا -مثلاً- (سِرْدَأْوٌ) ولا نحوه3.

سابعاً- دلالة الحرف على معنًى؛ كحروف المضارعة، وألف الفاعل، وميم المفعول، وواوُه4.

ويزاد على ما تقدَّم من مقاييس أو أدلَّة ما استُنبط أو جُمِع من متَفَرِّق كلام الأئمة:

1 ينظر: شرح المرادي 5/236، واللسان (أطل) 11/18.

2 ينظر: التصريح 2/363،364.

3 ينظر: شرح المرادي 5/237.

4 ينظر: شرح المرادي 5/237.

ص: 253

أوَّلاً- الدُّخولُ في أوسعَ البابين:

وهو الحمل على الأكثر؛ وذاك أنَّ الحرف إذا تردَّد بين الأصالة والزِّيادة، واستوى الوزنان في النُّدرة؛ فالأولى الحكم بالزِّيادة لكثرة ذي الزِّيادة1.

فمن ذلك (الهُندَلِعُ) وهو بَقَلَةٌ؛ فإنَّه يحتمل أن يكون (فُعَلْلِلاً) على أصالة النُّون، أو (فُنْعَلِلاً) على زيادة النُّون؛ بالتَّساوي، ويرجَّح –على هذا المقياس- الثَّاني؛ خلافاً لابن السَّرَّاج2.

ولو حمل (هُندَلِعٌ) على (فُعْلَلِل) لجاز حملُ (كَنَهْبُلٍ) على (فَعَلُّل) و (سِنْدَأوٍ) على (فِعْلَلْو)(وذلك خرق لا يرقع؛ فتكثر الأصول) 3 وتقلُّ الزَّوائد؛ وهو يُنافي حقيقة اللَّغة.

ومن هنا حمل (كِشْخَان) وهو الدَّيُّوث- على (فِعْلان) فبابه أوسع من باب (فِعْلال) 4 لأنَّ باب الزِّيادة أوسع من باب الأصالة. نعم، وإذا تردَّد الوزنان بين زيادتين حُملا على أوسع البابين؛ كترَدُّدِ (الأَيْدَعِ) وهو صَبغٌ أحمر- بين (أَفْعَلَ) و (فَيْعَلَ) فيحمل على (أَفْعَلَ) على الرُّغم من أنَّك لا تجد في (ي د ع) ما يناسب معناه؛ في حين وجدت الحمرة في (أحمَرَ) ونحوه؛ ألا ترى أنَّ (أَفْعَلَ) أكثر من (فَيْعَلَ) لأنَّ زيادة الهمزة أوَّلاً باب واسعٌ؛ لا يضاهيه باب زيادة الياء ثانية5.

1 ينظر: شرح الشافية للرضي 1/49.

2 ينظر: الأصول 3/225.

3 شرح الشافية للرضي 1/49.

4 ينظر: اللسان (كشخ) 3/49.

5 ينظر: المقتصد في شرح التكملة 2/784.

ص: 254

ومن ذلك أنَّ (موسى) 1 آلةَ الحلاقة- تتردَّدُ بين زيادتين (مُفْعَل) و (فُعْلى) فتحمل على زيادة الميم للدُّخول في أوسع البابين؛ لأنَّ (مُفْعَلاً) في الكلام أكثر من (فُعْلَى) ألا ترى أنَّ زيادة الميم أوَّلاً أكثر من زيادة الألف رابعة؟

وإذا تردَّد الوزنان بين أصلين حُملا على أكثرهما في بابه؛ كحملهم الألفَ المجهولة عيناً المنقلبةَ عن معتَلٍّ على الواو؛ لأنَّ انقلاب الألف عن الواو عيناً أكثر من انقلابها عن الياء في هذا الموضع في عموم كلام العرب2. نصَّ على ذلك سيبويه؛ وقال: "إن جاء اسم نحو النَّاب، ولا تدري أمِنَ الياءِ هو أم مِنَ الواو، فاحمله على الواو؛ حتَّى يتبيَّن لك أنَّها من الياء؛ لأنَّها مبدلةً من الواو أكثرُ، فاحمله على الأكثر؛ حتَّى يتبيَّن لك"3.

وإليه ذهب ابنُ جِنّي؛ الّذي قال: "إنَّ الألفَ إذا وقعت عيناً فينبغي أن يُحكم بأنَّها من الواو؛ حتَّى تقوم دلالة على كونها من الياء"4.

ومن هنا حُكم على أنَّ أصل (عَاقَ) من قولهم (ما عَاقَتِ المرأَةُ عند زوجهَا) أي: ما حَظِيَتْ: (ع وق) وليس (ع ي ق) 5 للدُّخول في أوسع البابين. واستناداً إلى هذا المقياس يمكن الحكم على ألف (خَاشَ) بمعنى رجع؛ في قول الشَّاعر:

1 ينظر: الأصول 3/351، وسر الصناعة 1/428.

2 ينظر: الكتاب3/462، والمنصف1/332، والخصائص1/253، والمحكم2/195.

3 الكتاب 3/462.

4 المنصف 2/140.

5 ينظر: المحكم 2/195.

ص: 255

بَيْنَ الوِضَاءَ يْنِ وخَاشَ القَهْقَرَى1

بأنَّها منقلبةٌ عن واوٍ؛ لأنَّه "لا دليل فيه على أنَّ ألفه منقلبة عن واوٍ أو ياءٍ"2.

وتُحملُ عينُ (الظَّابِ) وهو الكلام والجَلَبَة - على الواوِ؛ لخفاء اشتقاقه3.

وإذا كانت العين واللاّم معتلَّتين تُحمل العينُ على الواوِ، فيما يجهل اشتقاقه؛ للدُّخول في باب (طَوَيْتُ) و (شَوَيْتُ) لأنَّه أكثر من باب (حَيِيْتُ)4.

