الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني السيرة النبوية المختصرة المستقلة ومصنفوها
كتب العديد من العلماء مصنفات مختصرة في مختلف العلوم والفنون والمعارف، وذلك لمن يريد معلومات مكثفة وسريعة عن موضوع ما، إذ علل أحد الباحثين بروز هذا المنحى برغبة الأمراء والعلماء بالتعرف على معلومات سريعة يضيق وقتهم عن أوسع منها وتقل حاجتهم إلى أكثر منها فضلا عن الرغبة في التخلص من نسخ المجلدات الواسعة مع الصعوبة في اقتنائها وفي نقلها التي هي في الوقت نفسه غالية الثمن وقلما يهتم بها إلا المختصون الهواة، وهذا ما أوجد ظاهرة طفحت على بعض المصنفات في التأريخ الإسلامي «1» ، وأضاف آخر حول بروز هذا المنحى الذي عزاه إلى وجود شريحة من الناس ليست لهم المقدرة على قراءة المصادر الموسعة فاتجه بعض العلماء إلى كتابة المختصرات في مختلف العلوم المعروفة آنذاك، بل قام بعض المصنفين باختصار مصنفاتهم لكي تلاقي رواجا أكثر وعناية من قبل القراء والمهتمين بها «2» .
شمل هذا المنحى كتابة السيرة النبوية أيضا، إذ نرى أن لهذا المنحى (اختصار السيرة) جذورا قديمة ظهرت مع ظهور المصنفات الأولى في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أوضح ابن سيد الناس (ت 743 هـ) هذا الأمر بقوله: " وقفت على ما جمعه الناس قديما وحديثا من المجاميع في سير النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه
(1) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 416.
(2)
روز انثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 198.
وأيامه إلى غير ذلك مما يتصل به، لم أر إلا مطيلا مملا أو مقتصرا بأكثر المقاصد مخلا، والمطيل اما معتن بالأسماء والأنساب والأشعار والاداب أو آخر يأخذ كل مأخذ في جمع الطرق والروايات ويصرف إلى ذلك ما تصل إليه القدرة من العنايات، والمقصر لا يعدو المنهج الواحد ومع ذلك فلابد أن يترك كثيرا ما فيه من الفوائد
…
" «3» ، وهذا ما لا حظناه عند ما أشار ابن هشام إلى قيامه بكتابة مختصر للسيرة التي صنفها محمد بن إسحاق «4» ، وهذا ما عدّ أول مختصر كتب للسيرة النبوية، ولكننا وضعناه ضمن كتب السيرة المسهبة وذلك لإدخاله وإضافته روايات لم يوردها ابن إسحاق في كتابه «5» ، إذ خرج بذلك هذا الكتاب من كونه مختصرا لما كتبه ابن إسحاق من روايات وأسماء لا دخل لها في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلى كونه مصنفا مستقلا بذاته ومن ثم فاننا لا نستطيع إطلاق لفظ مختصر عليه لذلك مع كون حجم الكتاب يخالف معنى هذه اللفظة، حتى أطلقت عليه بعض المصنفات التي أشارت إليه بعبارة السيرة النبوية لابن إسحاق بتهذيب ابن هشام «6» .
قبل الدخول في دراسة المصنفات المختصرة التي كتبت في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجب علينا تأكيد أن كتابة المختصرات في سيرة الرسول هي التطور ذاته في كتابة السيرة فضلا عن أن هذا المنحى التطوري في كتابة السيرة
(3) عيون الأثر، 1/ 5.
(4)
ينظر، السيرة، 1/ 4.
(5)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 6، 8، 42، 62- 63، 77، 79، 81، 115، 116، 193، 195- 199، 2/ 468، 503، 514.
(6)
ينظر، ابن خير الأشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 233، الكلاعي، الإكتفا بمغازي الرسول، 1/ 2، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 3/ 117، الكتاني، محمد جعفر، الرسالة المستطرفة لبيان مشهور السنة المشرفة، ط 3، دار الفكر، دمشق، 1964، ص 107.
قد صاحبه هو الاخر تطور ثان من جراء تعدد المصنفات التي كتبت فيه، أما هذه المصنفات فهي:
1.
أوجز السير لخير البشر لأحمد بن فارس اللغوي (ت 395 هـ) :
مصنف هذا الكتاب هو من علماء اللغة المشهورين الذين صنفوا فيها كتبا متعددة وذاع صيته في ذلك باسم أحمد بن فارس النحوي «7» ، ومع هذه الشهرة بالنحو واللغة لم يمنع ذلك من تصنيفه مصنفات عدة في السيرة ومواضيعها إذ كتب ثلاثة مصنفات هي «8» :
1.
أوجز السير لخير البشر.
2.
تفسير أسماء النبي.
3.
أخلاق النبي.
كتب أحمد بن فارس سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بضع وريقات «9» عدّت من قبل الصفدي (ت 764 هـ) من أقل ما كتب في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «10» .
