الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 - التوبة
التوبة من الذنوب بالرجوع إلى ستّار العيوب، وعلاّم الغيوب، مبدأ طريق السالكين، ورأس مال الفائزين، وأول إقدام المريدين، ومفتاح استقامة المائلين، ومطلع الأصطفاء، والاجتباء للمقربين.
ومنزل التوبة أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقها العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه، ونزل به، فالتوبة هى بداية العبد ونهايته، وقد قال تعالى:
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: من الآية 31)
وهذه الآية فى سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم، وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة وأتى بكلمة " لعل" إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم، وقال تعالى:{وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: من الآية 11)
فقسم العباد إلى: " تائب " و " ظالم " وليس ثم قسم ثالث، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله، وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إنى أتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة "(1).
والتوبة هى: رجوعُ العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم
(1) تقدم تخريجه ص (44).
والضالين.
وشرائط التوبة ثلاثة: إذا كان الذنب فى حق الله عز وجل.
وهى: " الندم " و " الاقلاع"، و " العزم على عدم العودة ".
فأما الندم فإنه لا تتحقق التوبة إلا به إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضائه به وإصراره عليه، وفى المسند:"الندم توبة ".
واما " الإقلاع" فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب.
والشرط الثالث: هو: " العزم على عدم العودة " ويعتمد أساساً على اخلاص هذا العزم والصدق فيه، وشرط بعض العلماء عدم معاودة الذنب وقال: متى عاد إليه تبينّا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة والأكثرون على أن ذلك ليس شرطاً، أما إذا كان الشرط متضمناً لحق آدمى فعلى التائب أن يصلح ما أفسد، أو يسترضى من أخطأ فى حقه، لما ثبت (1) عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كان لأخيه عنده مظلمة من مال، وعرض فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات". (2)
فهذا الذنب يتضمن حقين: حق الله وحق الآدمى، فالتوبة منه بتحلل الآدمى لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.
وهناك بعض التوبات الخاصة نذكر منها بعون الله تعالى ما يلى: إذا كانت المظلمة بقدح فى الآدمى بغيبة، أو بقذف، فهل يُشترط إعلامه؟
مذهب أبى حنيفة، ومالك اشترطوا الإعلام، واحتجوا بالحديث السابق، والقول الآخر: أنه لايشترط الإعلام، بل يكفى توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب أو المقذوف فى مواضع غيبته، أو قذفه بضد ما ذكره به،
(1) رواه أحمد (1/ 376)، والحاكم (4/ 243) وصححه، ووافقه الذهبى.
(2)
رواه البخارى (5/ 101) المظالم، والترمذى (9/ 254) صفة القيامة.
ويستغفر له، وهذا اختيارشيخ الإسلام ابن تيمية، احتج لذلك بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوحبه أو يأمر به.
أما توبة من اغتصب مالا فعليه رد هذا المال لأصحابه، فإن تعذر عليه رده لجهله بأصحابه، أو لانقراضهم، أو لغير ذلك فعليه أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها، فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان له الخيار بين أن يجيزوا مافعل، وتكون أجورها لهم، وبين ألا يجيزوا ويأخذوا من حساناته بقدر أحوالهم ويكون ثواب تلك الصدقة له إذا لا يبطل الله سبحانه ثوابها.
فقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه اشترى من رجل جارية ودخل يزن له الثمن فذهب رب الجارية، فإن رضى فالأجر له وإن أبى فالأجرلى وله من حسناتى بقدره.
وأما توبة من عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العِوض كبائع الخمر والمغنى وشاهد الزور ثم تاب والعوض بيده: فقالت طائفة يرده إلى مالكه إذ هو عينُ ماله، ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه فى مقابلته نفعٌ مباح، وقالت طائفة - بل وهو أصوب القولين -:بل توبته بالتصدق به وكيف يرد إلى دافعه مالاً استعان به على معاصى الله؟ وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدرالحرام ويطيب باقى ماله والله أعلم.
مسألة: إذا تاب العبد من الذنب هل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التى حطه عنها الذنب أو لا يرجع إليها؟
قالت طائفة: يرجع إلى درجته لأن التوبة تجب الذنب بالكلية وتصيره
كأن لم يكن.
وقالت أخرى: لايعود إلى درجته وحاله لأنه لم يكن فى وقوف، وإنما كان فى صعود، فبالذنب صار فى هبوط، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذى كان مستعداً به للترقى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح: أن من التائبين من لايعود إلى درجته، ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيراً مما كان قبل الذنب، وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، وهنا مثلٌ مضروب: رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمْن فهو يعدو مرة ويمشى أخرى، ويستريح تارة وينام أخرى فبينما هو كذلك إذ عرض له فى سيره ظل ظليل، وماء بارد ومقيل، وروضة مزهرة، فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن فنزل عليها، فوثب عليه منها عدو فأخذه وقيده ومنعه عن السير، فعاين الهلاك وظن أنه منقطع به، وأنه رزق الوحوش والسباع، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذى يؤمه، فبينما هو على ذلك تتقاذفه الظنون، إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر فحل كتافه وقيوده، وقال له: اركب الطريق واحذر هذا العدو فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد، واعلم أنك ما دمت حاذراً منه متيقظاً له لايقدرعليك فإذا غفلت وثبت عليك، وأنا متقدمك إلى المنزل وفرط لك فاتبعنى على الأثر، فإذا كان هذا السائر كيساً فطناً لبيباً حاضر الذهن والعقل استقبل سيره استقبالا آخر أقوى من الأول، وأتم وأشتد حذره وتأهب لهذا العدو، وأعد له عدته، فكان سيره الثانى أقوى من الأول وخيراً منه ووصوله إلى المنزل أسرع وأن غفل عن عدوه، وعاد إلى مثل حاله الأول من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد، عاد كما كان، وهو معرض لما عرض له أولاً، وإن أورثه ذلك توانياً فى سيره وفتوراً، وتذكراً لطيب مقيله وحسن ذلك الروض أو عذوبتة مائه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان.