الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث المصنفات التي كتبت في شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه
الشمائل في اللغة هي الطباع والسجايا والأخلاق التي يتسم بها الشخص «1» ، ولهذا نجد أن المصنفين في موضوع الشمائل قد ترادفت مسميات كتبهم في هذا الجانب، فتارة يسمونها ب (أخلاق النبي) و (شمائل النبي) تارة أخرى. وقبل البدء بعرض هذه المصنفات يجب إعطاء لمحة موجزة عن الجذور الأولى لكتابتها وأسباب العناية بها وتشجيعها، الأمر الذي لأجله ظهرت مصنفات عديدة كتبت في هذا المجال على طول تاريخنا الإسلامي «2» .
كان وراء نظرة المسلمين لشخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أثر فعال في كتابة هذه المصنفات، إذ كان شخصه الكريم القدوة والمثال والأسوة الحسنة التي يقتدي بها المسلون، وذلك امتثالا لقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3» ، وهذا ما دفع المسلمين إلى البحث والتقصي عن الأفعال والتصرفات التي بدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته اليومية ابتداء من قيامه إلى صلاة الفجر وانتهاء بوضع رأسه الشريف على الوسادة وتجسيد هذه التصرفات كواقع حال معمول به من قبلهم هذا من جانب، ومن جانب آخر كان لاضمحلال الاتجاه
(1) ينظر، ابن منظور، لسان العرب، مادة (شمل) ، 11/ 367- 369.
(2)
ينظر، عن التراث الفكري لشمائل الرسول وأخلاقه، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ص 192- 197.
(3)
سورة الأحزاب، آية 21.
العقلي الذي نحاه المعتزلة بعد تحجيم المتوكل العباسي لنشاطهم وإحياء الاتجاه النقلي الذي مثله أهل الحديث، إذ تمثل ذلك بالعودة إلى ما ألفه المسلمون من تقصي وتتبع لأخبار وأحوال عصر الرسالة والخلافة الراشدة بعدما استحوذت العلوم العقلية على أفكار الناس ومعتقداتهم بعد أن فسح المأمون لذلك بترجمة الكتب الفلسفية والنتاجات الفكرية للأمم والشعوب المجاورة وتبني المعتزلة مهمة نشر أفكار هذه الأمم والشعوب «4» .
لأجل ما ذكرناه نشأت فكرة متمثلة بتخصيص مصنفات مستقلة يجمل فيها المحدث ما وصل إليه من روايات تبين للمسلمين طريقة عيش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتصرفاته بعدما أثبت عدد غير قليل من الروايات في المجاميع الحديثية «5» .
إن المطلع على كتب الشمائل والأخلاق النبوية يعّدها أقرب إلى كتب الحديث منها إلى كتب السيرة لأنها جزء من السنة التي يجب إتباعها، ولكن الذي حداني على جعلها ضمن مصنفات السيرة أنها قد اتسمت بالاستقلالية في عرض الجوانب الشخصية في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
هذه هي الظروف والعوامل التي رافقت استحداث كتابة هذا الجانب باستقلالية عن باقي المصنفات الأخرى التي تضمنت عرضا للعديد من الروايات الخاصة بموضوع شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
(4) ينظر، جار الله، المعتزلة، ص 158- 193.
(5)
ينظر، ابن أنس، مالك، الموطأ، دار الافاق الجديدة، بيروت، ط 1، 1979، ص 771- 548، عبد الرزاق، المصنف، 10/ 379- 466، 11/ 3- 45.
أما المصنفات التي كتبت في هذا الجانب فقد تنوعت من حيث الأسلوب الذي كتبت به، والروايات التي حواها كل مصنف منها، وهذه المصنفات هي:
1.
الشمائل النبوية لمحمد بن عيسى الترمذي (ت 279 هـ) :
مصنف هذا الكتاب هو المحدث الحافظ محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الضحاك السلمي الترمذي أحد الأئمة المحدثين وكبارهم، صنف العديد من الكتب في الحديث كان أهمها كتاب (الجامع الصحيح) ، وكان يضرب به المثل في الحفظ والإتقان والورع «6» .
كان هذا الكتاب أول مصنف كتب في هذا الجانب «7» ، ولأجل هذه الريادة أكتسب حظوة كبيرة لدى العلماء والباحثين، إذ وصفه ابن كثير بالقول: " وقد صنف الناس في هذا (شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قديما وحديثا كتبا مفردة وغير مفردة ومن أحسن من جمع في ذلك وأجاد وأفاد الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي رحمه الله، أفرد في هذا المعنى كتابه المشهور بالشمائل ولنا سماع متصل به
…
" «8» وعلّق عليه آخر بالقول: " كان كتاب الشمائل من أجلّ ما ألّف في محاسن قطب الوسائل ومنبع الفضائل" «9» ، ووصف آخر هذا الكتاب بالقول: " إن كتاب الشمائل لعلم الرواية وعالم الدراية الإمام الترمذي كتاب وحيد في بابه فريد في استيعابه لم يأت أحد بمماثل ولا بمتشابه سلك فيه
(6) ينظر، ابن النديم الفهرست، ص 233، الصفدين الوافي بالوفيات، 4/ 295، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 133.
(7)
السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، ص 168.
(8)
البداية، والنهاية، 6/ 11.
(9)
ابن حسوس، محمد بن قاسم، الفوائد الجليلة البهية على الشمائل المحمدية، مكتبة محمد علي، القاهرة، 1927، 1/ 2.
منهجا بديعا ورصّعه بعيون الأخبار وفنون الاثار ترصيعا حتى أدّى ذلك الكتاب من المواهب وطار في المشارق والمغارب" «10» ، وينتهي آخر الى وصفه بالقول:
" ومن أحسن ما صنف في شمائله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم كتاب الترمذي المختصر الجامع بحيث أن مطالع هذا الكتاب كأنه يطالع طلعة ذات الخباب ويرى محاسنه الشريفة في كل باب"«11» .
فضلا عن هذا كله كانت هذه المصادر التي عرضنا آراء أصحابها في الترمذي مصنف الشمائل عبارة عن شروحات لهذا الكتاب مع وجود شروحات أخرى له أجملها أحد فهارس الكتب «12» .
لم تقتصر جهود العلماء على شرح عباراته والتعليق عليه بل تعدت ذلك إلى البحث عن طرق تؤدي إلى حصول إجازة برواية الكتاب عن مصنفه أو عمن سمعه وأجيز بروايته، كما تبين ذلك الكتب التي يعرض فيها العلماء أسماء المصنفات التي حصلوا على إجازة بروايتها ورحلتهم في طلب الحديث «13» ، إذ أشارت العديد من هذه الكتب إلى حصول مصنفيها على إجازة برواية هذا الكتاب بعد مدة متأخرة عن حياة المؤلف «14» ، فضلا عن ذلك فقد كان لهذا الكتاب أثر ملموس في باقي العلماء وإن لم يثبتوه ضمن الكتب التي حصلوا
(10) البيجوري، إبراهيم، المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية، دار الطباعة المصرية، بولاق، 1280 هـ، ص.
(11)
الدوحي، أحمد عبد الجواد، الإتحافات الربانية بشرح الشمائل المحمدية، المكتبة التجارية الكبرى، 1380 هـ، ص 18.
(12)
ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 192- 197.
(13)
عن كتب الإجازات ورحلات العلماء، ينظر، الأهواني، عبد العزيز، كتب برامج العلماء، مجلة معهد المخطوطات العربية، جامعة الدول العربية، 1959، مج 1/ 1/ 91- 120.
(14)
ينظر، ابن خير الاشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 204، الوادي آشي، برنامج الوادي آشين ص 210- 213.
على إجازة بروايتها، إذ ذكر ابن كثير هذا الكتاب بعبارة:" ولنا سماع متصل به"«15» ، ولم يقتصر جهد العلماء على الحصول على إجازة واحدة برواية هذا الكتاب حسب بل تعددت تلك الإجازات إلى عشرات الشيوخ، إذ ذكر الوادي آشي أنه قد حمل هذا الكتاب عن أربعين شيخا «16» .
تدل لنا المقدمات التي أفتتح بها بعض المتصوفة الذين شرحوا هذا الكتاب على أنهم قد وجدوا في هذا الكتاب ضالتهم المنشودة، وذلك حين استعملوا المصطلحات التي تدل على إكبارهم للمصنف وكتابه «17» مثل عبارة القطب، والعارف «18» . ولم تنته اهتمامات العلماء به عند هذا الحد بل انبرى أحد العلماء المتأخرين إلى تخصيص مصنف مستقل للحديث عن الرواة الذين وردت أسماؤهم في كتاب الشمائل أسماه (بهجة المحافل واجمل الوسائل بالتشريف برواة الشمائل)، إذ يقول في خاتمته: " هذا آخر ما أردنا تلخيصه مما يتعلق برجال هذا الكتاب
…
وإن لم أكن له أهل لكني رجوت من حسنت شمائله وفاق عن الحصر فضائله أن يكون لي في الشدائد عونا
…
" «19» .
يبين لنا هذا الاستعراض المكانة التي حظي بها هذا الكتاب في نفوس العلماء حتى بذلوا من أجله هذا المجهود الكبير بالشرح والتهذيب والرواية، ومواظبتهم
(15) البداية والنهاية، 6/ 11.
(16)
ينظر، برنامج الوادي آشي، ص 210.
(17)
ينظر، عن المصطلحات الصوفية، طعمة، صابر، الصوفية، معتقدا ومسلكا، جامعة محمد بن سعود، الرياض، ط 1، 1985.
(18)
ينظر، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 10، 1/ 1060.
(19)
اللقاني، إبراهيم بن إبراهيم، (ت 1041 هـ) ، مخطوط في المكتبة القادرية في بغداد برقم (1024 ف) ، ورقة 98.
في الحصول على إجازة بروايته حتى قرون متأخرة، وهذا ما يفسر لنا العدد الجم والغفير من المخطوطات التي وصلت إلينا من هذا الكتاب في معظم المكتبات العامة والخاصة والتي تحتفظ بالتراث الخطي.
نرى مما سبق ذكره أن هذا الاهتمام الذي حصل عليه هذا الكتاب راجع إلى منهجيته الدقيقة وريادته في كتابة هذا الجانب عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فضلا عن وجود جوانب أخرى أسهم بها الترمذي في تطور كتابة الشمائل من جهة والسيرة النبوية من جهة أخرى، وهذه الجوانب هي:
1.
إيجاد منتخب بسيط يضم في طيات أوراقه ما تناثر من روايات في كتب الحديث عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطباعه وسجاياه وتصرفاته، فكان هذا الكتاب بوتقة انصهر فيها هذا الخضم الهائل من الروايات التي أوردتها كتب الحديث وما تناقلته شفاه الرواة في هذا الجانب من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكان نتيجة لذلك كتاب ضم (أربع مئة حديث) ، في ستة وخمسين بابا «20» ، فضلا عن ذلك كله بين الترمذي درجة القوة في كل حديث يورده من حيث صحته أو ضعفه «21» .
2.
الاستطراد في ذكر أحاديث وروايات لا تمت بصلة إلى عنوان الكتاب ومباحثه، إذ عرض فيه أسماء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «22» ، وعمره الشريف «23» ، وحادثة الوفاة «24» ، وصولا إلى كيفية رؤيته في المنام «25» .
(20) ينظر، الشمائل النبوية، دار الشرق الجديد، بغداد، 1986، ص 4- 221.
(21)
ينظرن المصدر نفسه، ص 35، 48، 197، 201.
(22)
ينظر، المصدر نفسه، ص 195.
(23)
ينظر، المصدر نفسه، ص 158.
(24)
ينظر، المصدر نفسه، ص 201.
(25)
ينظر، المصدر نفسه، ص 217.
كانت هذه الأبواب التي أوردها الترمذي في كتابه هذا متممة لما بدأه من عرض لأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسجاياه فأراد من عرضه لهذه الأبواب إيجاد ترابط معنوي بين أبواب الكتاب مجتمعة وذلك بجعل هذه الأبواب مكملة لسابقتها، مع التنبيه إلى وجود أثر لا شعوري متمثل بمحاولة الترمذي السابقة في كتابة هذه الجوانب ضمن مصنفه (الجامع الصحيح)«26» ، مع العلم أن كتابه هذا قد تضمن ذكرا للعديد من الشمائل والصفات التي أتسم بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطريقة عيشه «27» .
3.
جعل الترمذي كتابه هذا غفلا من ديباجة تفتتح الكتاب وتبين طريقته في التأليف ومقصده منه «28» ، وقد اتبع المنحى نفسه في مصنفه ذائع الصيت [الجامع الصحيح]«29» ، إذ أغفل فيه المقدمة التي يبين فيها منحاه في الكتابة والغاية من التصنيف؛ وهذا ديدن المحدثين في عصره حين يكتبون مصنفاتهم «30» ، وبهذا قد تابع الترمذي في كتابه مناهج المحدثين في عصره من حيث الأسلوب وطريقة الكتابة.
إن هذا المنحى الذي سار عليه الترمذي قد لاقى من يؤيده من المصنفين الذين انتهجوا منهجه في تدوين مصنف يجمع الأفعال والتصرفات التي كان
(26) ينظر، الجامع الصحيح، 13/ 94- 122.
(27)
ينظر، المصدر نفسه، 8/ 17- 89، 173- 174، 9/ 214.
(28)
ينظر، الشمائل النبوية، ص 4.
(29)
ينظر، الجامع الصحيح، 1/ 5.
(30)
ينظر، ابن حنبل، المسند، 1/ 2، البخاري، الصحيح، 1/ 2.
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بها أثناء يومه الحافل «31» ، ولكن هذا المنحى- لم يكن بحد ذاته- تطورا جذريا على صعيد تدوين المصنفات الخاصة بشمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل يعدّ الأساس الأول للأساليب التي كتبت في ضوئها المصنفات الأولى للشمائل، إذ تبين لنا بعد ذلك أن المصنفين في هذا الموضوع قد وضعوا مقدمات لكتبهم عرضوا فيها عناوين الموضوعات التي بحثوها في مصنفاتهم؛ فكان منحى الترمذي هذا بمثابة الدليل الذي استرشد به من أتى بعده من المصنفين الذين طوروا وأضافوا شيئا كثيرا لطريقة الترمذي، فانتهجوا منهجا لا نعدّه مغايرا بل نعدّه منسقا ومرتبا أكثر من سابقه.
4.
التعويل على الرواية في عرض الحادثة ومسبباتها، وتبيان درجة قوتها وضعفها بما يطلقه المحدثون من أحكام على الرواية والرواة (صحيح، حسن، ضعيف، غريب،
…
) «32» ، الأمر الذي جعل الكتاب خاليا من الاستنتاجات والتعليقات والربط بين ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من تصرفات في مواقف سابقة تكون مشابهة أو مقاربة لمواقف لا حقة؛ ونتيجة لذلك تبنى أحد المتأخرين مهمة الكتابة عن مسانيد الترمذي في كتابه الشمائل الذي أردف كل شيخ راويا في سلسلة السند بما قيل فيه من جرح أو تعديل من قبل المتخصصين في هذا العلم، وذلك لتتبين وثاقة الراوي والرواية التي يراد الاستنان بها «33» . ولم يقتصر الأمر على هذا، بل قام مصنفون آخرون بالتعليق وطرح الاراء التي تعبر
(31) ينظر، السني، أحمد بن محمد (ت 364 هـ) ، عمل اليوم والليلة، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، مكتبة الكليات الأزهرية، 1969، ص 12- 82.
(32)
ينظر، الشمائل، ص 8، 28، 37، 43، 50، 65، 75.
(33)
ينظر، اللقاني، بهجة المحافل وأجمل الوسائل برواة الشمائل، ورقة 3- 98.
عن وجهة نظرهم في العديد من الروايات التي أوردها في مصنفه «34» ، الأمر الذي عدّ هو الاخر خروجا جذريا على طريقة الترمذي التي انتهجها في كتابه الشمائل، حين استلهموا الأفكار والطروحات الجديدة من تصرف قام به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته اليومية، وبهذا أوجد هؤلاء ترابطا وثيقا بين ما استنبطه الفقهاء من أحكام شرعية في ضوء فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقوله، وما استنبطه المهتمون بأفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشخصية من أخلاق مثلتها هذه الأفعال؛ وخير مثل على هذا الأمر تصنيف القاضي عياض كتابه المسمى [الشفا بتعريف حقوق المصطفى]«35» .
هذه هي الجوانب التي اتسم بها كتاب الشمائل النبوية للترمذي والتي كانت فاتحة للعديد من المصنفات في هذا الجانب من حياة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
2.
أخلاق النبي لأبي محمد عبد الله بن محمد الاصبهاني المعروف بابن أبي الشيخ (ت 369 هـ) :
نال ابن أبي الشيخ مكانة مرموقة عند العلماء بعامة وعند المحدثين بخاصة، إذ وصفوه بعبارات فيها كثير من الثناء والتبجيل، وصنف العديد من الكتب في الحديث النبوي الشريف وعلومه «36» .
(34) ينظر، ابن جسوس، الفوائد الجللية، ص 2- 5.
(35)
ينظر، الشفا، 1/ 32.
(36)
ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 3/ 147- 149، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، 4/ 136.
استعمل ابن أبي الشيخ لفظة (أخلاق) عنوانا لكتابه بدلا من (شمائل) ، وهذا يؤكد وحدة دلالة هذين اللفظين، وقد سبقه في استعمال هذه اللفظة مصنفون عديدون في كتابة هذا الجانب من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «37» ، في حين أن جمعا من المؤرخين قد أبقوا استعمال عنوان (الشمائل) في مصنفاتهم التي يغلب عليها التزويق اللفظي واستعمال المحسنات البديعية كالسجع وغيره «38» .
ويعدّ كتاب ابن أبي الشيخ مكملا لما بدأه الترمذي، إذ حاول أن يدون مصنفا يحوي مجموعا من الروايات التي تبين للمسلمين وغيرهم الأخلاق والصفات الحميدة والسجايا التي أتسم بها نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أشار في ديباجة كتابه إلى هذه الأمور قائلا: " ما ذكر من حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرمه وكثرة تواضعه وصبره على المكروه وإغضائه وإعراضه عما كرهه
…
وكظم الغيظ، وحمله، وكثرة تبسّمه، وسروره، ومزاحه وبكائه وحزنه ومنطقه وألطافه، وقوله عند قيامه من مجلسه ومشيته والتفاته، وذكر محبته الطيب وتطيبه، وذكر قميصه وجبتّه وشكره ربه عند سعيه" «39» ، فكان عمله هذا إضافة نوعية لكتاب الترمذي، حين وضع مقدمة لكتابه عرض فيها ما سيذكره فيه بعكس ما فعله الترمذي «40» ؛ فضلا عن هذا الجانب فقد وجدت فيه جوانب أخرى أسهمت في تطور كتابة الشمائل والأخلاق التي اتصف بها رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الجوانب هي:
(37) ينظر، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 1059، البغدادي، هدية العارفين، 2/ 124.
(38)
ينظر، الكتاني، الرسالة المستطرفة، ص 105، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 192- 197.
(39)
أخلاق النبي، تحقيق: عبد الله الغماري، مطبعة الفجالة، القاهرة، ط 1، 1374، ص 16.
(40)
ينظر، الشمائل النبوية، ص 4.
1.
التوسع الأفقي والعمودي من حيث مضمون الكتاب ومحتواه، إذ نرى فيه روايات فاق بها سابقيه ولا سيما الترمذي الذي عرضنا جهوده في كتابة الشمائل النبوية، إذ شملت التوسعة الأفقية في الكتابة إدخاله لأبواب وفصول جديدة لم يتطرق لها الترمذي بكتابه [الشمائل]«41» ، ومن هذه الأبواب ذكر محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للفأل الحسن في القول «42» ، وكيفية حلقه لشعره وشاربيه «43» ، أما التوسعة العمودية فقد تمثلت بإضافة روايات أخرى على الروايات التي أثبتها الترمذي في كتابه [الشمائل]«44» ، فمن تلك الروايات التي أضافها ابن أبي الشيخ على الروايات التي حوتها أبواب الترمذي في كتابه آنف الذكر، إثباته أربع عشرة رواية في صفة مشيه صلى الله عليه وآله وسلم «45» ، مع العلم ان الترمذي قد أورد ثلاث روايات في هذا الباب من كتابه الشمائل 45 أ، كذلك أورد ابن أبي الشيخ إحدى وأربعين رواية في حسن خلق الرسول محمد «46» صلى الله عليه وآله وسلم في حين أورد الترمذي أربع عشرة رواية في هذا الباب فقط «47» .
(41) ينظر، أخلاق النبي، ص 16- 95، 259، 280- 283.
(42)
ينظر، أخلاق النبي، ص 268- 275.
(43)
ينظر، المصدر نفسه، ص 278- 280.
(44)
ينظر، المصدر نفسه، ص 16-، 35، 204، 204- 214، الشمائل النبوية، ص 4- 14، 76- 78.
(45)
ينظر، المصدر نفسه، ص 98- 101.
(45 أ) ينظر، الشمائل النبوية، ص 60.
(46)
ينظر، الشمائل النبوية، ص 60.
(47)
ينظر، أخلاق النبي، ص 16- 35.
إن هذه التوسعة [الأفقية منها والعمودية] ناتجة من أتساع وشمولية لفظة أخلاق عن لفظة شمائل «48» ، مع العلم أن ابن أبي الشيخ لم يكن مقتفيا أثر الترمذي في عرضه مادة الكتاب. إذ رأيناه في بعض الأماكن خاصة في الأبواب الأخيرة منه قد خالف الخطة التي سار عليها الترمذي في كتابه الشمائل، إذ لم يكرر ما أدخله الترمذي في كتابه بإيراد بعض الروايات حول أسماء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعمره ووفاته «49» ، وغير ذلك من الروايات التي ختم بها الترمذي كتابه هذا «50» ، كل هذه الأمور قد أغفلها ابن أبي الشيخ وذلك عند كتابته لمصنفه هذا وجدها غير مطابقة لعنوان الكتاب وما يبغيه من عرض لروايات تتصل بصفات الرسول وأخلاقه وسجاياه.
فضلا عن هذا كله لم تكن هذه التوسعة لتضخيم حجم هذا الكتاب بل اتبع ابن أبي الشيخ في عرضه للروايات التي أوردها فيه الاختصار في أسانيد الروايات وذلك بعدم تكرار شيوخ السند للحادثة التي رويت فيها روايات عدة ومن طرق مختلفة «51» .
2.
التسامح في إثبات الروايات وذلك من دون نقد أو تحليل لما ورد فيها «52» ، خلاف ما نهجه الترمذي في كتابه الشمائل الذي لم يترك رواية أوردها
(48) ينظر، الشمائل النبوية، ص 4- 14.
(49)
ينظر، ابن منظور، مادة (خلق) ، 10/ 86- 87، مادة (شمل) ، 11/ 367- 369.
(50)
ينظر، الشمائل النبوية، ص 195- 201.
(51)
ينظر، المصدر نفسه، ص 212- 222.
(52)
ينظر، أخلاق النبي، ص 18، 20، 36، 80، 103، 151.
في هذا الكتاب إلا وأبدى رأيه فيها من حيث صحتها وضعفها «53» ، وهذا الأمر راجع إلى أن ابن أبي الشيخ قد نهج في تثبيت معظم الروايات التي وصلت إليه والتي تمس مطالب كتابه التي ذكرها في مقدمته «54» ، وهذا بطبيعة الحال قد أدى إلى دخول بعض الأحاديث الضعيفة والواهية إلى هيكل هذا الكتاب ومحتواه «55» .
3.
الاستشهاد بالايات القرآنية في تبيان أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسجاياه «56» ، وذلك أن القرآن الكريم قد حوى بمجمله وصفا عاما لطبيعة شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومكانته، كما هو واضح من نقول هذا الكتاب التي أوردناها آنفا، وهذا ما لم نجده عند الترمذي في كتابته لشمائل الرسول التي كان جل اعتماده على إيراد الروايات التي تبين صفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وشمائله «57» .
4.
التحويل بين رجالات السند وتبيان طرق تحمله للرواية الواحدة من شيوخ عديدين ولا سيما بعد وصول هذه الرواية إلى التابعين وتابعي التابعين كما هو مبين في هذا الكتاب «58» .
من هذا العرض للجوانب التي أضفاها ابن أبي الشيخ على كتابة الشمائل النبوية ضمن كتب السيرة، نرى فيه تطورا جديا ونقلة نوعية في كتابة الشمائل
(53) ينظر، المصدر نفسه، ص 20- 299.
(54)
ينظر، الشمائل النبوية 4/ 228.
(55)
ينظر أخلاق النبي ص 16- 18.
(56)
ينظر، المصدر نفسه، ص 20، 30، 40، 47، 118، 153، 180، 268- 274، 275.
(57)
ينظر، المصدر نفسه، ص 17، 19، 28، 45، 48، 73، 165، 187، 188، 191، 195.
(58)
ينظر، الشمائل النبوية، ص 4- 228.
أولا والسيرة ثانية، وذلك بعدم الاتكاء والتقليد الأعمى لما طرحه السابقون عليه.
مع هذه الجوانب كلها، لم يلق هذا الكتاب الشهرة والانتشار والذيوع مثل كتاب الترمذي [الشمائل] لاستحواذ هذا الكتاب الأخير على مسامع الناس؛ فضلا عن الريادة في الشروع بكتابة مثل هذه المصنفات التي صورت لنا جانبا من حياة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشخصية.
3.
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت 544 هـ) *:
هو القاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، نشأ وتربى في المغرب وبلاد الأندلس ودرس الفقه على مذهب الإمام مالك، وتولى القضاء في بلاده وصنف مؤلفات عدة في الحديث وأصول روايته والفقه المالكي «59» .
وما يهمنا من مصنفاته كتابه الذائع الصيت الشفا بتعريف حقوق المصطفى الذي عدّ من كتب الشمائل على حد تعبير أحد الباحثين حين وصفه بالقول:
" فالشفا ليس كتابا في السيرة بالمفهوم الصحيح لمعنى السيرة ولكنه يندرج تحت كتب الشمائل النبوية ويخطئ من يقارنه في منهجه بكتب السيرة"«60» ، كان لهذا التصريح من قبل هذا الباحث دافع جوهري تمثل بتصريح القاضي عياض نفسه
(*) كتبت دراسات عدة عن القاضي عياض ومصنفاته، إذ خصصت مجلة المناهل الصادرة في الرباط عددا مستقلا منها للحديث عن القاضي عياض ومصنفاته وذلك بعددها المرقم 19 لسنة 1980، ص 3- 523.
(59)
كتب ابن القاضي عياض (محمد) ترجمة كاملة لأبيه أسماها (التعريف بالقاضي عياض) ، قام بتحقيقها محمد بن شريف وزارة الأوقاف، المغرب 1973.
(60)
شقور، عبد السلام، القاضي عياض الأديب، دار الفكر المغربي ط 1، 1983، ص 132.
واصفا كتابه هذا بأنه كتاب في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على وجه العموم «61» ، ويدحض باحث آخر تصريح القاضي عياض عند دراسته لمضامين كتابه هذا، فينتهي إلى عدّه كتابا واحدا من الكتب الفرعية للسيرة النبوية لأنه لم يتناول فيه غير جانب واحد من التاريخ النبوي لا غير، مع تأكيده أن مباحث الكتاب كانت مما يدخل في مباحث علم الكلام، ولكن الخصوصية التي جاء بها هي رواياته لأخبار وأحاديث تتصل بحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم النفسية والاجتماعية التي أوضحها عرضه لشمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه العالية «62» .
كل هذه الاراء قد أنارت لنا السبل في الاهتداء إلى المكان المناسب الذي نضع فيه هذا الكتاب من مجموع المصنفات المختلفة والمتشعبة الجوانب والمواضيع.
كان للعصر الذي عاش فيه القاضي عياض أثر واضح وملموس في كتابة مصنفه هذا، إذ كان عصره مرحلة من مراحل الاحتدام الفكري والسياسي بين المذاهب والدول التي نشأت وترعرعت في بلاد المغرب العربي والأندلس والتي حملت كل واحدة منها فكرة مغايرة للأخرى «63» ، إذ تركز لأجل ذلك منهجه في هذا الكتاب في نقطتين بارزتين هما:
(61) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 278.
(62)
الكتاني، محمد، مقدمة معاصرة لكتاب الشفا، مجلة المناهل، عدد 19، ص 368- 369.
(63)
ينظر، ألفر، بل، الفرق الاسلامية في الشمال الافريقي، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار ليبيا، بنغازي، 1969، ص 138- 259، سليمان، أحمد السعيد، تاريخ الدول الأسلامية ومعجم الأسر الحاكمة، دار المعارف القاهرة 1972، 1/ 42- 53.
أولا: تعميق الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورفع شأنها، وهذا ما أوضحته مقدمته التي افتتح بها كتابه هذا قائلا: " فانك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة والسلام وما يجب له من توقير واحترام وما حكم من لم يوف واجب عظيم ذلك القدر، أو أقصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر
…
" «64» ، ويضيف في مكان آخر منها بالقول: " ولا خفاء على من مارس شيئا من العلم أو خص بأنى لمحة من فهم بتعظيم الله تعالى قدر نبينا عليه الصلاة والسلام وخصوصيته إياه بفضائل ومحاسن لا تنضبط بزمام وتنويه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة والأقلام فمنها ما صرح به تعالى في كتابه ونبه به على جليل نصابه وأثنى به عليه من أخلاقه وآدابه وخص العباد على التزامه
…
ومنها ما أبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال والجلال وتخصيصه بالمحاسن الجميلة والأخلاق الحميدة والمذاهب الكريمة" «65» ، مع العلم أن مصنف القاضي عياض هذا لم يكتبه لمنكر أو جاحد لنبوة محمد بل كتبه للمسلمين والمؤمنين بها حصرا، إذ يبين ذلك بالقول: " إن كتابنا هذا لم نجمعه لمنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا لطاعن في معجزاته، فنحتاج إلى نصب البراهين عليها وتحصين حوزتها
…
بل ألفناه لأهل ملته الملبين لدعوته المصدقين لنبوته ليكون تأكيدا في محبته له ومنماة لأعماله" «66» ، ومن ثم فإن القاضي عياض بمقالته هذه قد حدد نوع قراء هذا الكتاب الذي صنفه لأجلهم.
(64) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 32.
(65)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 42- 43.
(66)
المصدر نفسه، 1/ 481.
ثانيا: المحاججة والمناظرة للاراء وعقائد المذاهب المخالفة له في العقيدة وذلك بإيراده لبعض وجهات النظر الخاصة به في ما يتعلق بمقام النبوة والواجبات اتجاهها، وتفسير النصوص الواردة إليه وتقعيد الأحكام عليها، مثال ذلك قضية تأويل النص الشعري بغير معناه الظاهر «67» ، فضلا عن كثير من القضايا التي صرح القاضي عياض بفساد آراء أصحابها فيها «68» .
اقتضى هذا الأمر من القاضي عياض أن يكون له إلمام واسع بدقائق الألفاظ وأوجه اختلاف التعابير والاستيعاب الكامل لجميع الاراء والروايات التي اختصت بهذه الأفكار والعقائد التي طرحها للبحث والناظرة في كتابه هذا، وقد أشار القاضي عياض إلى هذا الأمر في ترجمته لنفسه عندما ذكر تضلعه الواسع بعلوم الفلسفة والمنطق والحديث والعربية بدراسته لها على أيدي أساتذة كان لهم الباع الطويل في هذه العلوم «69» .
لأجل ذلك كان هذا الكتاب أحد الصور الناطقة للعصر الذي كتب فيه ومرآة عاكسة لوجهات النظر المختلفة للمذاهب التي ظهرت في المغرب العربي، حتى وصف أحد الباحثين هذا الكتاب بالقول:" نرى الكتاب بمثابة إسهام في تعميق اتجاه ودحض ما عداه"«70» .
طبق القاضي عياض هاتين النقطتين بجدية ووضعهما نصب عينيه في كتابه من أوله إلى آخره، ولأجل ذلك كانت هنالك جوانب أسهم بها القاضي عياض في تطور كتابة السيرة النبوية بعامة، ولم يكن مقتصرا على جانب الشمائل
(67) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 604.
(68)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 191، 357، 382، 438، 2/ 602، 603.
(69)
ينظر، القاضي عياض، الغنية، تحقيق: محمد عبد الكريم، الدار العربية للكتاب، بيروت، 1978، ص 13- 254.
(70)
الكتاني، مقدمة معاصرة لكتاب الشفا، مجلة المناهل، ص 368.
