الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: سبب اختيار مدرسة القافية
إن تعميم هذه المدرسة، لتشمل المدارسَ الثلاثةَ، يمكن أن يكون أمراً مفيداً، ولكنه لا يخلو من عقبات منهجية؛ ذلك أنَّ ثَمَّ فروقاً كبيرة بين المدارس المعجمية الثلاث في نُظُم الترتيب؛ على نحو ما وَضَّحت في المبحث السابق؛ فالفرق بين مدرستي التقليبات والقافية أن الأخيرة أساسها في ترتيب المعجم هو الأصول (الجذور) بصرف النظر عن اعتبارات الإعلال أو القلب أو الإبدال أو الحذف أو التعويض أو التضعيف أو الإدغام؛ بينما لم تكن الأصول (الجذور) الأساسَ الوحيدَ في نظام مدرسة التقليبات وترتيبها؛ بل إنهم طوَّعوا الأصول، وأخضعوها لخدمة نظام التقليبات؛ فليس في كل مرةٍ تراعى الأصول.
ولا أدل على ذلك من الباب الأول في جميع معاجم التقليبات، التي بين أيدينا؛ وأعني به (باب الثنائي) إذ وضع فيه - خلا الثنائي- الثلاثيُّ المضعف والرباعي المضاعف وهما ليسا منه بالنظر إلى الأصول.
وأُوردُ بعض الأمثلة مما جاء في باب الثنائي من (باب العين) نحو: العِقَّة والعَقيقة والعَقْعَقَةِ، والعُكَّةِ والعَكْعَكَةِ وعَكَكْتُه، وكَعَّ كَعاً والكَعْكَعَة، وعَجَّ العَجُّ والعَجَّاجُ والعَجْعَجَةِ، وجعَّ يَجُعُّ والجَعْجَعَةِ، وعشَّ يعُشُّ والعَشْعَشَةِ، وشَعَّ الشُّعاعُ والشَّعْشَعَةِ، وعضَّ يعضُّ والعَضْعَضَةِ،
والضَّعِّ والضَّعْضَعَةِ، والعَصِّ والصَّعِّ والصَّعْصَعَةِ، والعسِّ والسَّعِّ والسَّعْسَعَةِ، والعطِّ العطعَطَةِ، والعَدِّ والمعدودِ، والعَتِّ والتَّعِّ والتَّعْتَعةِ، والعَلِّ والتَّعَلُّلِ، والنَّعِّ والنَّعْنَعَةِ، وعَفَّ والعَفَافِ1.
فليس لأحدٍ أن يقول: إنَّ الخليلَ، وابنَ دريدٍ، والأزهريَّ، والصاحبَ ابنَ عبادً، والقاليَّ، ابنَ سيدة، لا يميِّزون الثنائي من الثُّلاثي أو الرُّباعي ومن ثَمَّ يقول: إن الأصول قد تداخلت عندهم؛ فهم يعرفون ذلك حقّ المعرفة وهم أرباب اللغة والصنعة.
ولنستمع إلى قول إمام اللغويين؛ وهو مبتدع هذا التقسيم: الخليل بن أحمد في مقدمة (العين) حيث قال عن الأول: "كلام العرب مبني على أربعة أصناف: على الثنائي، والثلاثي، والرباعي، والخماسي، فالثنائي على حرفين؛ نحو: قد، لَمْ، هل، لو، بل، ونحوه من الأدوات والزجر"2.
وقال: "والثلاثي من الأفعال نحو قولك: ضرب، خرج
…
والرباعي من الأفعال نحو: دحرج"3.
1 ينظر: باب الثنائي من كتاب العين في كلًّ من: العين1/62-95، والجمهرة1/53-172، والتهذيب1/55-123، والمحكم1/19-55.
2 العين1/48.
3 العين1/48.
ثم قال: "الاسم لا يكون أقل من ثلاثة أحرف: حرف يبتدأ به، وحرف يُحْشَى به الكلمة، وحرف يوقف عليه"1. فانظر كيف جعل الأسماء والأفعال لا تقل عن ثلاثة أصول؟
فما سرُّ ذلك إذن؟ إنه يكمن في طبيعة نظام التقليبات؛ الذي ابتدعه الخليل، وسار عليه من أتى بعده، واختار نظامه؛ وأن تقليب الثنائي يعطي صورتين، ويعطي تقليب الثلاثي ستَّ صورٍ، أما الرباعي فيعطي أربعاً وعشرين صورةً، ويعطي الخماسي عشرين ومائة صورة.
بَيْدَ أن الثلاثي المضعَّف يعطي ستَّ صور؛ كالثلاثي الصحيح، إلَاّ أن المستعمل منها اثنان فحسب، أما الأربع الأخرى فمهملة باطِّراد؛ فهو أشبه بالثنائي ليس فيه سوى صورتين مستعملتين باطِّراد؛ فمن ثمَّ أُخْرِج من باب الثلاثي إلى باب الثنائي.