صرح ابن فارس عن دوافعه في إخراجه مصنفا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحجم في مقدمته التي يقول فيها: " هذا ذكر ما يحق على المرء المسلم حفظه وتجب على ذي الدين معرفته من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولده ومنشئه ومبعثه وذكر أحواله في مغازيه ومعرفة أسماء ولده وعمومته وأزواجه،
(7) ينظر، الفيروز آبادي، البلغة في أئمة اللغة، تحقيق محمد المصري، دار الفكر، دمشق، 1972، ص 28.
(8)
ينظر، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 4/ 84.
(9)
ينظر، أو جز السير لخير. البشر، تحقيق هلال ناجي، مجلة المورد، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد، عدد 4، مجلد 2، 1973، ص 146- 158.
(10)
ينظر، الوافي بالوفيات، 1/ 8.
فان للعارف بذلك رتبة تعلو رتبه من جهله
…
وقد أتينا في مختصرنا هذا من ذلك ذكرى" «11» ، ونقل السخاوي مقالة لابن فارس بين فيها هذا الأمر مفادها:
" أن هذا بخصوصه [ويقصد بها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم] مما يحق معرفته على المسلمين، أف على من يزعم أنه عالم ولا يدري من هم السابقون الأولون من المهاجرين، ولا يفرق بين من أنفق من قبل الفتح وقاتل، وبين من أنفق من بعد ذلك، ولا يعرف أهل بدر
…
ولا من هم أهل بيعة الرضوان، ولا يعرف من الأنصار ومن المهاجرين" «12» .
تبين لنا هاتان المقالتان لابن فارس الهدف الذي حدا به على كتابة هذا المختصر البسيط لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ انصب هدفه في الكتابة على إيجاد مختصر ضئيل ومبسط لسيرة الرسول يستطيع الناس حفظه وتعلمه وفهمه على مختلف طبقاتهم، فهو بذلك أبرز الجانب التعليمي في كتابة السيرة على الجانب العاطفي.
كان هذا الهدف احدى السمات التطورية التي أكسبها ابن فارس لكتابة السيرة وذلك بتصنيف كتاب الغرض منه تثقيف الناس ببعض المعلومات عن سيرة الرسول وأحواله باختصار حتى يتسنى لهم حفظها.
انتهج ابن فارس في كتابه هذا منهجا كان هو الاخر سمة تضاف إلى كتابه بجعله أحد المصنفات التي أسهمت في تطور كتابة السيرة، إذ تمثل هذا النهج بمحاور عدة هي:
(11) أوجز السير لخير البشر، مجلة المورد، ص 146.
(12)
الأعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، ص 67- 68.
1.
كتابة هذا المصنف على وفق منهج حولي شديد الصرامة وذلك بتوثيق الحادثة التأريخية باليوم والشهر والسنة «13» ، فمن ذلك إثباته لتأريخ مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي وثقه بعبارته التي مفادها:" ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل لثمان خلون من ربيع الأول"«14» ، كذلك توثيقه لحادثه وفاة جد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عبد المطلب التي قال فيها:" ولما أتت له ثماني سنين [يقصد الرسول] وشهران وعشرة أيام توفي جده عبد المطلب"«15» ، ووثق أيضا حادثة زواج الإمام علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء عليهما السلام إذ يقول فيها:" فلما أتت لهجرته سنة وشهر واثنان وعشرون يوما زوج عليا فاطمة رضي الله عنهما"«16» .
2.
إغفال الشواهد والقرائن التأريخية مثل الايات القرآنية والأحاديث النبوية والشعر والخطب النثرية والمحاورات بين شخوص الحدث، إذ لم يستشهد بأي من هذه الشواهد والقرائن في كتابه هذا إلا في مواضع قليلة جدا إستشهد فيها ببعض الايات القرآنية، والأحاديث النبوية «17» .
كان وراء هذا الإغفال للشواهد والقرائن سبب وجيه تمثل بأن طبيعة الكتاب نفسه لا تسمح بإيراد مثل هذه الشواهد التي تضخم حجمه وتزيد من كم الروايات التي ترد فيه وإن حصل ذلك فان هذا خروج عن الغاية التي من أجلها صنف كتابه.
(13) ينظر، أو جز السير، مجلة المورد، ص 147، 149، 150، 151.
(14)
المصدر نفسه، ص 146.
(15)
المصدر نفسه، ص 147.
(16)
المصدر نفسه، ص 148.
(17)
ينظر، المصدر نفسه، ص 150- 151، 147- 153.
3.
عدم إشارة ابن فارس إلى المصادر التي إعتمد عليها في كتابه هذا سواء أكانت مصادر مكتوبة أم روايات شفاهية باستثناء روايتين ذكر فيهما سلسلة سنده لرواتها «18» .
4.
تفرده بروايات لم توردها المصادر المتقدمة مثال ذلك إيراده للخطبة التي قالها أبو طالب في زواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة «19» ، وهذه الخطبة قد أخذ بنقلها ابن الجوزي وأثبتها في بعض كتبه التي تناولت سيرة الرسول «20» ، كذلك عدّه فاطمة الزهراء عليها السلام من أكبر أولاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «21» ، مع العلم أن العلماء متفقون على أن فاطمة الزهراء هي أصغر أولاد الرسول «22» .