ومن هنا قضى ابن جنّي على ألف (ثَايَةٍ) وهي الحجارة، و (طَايَةٍ) وهو سقف البيت- بأنَّها منقلبة عن واو5.

أمَّا الألف المجهولة، والهمزة المنقلبة عن معتلٍّ، الواقعتان لاماً؛ فتُحملان على الياء؛ ما لم يعترض ذلك إهمال الياء. وقد نصَّ ابن جنِّي على أنَّ "الياء أغلب على اللَاّم من الواو عليها"6.

1 ينظر: المحكم 5/168، وفي اللّسان (خوش) 6/301 (الوخاءين) بالخاء، ولعلَّ ما في المحكم هو الصَّحيح، فقد ذكر البكري (معجم ماستعجم2/1379) أنَّ (وَضَا) موضع بنجد.

2 ينظر: اللسان (خوش) 6/301.

3 ينظر: اللسان (ظوب) 6/572.

4 ينظر: المنصف 2/141.

5 ينظر: المنصف 2/141.

6 المقتضب في اسم المفعول 25، وينظر: المبهج 85.

ص: 256

وكان ابن سِيده يعوِّل كثيراً على هذا المقياس في تفريقه بين الواويِّ واليائيِّ في (المحكم)1. وبذلك قضى2 بأنَّ لام (أَكْهَى) في قول الشَّاعر:

كَمَا أَعْيَتْ عَلَى الرَّاقِينَ أَكْهَى

تَعَيَّتْ لا مِيَاهَ ولا فِرَاغَا 3

وهي هضبة في نجد- ياءٌ وليست واواً، فأصله (ك هـ ي) .

وقضى بأنَّ (الفَظَى) وهو ماء الرَّحم- يائيٌّ، وأصله (ف ظ ى) في قوله:"وقضينا بأنَّ ألفه منقلبةٌ عن ياءٍ؛ لأنَّها مجهولة الانقلاب؛ وهي في موضع اللام، وإذا كانت في موضع اللام فانقلابُها عن الياء أكثر منه عن الواو"4.

وكذلك الهمزة المنقلبة عن معتلٍّ، الواقعة لاماً؛ فإنَّها تحمل على الياء لا الواو؛ للدُّخول في أوسع البابين، ومثالها (السَّخَاءَ ةُ) وهي بَقَلَةٌ ترتفع على ساق كهيئة السُّنبُلَةِ، وفيها حَبٌّ كحَبِّ اليَنْبُوتِ؛ فإنَّها من (س خ ي) وليس (س خ و)5.

ومنه (الخَدَّاءُ) موضعٌ - قُضي بأنَّ همزته ياءٌ6 لا واو؛ فأصله (خ د ي) وكذلك همزة (الفِنَاءِ) فهي منقلبة عن ياءٍ لا واوٍ7.

1 ينظر: المحكم 4/264،5/151، واللسان (جمى) 14/153، (فتا) 15/148.

2 ينظر: المحكم 4/264.

3 ينظر: المحكم 4/264، واللسان (كهى) 15/235.

4 ينظر: اللسان (فظا) 15/159.

5 ينظر: المحكم 5/151.

6 ينظر: المحكم 5/154.

7 ينظر: اللسان (فنى) 15/165.

ص: 257

وإذا عارضَ هذا المقياسَ في اللَاّم المعتلَّةِ مقياسٌ آخر أضْعَفَهُ؛ وربَّما منع الاستدلال به؛ وذاك أن يكون الأصل اليائيُّ مهملاً والأصل الواويُّ مستعملاً، فإنها تحمل على المستعمل؛ كقولهم: جَدْيٌ ذَكِيٌّ، بمعنى ذَبِيحٍ، فإنَّه يحمل على (ذ ك و) لاستعماله، وإهمال (ذ ك ي) على نحو ما قرَّره ابن سِيده1.

وإن كانا مستعملين، وكثر أحدهما كثرةً واضحةً، فغلبَ على صاحبه، وكان الغالبُ الواوَ، فإنَّ الألفَ المجهولةَ، أو الهمزةَ المنقلبةَ تُحملان عليه.

وذلك نحو (قِدَةٍ) موضعٌ- فإنَّها تحتمل الأصلين (ق د ي) و (ق د و) وكلاهما مستعمل؛ فإن أُخذ بالمقياس الأوَّل؛ وهو كثرة الياء لاماً حُمل على (ق د ي) وإن أُخذ بالمقياس الثَّاني؛ وهو كثرة الواويِّ في هذا التركيب، وقلَّة اليائيِّ فيه، حُكمَ عليه بأنَّه من (ق د و) . وقد أخذ ابن سِيده2 بالأخير؛ فرجَّح الواويَّ، ولو أخذَ بالأوَّل لما ابتعد عن الصَّواب. ويجوز أن تكون (قِدَةٌ) من (وق د) مثل (عِدَةٍ) من (وع د) والتَّاء عِوَضٌ من فاء الكلمة المحذوفة؛ فإن صحَّ ذلك خرجتْ ممَّا نحن فيه.

ويجوز الوجهان السابقان في قولهم: رَكِبَ كَسَاهُ؛ إذا سقط على قفاه؛ فيكون أصله (ك س ي) و (ك س و) الأوَّلُ لأنَّ الياء لاماً أكثر من الواو، والثَّاني لأنَّ الواو غلبتْ على الياء في ذلك التَّركيب.

نعم، ولا يخلو مقياسُ حملِ المعتلِّ على الياء لاماً من اعتراضٍ مقدّرٍ؛

1 ينظر: المحكم 7/98.

2 ينظر: المحكم 6/330.

ص: 258

وهو أنَّ ما في بعض المعاجم كـ (لسان العرب) و (القاموس المحيط) من تلك المادَّة لا يؤكِّد ما قاله اللُّغويُّون والنُّحاة بأنَّ الياء لاماً أكثر من الواو؛ بل يبطل ما قالوا؛ لأنَّ الكثرة فيه للواويِّ، وليست لليائيِّ.