ونحو ذلك الرباعي المضاعف لا يمكن أن يعطي صور الرباعي الصحيح الأربع والعشرين، بل إنه لا يعطي سوى ست صور؛ أربع مهملة دائماً، فيبقى اثنتان؛ فهو أشبه بالثنائي؛ فلا جرم أن يوضع في باب الثنائي؛ كالثلاثي المضعف؛ فالمسالة –إذن- شَكْلِيَّةٌ تطَلَّبها إحصاء المفردات، وتوضيح ذلك في الرسم التالي:
1 العين/49.
توجد رسمة توضيحية
وهذا يؤكد أن وضعهم الثلاثي المضعف والرباعي المضاعف في باب الثنائي لم يكن بسبب تداخل الأصول؛ ولعل هذا التوجيه مما لم يسبق إليه. إن دراسة التداخل في الثلاثي والرباعي والخماسي في مدرسة التقليبات يعترضها شيء من العقبات؛ وذلك أن (تداخل الأصول) كما رأينا- لا يخرج عن أحد أمرين:
أحدهما: التداخل في البناء الواحد.
والآخر: التداخل بين بناءين مختلفين؛ كتداخل الثلاثي مع الرباعي أو الخماسي، وتداخل الرباعي مع الخماسي. أما الأوّل؛ وهو التّداخل في البناء الواحد؛ فإنه –وإن كان يُعَدُّ ظاهرة لغوية- يصعب الوقوف على أثره في بناء الأبواب الثلاثة؛ فليس ثَمَّةَ دليل يهتدى به؛ لأن نظام التقليبات لا يقوم على حصر الكلمة من طرفيها –أولها وآخرها- وما بينهما؛ خلافاً لمدرسة القافية التي ينضبط فيها هذا الأمر بحرفي الباب والفصل. كما أن أثر التداخل بين الواوي
واليائي لا يظهر؛ لضمهما في كتاب واحد، كما لا يظهر التداخل بين المعتل والمهموز؛ لكثرة التسهيل في المهموز؛ فكلمة (أَكَلَ) مثلاً مكانها المعتلّ في أكثر معاجم التّقليبات.
أمّا الثاني؛ وهو التداخل بين بناءين مختلفين؛ كتداخل الثلاثي مع الرباعي أو الخماسي، والرباعي مع الخماسي؛ فإن أثره في بناء مدرسة التقليبات أقلُّ غموضاً مما في الشق الأول؛ وهو –أيضاً- لا يخلو من عقبات، فإنهم قد يساوون بين ما فيه زيادة كـ (الشَّدْقَمِ) وهو الواسع الشدق، و (الزُّرْقُمِ) وهو الرجل الأزرق، و (الحَسْدَلِ) وهو القراد- وما خلا من الزيادة. وذلك يعود إلى طبيعة نظام التقليبات؛ فإن الحرف الزائد في كلمة ما لا يكون كذلك في جميع تقليبات الكلمة، على كل حال، ولا أدل على ذلك من كلمة (الشَّدْقَمِ) فميمها زائدة1 فإن من تقليباتها المستعملة (دِمَشْق) وليست الميم فيها زائدة، ونحو ذلك في (الهِرْمَاسِ) من أسماء الأسد–يذكر في الرباعي؛ على الرغم من نصهم على زيادة ميمه2؛
1 ينظر: الممتع1/240، وسفر السعادة1/314.
2 ينظر: التكلمة للفارسي238، والمنصف1/152، والوجيز في علم التصريف 34، وشرح الملوكي لابن يعيش 162، والإيضاح في شرح المفصل2/383، والملخص2/264.
وذلك أن من تقليباته (ر هـ م س) و (ر هـ س م) إذ يقال: رَهْمَسَ الخَبَرَ ورَهْسَمَهُ 1 بمعنى أتي منه بطرف، والميم فيهما أصلية. فانظر كيف تغير الحكم على الحرف بعد تقليب الكلمة؛ فيكون الزائد أصلياً، وربما يكون الأصلي زائداً؛ كما حدث في كلمة (رَهْمَسَ) فالميم عادت –هنا- أصلية، وقد كانت زائدة في (الهِرْمَاسِ) ، والهاء أصبحت زائدة في (رَهْمَسَ) 2؛ وقد كانت أصلية قبل القلب.
ومن ثمَّ لم يحسن أن يقال: إن الأصول تداخلت لديهم؛ فوضعت الكلمة في غير موضعها.