نالت هذه السيرة مكانة بارزة عند العلماء الذين اطلعوا عليها، إذ تشير كتب الفهارس وتراجم الشيوخ إلى أن بعض العلماء قد اهتم بالحصول على إجازة روايتها وتدريسها في حلقات الدرس «23» ، وقام آخرون باطلاق عبارات الثناء عليها، إذ وصفها العبدري (ت 688 هـ) بالقول:" وكتابه هذا (اختصار السيرة) هو تأليف نبيل في أوراق يسيرة"«24» ، واطراها الصفدي بالقول:" ومن أصغر ما صنف في ذلك [يقصد به السيرة] جزء لطيف لابن فارس صاحب المجمل في اللغة"«25» .
(18) ينظر، أو جز السير، ص 147، 151.
(19)
ينظر، المصدر نفسه، ص 147.
(20)
ينظر، ابن الجوزي، الوفا، 1/ 145، المنتظم، مج 2 ورقة 58.
(21)
ينظر، المصدر نفسه، ص 147.
(22)
ينظر، الزبيري، مصعب (ت 233 هـ) ، نسب قريش، تحقيق: ليفي بروفنسال، دار المعارف، مصر، 1953، ص 21، 23، ابن قتيبة، المعارف، ص 142- 143، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 402- 405.
(23)
ينظر، برنامج الوادي آشي، ص 236.
(24)
محمد بن احمد، الرحلة، تحقيق: محمد الفاسي، الرباط، د، ت، ص 245.
(25)
الوافي بالوفيات، 1/ 8.
لم يقتصر هذا الأمر على هذا الحد، بل تبع ذلك قيام آخرين بشرح هذه السيرة، إذ أشار محقق هذه السيرة إلى وجود شرحين لها ما زالا مخطوطين، الأول شرح الحسن بن علي بن باديس القسنطيني (ت 768 هـ) ، أسماه فرائد الدرر وفوائد الفكر في شرح مختصر السير، والثاني شرح ابن مدين بن أحمد بن محمد الفاسي (الذي كان حيا سنة 1132 هـ)«26» .
هذه هي الغايات التي كتبت من أجلها هذه السيرة والانطباعات التي تركتها على المصنفات التي تلتها والتي أثارت رغبة في تكرار تجربة كتابة مختصرات عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذ حفزت بشكل غير مباشر هذا الأمر ودعمته.
2.
الدرر في اختصار المغازي والسير ليوسف بن عبد البر (ت 463 هـ) :
وهو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري ولد في قرطبة وبرع في مختلف العلوم وصنف في مواضيعها، كانت له الأندلس خير موطن فقد عاش ونشأ بها وترعرع فيها إلى أن أصبح إمام عصره وواحد دهره «27» .
يعد ابن عبد البر من أوائل المصنفين لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الأندلسيين، والذي جعلنا نطلق هذا الحكم عليه ما قطع به أحد الباحثين بعدم وجود كتب لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ألفها علماء أندلسيون في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري، بعد أن تفحص جميع الكتب التي تحدثت عن النتاج الفكري للعلماء
(26) ينظر، ناجي هلال، مقدمة تحقيق كتاب أو جز السير، ص 145.
(27)
ينظر، الحميدي محمد بن أبي نصر (ت 488 هـ) ، جذوة المقتبس، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري، ط 2، 1989، ص 344، ابن بشكوال، الصلة، ص 616، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 3/ 306، اليافعي، مرآة الجنان، 3/ 89.
الأندلسيين في هذه المدة «28» ، إذ أبرز عوامل عدة كانت وراء هذا العزوف من قبل العلماء الأندلسيين عن الكتابة عن سيرة الرسول وأحواله في هذه القرون آنفة الذكر وتأخرها إلى عصر ابن عبد البر النمري، وهذه العوامل «29» هي:
1.
ان الأندلسيين أنتابهم شعور مفاده أن التأليف في السيرة النبوية وفي مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو من اختصاص أهل المشرق وبالذات أهل المدينة المنورة، فقيها نشأ الإسلام وترعرع ونما وأن أبناء الصحابة والتابعين هم الأجدر بالتأليف بالسيرة من غيرهم.
2.
اطلع الأندلسيون في رحلاتهم إلى المدينة على ما تم تأليفه في السيرة مما أدى إلى حصول حدس لديهم بعدم جدوى تكرار ما كتبه سابقوهم.
3.
ان الأندلس لم يكن لها نصيب وافر من الصحابة والتابعين الذين كانوا يروون على مسامع الناس سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحوادث التي مرت به وبصحابته.
4.
لم تكن ظروف المسلمين في الأندلس وفي النصف الأول من القرن الثاني الهجري مواتية بالاتجاه للتدوين التأريخي، فقد كانت عقوده حافلة بالجهاد داخل وخارج شبه الجزيرة الإيبيرية.
5.
عند ما استقرت الظروف في الأندلس بعهد الامارة في منتصف القرن الثاني الهجري اتجه المسلمون فيها إلى العناية بعلوم اللغة العربية والعلوم الشرعية.
(28) ينظر، عجيل، كريم حسن، تطور التدوين التأرخي في الأندلس حتى نهاية القرن الرابع الهجري، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1996، ص 62.
(29)
ينظر، المصدر نفسه، ص 62- 64.