إنَّ إحصاء ما في المعجَمَينِ من الواويِّ واليائيِّ في باب المعتلِّ ليؤكِّد ذلك في ظاهر الأمر؛ فعدَّة ما في (لسان العرب) في باب المعتلِّ خمسة وعشرون وخمسمائة أصلٍ تقريباً1؛ ما يقرب من ثلثيها من الواويِّ؛ إذ بلغ سبعة وسبعين وثلاثمائة أصلٍ، ونسبته (81و71 ?) ولم يتجاوز اليائيُّ ثمانية وأربعين ومائة أصلٍ وهو ما نسبته (19و28?) . ونجد أنفسنا أمام النَّتيجة نفسِها في (القاموس المحيط) وهي غلبة الواويِّ على اليائيِّ، وإن اختلفت النِّسب قليلاً؛ ففيه خمسة وتسعون وستمائة أصلٍ2 أكثر من نصفها واويّ، وعدَّته اثنان وسبعون وثلاثمائة أصلٍ؛ ونسبته (53و53?) .

أمَّا اليائيُّ فعدَّته ثلاثة وعشرون وثلاثمائة أصل؛ ونسبته (47و46?) .

ويمكن التَّوفيق بين نتيجة الإحصاء وما قاله اللُّغويُّون والنُّحاة، ودفع ما ظهر من تعارض باحتمالاتٍ؛ منها:

أ- أنَّ مراد اللُّغويّين والنُّحاة في تغليبهم الياءَ على الواو لاماً ينصرف إلى المُنْقَلِبِ، أي: الألفِ والهمزة، وقد صرَّح بذلك ابن سِيده غير مرَّةٍ؛ بقوله في (الفَظَى) : "وقضينا بأنَّ ألفه منقلبة عن ياءٍ؛ لأنَّها مجهولة

1 لا يدخل في هذا الإحصاء ما جاء في باب الألف اللّينة من الحروف الثَّنائيَّة وما شابهها من الأسماء.

2 ينظر الملحوظة السَّابقة في الإحالة رقم: (1) ويضاف إلى ذلك أنِّي أسقطت ثمانية أصول من المجموع العام؛ لأنّه ذكر أنَّها واويّة ويائيّة، فلم أر لها حاجة في الإحصاء.

ص: 259

الانقلاب؛ وهي في موضع اللَاّم، وإذا كانت في موضع اللَاّم فانقلابها عن الياء أكثر منه عن الواو"1. ومثل ذلك ما ذكره في (المُفْتِي) 2 وهو مِكْيال، و (الفِنَاءِ) 3 وهو ساحة الدَّار، وفي (كَرَى) 4 من قولهم: كَرَى الرُّجلُ بقدمَيهِ؛ أي: قَلَبَهما في العَدْوِ. فمن الممكن أن يعَدَّ هذا ونحوه تقييداً لما أطلق.

أمَّا ما في المعجَمَين فيشتمل على المنقلِبِ وغير المنقلِبِ، ومن هذا الأخير (الثَّعْوُ) 5 وهو ضرب من التَّمر، و (الثُّقْوَةُ) 6 وهي السُّكُرُّجَةُ، و (الجَشْوُ) 7 وهي القوس الخفيفة، و (ضَدَوان) 8 وهو جبل، و (الطَّقْوُ) 9 وهو سرعة المشي، و (القَهْوَةُ) 10 وهي الخمر، و (المَرْوَةُ) 11 وهي حجارة بيضاء، ونحو ذلك ممَّا جاءت فيه الواو12

1 ينظر: اللسان (فظا) 15/159.

2 ينظر: اللسان (فتا) 15/148.

3 اللسان (فنى) 15/165.

4 اللسان (كرا) 15/222) .

5 اللسان (ها) 14/113.

6 ينظر: القاموس (ثقو)1636.

7 ينظر: اللسان (جشو) 14/147.

8 ينظر: القاموس (ضدو)1683.

9 ينظر: القاموس (طقو)1685.

10 القاموس (قهو)1710.

11 القاموس (مرو)1719.

12 اخترتُ الأمثلة من الواو لأبيِّن كيف أَرْبَتْ على الياء.

ص: 260

على أصلها بغير انقلاب فيها، أو فيما تصرَّف منها فيما وقفتُ عليه؛ ممَّا ذُكر في المعاجم. فإن كان الأمر كذلك فلا اعتداد بنتيجة الإحصاء؛ لأنَّ الكثرة عند اللُّغويِّين مقَيَّدة، وقد شَمِلَ الإحصاءُ المقَيَّدَ والمطلَقَ.

ب- ويجوز أن يكون ما في المعجَمَيْنِ من أصولٍ غيرَ دقيقٍ. ولستُ على يقين ممَّا جاء في (القاموس المحيط) أمَّا (اللِّسان) فإنِّي أقطع بأنَّ ما جاء فيه من مَدَاخِلَ واويّةٍ أو يائيَّةٍ ليس دقيقاً، ولا يمكن أن يعوَّل على نتائجه في الإحصاء إلَاّ بعد تمحيص ما في كلِّ جذرٍ من مادَّة؛ لأنَّ ابن منظور دمجَ اليائيَّ في الواويِّ أو العكس فيما اتَّحد من الجذور في الفاء والعين؛ وهو كثير جدّاً، وسيأتي تفصيله في الباب الرَّابع –إن شاء الله.

