الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب التأريخ العام
تشمل هذه الكتب المصنفات التي تعنى بتأريخ العرب وغير العرب من الأمم والشعوب والتي يصح أن يطلق عليها (كتب تأريخ العالم) ، وذلك لأنها تتناول في بداية حديثها أخبار الخليفة والأنبياء والأمم السالفة، ثم الانعطاف بعد ذلك بالحديث عن أحوال العرب والدول المجاورة لهم قبيل الإسلام، جاعلة هذه المصنفات حديثها هذا عن أحوال هذه الأقوام والشعوب مقدمة لتأريخ الإسلام، إذ تنعطف بعد ذلك للحديث عن أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبدء الدعوة الإسلامية وما تبعها من حوادث والانتهاء بالحديث إلى ذكر حادثة هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، عادة تلك الحادثة حدا فاصلا بين حقبتين حضاريتين، لتختص تلك المصنفات بعد ذلك بالحديث عن الحوليات الإسلامية وما جرى فيها من حوادث «1» .
اتخذ كتاب التأريخ العام في توثيقهم لحوادث التاريخ الإسلامي منهجين:
الأول: منهج حولي يعتمد على إيراد حوادث كل سنة على حدة وإن تجزأ الحدث المتداخل بين السنوات، والثاني: منهج موضوعي يعتمد على إيراد الحوادث متسلسلة ولكن على وفق الموضوعات وليس السنوات، وذلك بجعلهم الموضوع عنوانا والسنوات أو الحوادث التابعة له متنا «2» .
(1) حاطوم، نور الدين وآخرون مدخل إلى التأريخ، مطبعة الإرشاد، دمشق، 1964، ص 286.
(2)
ينظر، روزنثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 101- 102، 422.
هذه هي اتجاهات كتابة التأريخ العام، والمناهج التي كتب فيها عند المؤرخين المسلمين، إذ كانت وراء هذا المنحى الكتابي أسباب عديدة من بينها: نشاط حركة التنقل بين الأقاليم والأمصار الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى إنعاش الفكرة العالمية، وتوسع دائرة اهتمام بعض العلماء والمؤرخين فلم يقتصر اهتمامهم على دراسة حادثة أو شخص أو عشيرة أو مدينة بل حوت دراساتهم العالم الإسلامي كله، ومن البديهي أن تكون هذه النظرة العالمية شاملة عند المهتمين بدراسة الإسلام وعلومه، نظرا لأنه دين عالمي بطبيعته وواسع الانتشار بواقعه، فأنتجت عقلية هؤلاء المسلمين تلك التواريخ العالمية الأولى «3» ، ووجد باحث آخر بعد أن عرض مرحلة التغيير الجذري في التصنيف عند العلماء المسلمين في القرن الثالث الهجري، أنه قد حدث في هذا القرن تطور كبير في الكتابة التأريخية حيث ظهر المؤرخون الكبار الذين أفادوا كثيرا من كتب الأخبار، فأعادوا تنظيم مادتها وترتيبها في مصنفات كبيرة سميت ب (كتب التأريخ) ، وقد تميزت بشمولها لأحداث الدولة الإسلامية من دون الاقتصار على أقاليم بعينها كما تميز معظمها باتباع نظام الحوليات «4» .
يبين لنا هذا الكلام الواقع الذي فرض على المؤرخ الإسلامي بأن يأخذ في نظر الاعتبار تسليط الضوء على أرجاء المعمورة التي وصلت إليها راية الإسلام؛ ولكن باحثا آخر بين أن هذه العملية (كتابة التأريخ العالمي) هي وليدة حالة سابقة لها أو متمخضة عنها، إذ يقول: " إن مجرد فكرة التنظيم على السنين،
(3) ينظر، روزنثال، المصدر نفسه، ص 183- 184، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 57- 60.
(4)
ينظر، مصطفى، تأريخ العرب والمؤرخون، 1/ 202- 204.
ونقل المادة التأريخية يتطلب وجود حركة ترجمة أو على الأقل توفر مجال لعلماء المسلمين بالظفر بمعرفة واسعة بالكتب التأريخية الأجنبية" «5» .
يعطينا هذا الرأي السبب وراء تأخر ظهور مثل هذه الكتب إلى القرن الثالث الهجري لأن أول ترجمة منظمة للمعارف الإنسانية من الأمم الأخرى قد حصلت في عصر المأمون (198- 218 هـ) بعد جهود منفردة كانت تتسم بالتذبذب وعدم الانتظام، واقتصرت هذه الجهود على جوانب محددة تبناها بعض الخلفاء الأمويين ومن ثم العباسيين وأولادهم، ولكن تلك الجهود لم تبلغ الشأن الذي وصلته في عصر المأمون «6» .
بعد هذا العرض الموجز عن كتابة التأريخ العام عند المؤرخين المسلمين والمناهج المعمول بها، نرى أن هذا النوع من الكتابة التأريخية قد أعطاه المسلمون من الأهمية شيئا كثيرا؛ إذ توضح لنا الفهارس التي ذكرت أسماء هذه الكتب سواء أكانت مختصرة أم مفصلة أنها من الكثرة بحيث يتعذر علينا إيرادها كلها «7» ، وذلك لأن ما طبع منها لا يغطي هذه القوائم كلها، وأما ما بقي منها مخطوطا فهو من الندرة بمكان بحيث لا نستطيع الوصول إليه ولا سيما في الظروف الراهنة، وإن وصل بعضها إلى أيدينا فلا يكون بعدد ما فقد من تراثنا الفكري.
(5) روز نثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 105.
(6)
الجميلي، رشيد، حركة الترجمة في المشرق الإسلامي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، ص 31- 34.
(7)
ينظر، السخاوي، الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، ص 301- 314، 318- 332، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 276- 281.
وجدت السيرة النبوية في خضم هذه الكتب مكانا عظيما لها، فكانت تشغل في معظمها حيزا متباينا؛ فتارة تكون مفصلة وأخرى مختصرة وثالثة متناسبة طرديا مع حجم الكتاب الذي دخلت فيه، فحين يكون الكتاب مختصرا فمن دون شك تكون السيرة مقتضبة وموجزة والعكس صحيح أيضا.
وقبل ذكر هذه المصنفات ودورها في كتابة السيرة، نؤكد أن كل مصنّف من مصنفي هذه الكتب قد نحا في مصنفه منحا مغايرا لسابقيه، أو مشابها لهم في مكان ومختلفا معهم في مكان آخر. وأتخذ منهجا موحدا في عرض حوادثه، لذا فان كل ملاحظة نسجلها لكل مصنّف من هذه المصنفات على أنها جوانب تطورية بكتابة السيرة ضمن كتب التأريخ العام هي ملاحظة تشمل باقي أقسام الكتاب؛ ولكن الجانب المهم في الموضوع هو التقاط هذه الملاحظات التي هي جوانب تطورية وتوضيح لتأثر باقي مصنفات المؤرخين سواء أكانت كتب تأريخ عام أم غيرها بكل مصنف من المصنفات التي سبقتها عند عرضهم سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما سنلاحظ.
أما المصنفات التي وصلت إلينا في التأريخ العام فهي:
1.
كتاب التأريخ لخليفة بن خياط العصفري (ت 240 هـ) : * ولد هذا المؤرخ ونشأ في البصرة من بيت علم وتتلمذ على العديد من علماء عصره ونال مكانة سامية في نفوس العلماء والناس واصبح محل ثقتهم، إذ
(*) كتب الدكتور فاروق عمر فوزي دراسة مستقلة عن خليفة بن خياط ومنهجه عنوانها (خليفة بن خياط) ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988.
تضلع في الحديث وبرع في التواريخ وأيام الناس وأنسابهم، ولأجل ذلك كانت مصنفاته محل تقدير وإعجاب من اطلع عليها «8» .
صنف ابن خياط كتابا في التأريخ العام عدّه بعض الباحثين من أقدم الكتب التي وصلت إلينا في هذا الجانب «9» .
خصص ابن خياط في كتابه هذا حيزا كبيرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله «10» مقارنة بحجم الكتاب البسيط وأوراقه اليسيرة التي تحدثت عن الحوادث التي تلت السيرة إلى عصر المؤلف «11» .
أسهمت هذه السيرة التي حواها هذا الكتاب في تطور كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام وباقي المصنفات التي خصصت للسيرة سواء أكانت مستقلة أم مدمجة وهذه الجوانب هي:
1.
عدّ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم البداية التي افتتح بها كتابه «12» ، إذ لم يسلط الضوء على الحقبة التأريخية التي شبقت عصر الرسالة المتمثلة بتأريخ الأنبياء وأخبار الأقوام البائدة وأيام العرب وأنساب قبائلهم، كما فعلت المصادر التي شاطرته المنحى والموضوع «13» .
(8) ينظر، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 2/ 15، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 436، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 3/ 160- 161.
(9)
العلي، صالح مقدمة تحقيق كتاب التأريخ لابن خياط، ص 11، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 235- 236.
(10)
ينظر، التأريخ، تحقيق أكرم العمري، المجمع العلمي العراقي، مطعة الاداب، النجف، ط 1، 1967، ص 8- 64.
(11)
ينظر، المصدر نفسه، ص 64- 520.
(12)
ينظر، المصدر نفسه، ص 5- 8.
(13)
ينظر، الدينوري أبو حنيفة، الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، وزارة الثقافة، مصر، ط 1، 1960، ص 1- 73/
وهذا المنحى من قبل ابن خياط يثير الاستغراب والتساؤل عن السبب الذي أدى به إلى إغفال هذه الأمور؛ إذا ما علمنا أن المصادر التي ترجمت حياته ذكرت تضلعه الواسع في أيام الناس وأنسابهم «14» ، وقد انبرى أحد الباحثين لتبيان وجهة نظره حول السبب الذي من أجله عزف ابن خياط عن ذكر الحقب التأريخية التي سبقت عصر الرسالة؛ إذ أشار إلى أن ابن خياط كان مدركا للهدف الذي أراد منه كتابة تأريخه، وذلك بجعله البدء بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بداية التأريخ العربي أو من تأريخ هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة «15» .
2.
إتباع المنهج الحولي في إيراد حوادث السيرة «16» ، وذلك حين أورد تلك الحوادث بحسب أسبقيتها التأريخية، ولكن هذا المنهج قد علقه جانبا عند حديثه عن عمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشريف «17» ، وعند حديثه أيضا عن عماله ورسله وكتابه «18» ، وكانت الغاية من تعليقه لهذا المنهج عند ذكره لهذه المواضيع هو انها لا تصلح بالإيراد على وفق الحوليات بطبيعتها المستقلة في العرض.
لم يقتصر في عرضه الحوادث التي حصلت في السنوات التي شملت حياة الرسول من هجرته المباركة إلى المدينة حتى وفاته بل تعدى ذلك إلى إيراد بعض
(14) ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 436، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 3/ 160- 161.
(15)
ناجي، عبد الجبار، إسهامات مؤرخي البصرة في الكتابة التأريخية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987، ص 179- 180.
(16)
ينظر، التأريخ، ص 11- 58.
(17)
ينظر، المصدر نفسه، ص 59- 60.
(18)
ينظر، المصدر نفسه، ص 61- 67.
الحوادث التي حصلت في بلاد فارس والتي حدثت في سنوات السيرة نفسها «19» .
وهذا مما يدل على أن ابن خياط لم يقتصر بحديثه على تأريخ المسلمين والحوادث التي جرت في بلاده بل خرج من هذه الدائرة إلى التعرض لحوادث حصلت في أقاليم مجاورة في بلاد الإسلام في تلك المدة.
كان إتباع ابن خياط لهذا المنهج بهذه الوتيرة لكل حوادث التأريخ الإسلامي ابتداء من سيرة الرسول وانتهاء بحوادث عصره، لم يكن وليد الساعة بل هو نتيجة لتجارب مسبقة من هذا المنط بالكتابة التأريخية «20» .
3.
إيراد أسماء بعض الأعلام الذين ولدوا أو توفوا في بعض السنوات التي تعرض لحوادثها «21» ، وهذا الأمر يعد فاتحة لمن أتى بعده من الذين اهتموا بإيراد أسماء الوفيات في حوادث كل سنة تعرضوا لذكر حوادثها «22» .
4.
التوفيق بين ما إنتهجه المحدثون والإخباريون في عرض الحوادث التأريخية، وذلك أنه يسند الخبر إذا تعلق الأمر بحادثة اختلفت فيها الروايات «23» ، علما أنه يسترسل في ذكر بعضها من دون الإشارة إلى من ذكر هذه الحادثة من الرواة
(19) ينظر، المصدر نفسه، ص 41، 57- 58.
(20)
ينظر، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 236.
(21)
ينظر، التأريخ، ص 12، 24- 25، 41، 56، 57، 58.
(22)
ينظر، البخاري، التأريخ الكبير، 1/ 1، ص 7- 11، ابن الجوزي، المنتظم، مجلد 2، ورقة 143، مجلد 3، ورقة 29، 51، 65، 67، 82، 118.
(23)
ينظر، التأريخ، ص 8- 11، 44، 50- 51، 52- 53، 57، 59- 61.
والمصنفين «24» ، إتكالا منه على إيراده مصادره المكتوبة والمسموعة أثناء حديثه «25» .
وهذا التوفيق بين هذين المنهجين نابع من كونه محدثا له مكانته بين المحدثين «26» ، ومؤرخا له الباع الطويل في أيام الناس وأنسابهم «27» .
شكل هذا المنحى الذي نحاه خليفة بن خياط والذين ساروا على منواله من معاصريه مرحلة انتقالية في الكتابة التأريخية تمثلت بوضع الأسس والثوابت الأولى لها، ولا سيما في طريقة عرض الخبر التأريخي والطرائق التي يعرف بها الناس، وذلك لعدم وجود مثل هذه الأمور على هذه الكيفية في المدونات السابقة له «28» .
5.
عزف ابن خياط عن إيراد معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ودلائل نبوته أو التعرض لها ضمن الحوادث التي حصلت فيها ولم يقتصر هذا العزوف على هذا الجانب فقط بل تعداه إلى إغفال شمائله وصفاته التي اتصف بها صلى الله عليه وآله وسلم في الحوادث التي ذكرها عن عصر الرسالة وأثر شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها، علما أن معاصرا له وهو ابن سعد قد أشبع هذه الجوانب حديثا حتى ألفت حيزا كبيرا من القسم الذي خصصه لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه الطبقات «29» .
(24) ينظر، التأريخ، ص 39، 41، 53، 56، 62- 63.
(25)
ينظر عن مصادر خليفة في كتابه التأريخ ومدى استعمالها فيه، العمري، أكرم، مقدمة تحقيق كتاب التأريخ، ص 26- 45.
(26)
ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 436.
(27)
ينظر، ابن الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب، 2/ 140، ابن كثير، البداية والنهاية، 10/ 322.
(28)
ينظر، مصطفى، شاكر، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 276.
(29)
ينظر، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 99- 111، 113- 126.