مع تأكيد ما سبق أن السيرة النبوية لم تكن غافلة رواياتها ومصنفاتها عن مسامعهم وأعينهم طوال تلك المدة، بل أنها كانت تدرس في محافلهم وأنديتهم العلمية، فضلا عن رحلة بعض علماء الأندلس إلى المشرق في طلبها، إذ بينت كتب الإجازات العلمية هذا الأمر من حصول هؤلاء العلماء على قسم من تلك المصنفات سواء بالإجازة من قبل مؤلفيها أم الذين حصلوا على روايتها أم اقتناء نسخ منها يقرؤونها على من حصل إجازة روايتها ويقومون بدورهم بمنح هذه الإجازة إلى أبناء بلدهم «30» .
تتضح لنا من هذا العرض لهذه العوامل الأسباب الكامنة التي كانت وراء تأخر قيام الأندلسيين بتصنيف سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن جاء ابن عبد السير ليكسر هذا الحكر الذي قام به المشرقيون لكتابة السيرة، إذ صنف كتابا أسماه (الدرر في اختصار المغازي والسير) .
شكل هذا الكتاب نقطة تحول جادة في كتابة السيرة النبوية، وذلك لما نهجه فيه ابن عبد البر من منهج، إذ تمثل نهجه بمحاور عدة هي:
1.
غلبة الوازع الأخلاقي في تصنيف هذا الكتاب على الوازع العلمي مما شكل هذا الأمر انعطافة مهمة بكتابة مصنفات الهدف منها الحصول على الثواب من الله في تصنيف هذا الكتاب بالدرجة الأساس وجعل الغاية العلمية في تصنيفه مسألة ثانوية، إذ نلمس ذلك في مقدمته التي قال فيها: " هذا كتاب اختصرت فيه ذكر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وابتداء نبوته وأول أمره في
(30) ينظر، ابن خير الأشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 230- 237.
رسالته ومغازيه وسيرته فيها
…
وإلى الله أرغب على الأمل فيه والتوفيق لما يرضيه فهو حسبي لا شريك له" «31» .
2.
استعمال أسلوب الإحالة إلى مصنفات أخرى «32» ، وهذا الأمر راجع إلى أمور عدة هي:
أ. تجنب تكرار الروايات التي يحتم عليه مطلب الكتاب إيرادها، وذلك للمراعاة في اختصار الكتاب وضغطه إلى أقل حد ممكن وهذا ما صورته مقالته التي مفادها: " وأفردت سائر خبره في مبعثه وأوقاته
…
لأني ذكرت مولده وحاله في نشأته وعيونا من أخباره في صدر كتاب الصحابة" «33» .
ب. تعريف الجمهور للناس بكتبه التي صنفها حتى يشتهر أمرها بين الناس، وهذا عامل نفسي لأن قارئ هذا الكتاب يسبب له نوعا من الجوع المعرفي إذا وجد فيه موضوعا لم يشبعه كاتبه بحثا أو أغفله وأحال قارئيه إلى كتب أخرى وسع الحديث فيها عن هذا الموضوع الذي أغفله، مما يحفزه ذلك على طلب تلك الكتب لإشباع ذلك الجوع، إذ لم نجد في إحالاته تلك أي أسم لكتاب صنفه غيره.
3.
إجراء المفاضلة بين الروايات المتعارضة وإبداء الاراء فيها لما يراها أصح «34» ، فمن الروايات المتعارضة التي فاضل بينها الروايات التي أشارت إلى قدم السبق في الإسلام بين الإمام علي عليه السلام وأبي بكر الصديق (رضي
(31) الدرر في اختصار المغازي والسير، تحقيق شوقي ضيف، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1966، ص 29.
(32)
ينظر، المصدر نفسه، ص 31، 33، 169، 276، 287.
(33)
المصدر نفسه، ص 29.
(34)
ينظر، المصدر نفسه، ص 42، 44، 62- 63، 64، 80، 202، 212، 284.
الله عنه) «35» ، كذلك فاضل بين الروايات التي ذكرت حول من آخاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة، إذ انتهى من هذه المفاضلة بالقول:" والصحيح عند أهل السير والعلم بالاثار والخبر في المؤاخاة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في حين قدومه للمدينة أنه آخى بين علي بن أبي طالب وبين نفسه صلى الله عليه وسلم فقال له أنت أخي في الدنيا والاخرة"«36»
دفعت هذه المحاور التي أكسبها ابن عبد البر لكتابة السيرة في مصنفه هذا العلماء إلى اعتماد هذا الكتاب في مصنفاتهم والاجتهاد في الحصول على إجازة بروايته «37» ، هذا من جانب أما من جانب آخر فقد اقتبس العديد من الذين صنفوا في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نصوصه ولا سيما ابن حزم الظاهري الذي عدّ محققو كتابه (جوامع السيرة) صورة مهذبة من كتاب الدرر عند مقارنتهم للروايات الموجودة في هذين الكتابين «38» ، وهذه النتيجة توصل إليها أيضا محقق كتاب الدرر نفسه «39» .