ج- فإن لم يصحَّ الاحتمالان السَّابقان، فإنَّه لا يَبْعُد أن يكون ما ذكره اللُّغويُّون والنُّحاة مَبْنِيًّا على كثرة الاستعمال في لغة العرب؛ لأنَّهم وجدوا أنَّ الثِّقل في الكلمة يتدرَّجُ بتدرُّجِ حروفها، من الأوَّل إلى الآخر؛ فينبغي أن يغلب على اللَاّمِ الحرفُ الأكثرُ خفَّةً، والياء أخفُّ من الواو. والآخِرُ موضعُ التَّغييرِ، فينبغي أن يغلب فيه الأخفُّ؛ ألا تراهم يبتدئون في الإعلال من آخر الكلمة؟

ويدلُّ على خفَّةِ الياء أنَّ باب (طَوَيْتُ) و (شَوَيْتُ) أكثرُ من بابِ (جَوٍّ) و (قَوٍّ) 1 وأنَّهم ربَّما جمعوا بين اليائين في نحو (حَيِّيٍّ) و (أُمَيِّيٍّ) ولم يجمعوا بين الواوات؛ لثقلها2.

ويدلُّ على ثقل الواو أنَّها إذا كانت رابعة في الفعل قلبتْ ياءً؛ نحو

1 ينظر: المنصف 2/146.

2 ينظر: المنصف 2/275.

ص: 261

(تَقَصَّيتُ) و (تَعَدَّيتُ) وهما من (قَصَا يَقْصُو، وعَدَا يَعْدو) وكذلك (قَوْقَيْتُ) وأصلها (قَوْقَوْتُ) . ثُمَّ، ألا تراهم يُميلون الألفَ إلى الياء، ويَقلُّ إمالتها إلى الواو؛ على نحو ما هو مقرَّرٌ في باب الإمالة، وأنَّك لا تكاد تجد اسماً متمكِّناً؛ في آخره واوٌ قبلها ضمَّةٌ؛ كما وجدتَ في كلامهم اسماً في آخره ألفٌ قبلها فتحةٌ، واسماً في آخره ياءٌ، قبلها كسرةٌ؛ لأنَّ الواو أثقل من أختيها1. ومن ذلك أنَّهم اختاروا الياء آخرةً –مع تشديدها- لبابٍ واسعٍ في العربية، كثيرِ الاستعمال؛ وهو النَّسَبُ. وأخلصُ ممَّا تقدَّم إلى أنَّ هذا الاعتراض على مقياسهم مدفوعٌ بما ذُكرَ، وأنَّ مقياسهم في حمل المجهول لاماً على الياء صحيحٌ؛ من الممكن الاستفادة منه، والتَّعويلُ عليه في تداخل الأصول.

ثانياً- الصَّرْفُ أو مَنْعُهُ:

من الممكن الاعتداد بمقياس الصَّرف أو منعِهِ؛ للتَّفريق بين بعض الأصول؛ لا سِيَّما الَّتي في أوَّلها همزة أو ياءٌ أو تاءٌ أو نونٌ؛ ممَّا وازنَ الفعل، أو الَّتي في آخرها ألف ممدودة أو مقصورةٌ، أو في آخرها نونٌ مسبوقةٌ بألف زائدةٍ. فممَّا في أوَّله همزة (أَفْكل) فيستدلُّ على زيادة همزته، وأنَّه (أَفْعَل) بمنعه من الصَّرف2 لأنَّ (أَفْعَلَ) إذا كان صفةً، ثمَّ سمِّيَ به لم ينصرف في

1 ينظر: الكلام على عصي ومغزو149.

2 ينظر: الكتاب3/194.

ص: 262

المعرفة ولا في النَّكرة عند سيبويه والخليل1، وهو قول المازِنِيِّ، والأخفشُ2 يصرفه في النَّكرة. وكذلك (أَيْدَعُ) ممَّا يدلُّ على زيادة همزته، وأنَّه (أفْعَل) لا (فَيْعَل) منعه من الصَّرف3.

أمَّا (أوَّلُ) فمَنْ صرَفَه فهو عنده (فَوْعَل) من (وول) أو (وأل) على مذهب الكوفيِّين - كما سيأتي إن شاء الله - وهو (أفْعَل) على مذهب البصريِّين؛ لأنَّهم لا يصرفونه4.

وممَّا في أوِّله ياءٌ (يَرْمَعُ) وهو حجر أبيض، قُضِيَ على يائه بالزِّيادة بأمور؛ منها منع صرفه في المعرفة 5؛ فهو (يَفْعَلُ) لا (فَعْلَل) . أمَّا التَّاء فدلَّ على أصالتها في (تَبْرَعٍ) و (تَرْعَبٍ) وهما موضعان صرْفُهُم 6 إيَّاهما؛ فهما (فَلعْلَل) لا (تَفْعَل) . أمَّا التَّاء في (تألَبَ) علمٌ- فزائدة؛ لأنَّه غير مصروف 7 فهو (تَفْعَل) .

ويدلُّ على أنَّ النُّون في (نُبَايِعَ) موضعٍ – زائدة؛ وأنَّ أصله (ب

1 ينظر: ما ينصرف 7.

2 ينظر: النكت 2/814.

3 ينظر: الكتاب 3/194.

4 ينظر: شرح لكافية للرضي 2/218.

5 ينظر: ما ينصرف 13.

6 ينظر: المحكم 2/323.

7 ينظر: الكتاب 3/196، والنّكت 2/814.

ص: 263

ي ع) وليس (ن ب ع) منعه من الصَّرف؛ للعلميَّة ووزنِ الفعل1. ويستدلُّ على حال الهمزة آخراً بالصَّرف أو منعهِ؛ فإن صُرفت الكلمة فهي أصلٌ، وإن منعت فهي زائدةٌ؛ وهي للتَّأنيث.

وأمَّا همزة (الغَوْغاَء) وهم سَفِلَة النَّاس- فتحتمل الزِّيادَةَ والأصالةَ. فمن العرب من يجعلها بمنزلة (عَوْرَاءَ) فَيُؤَنِّثُ ولا يصرفُ؛ فيقول (غَوْغَاءُ) 2 فهي -حينئذٍ- زائدةٌ، وأصلها (غ وغ) .