والأخلاق فحسب، وذلك لأن أثره لم يكن منحصرا في الكتب التي صنفت في هذا الجانب، بل تعدته إلى كتب السيرة الأخرى التي لم يماثله أي واحد منها في الأسلوب الذي عالج به الروايات والاراء التي خرج بها من معالجته لها، مما كان لهذا الأمر أثر فعال في ظهور هذا الكتاب بهذه الحلة التي تميز بها عن باقي كتب السيرة، تركز أثر القاضي عياض في تطور كتابة السيرة أولا وكتب الشمائل والأخلاق ثانيا في محاور عدّة هي:
1.
الخطابية والصنعة البلاغية في كتابة الجمل الواردة في الكتاب، وهذا الأمر قد أوضحه أحد الباحثين بالقول:" ولعل أهم خاصية يتميز بها [هذا الكتاب] انسياق الجملة عنده لأنها بنيت على أساس خطابي يقترض من الخطابة أدواتها وهو يتخيل القراء أمامه مثل جمهوره الذي يتصل به في كل جمعة أو مناسبة دينية ليخاطبهم فتراه يستعمل ضمير المخاطب ويكثر من استعمال أدوات التنبيه وينوع الجملة من حيث الطول والقصر، ويزاوج بين الجمل الفعلية والاسمية ليضمن استمرار يقظة القارئ"«71» ويضيف هذا الباحث في مكان آخر واصفا هذا الأسلوب: " وأسلوب أي صياغته اللغوية صنفان صنف يغلب عليه السرد العلمي، وآخر يكثر فيه التحليق في فضاء فسيح الأرجاء يفوح بعطر الروضة الشريفة، والحق إن النصوص التي خرج منها عياض عن السرد جاءت بارزة بشكل واضح كأنها واحات يفيء إليها من هجر النقاش الفكري المضني، ففيها كان عياض يجد راحته فيطلق العنان لخياله فأبدع ما شاء الله أن يبدع"«72» .
(71) شقور، القاضي عياض الأديب، ص 141.
(72)
المصدر نفسه، ص 137- 138.
فمن الجمل التي استعمل فيها القاضي عياض هذا الأسلوب: " أعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم الباحث عن تفاصيل جمل قدره العظيم إن خصال الجلال والكمال في البشر نوعان ضروري دنيوي اقتضته الجبلة وضرورة الحياة، ومكتسب ديني وهو ما يحمد فاعله ويقربه إلى الله زلفى إذ كان خصال الكمال والجلال ما ذكرناه ووجدنا الواحد منا يشرف بواحدة منها أو اثنتين إن اتفقت
…
فما ظنك بعظيم قدر ما اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما يأخذه عدد
…
ولا ينال بكسب ولا حيلة" «73» ، وفي موضع آخر من هذا الكتاب ذكر عبارة استعمل فيها فنونا بلاغية أضفت عليها لمسة جمالية، وهذه العبارة تمثلت بقوله: " وجدير بمواطن عمرت بالوحي والتنزيل وترد بها جبريل وميكائيل وعرجت منها الملائكة والروح وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح واشتملت تربتها إلى جسد سيد البشر، وانتشر عنها مدارس آيات ومساجد وصلوات ومشاد الفضل والخيرات ومعاهد البراهين والمعجزات ومناسك الدين ومشاعر المسلمين ومواقف سيد المرسلين ومتبوأ خاتم النبيين" «74» .
وصف أحد الباحثين عمل القاضي عياض بالقول: " إن الكاتب قد أطلق العنان لفكره ولا أقول لخياله
…
فعياض يواجه القارئ بمادة دسمة
…
فتراه يبرز المعنى الواحد في أثواب مختلفة فكأنما همه أن ترى تلك الثياب التي لا تروقك بألوانها ولكن بشدة الحبك ودقة الحياكة" «75» ، وينتهي هذا الباحث إلى
(73) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 483.
(74)
المصدر نفسه، 2/ 58.
(75)
شقور، القاضي عياض الأديب، ص 144.
القول: " ويبدو لي إن عياض كان متحررا إلى حد بعيد من الأعراف الأديبة، [وذلك] لأنه هاهنا لا يكتب ليكتب
…
ولكنه يكتب ليقول شيئا، وما يقوله ليس لأنه ما يقال عادة، ولكنه لكونه يأمن به وهذا هو سر الصدق الذي يشعر به القارئ بأسلوب القاضي عياض الوظيفي عموما ولأسلوبه في الشفا خصوصا، وهذا هو السر في التقدير الذي لقيه هذا الكتاب على الرغم من وجود العديد من الكتب في موضوعه" «76» .
2.
الخروج عن المألوف بطريقة عرضه لمحتويات كتابه، إذ كان مسلكه فيه ينحصر على وضع الفروض ثم يقعد القواعد عليها وبعد ذلك يردفها بالأدلة المانعة أو الموجبة لها، وهذا ما أوضحته مقدمة كتابه التي استعرض فيها المباحث التي سيتطرق إليها في هذا الكتاب «77» إذ كانت مصنفات السيرة تعرض الأحداث على وفق إطارها الزمني او الموضوعي، أما القاضي عياض وجدناه يسلك مسلكا مغايرا لما سلكته الكتب التي سبقته في هذا الجانب. ويبدو ان هذا الامر هو الذي دفع بحاجي خليفة الى أن يصف هذا الكتاب بالقول:" وهو كتاب عظيم النفع كثير الفائدة لم يؤلف مثله في الإسلام شكر الله سعي مؤلفه وقابله برحمته وكرمه"«78» .
(76) المصدر نفسه، ص 147.
(77)
ينظر، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 31- 40.