لم تكن هذه المحاولة من قبل ابن عبد البر الأولى من نوعها في كتابة السيرة بل سبقتها محاولة، وذلك بكتابة موجز بسيط في سيرة الرسول افتتح به كتابه الاستيعاب «40» ، إذ بجمع الروايات الواردة في هذين الكتابين عن سيرة الرسول
(35) ينظر، المصدر نفسه، ص 40.
(36)
ينظر، الدرر، ص 97- 98.
(37)
ينظر، ابن خير الأشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 232، برنامج الوادي آشي، ص 215، ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/ 346- 347.
(38)
ينظر، عباس، الأسد، مقدمة تحقيق كتاب جوامع السيرة، دار المعارف، مصر، 1957، ص 5.
(39)
ينظر، ضيف، مقدمة تحقيق كتاب الدرر، ص 16.
(40)
ينظر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 25- 53.
وبدمجهما مع بعضهما ببعض يتشكل لنا كتاب موسع عن سيرة الرسول وأحواله.
3.
جوامع السيرة لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري (ت 456 هـ) :
مصنف هذا الكتاب هو أحد العلماء الأندلسيين الذين اسهموا اسهاما جادا في رفد الثقافة والفكر الاسلامي بمصنفات كبيرة وكان هذا الكتاب أحد هذه المصنفات «41» .
ولدت هذه السيرة التي صنفها ابن حزم تضاربا بين الباحثين في تحديد العنوان المناسب لها بعد اختلاف عناوينها على ظهور المخطوطات، إذ وضع محققو هذه السيرة عنوانا لها باسم (جوامع السيرة) ، وسوغوا ذلك بأن مضمون الكتاب يلائم هذا العنوان «42» ، وهذا ما أثار حفيظة أحد الباحثين الذي وصف هذا العمل من قبل محققي الكتاب بالتسرع وعدم الدقة العلمية في اختيار وتثبيت الاسم الصحيح للسيرة التي صنفها ابن حزم الظاهري «43» .
ومهما يكن من أمر الجلبة التي أثيرت عن هذا الموضوع لا تهم الباحث بقدر ما يهم اتفاق جميع المصادر التي ترجمت لابن حزم حول تصنيفه كتابا في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
(41) تنظر ترجمته، الحميدي، جذوة المقتبس، ص 489- 493، ابن حجر، لسان الميزان، 4/ 198- 202.
(42)
عباس، الأسد، مقدمة تحقيق كتاب جوامع السيرة، ص 15.
(43)
ينظر، المنجد، صلاح الدين، نقد كتاب جوامع السيرة، مجلة معهد المخطوطات العربية، مصر، السنة الأولى، 1956، ج 1 مجلد 2، ص 190.
وقد قصدنا في عرضنا للملابسات التي اكتنفت هذا الأمر استيضاح وتبيان المكانة التي حظيت بها هذه السيرة من قبل الباحثين.
وقبل تبيان المناحي التطورية التي اضفتها هذه السيرة على مثيلاتها من كتب السيرة الأخرى يجب علينا تأكيد أن ابن حزم قد حاكى فيها النهج الذي اكتسبه شيخه ابن عبد البر في كتابة السيرة، إذ وضع كتاب ابن عبد البر (الدرر) نصب عينيه عند كتابته لمصنفه هذا، فاستدل على ذلك محققو هذين الكتابين بمقارنتهما بعضهما ببعض «44» ، إذ بينوا مواضع الاقتباس في كل منهما «45» ، مع تأكيد محقق كتاب الدرر أن ابن حزم قد نقل فقرات كاملة من ابن عبد البر عند حديثه عن مبعث الرسول إلى نهايته، إذ يقول في معرض حديثه عن هذا الأمر: " وبلغ من قيمة هذه السيرة واهميتها في عصره أن وضعها ابن حزم تلميذ ابن عبد البر علما منصوبا أمام بصره حين حاول أن يصنف سيرته النبوية
…
فضلا عن كونه لم يتابع ابن عبد البر في نسق كتابه وما تضمنه من أحداث وأسماء الأعلام فحسب بل كان كثيرا ما يتابعه في سرد كلامه ناقلا نص عبارته مع شيء من التصرف أحيانا، وقد يترك النص الذي ينقله عن أستاذه دون تصرف ونراه يتابعه في كثير من مراجعاته وآرائه حتى ليظن من لم يقرأ ابن عبد البر أنها ثمرة اجتهاده" «46» ، ولكن ابن حزم لم يشر في أي مكان من سيرته إلى اسم ابن عبد البر وسيرته التي ألفها حينما اقتبس من نصوصها، مع العلم أنه قد وضع قائمة بأسماء المصادر التي اعتمد عليها في كتابه هذا «47» .
(44) ينظر، عباس، الأسد، مقدمة تحقيق كتاب جوامع السيرة، ص 8، ضيف، مقدمة تحقيق كتاب الدرر، ص 14- 15.
(45)
ينظر، ابن حزم، جوامع السيرة، ص 44، 58، 97، ابن عبد البر، الدرر، ص 35- 39، 50- 51، 101.
(46)
ينظر، ضيف، مقدمة التحقيق، ص 15.
(47)
ينظر، جوامع السيرة، ص 33، 36، 38، 40.