ويبدو أن سبب عزوف ابن خياط عن تعرضه لمعاجز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودلائل نبوته وشمائله نابع من كون كتابه التأريخ يهتم بإيراد حوادث تأريخية على وفق سبقها الزمني ابتداء من هجرة الرسول إلى رحيله إلى الرفيق الأعلى مع الإشارة إلى أن هذه الأمور [دلائل النبوة وعلاماتها والشمائل والأخلاق] هي أمور معنوية والتوثيق التأريخي لها على وفق الحوليات أمر يحتاج إلى وقفة لعدم دقة المعلومات التي وصلت إلى المؤلف عن وقت حصول المعجزة أو دلائل النبوة مع بيان أن هذه الأمور قد حصل بعضها قبل الرسالة وهو جانب قد اختصر فيه ابن خياط «30» .
فلو أن ابن خياط اشفع سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي أوردها في كتابه بهذه الأمور لكان من الحجم والسعة ما فاق به حجمه الحالي كثيرا، ولكان هناك فارق وتباين ظاهر بين نسق الكتاب الذي تم اختزال الحوادث فيه والحيز الذي خصص للحديث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مع العلم أن ابن خياط كان يرمي إلى ضغط واختزال المعلومات التي يثبتها في مصنفاته «31» ، وهذا ما أشار إليه أحد الباحثين أن خليفة أراد تقديم مصنف يشمل استعراضا لحوادث التأريخ الإسلامي على وفق تتابع السنوات ابتداء من هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حتى سنة تصنيفه الكتاب بأسلوب مبسط ومختزل لتفاصيل الحوادث التي يعرضها فيه «32» .
(30) ينظر، التأريخ، ص 8- 11.
(31)
ينظر، العمري، مقدمة تحقيق التأريخ، ص 26.
(32)
ينظر، التاريخ، ص 11- 58.
هذه هي الجوانب التي اضفاها خليفة بن خياط على كتابه السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام.
وقبل نهاية الحديث عن دور ابن خياط في تطور كتابة السيرة، تجب الإشارة إلى أن المؤرخين الذين كتبوا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمختلف طرائق كتابتها قد أغفلوا المعلومات التي أوردها ابن خياط عن السيرة إذ لم يعتمدوا عليه في كتبهم أو سلاسل إسناد الروايات التي تخص السيرة؛ وهذا الأمر راجع إلى طبيعة الكتاب في استعراض الحوادث موجزة ومقتضبة من جانب، واتكاله على سيرة ابن إسحاق حين يثبت معظم حوادث السيرة من جانب آخر «33» ؛ وهذان الأمران قد ولدا عزوفا عند من أتى بعد ابن خياط من المؤرخين الذين لم يلمسوا في كتابه إضافة نوعية في حوادث لم يكن له فيها فضل سوى نقلها من كتاب متوافر بين أيديهم آنذاك، وبطرائق كثيرة «34» .
2.
كتاب التأريخ لأحمد بن إسحاق اليعقوبي (ت 292 هـ) *:
هو أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح الإخباري العباسي، أحجمت المصادر عن إعطاء ترجمة مفصلة له وكان ذلك مدعاة لعدم معرفتنا بأحواله «35» .
(33) ينظر، المصدر نفسه، ص 12، 23، 32، 39، 41، 48، 54.
(34)
عن انتشار سيرة ابن إسحاق والطرق المتعددة لروايتها، ينظر، الطرابيشي، رواة محمد بن إسحاق، ص 72- 463.
(*) كتب ياسين إبراهيم الجعفري دراسة مستفيضة عن اليعقوبي ومنهجه في كتابة التأريخ ووصف البلدان، ينظر، اليعقوبي، المؤرخ والجغرافي، دار الرشيد، بغداد، 1980.
(35)
ينظر، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 5/ 153- 154.
صنف اليعقوبي كتابا في التأريخ العام ابتدأه بالحديث عن الأمم الغابرة وتأريخ الأنبياء والأقوام التي سكنت الجزيرة العربية قبل الإسلام «36» ، ثم انعطف إلى الحديث عن التأريخ الإسلامي وحوادثه ابتداء من ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى أيام المعتمد العباسي (256 هـ)«37» .
كان لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مكان رحب في هذا الكتاب «38» ؛ الذي كتبه بعدما وجد هنالك تعارضا ملحوظا بين الرواة باستعراض الحوادث التأريخية فأراد به إيجاد مصنف يوفق بين هذه الروايات المتعارضة، وهذا ما وضحته مقالته التي مفادها:" ألفنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدمون من العلماء والرواة وأصحاب السير والأخبار والتاريخيات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصنفه ونتكلف منه ما قد سبقنا عليه من غيرنا، لكنا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأنا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمال وزاد بعضهم ونقص بعض فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم"«39» .
هذا هو الهدف الذي حدا باليعقوبي الى كتابة تأريخه هذا، مما عدّ ذلك تطورا ملحوظا في كتابة التأريخ العام «40» ، وذلك للجوانب التي أضفاها على هذا المنحى في كتابة التأريخ والتي لم نألفها في المصنفات التي تقدمته؛ إذ شملت هذه
(36) ينظر، التأريخ، 1/ 1- 238.
(37)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 4- 241، 3/ 4- 247.
(38)
ينظر، التأريخ، 2/ 6- 111.
(39)
المصدر نفسه، 2/ 5.
(40)
ينظر، الجعفري، اليعقوبي المؤرخ والجغرافي، ص 61.
الجوانب محاور عدّة فشملت أجزاء الكتاب كله تارة وخص بها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تارة أخرى، أما الجوانب التي شملت أجزاء الكتاب كله فهي:
1.
بروز الأثر الديني والمذهبي في مروياته في هذا الكتاب؛ إذ لمسنا هذا الأثر من استعراض مشايخه في الرواية التي ينتهي طرق إسناد بعضها، ولا سيما قسم السيرة إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق (ت 148 هـ) وآبائه «41» ، وما ذلك إلا لكونه شيعيا إماميا كما قطعت بذلك إحدى الدراسات «42» .
اسهم هذا الجانب الذي أمتاز به اليعقوبي وكتابه التأريخ في وجود روايات لم تذكرها المصادر التي تقدمته بسبب عدم اعتماد تلك المصادر على الطريق الذي سلكه اليعقوبي في الرواية والذي أشار إليه في مقدمته بقوله: " وكان ممن روينا عنه في هذا الكتاب: إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي عن أشياخه بني هاشم، وأبو البختري ووهب ابن وهب القرشي عن جعفر بن محمد وغيره من رجاله، وإبان بن عثمان عن جعفر بن محمد
…
" «43» ، فمن تلك الروايات:
ذكره لحادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مشفوعة بوقت الولادة وأوانها إذ يقول: " وقال من رواه عن جعفر بن محمد [كان مولده صلى الله عليه وآله وسلم] يوم الجمعة حين طلع الفجر لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان"«44» ، كذلك ذكره لوقت وفاة والد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عبد المطلب بأنه كان بعد شهرين من مولده على ما رواه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام «45» ، وغير ذلك من الروايات
(41) ينظر، التأريخ 2/ 6، 8، 19، 29، 37.
(42)
الجعفري، اليعقوبي المؤرخ والجغرافي، ص 29- 30.
(43)
التأريخ، 2/ 5.
(44)
المصدر نفسه، 2/ 6.
(45)
المصدر نفسه، 2/ 8.
الكثيرة في هذا الكتاب التي أنفرد في ذكرها ولم يتعرض لها أحد من الذين سبقوة والذين وصلت كتبهم إلينا المتضمنة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله «46» .
ومع وجود هذا الجانب الذي أمتاز به كتاب اليعقوبي هذا؛ فإن ذلك لم ينعكس على موضوعيته بحيث يجعل نفسه تميل ميلا يجافي الحقيقة أو يستعمل عبارات يستشف منها التعصب والتحامل على باقي الروايات المتعارضة مع ما يعتقده من أفكار، ولأجل ذلك وصفه الدوري بالقول:" بأنه كان متزنا ودقيقا في أخباره"«47» .
2.
استعمال المنهج الموضوعي في كتابة التأريخ مع حذف طرق الإسناد من الروايات التي وردت في هذا الكتاب «48» .
علل الدوري بروز هذا المنحى عند اليعقوبي في كتابة التأريخ بالقول: " أن النظرة إلى الأسانيد التأريخية الهامة قد استقرت قبله لذلك فانه يكتفي بذكر مصادره في مقدمة قسمه الثاني"«49» .
حدد روزنثال مكان السيرة من هذا المنهج المتبع والتطور الذي أكسبه اليعقوبي لكتابه التأريخ ضمن مصنفه هذا إذ يقول في ذلك: " وقد دون سيرة الرسول بالأسلوب المألوف حيث روى فيها عدة أخبار مرتبة ترتيبا زمنيا ما أمكنه ذلك وهي حياته قبل الإسلام، الغزوات، أما الموضوعات التي لا يمكن ترتيبها كذلك كأسماء زوجات النبي أو الفرائض الإسلامية فقد وضعها بعد
(46) ينظر، التأريخ، 2/ 13، 18، 39- 40، 53، 57، 75، 102.
(47)
بحث في نشأة علم التأريخ، ص 58.
(48)
الجعفري، اليعقوبي ص 60.
(49)
بحث في نشأة علم التأريخ، ص 22.
كلامه عن تأريخ النبوة ولكن قبل كلامه عن حجة الوداع ووفاة الرسول أما باقي الكتاب فهو تأريخ خلافة كل خليفة ويبحثها عن إنفراد" «50» .
هذا هو المنهج الذي اتبعه اليعقوبي في كتابه التأريخ والذي عدّ منهجا جديدا لتحرره من نمطية المنهج الحولي في إيراد حوادث كل سنة على حدة، وإحلال الكتابة على وفق المواضيع محله باستعمال الكتابة المرسلة الخالية من طرق الإسناد، فكانت محاور السيرة مقسمة لأجل ذلك على وفق الحوادث التي جرت فيها «51» .
كان لهذا العامل الذي أتبعه اليعقوبي أثر واضح في المصنفات التي تلته «52» .
3.
إيراد طوالع النجوم* في ذكر الحوادث الكبرى مثل ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «53» ، المبعث «54» ، الهجرة «55» ، الوفاة «56» .
علل أحد الباحثين اتجاه اليعقوبي في إيراد طوالع النجوم للأحداث الكبرى بأنه ليشبع فضول الناس أولا، ولإرضاء رغبات الحكام الذين كان يعتقدون
(50) علم التأريخ عند المسلمين، ص 185.
(51)
ينظر، التأريخ، 2/ 14- 18، 19- 37، 38- 58، 59- 69، 69- 70، 70- 73، 73- 76، 76- 78، 79- 98.
(52)
ينظر، المسعودي، مروج الذهب، 2/ 265- 269، 287- 289، 292- 297، ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى، ص 2- 5.
(*) هي الكواكب والنجوم التي تظهر في السماء في أثناء حصول الحادثة وقبلها ويتنبأ بها المنجمون والناس على حسن هذا الطالع وشؤمه، ينظر، نيلينو، كارلو، علم الفلك عند المسلمين، طبع أوفست، مكتبة المثنى، بغداد، د، ت، ص 14- 15.
(53)
ينظر، التأريخ، 2/ 6.
(54)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 15- 16.
(55)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 30- 31.
(56)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 93- 94.
بهذه الأعمال ثانيا «57» ، وأبدى آخر رأيا مفاده:" ان حب الاستطلاع العلمي الذي توفر لمؤرخي القرنين التاسع والعاشر لم يتجاهل هذا العلم الذي كان مثار النقاش والجدل، من ذلك نجد اليعقوبي يشير إلى الطوالع والتنجيم في بداية كل حكم"«58» .
فضلا عن هذين الرأيين آنفي الذكر يجب أن نعلي من أثر بعض شيوخه الذين اشتهروا في التنجيم أمثال محمد بن موسى الخوارزمي (توفي بعد عام 235 هـ) ، وما شاء الله الحاسب، إذ جعل أقوالهم ومصنفاتهم ضمن مصادره في كتابه التأريخ «59» .
نرى من ذلك كله أن هذه العوامل مجتمعة ساعدت على بروز هذا المنحى عند اليعقوبي حتى عدّ ذلك سابقة مهمة في كتابة التأريخ عند المؤرخين والمسلمين.
هذه هي الجوانب التي اضفاها اليعقوبي على كتابة التأريخ العام عند المؤرخين والتي كانت بمثابة حلقة تطورية شملت كتابة السيرة بخاصة كما شملت الكتابة التأريخية بعامة، أما الجوانب التي خص بها اليعقوبي سيرة الرسول من باقي أجزاء كتابه فهي:
1.
إيراد روايات لم توردها كتب السيرة والمصادر المختلفة التي سبقته في ما بخص الخوارق والمعجزات (أعلام ودلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «60» ، وهذا ما يدل على اهتمام اليعقوبي بهذه الأمور وتطعيمه السيرة بالروايات التي تحدث عنها.
(57) الجعفري، اليعقوبي، ص 120.
(58)
روز نثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 156.
(59)
ينظر، التأريخ، 2/ 5.
(60)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 7- 8، 13، 20، 39، 43- 44.
2.
خصص اليعقوبي حيزا مستقلا من السيرة التي شملها كتابه التأريخ باستعراض بعض الخطب والأحاديث والأحكام التي قالها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «61» ، إذ كان لهذه الظاهرة أثر ملموس في المصنفات التي تلت كتاب اليعقوبي هذا والتي تضمنت ذكرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله «62» ، وإن لم تشر هذه المصنفات ضمنا إلى من سبقها في هذا الأمر من إيراد بعض أقوال وخطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الأمر ينسحب أيضا على باقي المستجدات والجوانب التي اضفاها اليعقوبي على كتابة السيرة النبوية بخاصة والتأريخ بعامة، إذ لم تجد لا السيرة ولا باقي أجزاء الكتاب مكانا واضحا في الكتب التي تلت كتاب اليعقوبي هذا من حيث اقتباس تلك الكتب لبعض نصوصه.
أرجع أحد الباحثين أسباب هذه الظاهرة إلى: " أن اليعقوبي كان مثالا للعالم المتجرد الذي يعمل في صمت بعيدا عن الأضواء فمن ملاحظة مقدمات كتبه نراه لم يذكر شيئا عن نفسه ولم يدع الكمال في كتابة بحوثه كما فعل غيره
…
ولذلك لم يشتهر لأنه لا يحب الشهرة، وربما يعود أيضا إلى طابع عصره إذ أن علماء ذلك العصر لم يقيموا لأنفسهم وزنا لذلك لم يكتبوا شيئا عنها" «63» ، وهذا ما يفسر لنا إنفراد الحموي عن باقي العلماء على إيراد ترجمة لليعقوبي في كتابه (معجم الأدباء)«64» .
(61) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 79- 98.
(62)
ينظر، المسعودي، مروج الذهب، 2/ 300- 303، ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى، ص 543، 578.
(63)
الجعفري، اليعقوبي، ص 24.
(64)
ينظر، 5/ 153- 154.