(78)
كشف الظنون، 2/ 1053.
3.
التعظيم والتفخيم لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك باستحداثه لصفات اتسم بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وواجبات ألقيت على عاتق المسلمين اتجاهه وذلك باستنباطها من الروايات التي أوردها في كتابه هذا «79» .
دفع هذا الأمر أحد العلماء وهو ابن تيمية الحراني إلى نعته بالقول: " غلا هذا المغيربي"«80» ، وذلك للأمور التي طرحها القاضي عياض في هذا الكتاب حول ما يجب على المسلمين فعله من حقوق وواجبات اتجاه نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة هذه الحقوق والواجبات.
لاقت هذه الكلمة التي أطلقها ابن تيمية على القاضي عياض عند تصنيفه لهذا الكتاب نوعا من الاستغراب لدى أحد الباحثين؛ إذ عقد لأجل ذلك دراسة مستقلة حول هذه الكلمة وأبعادها ودحض فكرة الغلو التي نسبها ابن تيمية إلى القاضي عياض عند تصنيفه لكتابه هذا «81» ، حيث انتهى إلى عدّ هذه الكلمة التي صدرت من ابن تيمية فلتة لا تقال «82» .
وجه انتقاد إلى القاضي عياض لمنحاه هذا من قبل الذهبي، ولكن هذا الانتقاد لم يكن بالحدة نفسها التي انتقد بها ابن تيمية، إذ كان الذهبي أكثر تهذيبا في عباراته من سلفه، وهذا ما بينه وصفه لمصنفاته التي نعتها بالقول: " تواليفه نفسية واشرفها كتاب الشفا لولا ما قد حشاه بالأحاديث المفتعلة كأي عمل إمام لا
(79) ينظر، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 267، 298، 312، 2/ 54، 87.
(80)
المقري، أحمد بن محمد، أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، تحقيق: عبد السلام هراس، دار احياء التراث، المغرب، 1980، 5/ 9.
(81)
ينظر، الفاسي، محمد، مجلة المناهل، عدد 19، ص 223- 248.
(82)
ينظر، المصدر نفسه، ص 230.
نقد له في فن الحديث ولا ذوق، والله يثيبه على حسن مقصده وينفع به شفائه وقد فعل، وهذا فيه من التأويلات البعيدة ألوان، نبينا صلوات الله عليه وسلامه غنيا بمدحة التتريل عن الأحادي الواهيات، فلماذا يا قوم نشبع بالموضوعات فيتطرق إلينا مقال ذوي الغل والحسد" «83» .
هذه هي التبعات التي أفرزتها الطروحات الجديدة التي أضفاها القاضي عياض على نظرة المسلمين إلى شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه هذا.
نال هذا الكتاب مكانة بارزة عند العلماء حتى بلغت الشروحات والتعليقات والتخريجات لأحاديثه بحسب إحصائية أحد الباحثين ما يقارب الثلاثين شرحا وتعليقا وتخريجا «84» ، فضلا عن ذلك فقد اهتم علماء آخرون بالحصول على إجازة برواية الكتاب حتى بلغ عدد العلماء الذين حصلوا على إجازة بروايته كثرة كاثرة للحد الذي لم يستطع أحد إحصاءهم، الأمر الذي دفع بالمقري إلى القول:" إن عددا لا يحصى من الأعلام رواه عنه"«85» . وقد استمرت جهود العلماء حتى مدة متأخرة في الحصول على إجازة روايته، وقد بيّن شهاب الدين أحمد الخفاجي (ت 1069 هـ) ذلك بقوله: " وأعلم أن سندي في هذا الكتاب من طرق عالية أعلاها روايتي عن خاتمة المحدثين الشيخ إبراهيم العلقمي
…
" «86» .
(83) سير أعلام النبلاء، 15/ 39.
(84)
ينظر، فهد، بدري محمد، كتاب الشفا للقاضي عياض دراسة وتحليل، مجلة المناهل، عدد 19، ص 235- 534.
(85)
أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، 5/ 41.
(86)
نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض، المطبعة الازهرية المصرية، ط 1، 1325 هـ، 1/ 3.
فضلا عن ذلك فقد لاقت مضامين الكتاب ومحاوره صدى طيبا عند المخالفين له في المذهب، وذلك لموافقتها ما طرحته هذه المذاهب من أفكار ونظريات، إذ نجد- مثلا- أن الخوانساري (ت 1313 هـ) قد وصف هذا الأمر بالقول:
" ونقل عنه أصحابنا الإمامية كثيرا، وفيه فوائد كثيرة، وتعليقات منيفة، وأحاديث جليلة في أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الولادة إلى الوفاة"«88» .
ولم تقتصر اهتمامات العلماء بالكتاب على هذا الحد بل قام عدد منهم بتقريضه شعرا، ومن الأشعار التي قيلت فيه:
إن الشفاء شفاء للنفوس غدت
…
تعنى باثار من حيزت له الأثر
جاز الإله العياضي الإمام بما
…
يجزي به كل من يحي به الأثر «89»
وأورد حاجي خليفة بعض الأبيات التي قيلت في مدح الكتاب وصاحبه وهي:
عوضت جنات عدن يا عياض
…
عن الشفا الذي ألفته عوض
جمعت فيه أحاديث مصححة
…
فهو الشفا لمن في قلبه مرض «90»
(88) محمد باقر، روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق: أسد الله إسماعيليان، قم، 1392 هـ، 5/ 337.
(89)
الوادي آشي، برنامج الوادي آشي، ص 217- 218.
(90)
كشف الظنون، 2/ 1055.