سار هذا الرجل أيضا على مسار من سبقه في تصنيف سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم مدفوعة بدوافع أخلاقية الهدف منها تهذيب النفوس والرغبة بالمثوبة والأجر من الله سبحانه وتعالى، وهذا ما أشار إليه في مواضع عدّة من كتابه، إذ ينهي فقراته في هذه المواضع بعبارات تنم عن رغبة جامحة في الحصول على الرحمة من الله والمغفرة والتوفيق لخدمته وخدمة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشفاعة به من النار ببركة متابعته «48» ، هذا مع العلم أن محققي هذه السيرة قد أرادوا جعل الغاية التي صنفت من أجلها غاية علمية بالدرجة الأولى «49» .
ولكن هذا الرأي لا يخلو من صحة تجاه القول آنف الذكر، وإن كانت تلك الغاية العلمية التي أشار إليها محققو هذا الكتاب دون المستوى الذي عهدناه في السير السابقة لها والتي استعرضناها في الصفحات السابقة.
وصفت هذه السيرة من قبل أحد الباحثين بأنها ليست إلا تكرارا بالمعنى الحرفي لما دونته المصادر المتقدمة عليه في هذا الجانب، مع تأكيده أن شأن ابن حزم يظهر في تأريخ الأفكار أكثر من تأريخ الحوادث والسير «50» ، ولكن هذا الكلام فيه نوع من التجني على ابن حزم وكتابه هذا إذ نرى من استعراض المناحي التي أكسبتها هذه السيرة من تطور لكتابتها، ضعف هذا الرأي، إذ كانت تلك المناحي قد شملت على:
1.
الاهتمام بإيراد مشجرات أنساب القبائل التي تتصل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبيلته ونسبه وبحسب الجد الذي يصل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يصل بإيراده
(48) ينظر، المصدر نفسه، ص 41، 44، 266.
(49)
ينظر، عباس، الأسد، مقدمة التحقيق، ص 5- 6.
(50)
المنجد، نقد لكتاب جوامع السيرة، مجلة معهد المخطوطات العربية، ج 1، مجلد 2، ص 191.
هذه التشعبات في الأنساب إلى عدنان جد الرسول الواحد والعشرين الذي ينهي به هذه التشعبات، إذ يقول في ختام إيراده لمشجرات النسب:" هاهنا انتهى النسب الصحيح الذي لا شك فيه"«51» ، وبين أيضا عدم جدوى تشعب القبائل القحطانية من أهل اليمن ومن المناطق المجاورة لها والتقاء أنساب هؤلاء بنسب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول عن سبب ذلك:" فالله اعلم بتشعبهم إلا أنهم يجتمعون معه في نوح بلا شك"«52» .
كان وراء انتهاج ابن حزم لهذا المنحى عامل أساس تمثل باستيعاب ابن حزم لجميع تجارب الذين سبقوه في كتاب أنساب القبائل العربية وتفرعاتها وإخراج هذه الأمور في مصنف مستقل يهذب فيه ما يراه فائضا عن المقصد «53» .
2.
الاستفادة من النص التأريخي الخاص بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دعم آراء مذهبه الفقهي الذي يعتمد على ظاهر النص والذي يعرف بالمذهب الظاهري «54» ، إذ عقب على كثير على نصوص عدة أوردها في سيرته بما يراه مطابقا لاراء مذهبه «55» ، فمن هذه النصوص التي ناقشها، حادثة قيام الرسول بشراء أرض المسجد الذي بني في المدينة «56» ، إذ علق على هذه الحادثة قائلا:
" وقد روينا أن النبي أبى أن يأخذه [أي المسجد] إلا بالثمن والله أعلم"«57» ،
(51) جوامع السيرة، ص 2.
(52)
المصدر نفسه، ص 4.
(53)
ينظر، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1962، ص 3.
(54)
للتعرف عن المذهب الظاهري، ينظر، كاشف الغطاء، علي بن محمد رضا، أدوار علم الفقه وأطواره، دار الزهراء، بيروت، ط 1، 1979، ص 170.
(55)
ينظر، جوامع السيرة، ص 203، 211، 212، 213، 226، 227، 229، 230، 264.
(56)
ينظر، المصدر نفسه، ص 95.
(57)
جوامع السيرة، ص 95.
كذلك وعلق على حادثة صلاة المسلمين في بني قريظة وتعنيف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم كل بحسب فهمه للأمر الذي أصدره إليهم: (لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة)«58» ، إذ علق على هذه الحادثة قائلا:" فأما التعنيف فإنما يقع على العاصي المتعمد المعصية وهو يعلم أنها معصية وأما من تأول قصدا للخير، فهو وإن لم يصادف الحق غير معنف، وعلم الله تعالى أننا لو كنا هناك لما صلينا عصر ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد أيام"«59» .