وأمَّا من قال: (غَوْغَاءٌ) بالتّذكير والصَّرف - فهي عنده بمنزلة (القَمْقَامِ) و (القَضْقَاضِ) أي: يجعل الغينَ والواوَ مضاعفتين؛ بمنزلة القاف والميم من (القَمْقَامِ) والقاف والضَّادِ من (القَضْقَاضِ) 3 وأصلها (الغَوْغَاوُ) فقلبتِ الواو همزةً لتطرُّفها بعد مدٍّ؛ فهي من باب الرُّباعيّ المضاعف، وأصولها (غ وغ و) .

ويُقضى بزيادة ألف (حَبَنطَى) بمنع الصَّرفَ في المعرفة "وإن لم يشتقُّوا منه شيئاً تذهب فيه الألف؛ لأنَّها عندهم بمنزلة الهمزة"4.

وممَّا تعرف به حال النُّون المتطرِّفةِ بعد ألفٍ زائدةٍ: الصَّرفُ أو منعهُ؛ كنُوناتِ: (حَسَّان) و (تَبَّان) و (سَمَّان) فإن صرفتهنَّ فقلتَ: حَسَّانٌ وسَمَّانٌ وتَبَّانٌ؛ فهُنَّ (فّعَّال) من الحُسنِ والسَّمنِ والتَّبنِ؛ وهنّ

1 ينظر: المحكم 2/189.

2 ينظر: الكتاب 3/215.

3 ينظر: الكتاب 3/125، 4/394.

4 الكتاب 4/310.

ص: 264

بمنزلة (عَبَّادٍ) و (قَصَّابٍ) و (حَنَّاطٍ) . وإن مُنِعْنَ من الصَّرفِ فهُنَّ (فَعْلان) 1 من (الحِسِّ) و (السِّمِّ) و (التَّبِّ) وهو الخسران.

ومن ذلك (دِهْقَان) و (شَيْطَان) فإن صُرِفا فهما من (التَّدَهْقُنِ) و (التَّشَيطُنِ) فالنّون أصلٌ. وإن مُنعا من الصَّرفِ فهما من (الدَّهْقِ) و (الشَّيْطِ) 2 ووزنهما على الأوَّل (فِعْلَال) و (فَعْلَال) وعلى الثَّاني (فِعْلَان) و (فَعْلَان) . ومن ذلك (جَابَان) اسم علَمٍ- فألفه منقلبة عن واوٍ؛ كأنَّه (جَوْبَان) فقلبت الواو لغير علَّةٍ. وهو (فَعْلَان) من (ج وب) وليس (فَاعَال) من (ج ب ن) يدلُّ على ذلك قولُ الشَّاعر:

عَشَّيْتُ جَابَانَ حَتَّى اسْتَدَّ مَغْرِضُهُ3

وكَادَ يَهْلِكُ لولا أَنَّه اطَّافَا

قُولا لجَابَانَ فَلْيَلْحَقْ بِطَيَّتِهِ

نَوْمُ الضُّحَى بَعْدَ نَوْمِ اللَّيلِ إسْرَافَا4

فتركُ صرفِهِ دليلٌ على أنَّه (فَعْلَان) .

1 ينظر: ما ينصرف 36، واشتقاق أسماء الله 285.

2 ينظر: الكتاب 3/217،218.

3 في التاج (جوب) 1/194 (معرضة) بالعين المهملة، و (اشتدّ) بالشين، و (استدّ) باسّين بمعنى: انسدَّ.

4 كذا في المحكم7/394، وفي اللسان (جوب) 1/287 (إسراف) بالرفع على أنه خبر المبتدأ، ومثله في التّاج (جوب) 1/194، وهو أقرب لولا الإصراف، وينظر: الكافي160،161.

ص: 265

ويجب أن يلزم الحذر في هذا المقياس، وأن لا يؤخذ به على إطلاقه؛ لأنَّ الممنوع من الصَّرفِ يجوز صرفه في الضرورة؛ باتِّفاق النُّحاةِ 1؛ ولأنَّ الكوفيِّين 2 ذهبوا إلى أنَّ المصروف يجوز منعه من الصَّرف.

وذكر الفرَّاء - فيما حكاه المعرّيُّ3 - أنَّهم يشبِّهون النُّون الأصليَّة بالزَّائدة؛ فيقولون: مررتُ بـ (طَحَّانَ) وذلك إذا سَمُّوا به.

ثالثاً- إهمالُ أحدِ الأصلَينِ:

إذا أدَّى التَّداخل إلى أصلين؛ أحدهما مهمل: حملت الكلمة على الأصل الآخَرِ المستعمل؛ مثل (مُزَّاءَ) اسمٌ للخمر- فالهمزة فيه زائدة؛ لأنَّ مادَّة (م ز أ) مهملةٌ؛ بخلاف (م زز) . وبخلاف ذلك كلمة (السَّقَّاءِ) فالهمزة أصليَّة؛ أي: بدلٌ من أصلٍ؛ لوجود (س ق ي) وفَقْدِ مادَّة (س ق ق)4.

وكان ابن سيدَة يأنس بهذا لمقياس، ويعوِّل عليه كثيراً في (المحكم) كقوله:"والشَّاخَةُ: المعتدِلُ؛ وإنَّما قضينا على أنَّ ألف شاخةٍ ياءٌ لعدم (ش وخ) وإلَاّ فقد كان حقها الواو؛ لكونها عيناً"5.

وحَمَلَ (غَادَةَ) وهي موضع في قول الشَّاعر:

1 ينظر: الإنصاف2/493.

2 ينظر: الإنصاف 2/493.

3 ينظر: عبث الوليد111،112.

4 ينظر: المساعد4/66.

5 المحكم5/149.

ص: 266

فَمَا رَاعَهُمْ إلَاّ أخُوهُمْ كَأنَّه

بِغَادَةَ فَتْخَاءُ العِظَامِ تَحُومُ1

على الياء بقوله: (وإنَّما حملناه على الياء؛ لأنَّا لم نجد في الكلام (غ ود)2.

وقضى ابن جِنّي3 على لام (العَلَايَةِ) وهو موضع- بأنَّها واوٌ، وليست ياءً، واستدلَّ بإهمال (ع ل ي) واستعمال (ع ل و) . وقضى - أيضاً4 - على أنَّ (المَخِيمَ) موضع- (مَفْعِل) وليس (فَعِيلاً) لعدم (م خ م) . وحكم ابن الحاجب على الياء الأولى في (صِيصِيَةٍ) وهي شوكة الحائك؛ الَّتي يُسَوَّى بها السَّدَاةُ، أو شوكتا الدِّيك في رجليه- بأنَّها أصلٌ؛ لأنَّه لو حكم بزيادتها (لأدَّى إلى أن تكون من المهمل؛ إذ ليس في الكلام تركيب من صادين وياء)5.

ومن الممكن أن يحكم بأنَّ أصل (لَوْذَانَ) عَلَم- (ل وذ) لأنَّ (ل ذ ن) أصلٌ مهملٌ؛ فهم يقولون: لَاذَ به يَلُوذُ لَوْذاً ولِوَاذاً؛ إذا لجأ إليه6.

وذهب ابن سيده إلى حدِّ الاستدلال بفقدان النَّظير في مقلوب

1 ينظر: شرح أشعار الهذليين3/1164، واللسان (غيد) 3/328.

2 المحكم 6/9.

3 ينظر: المحكم 2/255.

4 المحكم 5/166.

5 ينظر: الإيضاح في شرح المفصل2/378، وفيه صيصة وهو تحريف.

6 ينظر: الهمع2/216.

ص: 267

الكلمة؛ فمن ذلك أنَّه قضى بأنَّ (التُّفَةَ) وهي عناق الأرض؛ وهو سَبُعٌ يقتات اللَّحم- من (ت ف و) وليس من (ت ف ي) بقوله: (وهو من الواو؛ لأنَّا وجدنا (ت وف) وهو قولهم: ما في أمرهم تَوِيفَةٌ، ولم نجد (ت ي ف) فإنَّ أبا عليٍّ يستدلُّ على المقلوب بالمقلوب) 1.

رابعاً- الإعْرَابُ بالحُروفِ:

من الممكن الاستئناس بالإعراب بالحروف في التَّمييز بين بعض الأصول المتداخلة؛ وإن قلَّ ذلك؛ كَفَكِّ التَّداخلِ بين (ص ف ن) و (ص ف ف) المتواردين على (صِفِّينَ) موضع- فقد ذكره الجوهريُّ2 في الأصل الأوَّل، وتابعه الفيروزآباديُّ3.

وحمَلَ صنيعُ الجوهريِّ ابنَ بَرِّيٍّ4 على الاعتراض عليه بأنَّ حقَّ هذا اللَّفظ أن يذكر في (ص ف ف) واستدلَّ بقولهم: (صِفُّونَ) فيمن أعربه بالحروف؛ على أنَّ الكلمة عربيَّة.

وقد قيل لأبي وائل شقِيقِ بنِ سَلَمَةَ5: "أشهدتَ صِفِّينَ" قال:

1 ينظر: اللسان (تفأ) 14/102.

2 ينظر: الصحاح (صفن) 6/2152.

3 ينظر: القاموس المحيط (صفن)1562.

4 ينظر: اللسان (صفن) 13/249.

5 هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفيّ، وهو من أئمة الحديث، وتوفّي بعد سنة 82هـ تقريباً، ومن مصادر ترجمته: سير أعلام النُّبلاء4/161، وأسد الغابة3/3، وتهذيب التَّهذيب4/361.

ص: 268

"نعم، وبئستِ الصِّفُّونَ"1.

وردَّ ابنُ برِّيّ على الجوهريِّ - أيضاً - فصحَّحَ أصول (يَبْرِينَ) بأنَّها (ب ر ي) وليست (ب ر ن) كما فعل2 فقال: "حقُّ يَبْرِينَ أن يذكر في فصل (برى) من باب المعتلِّ؛ لأنَّ يَبْرِينَ مثل: يِرْمِينَ

والدَّليل على صحَّة ذلك قولهم: يَبْرُونَ في الرَّفعِ ويَبْرِينَ في النَّصبِ والجَرِّ؛ وهذا قاطع بزيادة النُّون"3.

وما ذكره ابنُ برِّيّ صحيح؛ إن كانت الكلمة عربيَّة؛ وليس بعيداً أن تكون أعجميَّةً، ثمَّ تحمل على ما شابهها من كلام العرب. وقد كان ابن جنّي دقيقاً في كلامه عن أسماء مواضع كأنَّها جُمعت جمعَ سلامةٍ، وأُعرِبتْ إعرابَهُ؛ وهي قولهم:(قِنَّسْرُونَ) و (فِلَسْطُونَ) و (يَبْرُونَ) و (نَصِيبُونَ) و (صَرِيفُونَ) و (عَانِدُونَ) و (السَّيلَحُونَ) إذا قال: "ووجه الجمع في هذه الأشياء أنَّهم جعلوا كلَّ ناحيةٍ من: فِلَسْطِينَ وقِنَّسرِينَ كأنَّه فِلَسْطٌ، وقِنَّسْرٌ، وكأنَّ واحدَ يَبْرِيتنَ يَبْرٌ، وواحدَ نَصِيبِينَ نَصِيبٌ، وواحدَ صَرِيفِينَ وعَاندِينَ: صَرِيفٌ وعَانِدٌ، وكذلك السَّيْلَحُونَ كأنَّ واحدها سَيْلَحٌ، وإن لم ينطق به مفرداً"4.

