الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - الخوف والرجاء
الخوف والرجاء جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محدود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء إلا أزمة الرجاء، ولا يقصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف فلا بد إذاً من بيان حقيقتهما وفضيلتهما وسبل التوصل إلى الجمع بينهما والله الموفق للخيرات الهادى لأعلى الدرجات.
أ - الرجاء
هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده.
وإذا كانت الأسباب غير موجودة فاسم الغرور والحمق عليه أصدق، وإذا كان الأمر مقطوعاً فلا يسمى رجاء إذ لا يقال: أرجو طلوع الشمس، ولن يمكن أن يقال: أرجو نزول المطر.
وقد علم علماء القلوب: أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض والإيمان كالبذور فيها، والطاعة جارية مجرى تقليب الارض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها.
والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التى لاينمو فيها البذر، ويوم القيامة هو الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو بذر إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب، وسوء أخلاقه، وكما لاينمو بذر فى أرض سبخة فينبغى أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء
صاحب الزرع، فكل من طلب أرضاً طيبة، وألقى فيها بذراً طيباً غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه فى أوقاته، ثم نقى الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذرة أو يفسده، ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة، إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، سُمى انتظاره رجاءاً، وإن بث البذر فى ارض صلبة سبخة مرتفعة لا تصل إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً ثم انتظر الحصاد منه، سُمى انتظاره حمقاً وغرواً لا رجاءاً.
فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختيار العبد، وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات، فالعبد إذا بذر الإيمان، وسقاه بماء الطاعات، وطهّر قلبه من شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره رجاءاً حقيقياً.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: الآية 218).
يعنى أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله، وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضاً قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء.
ومن كان رجاؤه هادياً له إلى الطاعة، زاجراً له عن المعصية، فهو رجاء صحيح، ومن كان رجاؤه داعياً له إلى البطالة والانهماك فى المعاصى فهو غرور.
ومما ينبغى أن يُعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
الأول: محبة ما يرجوه.
الثانى: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه فى تحصيله.
أما رجاء لا يقارنه شىء من ذلك فهو من باب الأمانى، والرجاء
شىء والأمنى شىء آخر.
وكل راجِ خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة "(1).
(1) رواه الترمذى (10/ 227) صفة القيامة، وقال: حديث حسن غريب، والحاكم (4/ 308) الرقاق، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى والألبانى. ومعنى أدلج: أى صار من أول الليل، والمعنى: أن من خاف ألزمه الخوف السلوك إلى الآخرة والمبادرة بالأعمال الصالحة خوفاً من القواطع والعوائق.