هذه هي الاراء والتعليقات الفقهية التي بثها في تضاعيف كتابه هذا والتي أعطت صورة ناصعة عن بروز هذا الأثر المذهبي في كتابة السيرة، وهذا الأمر لم يكن مألوفا في مصنفات السيرة التي سبقتها، مع العلم أن محققي هذه السيرة قد قللوا من بروز هذا العامل في الكتاب وجعله مجرد إشارات عابرة لا تستحق الذكر فضلا عن تصريحهم بالقول:" ان الظاهرية لم تستعلم في تفسير ابن حزم للروايات التي أوردها، وان طبيعة السيرة قد حجمت من تحرك ابن حزم من أن ينطلق بانتزاع الأحكام من النصوص"«60» ، وهذا الرأي تدحضه كثرة النصوص التي وردت في ثنايا هذه السيرة مردفة بتعليقات فقهية توافق مذهبه والتي استعرضناها آنفا.
كان هذا الكتاب محط أنظار العلماء الذين أتوا بعده، والذين تعرضوا في مصنفاتهم لسيرة الرسول وأحواله، إذ علقوا على آرائه التي أوردها في هذا
(58) ينظر، المصدر نفسه، ص 192.
(59)
المصدر نفسه، ص 192.
(60)
عباس، الأسد، مقدمة التحقيق، ص 11.
الكتاب، فمن هؤلاء عبد الرحمن السهيلي الذي نقل رأي ابن حزم في قضية الصلاة في بني قريظة «61» ، إذ علق على رأي ابن حزم في ذلك قائلا:" ان فهم هذا الأصل أسرا على الظاهرية لأنهم علقوا الأحكام بالنصوص، فاستحال عندهم أن يكون النص يأتي بحظر وإباحة معا"«62» ، ونقل ابن كثير الدمشقي رأي ابن حزم هذا أيضا إذ علق عليه قائلا:" وهذا القول ماش على قاعدته الأصلية بالأخذ بالظاهرية"«63» ، وعلق أيضا على ما طرحه ابن حزم ان غزوة الخندق قد حصلت في السنة الرابعة للهجرة اعتمادا على رواية واحدة رواها عبد الله بن عمر بن الخطاب «64» ، إذ علق على ذلك بالقول:" هذا الحديث مخرج في الصحيح وليس يدعى ما أدعاه ابن حزم لأن مناط إجازة الحرب كان عنده صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، فكان لا يجيز من لم يبلغها، ومن سلفها إجازة فلما كان عمر عبد الله بن عمر يوم أحد ممن لم يجزه، ولما كان قد بلغها يوم الخندق إجازة، وليس ينفي هذا أن يكون قد زاد عليها بسنة أو سنتين أو ثلاث أو أكثر من ذلك، فكأنه قال وعرضت عليه يوم الخندق وأنا بالغ ومن أبناء الحرب، وقد قيل انه كان يوم أحد في أول الرابعة عشرة من عمره وفي يوم الخندق آخر الخامسة"«65» ، إلى غير ذلك من التعليقات التي تناثرت في كتاب ابن كثير هذا «66» ، وقد نقل المقريزي (ت 802 هـ) بالسيرة التي كتبها
(61) ينظر، جوامع السيرة، ص 192.
(62)
الروض الأنف، 2/ 95.
(63)
البداية والنهاية، 4/ 118.
(64)
ينظر، جوامع السيرة، ص 185.
(65)
الفصول في اختصار سيرة الرسول، ص 56.
(66)
ينظر، المصدر نفسه، ص 88، 110.
للرسول صلى الله عليه وآله وسلم نصوصا عدة من كتاب ابن حزم هذا مع إرداف هذه النصوص بتعليقات جمة من قبله «67» ، فمن هذه النصوص التي علق عليها ما ذكره ابن حزم حول أول جمعة أقيمت في الإسلام «68» ، إذ كان تعليق المقريزي على ذلك هو أن ابن حزم في جزمه من قيام مصعب بصلاة الجمعة قول مدحوض لأن ابن إسحاق قد ذكر أن سعد بن زرارة هو الذي جمع الناس في أول جمعة أقيمت في الإسلام «69» .
هذه هي بعض النقول والاقتباسات التي اعتمدها المتأخرون الذين اطلعنا على كتبهم من سيرة ابن حزم، مع الإشارة إلى أن ابن حزم في سيرته هذه قد سار على منهجية واحدة اعتمدت على اختصار المواضيع وعدم التوسع في ذكر الأحداث، إذ أغفل ذكر النصوص الشعرية التي قيلت في تلك الأحداث إلا في موضع واحد «70» ، مع استعمال أسلوب الإحالة إلى أحد مصنفاته وذلك في معرض حديثه عن حادثة حجة الوداع «71» ، إذ قال في خاتمة ذكره لهذه الحادثة ما مفاده:" وقد أفردنا لها جزء ضخما استوعبنا فيه جميع خبرها بحمد الله تعالى وبه جل وعلى التوفيق"«72» .
(67) ينظر، أحمد بن علي، إمتاع الأسماع، تصحيح محمود أحمد شاكر، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1941، ص 50، 215، 257، 276.
(68)
ينظر، جوامع السيرة، ص 72.
(69)
إمتاع الأسماع، ص 34- 35.
(70)
ينظر، جوامع السيرة، ص 237.
(71)
ينظر، المصدر نفسه، ص 260- 262.
(72)
المصدر نفسه، ص 262.
هذه هي المستجدات التي اضافها ابن حزم لكتابة السيرة النبوية.