مع كل الأسباب آنفة الذكر التي استعرضها الجعفري فانها لا تكاد تكون مقنعة تماما بالسبب الذي من أجله عزف العلماء عن اقتباس بعض نصوص هذا الكتاب أو الترجمة لمؤلفيه، إذ ان تواضع العالم ليس له اثر قوي وملموس في عدم اشتهار كتبه فقط، بل هناك أسباب أخرى قد كانت وراء هذا العزوف من قبل العلماء، وهذه الأسباب تكمن في طبيعة بعض الروايات التي أوردها اليعقوبي في ما يخص بعض الحوادث التي اختلفت فيها الاراء وتضاربت إلى حد النقيض مثل حادثة الاسراء والمعراج وتفاصيلها «65» ، والحوادث التي جرت في المغازي ومواقف بعض الصحابة منها «66» ، وحجة الوداع وما رافقها من أمور «67» ، إلى غير ذلك من الحوادث التي حدثت بعد عصر الرسالة والتي أصبحت مثار التراع والاختلاف بين المسلمين في دقة تفاصيلها «68» .
إن إيراد اليعقوبي لهذه الروايات التي تحدثت عن تلك الحوادث قد اتسمت بالجرأة في التعرض إلى مواقف أحجمت عن ذكرها باقي الكتب، فضلا عن ذلك فإن الذي وصل إلينا من تأريخ اليعقوبي ليس كل كتابه الذي صنفه بل إن في نهايته نقصا، وذلك لأنه ينتهي بحوادث سنة (256 هـ)«69» ، مع العلم أن وفاته قد حددها أحد الباحثين بالسنوات القليلة التي تلت سنة (292 هـ)«70» ،
(65) ينظر، التأريخ، 2/ 22- 23.
(66)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 41، 43، 44، 45- 46، 50، 52.
(67)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 102.
(68)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 112- 116، 146- 147، 157، 158.
(69)
ينظر، التأريخ، 3/ 247.
(70)
ينظر، الجعفري، اليعقوبي، ص 26.
فالفارق بين السنة التي انتهي بها الكتاب والسنة التي خمن فيها وفاة اليعقوبي هو أكثر من 36 سنة، وإن الكتاب لا توجد فيه خاتمة بل كان فيه بياض مما يحتمل أن صفحاته الأخيرة قد مسحت بفعل فاعل مع تكرار هذا المسح في مواضع عدة من هذا الكتاب «71» .
وربما كان لضخامة الانتاج الفكري في ما يخص التدوين التأريخي في الحقبة التي عاش بها اليعقوبي «72» أثر في إحجام العلماء بالاقتباس من نصوصه واكتفاء الكثير منهم بالمشهور.
كتب اليعقوبي مصنفه هذا بأسلوب جميل وصفه أحد الباحثين بالقول:
" يتميز أسلوب اليعقوبي بالطراوة والحبك ولم يعن بالصنعة البيانية وتزويق الألفاظ كغيره من المؤرخين، وهذا أمر طبيعي فيما نراه لأن للكلمة مكانتها عند اليعقوبي فهو الناقد الذي يختار العبارة المناسبة للتعبير كما يريد بالصورة الدقيقة، فهو أسلوب
…
لم نجد فيه استطرادا لا في ذكر الحوادث
…
فهو يعطي الحادثة مغزاها ودلالتها لتمكن القارئ من أن يتحسسها ويتذوقها ويتعايش معها ثم يكتبها بأسلوب علمي مفهوم وبيان سلس وأسلوب جذاب
…
إذ اننا ما إن نبدأ القراءة [فيه] حتى نتحسس بجاذبية خفية تشدنا إلى الكتاب وتلصقنا به والرغبة في تتبع حوادثه تغمرنا والشوق إلى التعرف إلى ما بعدها تجرنا
…
ونبغي المزيد دون ملل أو سأم، فمقدرة اليعقوبي على صياغة الألفاظ ليست هي الوحيدة التي تميز بها وإنما القدرة على إعطاء الوضوح
(71) ينظر، التأريخ، 2/ 42، 68، 120، 123، 137، 140، 142.
(72)
ينظر، ابن النديم، الفهرست، ص 179- 227.
للفكرة التي يريد التعبير عنها، لذلك كان تأريخه بكل ما فيه من حوادث وروايات تضفى عليها طابع الوضوح والانسجام وخالية من كل لفظ شاذ أو تعبير غريب" «73» .
هذه هي المحاور والجوانب التي اضفاها اليعقوبي على كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام والتي بينت أهمية هذا الكتاب ضمن المصنفات التي تعرضت لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله.
3.
تأريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) *: - هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري ولد بطبرستان سنة (224 هـ) وبرع منذ صغره في علوم عصره، ونشأ نشأة أذكت في نفسه الفضيلة والزهد والرفض للمذات الدنيا من الجاه والمناصب بل حتى الزواج أيضا، ترك مصنفات عدة في التفسير والتأريخ واختلاف الفقهاء «74» .
كان كتابه تأريخ الرسل والملوك من خيرة المصنفات في مجال الكتابات التأريخية، إذ عدّته إحدى الدراسات الحديثة التي تناولت نشأة وتطور التدوين التأريخي عند المسلمين القمة للهرم الذي وصلت إليه العقلية الإسلامية في كتابة التأريخ، حيث ثبتت في هذا الكتاب نهائيا وجهة نظر المحدثين في كتابة التأريخ تلك النظرة التي جعلت هدف التأريخ التعبير عن فكرة تكامل الرسالات
(73) الجعفري، اليعقوبي، ص 92.
(*) كتبت العديد من الدراسات عن الطبري ومنهجه في كتابة التأريخ، ينظر، الحوفي، أحمد، الطبري، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1970، العزاوي، عبد الرحمن، الطبري السيرة والتأريخ، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1989.
(74)
ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 2/ 162- 165، ياقوت الحموي، 18/ 94- 96، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1/ 577- 578.
ووحدة تجارب الأمة كجزء من التعبير عن المشيئة الإلهية وعن إرادته تعالى في الفعاليات البشرية «75» .
خص الطبري سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه هذا بحيز كبير تناول فيه الحوادث التي جرت منذ ولادته صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاته «76» .
كانت السيرة النبوية لبنة أساسية من لبنات هذا المصنف لما حوته من حوادث تناولها بالتفصيل والاتساع، إذ كان هذا الكتاب كسابقيه من حيث إن مصنفه قد أتخذ منهجا خاصا في كتابة تأريخه من أوله إلى آخره إذ كانت حوادث السيرة ضمن هذا الخضم الهائل من المعلومات التي دونها الطبري في كتابه هذا فشمل السيرة بالمنهج الذي اتبعه في كتابته للتأريخ مما أدى إلى انسحاب كل تطور يحصل في هذا الكتاب إلى السيرة النبوية ويسجل لصالحها، والتطور الذي أكسبه الطبري للكتابة التأريخية قد تركز في محاور عدة هي:
1.
كتابة تأريخ عام على وفق منهج حولي يتناول الحوادث على سنوات وقوعها «77» ، فتكون السنة هي الموضوع والحوادث التي تجري فيها هي المادة التي تستعرض فيها «78» .
والجديد في هذا المنهج الذي سبقه إليه كثيرون «79» ؛ إنه قد أدسى فيه الدعائم والثوابت الأخيرة في كتابة الحوليات التأريخية عند المسلمين، وذلك
(75) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ، ص 32.
(76)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 239- 657، 3/ 9- 217.
(77)
ينظر، العزاوي، الطبري السيرة والتأريخ، ص 189- 197.
(78)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 394- 406، 407- 486، 487- 537.
(79)
ينظر، عن تطور استعمال المنهج الحولي في كتابة التأريخ عند المسلمين، العمري، موارد الخطيب البغدادي في تأريخ بغداد، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ص 127- 139.
بوضع حد فاصل بين كتابة التأريخ على وفق الحوليات أو المواضيع مع استعمال المنهج الموضوعي في التعرض لإشباع السنوات التي حصلت فيها الحوادث «80» .
2.
الحيادية والصراحة وعدم المحاباة في عرض الروايات المتعارضة في الخبر الواحد أو التي أحجمت بعض المصنفات من إيرادها، وهذا ما بينته مقالته التي افتتح بها كتابه والتي مفادها:" وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره في مما شرطت أني راسمه في إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والاثار التي أنا مسندها إلى رواتها دون ما أدرك لحجج العقول واستنبط بذكر النفوس إلا اليسير منه إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضيين وما هو كائن في أنباء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهده ولم يدرك زمانه إلا بأخبار المخبرين ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس، فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضيين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يأت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض الناقلين إلينا وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا"«81» .
فهو بذلك يبرئ ذمته من كتابه ويرى أنه قد أدى أمانة نقلها إلى الناس ولهم الحكم الأول والاخر عليها من حيث صحة أو كذب مضامينها.
(80) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 239- 393، 3/ 159- 183.
(81)
المصدر نفسه، 1/ 7- 8.
3.
الفهم لتجارب من سبقه من المصنفين في مختلف المعارف في التفسير والتأريخ والحديث مع الاستفادة من حركة الترجمة للمصنفات الأجنبية إلى العربية، مما إنعكس ذلك على طبيعة كتابه وطريقة عرضه لرواياته «82» .
4.
ذكر النصوص الشعرية مشفوعة بالروايات التي تضمنت الحوادث التي قيلت فيها هذه النصوص «83» ، مع العلم أن ذكره لهذه النصوص لم يجر على وتيرة واحدة في السيرة التي تضمنها كتابه هذا؛ إذ اختصر الطبري منها محل الشاهد «84» .
كانت وراء هذا الجانب الذي إنتهجه الطبري في إيراد الحوادث التأريخية مشفوعة بما قيل فيها من أشعار، دوافع عدة هي:
أ. اهتمام الطبري بالشعر وولعه بروايته وحفظه، إذ أورد الحموي آراء العديد من العلماء في مقدرة الطبري وقوة حافظته للشعر الذي قيل قبل الإسلام وإثنائه. «85» ، حتى وصفه بالقول:" وكان يحفظ من الشعر للجاهلية والإسلام ما لا يجهله إلا جاهل به"«86» .
ب. سعة اطلاع الطبري على الروايات التي حوت في طياتها أخبارا عن حوادث مضت وتضمنت أشعارا قيلت في مناسباتها، كل ذلك مكنه من أن يرصع كتابه بمجموعة صالحة من القصائد البديعة والمقطوعات الجميلة «87» .
(82) ينظر، أدهم، علي، بعض مؤرخي الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، 1974، ص 43.
(83)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 380، 448، 3/ 10- 11، 24، 45، 51، 58، 69، 116- 119.
(84)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 351، 385، 439، 3/ 38، 48، 64، 86- 87، 116- 117، 171.
(85)
ينظر معجم الأدباء، 18/ 50.
(86)
المصدر نفسه، 18/ 50.
(87)
ينظر، أدهم، بعض مؤرخي الإسلام، ص 47.
هذه هي الاسهامات التطورية التي كسبها الطبري للكتابة التأريخية، مع العلم بوجود اسهامات أخرى أقل منها أثرا تناولتها الدراسات التي تحدثت عن منهج الطبري وأسلوبه في كتابة التأريخ «88» ، وهذه الأمور أدت بدورها إلى جعل السيرة التي تضمنها هذا الكتاب من السير النموذجية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما حوته من جوانب أسهمت اسهاما فاعلا في تطور كتابة السيرة ليس في كتب التأريخ العام فحسب بل في باقي الكتب التي تناولت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله وهذه الجوانب هي:
1.
تضمين القسم الذي خصص لسيرة الرسول باقتباسات كثيرة من السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق، وذلك بطريق مختلف عن الطريق الذي سلكه ابن هشام للوصول إلى السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق، إذ اعتمد على رواية سلمة بن الفضل الأبرش* لهذه السيرة، وذلك في (204) نصوص، حتى عدّه الحموي الطريق الأساس الذي بنى عليه الطبري تأريخه عند تعرضه لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «89» .
ولأجل ذلك تضمنت السيرة التي وردت في تأريخ الطبري روايات عديدة لم يتطرق لها ابن هشام في التهذيب الذي عمله لسيرة ابن إسحاق، ولا سيما روايات العصر الذي يسبق الرسالة الإسلامية «90» .
(88) ينظر، الحوفي، الطبري، ص 225، العزاوي، الطبري السيرة والتأريخ، ص 225- 230.
(*) قاضي الري، كتب سيرة ابن اسحاق في قراطيس، وفضلت روايته لسيرة ابن اسحاق لحال تلك القراطيس، توفي سنة 191، ينظر، إبن حجر، تهذيب التهذيب، 4/ 153، الطرابيشي، رواة محمد بن اسحاق، ص 147- 151.
(89)
ينظر، معجم الأدباء، 18/ 50.
(90)
ينظر، التأريخ، 1/ 93، 95، 104، 225، 322، 2/ 24، 119، 121، 188.
2.
الاهتمام بإيراد النصوص الشعرية مشفوعة بمعظم الروايات التي أرخ فيها حوادث السيرة التي بلغت أكثر من (73) نصا شعريا موزعا على أماكن متفرقة في القسم الذي خصصه الطبري لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه التأريخ «91» .
تمكن قيمة هذا الشعر الذي ذكره الطبري مع حوادث السيرة في أمرين:
أ. إيراده نصوصا شعرية لم ترد عند غيره من المتقدمين الذين تعرضوا لحوادث السيرة والشعر الذي قيل فيها «92» ، مثل شعر الإمام علي عليه السلام وأبي دجانة الأنصاري في معركة بدر «93» .
ب. إيراده الشعر الفاحش والمقذع الذي أحجم ابن هشام عن ذكره عند تهذيبه لسيرة ابن إسحاق بعدما أشار إلى ورود شعر مقذع فيها «94» ، فمن الشعر الفاحش الذي أورده الطبري ما تعرض به حسان بن ثابت لزوج أبي سفيان (هند) بالألفاظ النابية والمقذعة «95» .
3.
هضم التجارب السابقة له التي صنفت فيها مصنفات مستقلة، وذلك بتضمين هذه المصنفات بمصنف يجمع المهم منها، إذ أشار إلى ذلك أحد الباحثين بالقول: " وهذا ما سمح بالطبري أن يحتفظ في كتابه بكثير من المقتطفات التأريخية المبكرة في الوجود والتي لا توجد إلا في كتابه،
…
وقيمة الطبري إنما هي
(91) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 210، 266، 274، 276، 391، 548، 549، 3/ 38، 39، 48، 135.
(92)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 245- 246، 291.
(93)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 533.
(94)
ينظر، السيرة النبوية، 1/ 4.
(95)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 488.
خاصة في حفظ هذه المادة الضائعة وليس بالرأي الذي أعطاه فيها" «96» ؛ وينتهي هذا الباحث بالاستنتاج إلى أن من الأسباب غيرا لمباشرة في ضياع قسم من تلك المدونات التأريخية الأولى هو ما أورده الطبري من مقتبسات من هذه المدونات حتى جعل أمر البحث عنها من قبل الذين عاصروه أو الذين أتوا بعده أمرا لا طائل منه ما دام أنه استقى خلاصة هذه الكتب ووضعها في كتابه «97» .
ومن أهم الكتب الذي حفظ لنا قسما منها في الحيز الذي خصصه لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي:
1.
كتاب المغازي لأبي معشر نجيح المدني (ت 170 هـ) الذي ذكره ابن النديم ضمن المصنفات التي عددها في كتابه الفهرست «98» ، اعتمد الطبري على هذا الكتاب في أربعة مواضع «99» .
2.
كتب هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204 هـ) التي صنفها في مختلف مواضيع السيرة والتي أحصى ابن النديم أسماءها «100» ، واقتبس الطبري من مصنفاته تلك أكثر من عشرين نصا «101» .
3.
كتب محمد بن عمر الواقدي (ت 207 هـ) في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله التي بلغت أكثر من عشرة مصنفات بحسب تعداد ابن النديم لها «102» ،
(96) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 258.
(97)
المصدر نفسه، 1/ 258.
(98)
ينظر، ص 107.
(99)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 340، 3/ 123، 240، 313.
(100)
ينظر، الفهرست، ص 108- 110.
(101)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 239، 246، 250، 252- 254، 260- 262، 3/ 160، 164.
(102)
ينظر، الفهرست، ص 111.
إذ اعتمد الطبري على هذه المصنفات في مواضع عديدة من كتابه ولا سيما عند الترجيح بين الروايات المتضاربة «103» ، هذه هي المصادر المكتوبة التي أردفت كتاب الطبري بالروايات العديدة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما باقي المصادر التي اعتمد عليها الطبري في ذكره لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكانت مرويات شفوية غير مدونة حصل عليها الطبري سماعا من أفواه قائليها من دون إشارة المصادر التي تولت ترجمة شيوخه في الرواية إلى قيامهم بتصنيف كتاب في السيرة أو غيرها «104» .
إن الكلام آنف الذكر لا يعدو كونه مجرد احتمالات توفيقية بين مسانيد روايات الكتاب والمصنفات التي كتبها شيوخ الطبري الذين وردت لهم مصنفات ذكرتها الكتب التي ترجمت لهم، وربما تكشف لنا الأيام عن تلك المصنفات فتكون تلك الأحكام التي ذكرناها قطعية أو تبقى مجرد تخمين لا أساس له من الصحة.
من هذا كله نرى أن هذا الأسلوب في الكتابة لا يعدّ جانبا تطوريا بحد ذاته وإنما يعد إسهاما مهما في رفد السيرة النبوية بمرويات ومصنفات متقدمة لم تصل إلينا.
4.
إفراد فقرات مستقلة من السيرة التي كتبها الطبري عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه هذا للحديث عن الجوانب الشخصية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثل أزواجه ومن
(103) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 137، 157، 165، 235، 237، 246، 264، 265، 281، 3/ 21، 22، 62، 159.
(104)
ينظر، علي، جواد، موارد تأريخ الطبري، مجلة المجمع العلمي العراقي، ج 1، عدد 1، السنة الأولى، 1950، ص 179- 183.
خطب منهن ولم ينكحهن «105» ، وسراريه «106» وغير ذلك من الجوانب الشخصية التي زخرت بها سيرة الرسول في كتاب الطبري هذا «107» ، وهذا ما لا نجده في المصنفات التي سبقت كتابه هذا سواء أكانت في التأريخ العام أم في غير هذه الكتب التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
5.
إغفال الطبري في كتابه هذا ذكر المعاجز والخوارق (دلائل وأعلام النبوة) التي حصلت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، معللا ذلك بقوله: " والأخبار الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، ولذلك كتاب يفرد إن شاء الله «108» ، وهذا يبين لنا منحى الطبري في عدم تضخيم الكتاب بأخبار عاهد نفسه على أن يخصص لها مصنفا مستقلا؛ ولسوء الحظ لم تشر المصادر التي ترجمت له ولمصنفاته إلى تصنيفه هذا الكتاب، إذ لم تذكره ضمن مصنفاته أو ضمن الكتب التي صنفت في هذا الموضوع من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
6.
وجود أثر ملحوظ لاهتمامات الطبري بالقرآن وتفسيره في قسم السيرة النبوية من كتابه التأريخ وذلك حين يورد الروايات المتعلقة بأسباب نزول عدد جم من الايات القرآنية في الحوادث التي يعرضها في كتابه «109» . وفي ذلك يعكس مكانته بوصفه مفسرا للقرآن الكريم في كتابه ذائع الصيت [جامع البيان
(105) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 160- 168.
(106)
ينظر، المصدر نفسه، 3/ 169.
(107)
ينظر، المصدر نفسه، 3/ 169- 183.
(108)
تأريخ الرسل والملوك، 2/ 297.
(109)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 567، 570، 571، 617، 622؛ 3/ 49، 102، 103، 110- 111، 150- 151.
في تفسير القرآن] الذي وصف بالقول: " لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا"«110» .
علل أحد الباحثين هذا الميل عند الطبري بأنه أراد أن يكون تأريخه تكملة لتفسيره الكبير، ولهذا أورد الروايات التأريخية بالوضوح والتدقيق والتحري نفسه الذي إتسم به التفسير «111» ؛ وهذا ما أوضحه قول الطبري الذي أورده ياقوت الحموي والذي مفاده:" قال أبو جعفر الطبري لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة! فقالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: أتنشطون لتأريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله ماتت الهمم، فاختصره في نحو ما اختصر التفسير"«112» .
وحدد الحموي تاريخ شروع الطبري بإملاء تفسيره بسنة (283 هـ) ، وحدد إنهاءه بسنة (290 هـ) ، أما التأريخ فقد كتبه سنة (303 هـ)«113» .
من هذا كله نرى أن هناك ترابطا صميميا بين كل من تفسير [جامع البيان في تفسير القرآن] و [تأريخ الرسل والملوك] ، انعكست آثاره على ما ورد فيهما من روايات؛ فقد كان يستشهد بالرواية التي يوردها بتفسيره الجامع في كتابه التأريخ، ومثال ذلك سبب نزول آية بدء القتال في معركة بدر
(110) ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 42.
(111)
جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 156.
(112)
معجم الأدباء، 18/ 42.
(113)
المصدر نفسه، 18/ 42.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «114» إذ وردت هذه الرواية في التفسير والتأريخ معا «115» ؛ وسبب نزول آية تحويل القبلة «116» الذي ذكر رواية نزولها في التفسير والتأريخ أيضا «117» ، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المشتركة بين الكتابين معا «118» .
7.
مناقشة بعض الروايات والترجيح بينها، الأمر الذي بين لنا أن الطبري لم يكن ناقلا حسب بل حاول تقديم الروايات التي وصلت إليه في حادثة معينة ومناقشة هذه الروايات من حيث قوتها وضعفها، حين أورد عبارات متعددة تدل على الترجيح بين هذه الروايات، فمن تلك استعماله لكل من عبارات:
[في ما يزعمون، أو يزعم، أو قيل]«119» ، والزعم في اللغة هو القول الذي يحتمل الصدق أو الكذب، أو الأمر الذي نستيقن أنه حق وإذا شك فيه لم ندر كذبه فنقول زعم فلان «120» .
فإذا كان هذا الكلام الذي علق به الطبري على بعض الروايات، والذي تضمن وجهة نظره الصريحة في الخبر، فأين القائل الذي صرح وقطع بان الطبري
(114) سورة البقرة، آية 217.
(115)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 414، جامع البيان، 4/ 305- 306.
(116)
سورة البقرة، آية 144.
(117)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 146، جامع البيان، 3/ 173.
(118)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 417، 421، 424، 447، جامع البيان، 2/ 521، 3/ 399، 409، 443، 578.
(119)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 270، 272، 282.
(120)
ينظر، الزبيدي، تاج العروس، مادة (زعم) ، 8/ 324.
لم يكن محللا للروايات ومعللا لأحداثها أو ناقدا لها؟ «121» ؛ وذلك اعتمادا منه على مقالة الطبري التي أفتتح بها كتابه والتي يبين فيها أنه لم يكن سوى ناقل للأخبار «122» ؛ ولكن الطبري قد خرج من هذا المسار الذي أراد أن يلزم نفسه به.
هذه هي الجوانب التي اضفاها الطبري على كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام بخاصة، وكتب السيرة النبوية بعامة.
4.
مروج الذهب ومعادن الجوهر، والتنبيه والأشراف لعلي بن الحسين المسعودي (ت 345 هـ) * هو أبو الحسن علي الحسين بن علي الهذلي، يرجع نسبه إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، نشأ في عاصمة الخلافة بغداد وجاب الأقطار والبلدان ورحل شرقا وغربا للاطلاع والسماع من أهل العلم والدراية والاستفادة من ثقافات الشعوب والأمم، فوصف الأماكن التي زارها في ثنايا كتبه، ولأجل ذلك جمع من الحقائق التأريخية والجغرافية ما لم يسبقه إليه أحد، وافاه الأجل المحتوم في الفسطاط بأرض مصر «123» .
(121) ينظر، أدهم، بعض مؤرخي الإسلام، ص 24.
(122)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 7- 8.
(*) كتب الدكتور جواد علي بحث [موارد المسعودي في التأريخ] ، مجلة سومر، دائرة الاثار، العراق، 1964، مج 20/ ج 1، 2/ 1- 49. وكتب الدكتور علي حسين الخر بوطلي دراسة وافية عن المسعودي عنوانها [المسعودي] ، دار المعارف، القاهرة، 1968. وكتب هادي حسين حمود دراسة عنه عنوانها [منهج المسعودي في بحث العقائد والفرق الدينية] ، دار القادسية، بغداد، ط 1، 1984.
(123)
ينظر، النجاشي، أحمد بن علي، الرجال، يوميى، 1317 هـ، ص 178- 179، السبكي، طبقات الشافعية، 2/ 307.
شغلت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مكانا بارزا في مصنفات المسعودي ولا سيما كتبه التي خصصها للحديث عن التأريخ العام للمسلمين وغيرهم، وذلك من الإشارات المتكررة التي حوتها المصنفات التي وصلت إلينا من نتاج المسعودي مثل كتاب (مروج الذهب) وكتاب (التنبيه والأشراف)«124» ، فلو كانت تلك المصنفات التي أحال إليها المسعودي موجودة لوجدنا مدى الحجم الهائل الذي خصص لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منها، ولكن لم يسلم من تراث المسعودي سوى هذين الكتابين آنفي الذكر، واللذين سنستعرض مكانة كل منهما في الإطار العام لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في كتب التأريخ العام.
أولا: كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر:
إن هذا الكتاب في الأصل هو مختصر لكتابيه: (الكتاب الأوسط في الأخبار) ، و (أخبار الزمان ومن أباده الحدثان) ، إذ بين المسعودي هذا الأمر في ديباجة كتابه هذا «125» .
اتبع المسعودي في كتابه هذا منهجا موضوعيا تناول فيه الحوادث بحسب وقائعها دون الاعتماد على السنوات التي حصلت فيها تلك الحوادث «126» .
اتسمت كتابة المسعودي للتأريخ في كتابه هذا بأنها قد اضفت طابعا تجديديا له، وذلك في قيام المسعودي باستعراض كتب التأريخ والأخبار قبله وتحليلها ونقدها وتبيان مواطن القوة والضعف فيها، وهذا ما بينته مقالته التي مفادها:
(124) ينظر، مروج الذهب، 2/ 217، 281، 283، 284، 285، 298، التنبيه والأشراف، ص 4- 5.
(125)
ينظر، مروج الذهب، 1/ 9- 10.
(126)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 265- 269، 287- 289، 292- 297.
" وقد ألف الناس كتبا في التأريخ والأخبار ممن سلف وخلف، وأصاب البعض وأخطأ بعض آخر
…
" «127» .
كان هذا المنحى الذي أتبعه المسعودي في كتابة التأريخ يعدّ نقلة نوعية في أساليب الكتابة التأريخية عند المسلمين وذلك باتباعهم مناهج يعمل بها الان في الدراسات الأكاديمية التي تعنى بنقد وتحليل المصادر، إذ يشير هذا الأمر إلى كون المسلمين قد ابتكروا هذا الأمر قبل عشرة قرون من الان، وهذا ما يعدّ اسهاما حضاريا اضفته عقلية المسعودي على الكتابات التي صنفت من قبل المسلمين.
فضلا عن هذا فإن المسعودي قد نبهنا في مقدمة كتابه هذا إلى ظاهرة لم ينتبه لها المصنفون الذين سبقوه في الكتابة وذلك بحصول حذف وشطب وسرقة لبعض المصنفات التي كتبها العلماء في عصره، إذ يقول مبينا هذا الأمر: " وقد وسمت كتابي هذا بكتاب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) لنفاسة ما حواه وعظم خطر ما استولى عليه من طوالع بوارع ما تضمنته كتبنا السالفة في معناه
…
وجعلته تحفة للأشراف من الملوك وأهل الدرايات
…
فمن حرف شيئا من معناه أو أزال ركنا من مبناه أو طمس واضحة من معالمه أو لبس شاهده من تراجمه، أو غيره أو بدله أو اشانه أو اختصره أو نسبه لغيرنا أو أضافه لسوانا فوافاه من الله ووقوع نقمه وفوادح بلاياه ما يعجز عن صبره ويحار له فكره وجعله الله مثلة للعالمين وعبرة للمعتبرين، وآية للمتوسمين وسلبه الله ما أعطاه وحال بينه وبين ما أنعم عليه من قوة ونعمة مبتدع السموات والأرض من أي الملل كان والاراء أنه على كل شيء قدير" «128» ، ويذكر بعد هذا التحذير
(127) المصدر نفسه، 2/ 12.
(128)
مروج الذهب، 2/ 18، 4/ 409.
والتخويف تسويغا لذلك، إذ يقول:" وقد جعلت هذا التخويف في أول كتابي هذا وآخره ليكون رادعا لمن ميله هوى أو غلبه شقاء فيراقب أمر ربه وليحادر منقلبه فالمدة يسيرة والمسافة قصيرة وإلى الله المصير"«129» .
بين لنا هذا الكلام وجود حالات سرقة وتحريف لبعض المصنفات وشطب لبعض المعلومات التي ترد فيها وذلك في عصر المسعودي أو العصر الذي سبقه، فلولا وجود هذه الظواهر في عصره لما كتب هذه العبارات التي يستشف منها الخوف الذي اعترى المسعودي على كتابه هذا من قيام بعض العابثين بتغيير معاله أو بتغيير نسبته إليه؛ وهذا أمر لم نألفه في المصادر التي تقدمته، لاعتزازه الكبير بما كتب من أمور في كتابه هذا والطريقة التي عرض بها الحوادث التي أرخها فيه.
شغلت السيرة النبوية حيزا بسيطا من هذا الكتاب «130» ، ولكن المنحى الكتابي لهذه الصفحات القليلة قد تنوع تنوعا جوهريا من حيث أسلوب عرضه الذي لم نألفه في المصادر المتقدمة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا المنحى الذي أكسب كتابة السيرة عند المسعودي ضمن التأريخ العام بخاصة والسيرة بعامة تطورا، وذلك لعدة أسباب هي:
1.
التقديم والتأخير في حوادث السيرة، وعدم الالتزام بالأسبقية الزمنية لكل حدث حين عرضه «131» ، وهذا الأمر ناشئ عن كون المسعودي قد أنتهج نهجا موضوعيا في عرض حوادث كتابه، ولم يقتصر على هذا الحد بل قام أيضا
(129) المصدر نفسه، 2/ 18.
(130)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 272- 299.
(131)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 277، 280، 285، 287، 291.
بتكرار بعض الحوادث التي عرضها في أماكن مختلفة في قسم السيرة من كتابه هذا*.