ألا ترى أنَّه وقف بين المنزلتين، أصالة ما ذَكَرَ وعُجمته بقوله

1 أخرجه ابن سعد في طبقاته6/96، وينظر: سير أعلام النُّبلاء4/161.

2 ينظر: الصحاح (برن) 5/2078.

3 ينظر: اللسان (برن) 13/50.

4 ينظر: سر الصناعة 2/626، 627.

ص: 269

(وكأنَّه) فإن صحَّتِ الأصالةُ فالنُّوناتُ زوائدُ؛ وإن صحَّتِ العجمة فَهُنَّ أصول. واستدلَّ ابن جنّي1 على أصالة النُّون في (المَاطِرُونَ) وهو اسم موضعٍ بالشَّام- بإعراب الكلمة على النُّون.

خامساً- الإدْغَامُ:

يُعَدُّ تركُ الإدغامِ من العلاماتِ الَّتي تُعرفُ بها زيادةُ الملحَقِ؛ كالباء الثَّانية في (جَلْبَبَ) والدَّال الثَّانية في (قَرْدَدَ) فدلَّ ذلك على أنّه ثلاثيٌّ؛ وليس رباعيّاً؛ وهذا باب واسعٌ. ويستدلُّ - أيضاً - بترك الإدغام في بعض ما خفيت أصوله من كلماتٍ؛ كاستدلالهم على أنَّ الياءَ والهمزةَ أصلٌ في كلمة (يَأجَجٍ) اسم مكان- فأصله (ي أج) وليس (ي ج ج) أو (أج ج) ولولا ذلك لأدغموا، كما يُدْغمون في (مَفْعَل) و (يَفْعلُ) من رَدَدْتُ، فإنَّما الياءُ ههنا كميم (مَهْدَدٍ) لأنَّها أصلٌ، وهو من (م هـ د) كما قال سيبويه2 وابنُ السَّرَّاج3. وكذلك ميم (مأجَج) وهمزته أصليَّتان، والزَّائد إحدى الجيمين؛ بدليل ترك الإدغام4.

1 ينظر: سر الصناعة 2/25، 626.

2 ينظر: الكتاب 4/313.

3 ينظر: الأصول 3/235.

4 ينظر: الأصول 3/237.

ص: 270

على أنَّ الرَّضيَّ1 يرى أنَّ: (يَأْجَج)(يَفْعَل) لأنَّ (أج ج) مستعمل في كلامهم، وفكُّ الإدغام عنده شاذٌّ. ويدلُّ على أصالة الهمزة في (إِيْوَانَ) غير العجمة- أنَّها "لو كانت زائدةً لوجب إدغام الياء في الواو، وقلبها إلى الياء؛ كما قلبت في أيَّامٍ؛ فلمَّا ظهرت الياء، ولم تدغم دلَّ أنَّ الياء عينٌ، وأنَّ الفاء همزة، وقلبت ياءً لكسرة الفاء وكراهة التَّضعيف؛ كما قلبت في دِيوَانٍ وقِيراطٍ، وكما أنَّ الدَّالَ والقافَ فاءان والياءَين عينان، كذلك الَّتي في إيوَانَ"2.

ويُقضى بفكِّ الإدغام في قولهم: ناقةٌ (عُوطَطٌ) إذا لم تحمل السَّنةَ المقبلة، بأنَّه من (ع ي ط) 3 وليس من (ع ط ط) وقد قلبت ياؤه واواً لانضمام ما قبلها. ووزنُ عُوطَطٍ (فُعْلَل)4.

ونحوه (كُولَلٌ) من كِلْتُ5؛ فهو (فُعْلَل) من (ك ي ل) وليس (فُوعَل) من (ك ل ل) .

على أنَّه يلزم ألَاّ يؤخذَ هذا لمقياس على إطلاقه؛ فثَمَّ ما فُكَّ إدغامه

1 ينظر: شرح الشّافية 2/387.

2 الحلبيّات 366.

3 ينظر: المنصف 2/12.

4 ينظر: الكتاب 4/376.

5 ينظر: الكتاب 4/375.

ص: 271

لغير الإلحاق؛ كـ (مَحْبَبٍ) وهو اسم عَلَمٍ جاء على الأصل1 لمكان العلميَّة الَّتي ربَّما خرجت (بالكلمة عن الموازين الأكثرِ مناسبةً لها) 2 كما جاء (مَكْوَزَةٌ) و (مَزْيَدَةٌ) مصحَّحين. وإنَّما حملهم على أن يجعلوا الميم في (مَحْبَبٍ) زائدةً، وأنَّ وزنه (مَفْعَل) دون (فَعْلَل) أنَّهم وجدوا ما تركَّب من (ح ب ب) ولم يجدوا (م ح ب) ولولا ذلك لكان حملهم مَحْبَباً على (فَعْلَل) أولى؛ لأنَّ فكَّ الإدغام في (فَعْلَل) هو القياس.

وحمل ابن سِيدَه3 (مَنْدَداً) بلداً- على (مَحْبَبٍ) ولم يجعله من باب (مَهْدَدٍ) لعدم (م ن د) .

سادساً- الموازَنَاتُ السَّاميَّةُ:

إنَّ التَّفريق بين الأصول المتداخلة بمقياس الموازنات السَّاميَّة مقياس مثمر؛ يعوِّل الباحثون المُحْدَثونَ عليه كثيراً. ومن الرَّاجح أنَّه ما من "كُتلَةٍ من الأمم ترتبط لغاتها بعضها ببعضٍ؛ كالارتباط الَّذي كان بين اللُّغات السَّاميَّةِ"4 ومن أهمِّها: العربيَّة، والسُّريانيَّةُ، والعبريَّةُ، والآراميَّةُ، والفِينيقِيَّةُ، والحَبَشِيَّةُ.

ومن أقدم من فطن إلى القرابة بين هذه اللُّغات ابنُ حزم القرطُبِيُّ إذ

1 ينظر: شرح الكافية للرّضيّ 2/139.

2 أثر التّسمية في بنية الكلمة العربيّة39.

3 ينظر: اللسان (ندد) 3/421.

4 تاريخ اللغات السّاميّة 3، وينظر: السَّاميُّون ولغاتهم20، 21.

ص: 272

ذكر أنَّه ثبت له أنَّ العربيَّة والسُّريانيَّةَ والعبريَّةَ لغة واحدةٌ في الأصل1. فلا جرم أن يستفاد من المنهج المقارن في الكشف عن الجذور الخفيَّة، أو المتداخلة في بعض الكلمات العربيَّة. ولعلَّ ممَّا يعرف به أصل (هَرَاقَ) المنهج المقَارَن بين السَّاميَّات؛ فالّذي يظهر –لأوَّل وهلةٍ- أنَّ الفعل من (هـ ر ق) ألا ترى أنَّ ابن منظورٍ ذكره في هذا الأصل2. ومن ذهب إلى أنَّ الهاء ليست أصليَّةً، بل هي الهاء الموجودة في (هَفْعَل) فمذهبه قريب؛ ألا ترى أنَّ "هذا الوزن قياس في العبريَّة، والعربيَّة الجَنُوبيَّةِ في مقابل وزن (أفْعَل) في العربيَّةِ الشَّماليَّةِ؟ ولعلَّ مقارنة كلمة أرَاقَ وكلمة هَرَاقَ بنفس المعنى توضِّحُ لنا أنَّ الأُولى بوزن (أفْعَل) والثَّانية بوزن (هَفْعَل) وكلا الوزنين للتَّعدية في اللُّغات السَّاميَّة؟ "3

ويصدق ما ذُكر في كلمة (هَرَاقَ) على كلمات أُخَر في العربيَّة، نحو: هِجْرَعٍ، وهِبْلَعٍ "وقد يكشف بحث الكلمات المبدوءة بالهاء في العربيَّة عن أمثلة كثيرةٍ من هذا النَّوع، الهاء فيها زائدة لا أصليَّة"4.

ومن ذلك أنَّه يمكن أن يستأنس بهذا المقياس للوصول إلى أنَّ أصل (نَاسٍ) و (أُنَاسٍ) : (أن س) بأصالة الهمزة؛ لوجودها "في بعض

1 ينظر: الإحكام في أصول الأحكام 1/30.

2 ينظر: اللسان (هرق) 10/365.

3 علم اللغة العربيَة 209.

4 علم اللغة العربية 209.

ص: 273

اللُّغات السَّاميَّة كالعبريَّةِ، فهي فيها (صورة8) ?n???m (أنا شيم) وهو فيها جمعٌ مفرده (صورة 9) (إيش) بمعنى: رجلٍ، والياء فيه بدل من النُّون؛ بدليل وجودها في الجمع. كما أنَّ هناك مفرداً نادر الاستعمال في العبريَّة، يحتوي على هذه النون كذلك؛ وهو (صورة10) (إنوش) ويقابل في العربيَّة كلمة: إنسٍ"1

وبهذا المقياس يمكن الوصول إلى أصل كلمة (الملائِكَةِ) الَّتي يتوارد عليها ثلاثة أصول؛ وهي: (ل أك) و (م ل ك) و (أل ك) .

فممَّا يرجِّحُ (ل أك) وجود نظيره في بعض اللّغات، وورودُ فعله الثُّلاثيِّ (ل أك) في اللُّغة الحبشيَّة بمعنى: أرسلَ رسالةً أو رسولاً2.

ويشير معجم (جزينيوس)(GESENIUS) لكلمات العهد القديم للعبريَّة، ومعجم (جاسترو)(JESTROW) لكلمات التَّلْمود أنَّ (صورة11) العبريَّة الَّتي معناها رسول مادَّتها (ل أك) لا غير. وصورة هذه الكلمة - بما يقرب من معناها العربيِّ في السُّريانيَّة والعبريَّة والحبشيَّةِ (مَلأَك) بينما لا نظير لمادَّةِ (ألك) في تلك اللغات3.

ويساعد المنهج المقارن على الوصول إلى أصل كلمة (مَدِينَةٍ) في العربيَّة الَّتي يتوارد عليها أصلان؛ هما: (م د ن) و (د ي ن) فتُرَجِّحُ المقارنة الأصل الثَّاني (د ي ن) فـ (دِين) في العبريَّة بمعنى قانون، وفي الآراميّة

1 بحوث مقالات في اللغة 82.

2 ينظر: ملك، ملاك، ملائك، ملائكة 11.

3 ينظر: ملك، ملاك، ملائك، ملائكة 11.

ص: 274

(دينا) بالمعنى نفسه، وتعني عبارة (بَيت دِين) في العبرية المَحكمة، وقد ظهرت كلمة (مَدِينةٍ) في الآرامية في منطقة الشَّام قبل الإسلام بمعنى المنطقة الإدارية أو الدَّائرة القضائيَّةِ؛ بارتباط معناها القضائيِّ الّذي لم نزل نجده في كلمات عربيَّة مثل (دائنٍ) و (مَدِينٍ) و (أدانَ) و (إدَانَةً) .

ولعلَّنا لا نعدم هذا الملمح في إطلاق الرَّسول صلى الله عليه وسلم على (يَثْرِبَ) اسم (المَدِينَةِ) مقرِّ الدَّولة الإسلامية النَّاشئة، ومكان حكمها وقضائها1.

1 ينظر: علم اللغة العربي 209، واللغة العربية عبر القرون 28.

ص: 275