نرى مما تقدم أن هذه السير التي صنفها هؤلاء العلماء سواء أكانت باسهاب أم باقتضاب قد حركتها حوافز متعددة في كتابتها وهذه الحوافز هي:
1.
الحافز العلمي وهذا الحافز قد تمثل في السير التي صنفها كل من محمد بن إسحاق وذلك عندما طلب منه المنصور تصنيف كتاب لابنه المهدي منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى يومه يكون له مرجعا يرجع إليه لمعرفة أخبار الأمم السالفة وأحداث تأريخ الإسلام «73» ، ونلمسها أيضا في قيام ابن هشام بتهذيب هذه السيرة التي صنفها ابن إسحاق من الأشعار والروايات التي لا دخل لها في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «74» ، وعلى هذا الحافز أيضا كتب أحمد بن فارس سيرته الموجزة لكي تكون سهلة المنال والحفظ أمام طلاب العلم والمعرفة عن نسب الرسول وحياته وأحواله «75» ، وكان ابن الجوزي ضمن مسار مسلك هؤلاء في إيجاد مصنف لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله بعدما رأى خلقا كثيرا من أعلام معاصريه لا يحيطون علما بحقيقة فضيلة الرسول ومكانته «76» .
هذه هي المصنفات التي كان الحافز العلمي هو المحرك لكتابتها، مع العلم أن محققي سيرة ابن حزم قد حاولوا عدّ الغايات التي من أجلها صنفت هذه السيرة هي غايات علمية بالدرجة الأولى إذ صرحا بالقول: " لسنا نبعد عن الحق حين نفترض أن ابن حزم في كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرمي إلى
(73) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 221.
(74)
ينظر، السيرة، 1/ 4.
(75)
ينظر، أو جز السير خير البشر، مجلة المورد، ص 146.
(76)
ينظر، الوفا بأحوال المصطفى، ص 2.
وضع مختصر قريب المأخذ سهل المتناول في أيدي طلابه كما فعل في كثير من رسائله التأريخية
…
وأنه كان في هذا المختصر يضع الأصول التي لا يستغني عن تذكرها أو استظهارها كل من اشتغل بالسيرة النبوية من طلاب العلم وقد تكون هذه الغاية التعليمية باعثا أكيدا يحدو عالما مثل ابن حزم إلى كتابة السيرة النبوية" «77» ، وقد تبين لنا في الفقرة التي أو ضحنا فيها إسهام سيرة ابن حزم في تطور كتابة السيرة إلى قصور هذه الغاية أمام الغايات الأخلاقية التي حفزت ابن حزم في تصنيف سيرته هذه.
2.
الحافز الأخلاقي، إذ تمثل هذا الحافز بكتابة بعض مؤرخي السيرة لمصنفات الغرض منها التبرك بذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله والتقرب بها إلى الله في الحصول على المغفرة والمثوبة والشفاعة له من قبل نبيه الكريم، إذ تمثل هذا الحافز في كل من السيرة التي كتبها ابن عبد البر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث افتتحها بالقول:" فذكرت مغازيه وسيره على التقريب والاختصار والاقتصار على العيون من ذلك دون الحشد والتخليط وإلى الله أرغب على الأمل فيه والتوفيق لما يرضيه فهو حسبي لا شريك له"«78» ، وأوضحت مقالة ابن حزم التي مفادها:" من أراد خير الاخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة واحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعتمد أخلاقه وسيره ما أمكن"«79» ، هذه هي الأمور التي أوضحت مكانة سيرة الرسول وأثرها في تهذيب النفوس والأخلاق حتى
(77) عباس، الأسد، مقدمة التحقيق، ص 5.
(78)
الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 29.
(79)
مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق، تصحيح محمد أدهم البستي، مصر، د، ت، ص 13.
أوضحت مكانة سيرة الرسول وأثرها في تهذيب النفوس والأخلاق حتى كانت السيرة التي صنفها قد حملت في جنباتها بعض الأقوال التي بينت أثر هذا الحافز في كتابتها «80» .
كان لهذا الحافز أثر مباشر في كثرة المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول وأحواله في العصور اللاحقة، إذ أشار أحد الباحثين الذين أحصوا هذه المصنفات إلى دور هذا الحافز في وفرة المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «81» ، وإن كان هذا الحافز موجودا أساسا في نفس كل مصنف كتب سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأغراض علمية لأنه في قرارة نفسه يعتقد اعتقادا قاطعا أنه بعلمه هذا يؤرخ سيرة نبيه الكريم الذي اخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ثم فقد اشترك هذان الحافزان في كتابة هذه المصنفات مع هيمنة واحد منهما على الاخر.
هذان هما الحافزان المهمان اللذان كانا وراء كتابة هذه السير للرسول صلى الله عليه وآله وسلم واللذان أثرا تأثيرا مباشرا في طبيعة كل مصنف من حيث المنهج الذي كتب فيه الكتاب أو الأسلوب الذي عرضت فيه الروايات.
(80) ينظر، جوامع السيرة، ص 48، 262، 266.
(81)
ينظر، الندوي، سليمان، الرسالة المحمدية، دار الفتح، دمشق، ط 2، 1963، ص 97- 101.