وهذا الأمر قد تنبه له أحد الباحثين، إذ أشار إلى ذلك بالقول: " إنه لم يركز بحوثه [المسعودي] وفصول الكتاب الواحد فبينما هو مشغول في موضوع خاص تراه يطفر فجأة إلى موضوعات أخرى فينفصل عنها ويتبسط في الكلام عنها، حتى إذا ما انتهى منها أحس بأنه قد إبتعد عن الموضوع، عاد فيعتذر عن هذا الاستطراد ملمحا بأنه قد بحث عنه بحثا مبسطا في كتبه السابقة، ولذلك فهو يكتفي بما أورده ليعود إلى موضوعه الذي كان فيه
…
" «132» ، وينتهي هذا الباحث إلى عدّ هذا المسلك من قبل المسعودي مسلكا إتسم بالعجلة في كتابة المصنفات وعدم رجوعه إلى ما دوّنه سابقا، الأمر الذي أوجد تناقضا في ما كتب حتى أن بعض المستشرقين- على حد قوله- قد وصف منحى المسعودي هذا بالتسرع وقلة الصبر وعدم تمكنه من تركيز جهده في موضوع واحد وبتنقله من موضوع إلى آخر وباستطراده وخروجه من موضوعات رئيسة إلى موضوعات ثانوية «133» .
2.
الاقتضاب والاختصار واختزال حوادث السيرة ومتعلقاتها إلى أقصى حد ممكن إذ أشار إلى ذلك الأمر في مقدمته التي افتتح بها كتابه هذا الذي جعله
(*) كرر الحديث عن أخبار الرسول وأحواله صلى الله عليه وآله وسلم في مولده في ثلاثة مواطن: 2/ 272، 274، 280. وكرر الحديث عن الحوادث التي حصلت في أيامه صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة في موضعين: 2/ 275، 280، 294، وكرر الحديث عن وفاته صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة مواضع: 2/ 287، 291، 297.
(132)
علي، موارد المسعودي في التأريخ، مجلة سومر، مج 20، ج 1، ص 21.
(133)
علي، المصدر نفسه، ص 20- 21.
مختصرا لكتابين من كتبه «134» ، إذ أدى ذلك بطبيعة الحال إلى أن يستعمل أسلوب الإحالة إلى الكتب التي صنفها أو صفحات كتابه هذا وذلك في الموضوع الذي اقتضب فيه الحديث «135» .
علل المسعودي انتهاجه هذا المسلك بقوله: " ولم نعرض في كتابنا هذا لكثير من الأخبار بل لوحنا بالقول فيها تخوفا من الإطالة ووقوع الملل، إذ ليس ينبغي للعاقل أن يحمل البنية على ما ليس في طاقتها ويسوم النفس ما ليس في حيلتها، وإنما الألفاظ على قدر المعاني"«136» .
ان مسلك المسعودي هذا هو أسلوب جديد في الكتابة، إذ لم نألفه بهذه الشاكلة عند من سبقه، باستثناء اليعقوبي الذي أحال إلى بعض صفحات كتابه (التأريخ)«137» ، والطبري الذي فعل الأمر نفسه ولكن ليس بالصيغة التي انتهجها المسعودي «138» .
حفز هذا المسلك العلماء الذين أتوا بعده على السير على مساره وإتباع نهجه باختصار مواضيع كتبهم وذلك باستعمال الإحالة إلى المصنفات أو الصفحات من الكتب التي توسعت بذكر تفاصيل الحوادث التي تطرقوا لها «139» .
(134) ينظر، مروج الذهب، 2/ 9- 10.
(135)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 274، 277، 281، 283، 284، 285، 290، 291، 292، 303.
(136)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 271.
(137)
ينظر، التأريخ، 2/ 33، 51، 56.
(138)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 276، 3/ 183.
(139)
ينظر، ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 25، 28، ابن حزم، جوامع السيرة، ص 256.
3.
الابتعاد عن عرض الجوانب الشخصية والإعجازية في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثل دلائل نبوته وصفاته ومقتنياته من أسلحة وأدوات ودواب، إذ لم يورد أية رواية تضمن ذكرا لهذه الجوانب باستثناء رواية واحدة تعرض فيها لحادثة شق الصدر من قبل الملكين اللذين أخرجا علقة من قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «140» .
وقد يكون سبب عزوف المسعودي عن عرض هذه الجوانب طبيعة الكتاب الذي جعله مختصرا على لمع من الأخبار من دون التعرض لتفاصيل الأحداث ومتعلقات الأمور.
4.
إيراد الروايات المتعارضة والمختلف فيها بين المؤرخين أنفسهم «141» ، فمن ذلك ما أورد من روايات عن إسلام الإمام علي عليه السلام وما قيل فيه، وقد أحال المسعودي بعد ذلك إلى الكتب التي صنفها والتي عرض فيها هذا الموضوع بإسهاب «142» ، وكذلك أورد الاراء المختلفة في أسماء أجداد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد جده عدنان «143» ، إذ بين سبب ذكره هذا الاختلاف بأنه أعلم الناس بعدم اتفاق المؤرخين حول ذلك «144» .
علل المسعودي هذا المنحى بغاية أجملها في كتابه قائلا: " وإنما حكينا هذا الخلاف ليعلم من نظر في كتابنا هذا أنا لم نغفل شيئا مما قالوه ولا تركنا شيئا ذكروه إلا انا ذكرنا ما تأتى لنا ذكره، وأشرنا إليه"«145» .
(140) ينظر، مروج الذهب، 2/ 281.
(141)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 279، 284، 286، 287- 288، 289، 290.
(142)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 283.
(143)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 273، 274.
(144)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 274.
(145)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 291.
5.
إيجاد منهج توفيقي بين الاستعراض الحولي للحوادث التي تجري في السنة الواحدة، والاستعراض الموضوعي، إذ تعرض للحوادث باستقلالية عن التي تليها؛ وهذا ما رأيناه واضحا في قسم السيرة من كتابه [مروج الذهب] . إذ أجمل المسعودي فيه حوادث سنوات عمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشريف في فقرات مستقلة ومبعثرة في أماكن مختلفة من هذا القسم، ورأيناه بعد أن عرض حوادث الرسالة في أبواب مستقلة يقوم في خواتم هذه الأبواب بكتابة فقرة تجمع هذه الحوادث في تقسيمها على سنوات عمره الشريف وذلك حين يعرض هذه السنوات وما حصل فيها من حوادث أسماها" جماع الحوادث"«146» .
أوضح المسعودي منحاه هذا والدافع الذي حداه على كتابة السيرة بهذه الشاكلة بأنه ليقرب تناولها ويسهل الأخذ من أخبارها «147» . ولم يقتصر على هذا الحد بل حاول الفصل بين سنوات عمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وبعدها، فقد استعرض حوادث سنوات عمره الشريف من السنة الأولى حتى سنة (54 هـ) ؛ وإن كان استعراضه لهذه السنوات متعاقبا ومقتصرا على حوادث السنوات المشهورة «148» ، ويعرج بعد ذلك على حوادث هذه السنوات باستعراضها على وفق سنين التقويم الهجري وليس على حساب سنوات عمره الشريف «149» .
وهذا المنهج الذي إتبعه المسعودي في كتابه هذا منهج مستحدث وجديد وغير مطروق عند من سبقه.
(146) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 280- 282، 285- 291، 292- 297.
(147)
ينظر، مروج الذهب، 2/ 292.
(148)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 292- 294.
(149)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 294- 297.
هذه هي أهم الجوانب التي أضافها المسعودي إلى كتابة السيرة النبوية ضمن كتابه [مروج الذهب ومعادن الجوهر] .
ثانيا: التنبيه والأشراف:
صنف المسعودي كتابه هذا بعد أن صنف كتابه [مروج الذهب] ، إذ جعل الأخير من ضمن مصادر هذا الكتاب «150» ، وهذا الأمر هو الذي حدانا على عرض هذا الكتاب بعد كتاب المروج في التحليل لقسم السيرة منهما.
خصص المسعودي في كتابه هذا حيزا جيدا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «151» ، وقد ناهز ما خصصه المسعودي للسيرة ضعف ما خصصه في كتابه المروج «152» ، علما أن حجم كتاب المروج هو ضعف حجم كتاب التنبيه تقريبا.
قبل عرض المناحي التطورية لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب التنبيه يجب عقد مقارنة بين هذا الكتاب والكتاب الذي سبقه، لأجل معرفة نقاط الاختلاف والشبه بينهما ومن ثم الاستفادة من هذه المقارنة باستنباط الاسهامات التطورية لكتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام وغيرها؛ ونقاط الاختلاف والشبه بين الكتابين تتلخص بالاتي:
1.
إن المصادر التي اختصر المسعودي منها كتابه التنبيه هو أكثر من قرينتها في المروج، إذ جعل كتابه التنبيه مختصرا لستة من كتبه أجملها في قوله الذي مفاده: " فإننا لما صنفنا كتابنا الأكبر في [أخبار الزمان ومن أباده الحدثان] ....
(150) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 4.
(151)
ينظر، المصدر نفسه، ص 195- 246.
(152)
ينظر، مروج الذهب، 2/ 272- 299.
وشفعناه ب [الكتاب الأوسط] في معناه ثم قفوناه بكتاب [مروج الذهب ومعادن الجوهر] .... ثم تلينا ذلك بكتاب [فنون المعارف وما جرى في الدهور والسوالف] وأتبعناه بكتاب [الاستذكار لما جرى في سالف الأعصار] ذكرنا في هذه الكتب الأخبار عند بدء العالم والخلق
…
وذكرنا في كتاب [نظم الأعلام في أصول الأحكام] وكتاب [نظم الأدلة في أصول المللة] وكتاب [المسائل والعلل في المذاهب والملل] تنازع المتفقهين في مقدمات أصول الدين والحوادث التي اختلفت فيها آراؤهم.... وغير ذلك من فنون العلم، وضروب الأخبار، مما لم تأت الترجمة على وصفه، ولا انتظمت ذكره، رأينا أن نتبع ذلك بكتاب سابع مختصر نترجمه بكتاب [التنبيه والأشراف] .... نودعه لمعا من.... تواريخ الأمم.... وغير ذلك من أحوالها وما اتصل بذلك من التنبيهات على ما تقدم جمعه وتأليفه وذكر مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومبعثه وهجرته وعدد غزواته وسراياه وسواربه وكتابه ووفاته...." «153» .
وهذا ما يجيبنا عن سبب اتساع المعلومات التي دونها في هذا الكتاب عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقارنة بكتابه [مروج الذهب] ؛ وذلك لأن المسعودي قد اعتمد على اثنين من كتبه [أخبار الزمان، الأوسط في الأخبار] اختصر هما وأخرج منهما هذا المصنف «154» .
(153) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 4- 5.
(154)
ينظر، مروج الذهب، 1/ 9- 10.
2.
التوثيق التأريخي للحوادث المهمة لسيرة الرسول (المولد، البعثة، الهجرة، الوفاة) على وفق التقاويم العالمية المعمول بها آنذاك «155» .
وهذا الأمر هو خصيصة خص بها المسعودي السيرة النبوية في كتابه التنبيه والأشراف حصرا من دون كتابه السابق المروج، ولم نجده في باقي المصنفات التي تعرضت لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أما توثيقه للحوادث في كتابه المروج فقد تنوع ما بين التوثيق على وفق الحوادث للمرحلة التي سبقت البعثة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسنوات عمره الشريف أو سنوات الهجرة من دون الإشارة إلى غيرها من التواريخ «156» .
3.
أورد المسعودي في كتابه هذا قسما من الايات والمعاجز الدالة على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عرضه حوادث السيرة «157» .
4.
التشابه في إجمال الحوادث التي يوردها، وإحالة القارئ إلى مصنفاته الأخرى؛ إذ أشار أكثر من مرة إلى منهجه في اختصار الأخبار وإجمالها في كل من كتابيه المذكورين «158» .
هذه هي أوجه الشبه والاختلاف بين المنحى الذي سلكه المسعودي في إيراد الحوادث في كل من كتابيه [التنبيه والأشراف] و [مروج الذهب ومعادن الجوهر] اللذين علق أحد الباحثين على الصلة التي تربط بينهما قائلا: " وقد رأيت أن أطابق بين الكتابين المطبوعين لأرى الفرق بينهما والعلة التي دفعت
(155) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 196، 198، 200، 244.
(156)
ينظر، مروج الذهب، 2/ 274، 280، 282، 285، 287، 292- 294، 295- 297.
(157)
ينظر، التنبيه والأشراف، ص 198- 199، 221، 237.
(158)
ينظر، مروج الذهب، 2/ 281، 283، 284، 292، 298، التنبيه والأشراف، ص 195، 196، 198، 243.
بالمسعودي على تأليف جملة كتب في موضوع واحد، هل هي مجرد إطالة واختصار أو إعادة وتكرار للتظاهر لكثرة التأليف وسعة المعرفة؟ فوجدت أن كتابه التنبيه هو كتاب صغير مختصر بالنسبة إلى كتاب مروج الذهب، إلا اننا لا نستطيع أن نعتبره اختصارا له، لأن الاختصار هو إيجاز تام كامل لمفصل مبسوط، وليس كتاب التنبيه إيجازا له بالمعنى المذكور ففي مروج الذهب فصول عديدة لم ترد في كتاب التنبيه. أما الموضوعات المشتركة التي ترد في التنبيه فهي وإن كانت مذكورة في مروج الذهب ولكنها في الواقع جزء قليل من كثير مزج باستدراكات فاته ذكرها في الكتاب الأول" «159» .
بقي لنا أن نذكر الاسهامات التطورية التي اوجدها المسعودي لكتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام أولا ثم كتب السيرة ثانيا في مصنفه [التنبيه والأشراف]، وهذه الاسهامات هي:
1.
إطلاق المسميات على السنوات التي أعقبت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حتى وفاته «160» ، وتبيان الغرض الذي من أجله أطلقت هذه المسميات على بعض من سنوات الهجرة، وفي بعضها لم يبين سبب إطلاق هذا الاسم من دون غيره عليها، فأما السنوات التي بين سبب إطلاق المسميات عليها فهي:
أ. السنة الثانية من الهجرة فقد أسماها ب (سنة الأمر) لأنه أمر فيها بالقتال «161» .
(159) علي، موارد المسعودي في التأريخ، مجلة سومر، ص 19.
(160)
ينظر، التنبيه والأشراف، ص 202- 240.
(161)
ينظر، المصدر نفسه، ص 202.
ب. السنة الخامسة من الهجرة الشريفة فقد أسماها ب (سنة الأحزاب) وذلك لوقوع معركة الخندق وتجمع قريش والمخالفين ونزول سورة الأحزاب موثقة بعض حوادثها «162» .
ج. السنة الثامنة منها فقد أسماها ب (سنة الفتح) وذلك لفتح مكة فيها «163» .
د. السنة العاشرة منها فقد أسماها ب (سنة حجة الوداع)«164» ، وذلك لوقوع حجة الوداع التي سميت بهذا الاسم لأنه صلى الله عليه وآله وسلم ودعهم فيها ولم يحج بعدها «165» .
هـ. السنة الحادية عشرة منها فقد أسماها ب (سنة الوفاة) وذلك لوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها «166» .