والحق أنَّ الفرق بين المدرستين واضح؛ فمدرسة القافية تعتمد –في بنائها- على الأصول؛ فمن ثم يستطيع الباحث أن يحكم بالتداخل إذا وجده؛ بينما لا تعتمد مدرسة التقليبات على الأصول في كل أحوالها؛ ولذا تمّ إبعاد مدرسة التقليبات عن هذه الدّراسة.
فيبقى لنا –خلا مدرسة القافية- مدرسة الصدر؛ وهي –أيضاً- مستبعدة لسببين:
1 ينظر: اللسان (رهمس) 6/103.
2 ينظر: شرح لامية الأفعال لبحرق56.
الأوّل: أن هذه المدرسة تُقَيِّدُ الكلمة من أولها؛ بينما تقيد مدرسة القافيةُ الكلمةَ من طرفيها بنظامي الباب والفصل؛ فأدى ذلك إلى تقييد صارم للكلمة في مدرسة القافية؛ فتكون الزيادة الواقعة في لام الكلمة - بسبب نظام الباب - أكثرَ ظهوراً، وأدقَّ ضبطاً.
ومهما يكن من أمرٍ فإنه لا يوجد من معاجم مدرسة الصدر ما يستوعب دراسةً كهذه؛ فمن أشهر معاجم هذه المدرسة (الجيم) للشيباني، و (مجمل اللغة) و (مقاييس اللغة) لابن فارس، و (المنتهى) للبرمكي، و (أساس البلاغة) للزمخشري، و (المغرِب) للمطَرِّزي، و (المصباح المنير) للفَيُّومي.
فـ (الجيم) لم يراعِ ما بعد الحرف الأول، ولم يجرد الكلمات من الزوائد، و (المنتهى) مفقود، وأما (مجمل اللغة) و (مقاييس اللغة) فإن لابن فارس فيهما مذهباً خاصاً –كما مرَّ بنا 1 فلا يظهر –بسببه- أثر تداخل الأصول في الرباعي والخماسي، إذا جمع بين الرباعي والخماسي في باب واحد، وذكرهما مدموجين بلا ترتيب ولا تجريد من الزوائد، وعمدته
1 ينظر: ص (68) من هذا البحث.
فاء الكلمة فحسب؛ فجاء عنوان هذا الباب من كلّ حرف، كما يلي: (باب ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف أوله
…
) 1.
ومثال ذلك ما جاء في باب الغين؛ أورِدُه –هنا- بترتيب ابن فارس2؛ وهو: (الغَطَمَّشُ) و (الغَمَلَّجُ) و (الغُضْرُوفُ) و (الغَطْرَسَةُ) و (الغَطْرَفَةُ) و (الغِطْرِيفُ) و (الغَذْمَرَةُ) و (الغَضَنْفَرُ) و (المُغَثْمَرُ) و (غَرْدَقْتُ) و (الغُرْنُوقُ) و (الغَلْفَقُ) و (اغْرَندَاهُ) .
غير أن لابن فارس مذهباً فريداً من الممكن أن يستفاد منه في دراسة ظاهرة تداخل الأصول بشكلها العام، وسأكشف عن ذلك في الباب الأول –إن شاء الله.
الثاني: أن المعاجم الثلاثة المتبقية – وهي: (أساس البلاغة) و (المغرب) و (المصباح المنير) - تبدو صالحة للدراسة في هذا البحث، على الرغم مما أشرت إليه من قبل3 إلَاّ أنها - في واقع الأمر - غير صالحة من الناحية التطبيقية لدراسة أثر (تداخل الأصول) فيها؛ فأكبر هذه المعاجم الثلاثة –وهو (أساس البلاغة) صغير الحجم قليل المادة؛ فلا يكاد يعدل جزءاً واحداً
1 المقاييس 1/328،264،403،505،2 /52،158، 272، 349، 401، 457، 476، 3/143، 248، 337، 371، 509، 4 / 357، 430، 513، 5/11، 193، 265، 352، 483، 6/71، 160.
2 ينظر: المقاييس4/430-432.
3 ينظر: ص (68) من هذا البحث.
من أجزاء (لسان العرب) لأن لكل من هذه المعاجم الثلاثة هدفه الخاص به؛ فلا يوجد في هذه المدرسة معجم يهدف إلى الجمع العام للغة كمعاجم القافية، فـ (أساس البلاغة) يهدف إلى المجاز اللغوي، و (المُغْرِب) اختصار لكتاب (المُعْرِب) للمُطَرِّزي نفسه، وهو مفقود 1 و (المصباح المنير) تفسير لغوي موَسَّعٌ لغريب الشرح الكبير للرافعي، أضاف إليه زيادات قليلة. فيبقى لنا كبرى المدارس المعجمية مدرسة القافية، ومن خلالها يظهر أثر (تداخل الأصول) في أجلى صورة.
1 ينظر: المغرب 1/10، 19.