الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني المصادر الأولية لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل تصنيفها وتبويبها
إهن الكتابة في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن مبوبة ومنسقة قبل الربع الثاني من القرن الثاني الهجري أي قبل تصنيف محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أول سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم «1» .
إذ كانت الكتابة في المدة المحصورة بين وفاة الرسول وتصنيف أول سيرة له مقتصرة على بعض المدونات التي كان يستقى منها بعض الأحداث التي رافقت الدعوة الإسلامية، وهذه المدونات اصبحت في ما بعد أصولا يعتمد عليها كل من يريد الكتابة في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله. ولكن هذه المدونات لم تكن مؤرخة لأحداث عصر الرسالة، بل كانت كل مدونة من هذه المدونات تتناول جانبا من هذه الأحداث لا تتناوله مدونة اخرى، أو تشير إليه عرضا، ومن ثم كانت كل مدونة من هذه المدونات مكملة للاخرى، ومتممة لها، حتى إذا جاءت المصنفات المبوبة جمعت شمل هذه المدونات ونسقت بينها في مصنف يحويها مع إضافة ما فات عليها من حوادث «2» .
وهذه المدونات (المصادر) هي: -
(1) ينظر، الذهبي، محمد بن أحمد (ت 748 هـ) ، تذكرة الحفاظ، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط 1، 1956، 1/ 151.
(2)
ينظر، مصطفى، شاكر، التأريخ العربي والمؤرخون، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1978، 1/ 92- 100.
أولا: القرآن الكريم:
يعد القرآن الكريم المصدر الأول والأوثق للسيرة النبوية، لأنه كتاب الله تعالى الموصوف بأنه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «3» ، فضلا عن أن القرآن أول الكتب التي دونها المسلمون، لأنه دستورهم في دينهم ودنياهم «4» .
كان القرآن أحد الحوافز المهمة التي حفزت المسلمين على تعرف سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله، ذلك لأنه حوى في سوره وآياته جوانب عدة من سيرته الشريفة بمختلف أجزائها، حتى كانت هذه السور والايات محط تساؤل واستفهام من قبل المسلمين فما كان منهم إلا أن وجهوا العديد من الأسئلة والاستفسارات للذين عاصروا نزول القرآن وشاهدوا حوادث الرسالة من الصحابة ومن كان له علم بأخبارها ممن أتى بعدهم، حتى كانت هذه الأسئلة والاستفهامات حافزا على كتابة سيرته الشريفة «5» .
لأجل ذلك تنبه العديد من الباحثين إلى ما تضمنه القرآن الكريم من وصف لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله، فأخذوا بجمع شتات هذه الايات المتفرقة ضمن سور
(3) سورة فصلت، آية 42.
(4)
عن كتابة القرآن الكريم وأطوارها عند المسلمين، ينظر، السجستاني، عبد الله بن أبي داوود (ت 316 هـ) ، المصاحف، تحقيق: آرثر جفري، المطبعة الرحمانية، القاهرة، ط 1، 1936، ص 3- 18.
(5)
ينظر، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 94.
القرآن المتفرقة بمصنف مستقل يحوي هذه الايات على وفق الخطة التي سار عليها معظم المؤرخون عند استعراضهم لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «6» .
وضح أحد المصنفين الذين خصصوا كتبهم لاستعراض الايات القرآنية التي تطرقت لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منحاه في هذا الأمر بقوله الذي أفتتح به كتابه:
" وبعد أن استقصيت ما في القرآن الكريم من آيات مكية ومدينة متصلة بالسيرة النبوية
…
ايقنت أن في الإمكان كتابة فصول للسيرة النبوية مقتبسة من القرآن الكريم" «7» . ويضيف آخر حول انتهاجه لهذا المسلك في التصنيف: " حاولت جهدي أن أورد ما استطعت إيراده من الايات التي وردت متفرقة في ثنايا السور ولم ترد في سياق القرآن بصورة متوالية كوحدة تأريخية مترابطة للسيرة النبوية بل جاءت في كثير من السور وكأنها معالم بارزة تشير إلى أهم الحوادث في حياة الرسول من مولده إلى مماته،
…
وقد سردت أنباء هذه السيرة في سياقها التأريخي المألوف" «8» .
ويبدو من هذه المصنفات أنها عاملت النص القرآني بوصفه أحد المصادر المهمة والموثوقة التي لا يدخل إليها الشك والضعف في معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله، ولولاه لأصبحت تلك الحوادث التي وثقها مجرد حوادث تأريخية تفتقر إلى القرائن المؤكدة لحصولها.
(6) عن المصنفات التي نحت هذا المنحى، ينظر، إسحاق، علي شواخ، معجم مصنفات القرآن الكريم، دار الرفاعي، الرياض، ط 1، 1984، 3/ 214- 215.
(7)
دروزه، محمد عزة، سيرة الرسول (ص) ، صور مقتبسة من القرآن الكريم، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، ط 1، 1، 1965/ 6.
(8)
إبراهيم، محمد إسماعيل، سيرة الرسول ومعالمها في القرآن والسنة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 1، 1972، ص 8.
ثانيا: الوثائق النبوية (مكاتبات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
تشمل هذه الوثائق الرسائل والمعاهدات والوصايا التي كتبت بأمر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودونت في حياته الشريفة وفي المرحلة المدنية من الدعوة الإسلامية حصرا لأن هذه الوثائق لم تكتب إلا عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة واصبح قائدا دينيا ودنيويا للمسلمين، وعلل أحد الباحثين افتقار العصر المكي لمثل هذه الوثائق بكون" عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة عهد تمهيد وتجربة ولا يصح أن يقال إن الجماعة الإسلامية بمكة كانت حينئذ دولة من الدول، فإنه لم يكن لها كيان سياسي ولا نظام إداري. ولا تصادف في هذا العصر ما يطلق عليه اسم السياسة الخارجية سوى بيعتي العقبة والرضوان اللتين أسستا بنيان الدولة الإسلامية وكان لهما أثر عظيم في ما بعد، إلا أنهما لم تكتبا في قرطاس ولم تؤخذا إلا سرا"«9» .
استفاد العلماء المسلمون من هذه الوثائق، واعتمدوها في مصنفاتهم بحسب اختصاصهم واهتماماتهم، وذلك لأنها شملت جوانب عدة من حوادث عصر الرسالة، إذ ضمت بحسب ما صنفها الحيدر آبادي: - أ. المعاهدات الجديدة أو تجديد ما سبق من المعاهدات.
ب. الدعوة إلى الإسلام.
ج. تولية العمال وذكر واجباتهم وكيف ينبغي لهم أن يتصرفوا في أمر من الأمور.
د. العطايا من الأراضي أو الغلات وغيرها.
(9) الحيدر آبادي، محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية العائدة للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار التأليف والترجمة، القاهرة، ط 2، 1956، مقدمة الكتاب، ص يه- يو.
هـ. كتب الأمان والتوصية.
و. استثناء بعض الأوامر في حق أناس معينين.
ز. المتفرقات مثل المكاتيب التي جاءت جوابا عما كتبه النبي (ص)«10» .
ومع كل ذلك فإن هذه الوثائق يجب أن لا تؤخذ جميعها على كونها من المسلمات الأكيدة من حيث إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بكتابتها، إذ إن هذه الوثائق بحسب ما أشار الحيدر آبادي قد لعبت بها بعض الأيدي، وظهرت من جراء ذلك بعض الوثائق المنحولة والمزيفة والموضوعة التي كتبت لأغراض متعددة. إذ وضع لأجل ذلك معيارا بين فيه مقاييس الوضع والصحة في هذه الوثائق قال فيه: " ونظن أن كتب الأمان التي كتبها النبي (ص) للقبائل المسلمة أو الخاضعة له أو التي لم تتضمن إلا مطالبتهم بأداء الفرائض الدينية صحيحة لأنه لا يوجد فيها ما عسى أن يكون موضوعا إذ لا حاجة لأحد إلى وضعها، ولو كانت بعض هذه الكتب وضعت لتكون مفخرة لقبيلة على أخرى، فان مثل هذا الوضع كان يترك طابعة في أسلوبها، ولكن هذه الوثائق لا تحتوي إلا على إعطاء الأمان والأمر بإقامة الفرائض، أما الوثائق التي لا تشمل إلا على الحقوق والواجبات أو التي تذكر أشياء لم توجد في عصر النبي (ص) فنعدها موضوعة كبعض العهود التي زعموا أن النبي (ص) كتبها للنصارى واليهود والمجوس
…
وفوق هذا نجد أن الوثائق الطويلة أكثر تعرضا للتحريف، إذ كان المعتمد في الرواية على السماع، ولذلك نجد أن أطول النصوص أكثرها اختلافا" «11» .
(10) محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، يح- يط.
(11)
المصدر نفسه، كب- كج.
أهتم المسلمون منذ عصر الرسالة بهذه الوثائق فقاموا بحفظ نسخ منها، إذ أكدت إحدى الدراسات الحديثة هذا المنحى بالقول: " إن الصحابة والتابعين كانوا ينسخون صورا من خطابات النبي (ص) المرسلة إلى مختلف الجهات
…
لأنه لم يكن ممكنا لأحد أن يجمع مكاتيب الرسول (ص) المرسلة إلى الجهات الأخرى ما لم تكن هناك صور محفوظة منها لدى الصحابة" «12» .