هذه هي السنوات التي بين المسعودي أسباب أسمائها، أما باقي السنوات (3، 4، 6، 7) من الهجرة الشريفة، فقد أطلق على كل واحدة منها اسما لم يبين سببه «167» .
وإن منحى المسعودي هذا في إطلاق المسميات على هذه السنوات هو اجتهاد شخصي منه، وذلك لأنه سمّى هذه السنوات بأسماء الحوادث المشهورة
(162) ينظر، المصدر نفسه، ص 214- 217.
(163)
ينظر، المصدر نفسه، ص 230- 237.
(164)
ينظر، المصدر نفسه، ص 238.
(165)
ينظر، المصدر نفسه، ص 240.
(166)
ينظر، المصدر نفسه، ص 240.
(167)
ينظر، التنبيه والأشراف، ص 209، 212، 218، 222.
فيها هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن منحاه هذا لم يتبعه فيه أحد من المؤرخين المتقدمين أو المتأخرين، باستثناء المقدسي الذي نقل بعض المسميات التي أطلقها المسعودي على السنوات التي تلت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاته «168» ، لأن عمله هذا كان مجرد رأي أو تلطيف للقارئ أو لمن يريد حفظ الحوادث وسنوات وقوعها، هذه هي أغراضه من هذه المسميات.
2.
الاهتمام بإيراد الأحكام الفقهية التي شرعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمسائل التي عرضها في كتابه ولا سيما في قسم السيرة منه، إذ ذكر اختلاف الفقهاء في المسائل المتنازع عليها في ما بينهم وآراءهم فيها، في حوادث عدة «169» مثل:
حادثة صوم شهر رمضان والوقت الذي شرع فيه «170» ، وحادثة تقسيم غنائم المعارك والاراء التي قيلت فيها «171» ، وحادثة دخول مكة بعدما منّ الله سبحانه وتعالى عليه بفتحها، والاختلاف في كون دخوله عنوة أم صلحا «172» ، هذه الأحكام الفقهية التي أوردها في قسم السيرة من كتابه التنبيه والتي اقتصر فيها على عرض الأحكام المختلف فيها حصرا.
3.
قدم المسعودي في قسم السيرة من كتابه وصفا فريدا لكل مجموعة عسكرية بحسب عدد أفرادها، لم يسبقه أحد إليه في مثل هذه الكتب، إذ يقول:
" وقد ذكر عدة من ذوي المعرفة بسياسة الحروب وتدابير العسكر والجيوش
(168) ينظر، محمد بن طاهر، البدء والتأريخ، نشر كلمان هوار، باريس، 1903، 4/ 180.
(169)
ينظر، التنبيه والأشراف، ص 220، 222- 224، 228، 231، 237.
(170)
ينظر، المصدر نفسه، ص 204.
(171)
ينظر، المصدر نفسه، ص 205- 206.
(172)
ينظر، المصدر نفسه، ص 231- 233.
ومقاديرها وسماتها، ان السرايا ما بين الثلاثة نفر إلى الخمس مئة، وهي التي تخرج بالليل. فأما التي تخرج بالنهار فتسمى السوارب
…
وما زاد على الخمس مئة إلى دون الثماني مئة فهي المناسر، وما بلغ الثماني مئة فهو جيش وهو أقل الجيوش وما زاد على الثماني مئة إلى دون الألف فهو الخشخاش، وما بلغ الألف فهو الجيش
…
وما بلغ الأربعة آلاف فهو الجيش الجحفل، وما بلغ اثني عشر ألفا فهو الجيش الجرار، وإذا افترقت السرايا والسوارب بعد خروجها فما كان دون الأربعين فهي الجرائد، وما كان من الأربعين إلى دون الثلاث مئة فهي المقانب، وما كان من الثلاث مئة إلى دون الخمس مئة فهي الجمرات، وكانوا يسمون الأربعين رجلا إذا وجهوا العصبة، ويقولون خير السرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة آلاف
…
وان الكتيبة ما جمع فلم ينتشر، وان الحضيرة النفر الذين يغزي بهم العشرة فمن دونهم، والنفيضة جماعة يغزى بهم ليسوا الجيش، وان الأرعن الجيش الكثير
…
والخميس الجيش العظيم والجرار
…
أكثر ما يكون من الجيوش العظمى" «173» .
وهذا الأمر يعدّ نقلة نوعية للكتابة التأريخية بعامة، وذلك بسبب ندرة عرض المؤرخين لهذه المسائل ولا سيما مصنفي كتب الأخبار والسير.
4.
عرض عقائد الفرق الإسلامية في الروايات التي يحتجون بها من حوادث السيرة، لإثبات صدق دعواهم، مع التعريف بقسم من هذه الفرق، إذ وجدنا هذا الأمر شائعا في كتاب التنبيه «174» ، فمن الروايات التي ذكر فيها آراء الفرق
(173) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 242- 244.
(174)
ينظر، المصدر نفسه، ص 198- 199.
حول الحوادث التي تضمنتها تلك الروايات، الرواية التي تحدثت عن إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام إلى أهل مكة ليقرأ عليهم سورة التوبة في موسم الحج بمعية أبي بكر الصديق (رض)«175» ، إذ عقب على هذه الرواية بالقول:" وهذا الخبر من التنازع والتأول بين فرق أهل الصلاة من أصحاب النص من الشيعة، وأصحاب الاختيار من المعتزلة والخوارج والمرجئة وفقهاء الأمصار وغيرهم من الحشوية والنابتة"«176» .
تناول أحد الباحثين منهج المسعودي في هذا الجانب ووصفه بالقول: " إن منهج المسعودي في العقائد والأخرويات يرتفع إلى مستوى أدق مناهج المسلمين في البحث فهو يروي آراء وأخبار العقائد المخالفة
…
ويستعرض هذه الاراء بتجرد صارم، محترما آراء الفرق والأديان وموردا لتلك المسائل" «177» ، إن انتهاج المسعودي لهذا الأمر هو تطبيق لما عاهد به نفسه من إيراد أقوال أهل الفرق في الحوادث المختلف عليها، وذلك بقوله: " كان الواجب على كل ذي تصنيف أن يورد جميع ما قاله أهل الفرق" «178» .
ينتهي أحد الباحثين إلى وصف منهج المسعودي هذا بالقول: " إن المسعودي كان يبحث بأسلوب العالم المتجرد، وينظر إلى التواريخ نظرة الباحث المحايد والمسجل الأمين بحسب جهده وطاقته"«179» .
(175) ينظر، المصدر نفسه، ص 237.
(176)
المصدر نفسه، ص 237.
(177)
حمود، هادي حسين، منهج المسعودي في بحث العقائد والفرق الدينية، ص 47- 48.
(178)
مروج الذهب، 2/ 139.
(179)
حمود، منهج المسعودي، ص 22.
5.
انفراد المسعودي بذكر رواية لم تعرفها المصادر التي سبقته أو التي جاءت بعده، وخالف فيها كل من تعرض لهذه الحادثة من المؤرخين والمحدثين، ألا وهي حادثة يوم الغدير وحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام :" من كنت مولاه فهذا علي مولاه" إذ أشارت المصادر التي عرضت هذه الحادثة إلى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد قالها أثناء منصرفه من حجة الوداع سنة (10 هـ)«180» ، أما المسعودي فقد ذكر أن هذه الحادثة قد وقعت بعد منصرف الرسول من الحديبية سنة (6 هـ)«181» .
هذه هي أهم المستجدات التي أضافها المسعودي إلى كتابة السيرة النبوية في مصنفه [التنبيه والأشراف] ، ومن وضع هذه المستجدات جنبا إلى جنب مع مثيلاتها في كتابه الاخر [مروج الذهب ومعادن الجوهر] نجد أنه قد أضاف إلى كتابة السيرة ضمن كتب التأريخ العام إضافة قيّمة ونوعية تمثلت بتنوع المناهج المتبعة مع سلاسة الأسلوب وبساطة العرض المسترسل للأحداث، وعدم التقليد الأعمى للأقدمين في مناحيهم بكتابة التأريخ، بل كان يترك لنفسه العنان في الاسترسال في ذكر الحوادث مع شعوره بعلو كعبه في الكتابة التأريخية على من سبقه إذ يقول: " على أنا لم نجد أحدا حصل ذلك تحصيلنا، ولا رتبه ترتيبنا، فمن أراد علم ذلك فليتصفح كتب من نحا بهذا الشأن من الأسلاف والأخلاف يقف
(180) ينظر، الأميني، عبد الحسين، الغدير في القرآن والسنة والأدب، دار الكتاب العربي، بيروت، 1974، 1/ 5- 8، وقد أورد إجماع المؤرخين والمحدثين على وقوع هذه الحادثة سنة (10 هـ) .
(181)
ينظر، التنبيه والأشراف، ص 221.
على حقيقة ما قلنا وفضيلة ما آتينا فهم ذلك بعد الكفاية يسير، ومطلبه قبل الكفاية عسير" «182» .
ومع كل ما قلناه تبقى عملية إعطاء صورة واضحة ومتكاملة عن إسهامات المسعودي التطورية في كتابة السيرة النبوية ناقصة ومشوهة، بسبب فقداننا مصنفاته الأخرى التي أحال عليها في كتابيه المختصرين من مؤلفاته الأخرى، وإذا كان المختصر كما رأينا، فكيف بالمفصل إذن؟.
5.
البدء والتأريخ لمطهر بن طاهر المقدسي (ت بعد سنة 355 هـ) :
أغفلت المصادر التي ترجمت لأعلام الناس والعلماء والمصنفين عن إيراد ترجمة لهذه الشخصية، ولأجل ذلك ضاعت عملية البحث عن ترجمة للمقدسي أدراج الرياح، كما ذهبت المحاولات السابقة التي بدرت من بعض الباحثين هي الأخرى كذلك، إذ لم تقتصر جهودهم إلّا على إثبات تعليق محقق هذا الكتاب في تبيان صحة نسبته إلى المقدسي «183» ، إذ حصل هنالك لبس بين اسم هذا الكتاب وكتاب آخر بالعنوان نفسه ذكره حاجي خليفة لغير المقدسي «184» .
مهما يكن من أمر نسبة هذا الكتاب من حيث الصحة والخطأ إلى المقدسي أو غيره، فإن هذا الأمر لا يهمنا بقدر ما يهمنا أثر الكتاب في تطور كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التاريخ العام وباقي المصنفات، فنجد أن هذا الكتاب
(182) المصدر نفسه، ص 243.
(183)
ينظر، الزركلي، خير الدين، الأعلام، مطبعة كوستاتوماس، مصر، ط 2، 1978، 8/ 159، كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، المكتبة العربية، دمشق، 1960، 12/ 294.
(184)
ينظر، كشف الظنون، 1/ 277.
قد نحا فيه مؤلفه أسلوبا جديدا ومغايرا عما ألفه عصره من أساليب في عرض تأريخ العالم، إذ وصف روز نثال أسلوب المقدسي بالقول: " محاولة لإخضاع التأريخ للفلسفة ومن الناحية الظاهرية على الأقل
…
وان الملاحظات الفلسفية هي كالبقع القرمزية التي تناثرت في مختلف ثنايا أجزاء الكتاب" «185» .
علق أحد الباحثين على هذا الرأي بالقول: " ان هذه القيمة [إدخال الفلسفة وعلم الكلام بالتأريخ] يجب أن تعطى لمجرد المحاولة التي كانت جريئة ومبتكرة دون شك، أما من ناحية التطبيق فان التأريخ لم يفلسف
…
وإنما اقتصر الأمر على إلصاق بعض أبحاث الإلهيات بأبحاث التأريخ موجزة معروفة" «186» .
كانت هذه البقع القرمزية التي وصفها روز نثال قد انتشرت بكثرة في القسم الخاص بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الكتاب «187» ، وشغلت السيرة النبوية من هذا الكتاب حيزا كبيرا، ولأجل ذلك أضفى المقدسي جوانب عدة على هذه السيرة وشملت هذه الجوانب:
1.
استعمال أسلوب المحاججة والإفحام للطوائف والملل من غير المسلمين سواء أكانوا أتباع أديان سماوية أم وضعية، إذ نرى في هذا الكتاب هجوما عنيفا على هذه الطوائف والملل في إنكارها نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، أو رفض فكرة النبوة مطلقا، إذ تركز هذا الهجوم في إيراد الدلائل والمعاجز والقرائن
(185) علم التأريخ عند المسلمين، ص 161.
(186)
مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 408.
(187)
ينظر، البدء والتأريخ، 4/ 105- 242، 5/ 1- 68.
الموكدة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ وصف هذه الدلائل والمعاجز بالقول: " إعلم إنما كان في هذه الأخبار من المعجزات فكلها مصدقة مقبولة إذا صحت الرواية والنقل أو شهد لها نص القرآن والدلالة عليها كذهاب قوائم فرس سراقة في الأرض
…
وكخبر الإسراء والمعراج
…
وغير ذلك مما يوصف ويحكى مع ما ذكر من هذه الخصال كلها داخلة في حد الجواز والإمكان بعد أن كنا مجيزين للممتنع في الطبع والعادة وفي أيامهم فكيف الممكن المتوهم من ذلك وقد ناقض المنكرون لهذه الحال بخروجها عن العادة
…
" «188» ، وينتهي بالقول: " هذا يرحمك الله باب أغنى هذا المتكلف عن الخوض فيه والتمرس به وما أراه أبلى عنا في الإسلام أو رد عنه عاديا إن لم يكن فتح عليهم باب شنعة وتلبيس وسبيل معجزات الأنبياء في خروجها عن العادة سبيل إيجاد أعيان الخلق لا من سابقة وكما أن إيجاد الخلق لا من شيء
…
ولكن يعرف ويعلم بقيام الأدلة التي عليه كذلك معجزات الأنبياء عليهم السلام غير موهومة ولا معقولة وإنما بعلم بقيام الأدلة عليها" «189» .
لم يكتف المقدسي بالمحاججة العقلية في إثبات النبوة ودحض المنكرين لها ولاختصاصها بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذ قرنها بإيراد بعض الروايات المؤكدة لهذه البراهين، إذ اعتمد لأجل ذلك على إيراد نصوص من التوراة والإنجيل وباللغة التي كتبا فيها، والاحتجاج بها في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتفنيذ آراء الملل مع
(188) البدء والتأريخ، 4/ 173- 174.
(189)
المصدر نفسه، 4/ 176.
مقارنة هذه النصوص بما ذكره القرآن في هذا الخصوص «190» ، إن إيراد هذه النصوص من التوراة والإنجيل تبين لنا تضلع المقدسي في اللغات غير العربية، وهذا الأمر قد انفرد به المقدسي من بين كتّاب التأريخ العام والسيرة معا في اقتباس مثل هذه النصوص وزجها في هذا المصنف ليحاجج به الخصوص ويفحم به المخالفين والمنكرين للنبوة، وهذا ما أوضحته مقالته التي مفادها:" وهذا مما لا يخالج عاقلا فيه شك ولا تعترضه شبهة في أنه غير جائز للخصم المخالف أن يشهد على خصمه بما في كتابه وينتصر بالتسمية عليه من غير أصل ثابت عنده أو مرجوع واضح لديه وهل الاستشهاد على هذا غلا بمنزلة الاستشهاد على المحسوس الذي لا يكاد يقع الاختلاف فيه فكفى بما تلونا من الايات دلالة على صدق ما دعينا"«191» .
إن إثبات المقدسي للدلائل المؤكدة لنبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تبين استعماله المحاججة النقلية والعقلية معا في ذلك وينتهي إلى القول بعد إيراده قسما من هذه الدلائل: " وهذا يرحمك الله باب يعجز كتابنا عن استيفائه ونجتزئ بما ذكرنا عن استقصائه والله المعين برحمته"«192» .
يوضح لنا هذا الأمر قوة الصدام الفكري بين الملل والفرق والطوائف في عصر المقدسي حول فكرة النبوة وإثباتها من جهة، والتعرض الى ذكر دلائلها من جهة أخرى وهذا ما دفع بالمقدسي الى أن يخصص حيزا كبيرا من هذه السيرة
(190) ينظر، المصدر نفسه، 5/ 28- 33.
(191)
المصدر نفسه، 5/ 27.
(192)
المصدر نفسه، 5/ 44.
للرد على هذه التخرصات التي تستهدف تشويه هوية الإسلام بدحض فكرة النبوة أو جعلها مقتصرة على الأنبياء الذين سبقوا الإسلام «193» .
بقي لنا أن نشير الى أن محاولة المقدسي لم يكتب لها الاستمرار في من أتى بعده من مؤرخي التأريخ العام أو من مصنفي السيرة، باستثناء كتاب دلائل النبوة الذين كانت مصنفاتهم عبارة عن مزيج بين التأريخ وعلم الكلام باستعمال الروايات التي تؤرخ الحوادث التي وقعت فيها تلك المعاجز والدلائل على النبوة وتطبيق أساليب وأنماط المتكلمين في جعل هذه الروايات ورقة ترفع بوجه المنكرين لها «194» .
بين روز نثال المصير الذي انتهت إليه هذه المحاولة بقوله: " ومن سوء الحظ إننا لا نعلم أحدا ممن تلاه استطاع أن يتعمق في بحث التأريخ بالروح نفسها"«195» ، وأضاف آخر على هذا القول: " ان هذه المحاولة كانت فجة
…
كما لم تجد الحماس لدى المؤرخين من جهة فلم يظهر من يتابعها فبقي أروع ما فيها هو تلك الرغبة الحارة في ربط الكون والحياة بنظرة كلية شاملة تؤكد ما بين الفلسفة والتأريخ من نظام فكري واحد" «196» .
وهذا الجانب قد مثلته الفكرة التي وصف بها هذا الكتاب من حيث ربط الفلسفة بالتأريخ.
(193) ينظر، البدء والتأريخ، 5/ 25- 44.
(194)
ينظر، ص من هذه الدراسة.
(195)
علم التأريخ، ص 161- 162.
(196)
مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 328.
هذه هي الفكرة النوعية التي أضفاها المقدسي على كتابة التأريخ ومنه على كتابة السيرة التي عدّت كما لا حظنا آنفا تجربة رائدة في مجال التدوين التاريخي انعكست آثارها على معالجة مفردات السيرة وطريقة عرضها وأسلوب طرحها.
2.
تخصيص مبحث مستقل من قسم السيرة الذي تضمنه هذا الكتاب للحديث عن بعض الأحكام المهمة والحيوية التي شرعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وعلة تشريعها «197» ، إذ علل قيامه بهذا الأمر بالقول: " إعلم أن أصول شريعة الإسلام مأخوذة من الكتاب والسنة وهي مشهورة معروفة يغني القرآن والسنة عند تعدادها وتكلف القول بتكرارها لأن فقهاء الأمة قد قاموا بتدوينها واجتهدوا في تأويلها
…
غير أنا لم نستجز إخلاء هذا الكتاب عما يلائمه من ذلك لئلا يكون من طريق العجز ذكر شرائع أهل الأديان والسكون عن شريعتنا وهي لمن أشرف الشرائع وأعلى المراتب" «198» .
لم يكتف المقدسي بذكر هذه الشرائع التي سنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل تعدادها إلى تبيان علة تشريعها والهدف من إيجادها، إذ تناول في الحديث الطهارة والعلة التي من أجلها شرعت مع اتصاف المسلمين بها «199» ، كذلك استعرض أحكام التيمم بالتراب عوضا عن الماء والغاية التي جعلت التيمم مقصورا عليه دون غيره «200» ، وبين علة تحريم الميتة والدم لكراهة النفس ونفار الطبع لذلك وإجماع
(197) ينظر، البدء والتأريخ، 5/ 44- 55.
(198)
المصدر نفسه، ص 44- 55.
(199)
ينظر، البدء والتأريخ، 5/ 46- 47.
(200)
ينظر، المصدر نفسه، 5/ 48- 49.
أهل الأرض على نجاستهما «201» ، وغير ذلك من علل الشرائع التي سنها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم «202» .
يختم المقدسي استعراضه لعلل هذه الأحكام بالقول: " فهذه الأشياء مما يعيبها أهل الإلحاد ففيها من الحكمة ما لا يعلمها إلا الله تعالى"«203» .
قدم المقدسي بذكره لهذه الأمور نقلة نوعية في كتابة السيرة وذلك باستعراضه جوانب لم يلتفت إليها أقرانه من الذين سبقوه عند استعراضهم لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مصنفاتهم المختلفة، وهذا الجانب قد أفرد له أحد العلماء مصنفا مستقلا بين فيه معظم إن لم نقل كل الأحكام والغايات التي من أجلها شرعت ووضعت تعاليم ديننا الإسلامي، وقد بيّنت قناعته الشخصية في هذه العلل ومسبباتها التي من أجلها شرعت «204» .
شكل نهج المقدسي لهذا الأمر حافزا للذين تأخروا عنه على السير في ضوء إيراده الأحكام التي شرعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكن دون تبيان الغاية أو العلة التي من أجلها شرعت «205» ، وإن لم يشيروا ضمنا إلى من اعتمدوا عليه وقلدوه في هذا المنحى.
(201) ينظر، المصدر نفسه، 5/ 55.
(202)
نظر، المصدر نفسه، 5/ 49- 52، 52، 53- 54.
(203)
ينظر، المصدر نفسه، 5/ 55.
(204)
ينظر، الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، (ت 381 هـ) ، علل الشرائع، تحقيق فضل الله الطباطبائي، المدرسة الفيضية، قم، إيران، 1378 هـ، 2/ 2- 292.
(205)
ينظر، ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى، 2/ 523- 580، العاقولي، الرصف فيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفعل والوصف، ص 480- 522.
3.
انفراده بروايات لم يذكرها غيره من المؤرخين الذين وصلت كتبهم إلينا التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أورد أسماء الجن الذين أسلموا على يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعدما سمعوا قراءة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن «206» ، كذلك أورد المقدسي أيضا كلاما لأبليس في دار الندوة حول اغتيال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهدر دمه بين القبائل وقول الشعر في ذلك «207» ، مع تبيانه إمكانية حصول هذا الأمر وعدم مخالفته للعادة، إذ يقول في ذلك:" وكلام إبليس غير عجيب لأنه قد يقال لمن عمل لعمل إبليس هذا إبليس وكذلك لمن تكلم كلام إبليس يوسوس إبليس بمثله وقد سمى الله عز وجل من اقتدى الشيطان شيطانا فقال وإذا خلو إلى شياطينهم وإبليس شيطان"«208» .
فضلا عن ذلك فقد أورد نصوصا شعرية لمحمد بن إسحاق لم ترد في المصنفات التي اعتمدت على سيرته مثل شعر أبي طالب في مبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتباشيره به «209» ، وشعر ورقة بن نوفل في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «210» ، مع إثباته أبياتا شعرية ورد فيها من الفحش «211» تورع غيره في ذكرها «212» ، إلى غير ذلك من النصوص الشعرية التي وردت عنده ولم ترد عند غيره أو لم تثبتها
(206) ينظر، البدء والتأريخ، 4/ 156.
(207)
ينظر، المصدر نفسه، 4/ 168- 169.
(208)
ينظر، البدء والتأريخ، 4/ 174.
(209)
ينظر، المصدر نفسه، 4، 134.
(210)
ينظر، المصدر نفسه، 4/ 143.
(211)
ينظر، المصدر نفسه، 4/ 194- 195.
(212)
ينظر، أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 202- 209.
من النصوص الشعرية التي وردت عنده ولم ترد عند غيره أو لم تثبتها المصادر التي قبله «213» .
هذه هي الجوانب التي امتازت بها السيرة التي تضمنها كتاب البدء والتأريخ والتي بينت تأثر المقدسي في طرحها بما نهجه المتكلمون والفلاسفة وذلك باستعمال أساليبهم في كتابة تأريخه هذا مع شمولية السيرة النبوية التي حواها هذا الكتاب لتلك الأساليب.
6.
المنتظم في أخبار الملوك والأمم لعبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) *:
أسهم ابن الجوزي في تطور كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام مع اسهامه السابق في تطورها ضمن كتب السيرة المستقلة «214» ، إذ خصص في كتابه المنتظم حيزا كبيرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «215» ، وهذا الحيز الكبير قد أطلق لابن الجوزي العنان بالتحرك بحرية وتنسيق أحداث السيرة وتوابعها.
وقبل البدء بعرض هذه الإسهامات التي أضفاها ابن الجوزي على كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام يجب إعطاء صورة واضحة عن عناصر الشبه والاختلاف- إن وجدت- في ما عرضه ابن الجوزي في كل من كتابيه
(213) ينظر، البدء والتأريخ، 4/ 204، 233، 235، 236، 240، 5/ 22، 26، 36- 40.
(*) كتب الدكتور حسن عيسى الحكيم دراستين وافيتين عن منهج ابن الجوزي في كتابه المنتظم والأخرى عن منهجه في كتابة السيرة النبوية في كتابه المنتظم، ينظر، ابن الجوزي، منهجه وموارده في كتابه المنتظم، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1985، منهج ابن الجوزي في دراسة السيرة النبوية، مجلة الرسالة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، العراق، السنة 13، العددان 16، 15، نيسان، 1983، ص 93- 124.
(214)
ينظر، ص 82- 87 من هذه الدراسة.
(215)
ينظر، مج 2، ورقة 76- مج 4 ورقة 19.
[الوفا بأحوال المصطفى] و [المنتظم في أخبار الملوك والأمم] عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله، وبعبارة أدق عقد مقارنة بين منهجي ابن الجوزي في كل من كتابيه هذين عند ذكره لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيهما، وذلك أن استعراض هذه العناصر من الفائدة بمكان، إذ إنها تعطينا صورة واضحة وشاملة للمنهج الذي أتبعه ابن الجوزي في كتابة السيرة بعامة، مما يدل على أن السيرة النبوية قد وضعت في قوالب متعددة ليست بالضرورة تقع ضمن عنوانات أو اتجاهات واحدة في الكتابة، كأن تكون ضمن التأريخ العام، كما فعل المسعودي في كتابيه:[مروج الذهب] و [التنبيه والأشراف]«216» ، أو تكون عرضا لجوانب وتركا لأخرى من السيرة؛ على فرض أن المؤلف قد تناولها في مصنف آخر اختلف فيه المنحى الذي كتب فيه بدعوى الاختصار وعدم التكرار في إيراد الحوادث، وهذا ما مثله ابن عبد البر في كتابيه:[الاستيعاب في معرفة الأصحاب] و [الدرر في اختصار المغازي والسير]«217» ، اللذين كان الأول منهما في التراجم والطبقات، والاخر في كتب السيرة والمغازي المستقلة، مع العلم أن هذا الجانب هو سمة تطورية بحد ذاته في كتابة السيرة من حيث تشعب إيرادها في كتب عدة لمصنف واحد، وهذا ما ممثله ابن الجوزي بحذافيره حين أورد سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من مصنف من مصنفاته «218» ، وهذه العناصر هي:
(216) ينظر، مروج الذهب، 2/ 272- 299، التنبيه والاشراف، ص 195- 246.
(217)
ينظر، الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 29- 289، الاستيعاب، 1/ 25- 53.
(218)
ينظر، صفة الصفوة، 1/ 46- 234، المدهش، ص 40- 43، الحدائق في علم الحديث والزهديات، 1/ 150- 325، تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، ص 4- 39.
1.
استعمل ابن الجوزي المنهج الحولي في كتابه هذا عند عرضه لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مولده إلى وفاته «219» ، أما في كتابه الوفا فقد استعمل المنهج الموضوعي، كما أشارت إلى ذلك أبواب كتابه التي عرضها في مقدمته «220» .
كانت طبيعة هذين الكتابين هي السبب الذي دعا ابن الجوزي إلى انتهاج هذين المنهجين المختلفين في كل منهما، فالمنتظم تأريخ مكتوب على وفق استعراض الحوادث التي حصلت على مدار واسع من الزمن ابتداء من عصر الخليقة وانتهاء بحوادث عصر المؤلف، أما الوفا فهو كتاب قد أعطى ابن الجوزي فيه بعدا كبيرا للجوانب الروحية والنفسية والحياتية لشخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مولده حتى وفاته، ولذلك أصبح استعمال المنهج الموضوعي أمرا لا مفر منه، وذلك لصعوبة إيجاد توافق بين هذه الجوانب والسنوات التي حصلت فيها أفعال أو موقف من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
2.
أفاض ابن الجوزي في ذكر النصوص الشعرية التي قيلت في الحوادث من دون إهمال هذه النصوص أو التقليل من أبياتها «221» ، أما كتابه الوفا فقد خلا تماما من أي نص شعري سوى بعض الاراجيز التي تعدّ على أصابع اليد «222» ، بل ان هذه المواطن التي أورد فيها بعض النصوص الشعرية قد أخذ منها محل الشاهد من القصيدة من دون إيراد أبيات أخرى منها.
(219) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 109، 110، 112، 114، مج 3، ورقة 7، 8، 10، الحكيم، كتاب المنتظم لابن الجوزي، ص 63.
(220)
ينظر، الوفا بأحوال المصطفى، ص 3- 29.
(221)
ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 28، 79، 82، 84، 88، 95، 108، 149.
(222)
ينظر، الوفا بأحوال المصطفى، ص 82، 83، 84.
3.
استعمال الإسناد في إيراد الروايات التي أثبتها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «223» ، مع العلم أن هذا المسلك في إيراد الروايات لم يتبعه في كتابه الوفا الذي أغفل تماما ذكر أي طريق من طرق الإسناد، إذ بين سبب ذلك بالقول:" ولا أطرق الأحاديث خوفا على السامع من الملالة"«224» ، ولا أعرف الدافع الذي حفز على التناقض في انتهاج هذين المسلكين، مع العلم أنه قد أشار في كتابه الوفا إلى المصادر التي نقل منها معظم مروياته «225» .
4.
تعليقه على الروايات التي استعرضها في مواطن كثيرة من ضمن قسم السيرة في كتابه المنتظم «226» ، أما كتابه الاخر فقد كانت آراؤه وانتقاداته وتعقيباته على الروايات لم تتعد أصابع اليد الواحدة «227» ، وذلك مما حدا محققه على أن يصفه بالقول:" يندرج في هذا الكتاب تحت عنوان النقل والأثر فليس من تحليل ولا استدلال"«228» .
5.
الإكثار في إيراد أسماء المشتركين في الحوادث الكبرى وذلك على وفق التسلسل الأبجدي للحروف «229» ، وإيراد أسماء الأعلام الذين يتوفون في كل سنة من السنوات التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا سيما السنوات التي تلت هجرته
(223) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 106، 134، مج 3، ورقة 13، 14، 45، 46، 143، 149.
(224)
الوفا بأحوال المصطفى، ص 1.
(225)
ينظر، المصدر نفسه، ص 13- 119، 142، 282، 365- 367، 379، 382.
(226)
ينظرن المنتظم، مج 2، ورقة 107، مج 3، الورقة 40، 47، 50، 52، 91، 103.
(227)
ينظر، الوفا، ص 73، 216، 269، 271، 339.
(228)
عبد الواحد، مصطفى، مقدمة التحقيق لكتاب الوفا بأحوال المصطفى، ص 3.
(229)
ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 143، مج 3، ورقة 15، 26- 28، 30، 48- 51.
إلى المدينة «230» ، وهذا ما أغنى الكتاب وجعله زاخرا بقوائم متعددة للأعلام. أما في كتابه الاخر فكانت أسماء الأعلام المشتركين في الحوادث الواردة في الكتاب من الندرة بمكان إذ لا نجد في الحوادث التي أوردها ابن الجوزي أسماء المشتركين فيها أو الذين حضروها أو الذين كانت لهم يد في حصولها «231» .
هذه هي العناصر التي تمخضت عنها المقارنة التي أجريناها بين ما كتبه ابن الجوزي عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتابيه [المنتظم، الوفا] ، والتي تبين لنا الاختلاف الجذري والعميق في الأساليب التي إنتهجها ابن الجوزي في كتابيه آنفي الذكر، مع العلم أننا نستطيع القول بعد إجراء هذه المقارنة إن كلا من هذين الكتابين متمم للاخر من حيث عرض سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كل منهما؛ حيث حوى كل واحد منهما معلومات لم ترد في الاخر مما يجعل عملية الدمج بينهما أمرا سهل المنال وذلك بجمعهما في مصنف واحد شمولي يكون جامعا للمعلومات التي وردت مفرقة في الكتابين.
أعطى ابن الجوزي لكتابة السيرة نقلة نوعية ضمن كتب التأريخ العام بخاصة، وكتب السيرة بعامة، وذلك للإضافات التي أكسبها لها في كتابه هذا والتي تمثلت ب: -
1.
تقسيم حوادث السيرة على ثلاثة أقسام «232» : - أ. مرحلة المولد.
(230) ينظر، المصدر نفسه، مج 2، ورقة 142، 143- 144، مج 3، ورقة 8، 30، 31، 52- 54، 60، 67- 76.
(231)
ينظر، الوفا، ص 82- 84، 92- 94، 128، 129، 152- 158، 244، 245.
(232)
ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 132- 137، 140- 176، مج 4، 6- 19.
ب. مرحلة المبعث.
ج. مرحلة الوفاة.
وهذا التقسيم لحوادث السيرة عدّه أحد الباحثين فريدا في بابه ولم يسبقه أحد في ذلك من المؤرخين، بل كان هو صاحب السبق والريادة «233» ، إذ عدّ ابن الجوزي حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المحور الذي تدور حوله بقية الحوادث التي تليها «234» .
هذا هو المنحى الذي سلكه ابن الجوزي في عرضه حوادث السيرة، مع العلم أن منحاه هذا قد سبقه فيه المسعودي ولكن بصورة مختلفة عن التي عرضها ابن الجوزي، إذ قسم المسعودي حوادث السيرة إلى تقسيم ابن الجوزي نفسه ولكن باطلاق لفظ جوامع المولد أو جوامع الهجرة
…
الخ من الحوادث «235» ، ولكن يبقى المنحى الذي سلكه ابن الجوزي أكثر اتزانا وشمولية من المنحى الذي سلكه المسعودي في تقسيمه لمراحل السيرة الذي أمتاز تقسيمه بالعشوائية والاضطراب وعدم التناسق في عرض الحوادث من حيث أسبقيتها الزمنية وتداخل بعض الحوادث ببعضها، وذلك عند استعراضنا لإسهامات المسعودي في تطور كتابة السيرة النبوية في كتب التأريخ العام ضمن كتابه مروج الذهب «236» .
(233) ينظر، الحكيم، منهج ابن الجوزي في دراسة السيرة، مجلة الرسالة الإسلامية، ص 93.
(234)
ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 132.
(235)
ينظر، مروج الذهب، 2/ 280- 282، 285- 291، 292- 297.
(236)
ينظر، ص 122- 126 من هذه الدراسة.
2.
الاهتمام بإيراد أسماء الأعلام الذين يتوفون في كل سنة من سنوات الهجرة «237» ، وهذه ظاهرة لم نلمسها في أي كتاب من الكتب التي سبقت ابن الجوزي عند استعراضها لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضمن كتب التأريخ العام، وهذا ما يبين حصول امتزاج بين كتب التراجم وكتب التأريخ العام في مصنف ابن الجوزي هذا.
سار على هذا المنوال كثير من المؤرخين الذين أتوا بعد ابن الجوزي، إذ استحسنوا عمله هذا في ذكر أسماء الأعلام الذين يتوفون في كل سنة من السنوات التي تعرضها كتبهم «238» .
3.
كتب ابن الجوزي قوائم بأسماء المشاركين في الحوادث على وفق التسلسل الأبجدي «239» ، إلا في حالة واحدة وهي أسماء المشاركين في معركة بدر من الطرفين «240» ، إذ كتبه على المنحى القديم المتمثل في المصنفات التي عرضت أسماء هؤلاء على وفق انتماء اتهم القبلية وليس على وفق الحروف الأبجدية لأسمائهم «241» .
(237) ينظر، مج 2، ورقة 143، مج 3، ورقة 29، 51، 65، 67، 82، 116.
(238)
ينظر، سبط ابن الجوزي، يوسف بن قزاوغلي (ت 654 هـ) ، مرآة الزمان في وفيات الأعيان، مخطوط مصور في مكتبة الحكيم العامة في النجف برقم (285) ، مج 2، ورقة 715- 844، مج 3، ورقة 2- 185، الذهبي، العبر، 1/ 13- 15، تأريخ الإسلام، 1/ 48- 59، ابن كثير، البداية والنهاية، 7/ 32- 35، 49- 51، 61- 63، 97- 100، 101- 102، 8/ 33.
(239)
ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 143، مج 3، ورقة 15، 26- 28، 30، 48- 51، 67- 76.
(240)
ينظر، المصدر نفسه، مج 3، ورقه، 20- 23.
(241)
ينظر، ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 677، 706، 708، 2/ 3، 122، 129، 127، الواقدي، المغازي، 1/ 128- 130، 315- 318، 375- 378.
ويعدّ هذا الأمر تقليصا للموروث القبلي، أو الطابع الإفتخاري للقبائل حين عرض أسماء المنتسبين إلى القبائل من المشاركين في حوادث السيرة النبوية ولاسيما المشاركون الى جانب الرسول الأكرم، وإن ابن الجوزي بقيامه بهذا المنحى أراد سلخ هذا الطابع الموروث عند القبائل عن المصنفين الذين عرضوا أسماء أعلامها.
هذه هي المميزات التي أضفاها ابن الجوزي على كتابة السيرة والتي جعلته أحد المؤرخين الذين أسهموا في تطور كتابة السيرة النبوية؛ وقد اختزل ابن الجوزي هذا الجهد الذي بذله في كتابه [المنتظم] بمصنف صغير أسماه [شذور العقود في تأريخ العقود] افتتحه قائلا: " واني لما جمعت كتابي الجامع لنكت التواريخ المسمى ب [المنتظم في تأريخ الملوك والأمم] رأيته قد طال، مع اجتهادي في اختصاره فاثرت أن أجتني في هذا الكتاب من أعيان عيونه وأجتبي كلف التنقي من أفنان فنونه ما يكون في المثل كواسطة العقد وبيت القصيد والله الموفق"«242» .
وجعل ابن الجوزي في مختصره هذا السيرة النبوية في صفحات قليلة «243» ، وقد اتبع فيه الأسلوب نفسه الذي اتبعه في مفصله [المنتظم] إذ قسم السيرة على ثلاث مراحل «244» ، ولم ينس التعرض إلى من توفي في هذه السنوات من
(242) ابن الجوزي، شذور العقود، ورقة 3، مخطوط مصور في دار صدام للمخطوطات برقم (29856) ، ورقة 3.
(243)
ينظر، المصدر نفسه، ورقة 17- 23.
(244)
ينظر، المصدر نفسه، ورقة 17، 18، 20، 23.
الأعلام وإن لم يستعرض جميع من ذكرهم في المنتظم «245» ؛ وحذف سلاسل الإسناد وقوائم أسماء المشاركين في الحوادث أيضا «246» .
إن هذه القدرة على ضغط الصفحات الواسعة التي شغلتها سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب المنتظم «247» إلى صفحات لم تتعد أصابع اليد الواحدة تبين لنا قدرة ابن الجوزي الفائقة على الاختزال، وهذا الأمر راجع إلى تجاربه المتكررة في تدوين سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مصنفاته المتعددة «248» .
إن هذا المنحى من قبل مصنفي التأريخ العام في اختصار معظم مصنفاتهم الكبيرة بمصنفات أصغر منها له ما يعلله إذ يشير أحد الباحثين إلى: " أن حاجة الأمراء والعلماء إلى معلومات سريعة يضيق وقتهم عن أوسع منها وتقل حاجتهم إلى أكثر منها ثم ظهور المختصرات في العلوم الأخرى ثم داعي الهرب والتخلص من نسخ المجلدات الواسعة والصعوبة العملية في اقتناء وفي نقل المجلدات الضخمة التي هي في الوقت نفسه غالية الثمن وقلما يهتم بها إلا المتخصصون الهواة، كل ذلك أوجد المختصرات في التواريخ العامة أو للتأريخ الإسلامي"«249» .
(245) ينظر، شذور العقود، ورقة 19، 21، 23.
(246)
ينظر، المصدر نفسه، ورقة 18، 20، 22.
(247)
ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 76- مج 4، ورقة 19.
(248)
ينظر، صفة الصفوة، 1/ 46- 234، المدهش، ص 40- 43، الحدائق في علم الحديث والزهديات، 1/ 150- 325، تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، ص 4- 39.
(249)
مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 416.
هذه هي المصنفات التي وصلت إلينا، والتي لمسنا فيها تجديدا وتطورا في كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام، علما أن هناك مصنفات أخرى قد كتبت في هذا الجانب، ولكنها كانت تقليدية وغير ذات تجديد أو تطوير في جانب من الجوانب، وإن كان بعض المصنفات التي تم عرضها قد سارت على نمط سابقاتها، ولكننا لمسنا فيها أسلوبا أكثر تطورا من سابقاتها؛ مع تأكيد ظاهرة مهمة هي أن هذه الجوانب التي لمسناها بدأت تأخذ بالتضاؤل شيئا فشيئا كلما ابتعدنا عن المصنفات الأقدم ولا سيما بعد منتصف القرن الرابع الهجري حيث ان الكتب التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضمن كتب التأريخ العام قد شخصنا فيها هذا التضاؤل، وذلك لأن المصنفين الذين سبقوهم قد استترفوا الإمكانيات والمناهج التي وظفت للكتابة في هذا المسعى؛ لذا نرى أن المتأخرين قد وجدوا الأوائل لم يتركوا لهم شيئا يقولونه في هذا الأمر.
أما بالنسبة إلى مصنفات التأريخ العام التي وصلت إلينا ضمن المدة قيد الدراسة والتي لمسنا فيها جانب التكرار والتقليد ومتابعة أنماط وأساليب المصنفات التي سبقتها فهي:
1.
التأريخ العظيمي لأبي عبد الله محمد بن علي التنوخي (كان حيا سنة 538 هـ) :
خصص العظيمي قسما من كتابه هذا للحديث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باختصار وإيجاز «250» ، وهذه السيرة وجدناها تطابق في منحاها العام ما كتبه
(250) ينظر، التأريخ، مخطوط مصور في دار صدام للمخطوطات، برقم (9416) ، ورقة 32- 51.
اليعقوبي عن السيرة في كتابه التأريخ حين أورد الطوالع الفلكية في الحوادث الكبرى والمهمة في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثل حادثة المولد والمبعث والهجرة «251» ، ولم يقتصر العظيمي على الاقتداء بالعيقوبي فقط بل اقتدى أيضا بالمسعودي وابن عبد البر حين أورد ثبتا بأسماء المصادر التي اقتبس منها نصوصه والرواة الذين اعتمد عليهم في رواياتهم «252» ، أما المناحي الأخرى في إيراد روايات السيرة فقد أتفق فيها مع مسلك معظم كتب التأريخ العام في عرض الروايات «253» .
2.
الكامل في التأريخ لأبي الحسن علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) *:
كتب ابن الأثير هذا الكتاب معتمدا فيه على ما كتبه الطبري في كتابه التأريخ، وذلك من بدايته إلى حوادث السنة (302 هـ)«254» ، إذ يبين هذا الأمر في مقدمته التي افتتح بها كتابه هذا والتي مفادها: " انني قد جمعت في كتابي هذا ما يجتمع في كتاب واحد
…
فأبتدأت بالتأريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري إذ هو المعول عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه من جميع تراجمه ولم أخل بترجمة واحدة منها" «255» .
(251) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 21، 22، 48، اليعقوبي، التأريخ، 2/ 15- 16، 30- 31، 93- 94.
(252)
ينظر، المصدر نفسه، ورقة 51- 52، التنبيه والاشراف، ص 4- 5، الاستيعاب، 1/ 20- 25.
(253)
ينظر، المصدر نفسه، ورقة 23- 31.
(*) كتب الدكتور فيصل السامر دراسة وافية عن ابن الأثير وكتابه الكامل في دراسته التي أسماها (ابن الأثير) ، دار الرشيد، بغداد، 1983.
(254)
ينظر، الكامل في التأريخ، 6/ 150.
(255)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 5.
ومن إجراء المقارنة بين ما كتبه الطبري عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «256» ، وما كتبه ابن الأثير في ذلك «257» ، سنجد أن الأخير قد حذا حذو الأول باستعراضه سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، باستثناء اقتصاره في الحديث على رفع الروايات المتناظرة في المعنى والفحوى كما أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه هذا «258» ، وكتابته الحوادث بتسلسل وعدم قطع الحادثة لاستمرار حصولها في سنة ثانية كما فعل الطبري في ذلك «259» .
وفي ختام عرضنا لهذا لكتاب يتبين لنا أنه كان أشبه بصورة مختزلة لكتاب [تأريخ الرسل والملوك] للطبري، وبه ننتهي من عرض المناحي التطورية لكتابة السيرة النبوية ضمن كتاب التأريخ العام.
(256) ينظر، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 239- 3/ 217.
(257)
ينظر، الكامل في التأريخ، 2/ 2- 220.
(258)
ينظر، الكامل في التاريخ، 1/ 5.
(259)
السامر، ابن الأثير، ص 81- 82.