اتفقت هذه النتيجة آنفة الذكر مع ما أوردته المصادر المتقدمة أن بعض الصحابة كانوا يحفظون شيئا من هذه المكاتبات عندهم، إذ أوضح القاسم بن سلام (ت 224 هـ) أنه قد اطلع على الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل دومة الجندل إذ أتاه به شيخ من أهل تلك المدينة وكان الكتاب مكتوبا في قضيم صحيفة بيضاء فنسخه بتمامه «13» .
وأضاف محمد بن عبد الله الأزرقي (ت 232 هـ) إلى أن أسرته قد احتفظت بالكتاب الذي كتبه الرسول لجدهم الأزرق بن عمر وولده إلى أن ذهب هذا الكتاب في أحد السيول الذي اجتاح مكة سنة (80 هـ)«14» .
وأكد عبد الله بن يوسف الزيلعي (ت 762 هـ) أن عكرمة مولى عبد الله ابن عباس قد نسخ الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين يدعوه فيه إلى الإسلام «15» .
(12) الأعظمي، محمد حسن، كتاب النبي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1981، ص 26.
(13)
أبو عبيد، الأموال، تصحيح وتحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة حجازي، القاهرة، 1353 هـ، ص 195.
(14)
أخبار مكة وما جاء فيها من الاثار، تحقيق: رشدي صالح، دار الثقافة، مكة المكرمة، ط 2، 1965، 2/ 242.
(15)
نصب الراية لأحاديث الهداية، المجلس العلمي الهندي، ط 1، 1938، 4/ 420.
لاقت هذه الوثائق ترحيبا واستجابة من قبل الناس لسماعها وتنفيذ ما جاء فيها من أوامر وذلك في الأجيال التي تلت الجيل الأول من المسلمين، وهذا ما أوضحه محمد بن سعد (ت 230 هـ) في روايته التي أورد فيها مكانة هذه الوثائق وما كانت تلقاه من قبل المسلمين وأن أمرها لنافذ ولا يحتاج إلى مراجعة «16» .
لم يصلنا من أصول هذه الوثائق سوى أصلين أو ثلاثة كما ذكر ذلك الحيدر آبادي «17» ، وهذا راجع إلى كون هذه الوثائق قد كتبت على مواد قابلة للتلف والتحلل بسرعة ك (الأعشاب والبردي والرق) ، فضلا عن ذلك كله فإن بقية الوثائق قد حوتها المجاميع الحديثية وكتب السيرة والفقه، إذ بينت دراسة الحيدر آبادي أماكن هذه الوثائق من تلك المصنفات «18» .
ثالثا: مدونات الصحابة والتابعين:
هذه المدونات هي ما كتبه الصحابة والتابعون في صحف ورقاع مما سمعوه أو شاهدوه من أحداث عاصروها تخص سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله، ولكن هذه المدونات قد تضاربت فيها الاراء حول صحة الروايات التي أشارت إلى قيام بعض الصحابة والتابعين بتدوين مشاهداتهم وسماعاتهم لبعض أحداث السيرة «19» .
(16) ينظر، الطبقات الكبرى، نشر ادوارد سخاو، ليدن، هولندا، 1322 هـ، 6/ 77.
(17)
ينظر، مجموعة الوثائق السياسية، ص 43، 72، 80.
(18)
ينظر، المصدر نفسه، ص 3- 279.
(19)
ينظر، عوجان، وليد، النهي عن تدوين غير القرآن، مجلة البحوث والدراسات، جامعة مؤتة، الأردن، مجلد 10، عدد 3، آب، 1995، ص 65- 98.
كان سبب هذا التضارب في الاراء هو تناقض الروايات من حيث إباحة التدوين والكتابة والأمتناع عنها «20» .
ظلت هذه القضية محل أخذ وعطاء بين الباحثين حتى صرح أحدهم بتأكيد شديد حول نفي الاراء الرافضة لوجود تدوين في بدايات القرن الأول الهجري إذ يقول: " إن قضية العلم العربي الذي ظل محفوظا في الصدور والذاكرة حتى أواسط القرن الثاني الهجري إنما هي محض خرافة"«21» .
لم تقتصر تلك المدونات على الجوانب التأريخية لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل كانت تتضمن أحكاما تشريعية؛ وهذه الأحكام هي (السنة) ولذلك نجد أن هذه المدونات قد تلقفتها كتب الحديث والأخبار والسيرة على حد سواء «22» .
إن هذا التداخل بين هذه المواضيع في هذه المدونات مرجعه إلى أن الاستقلالية في التصنيف بالعلوم والمعارف آنذاك ولا سيما عند المؤرخين والمحدثين لم تكن قد نشأت بعد؛ فضلا عن اشتراكها باليات البحث لكل منهما وهي (الرواية)«23» .
(20) ينظر، ابن عبد البر، يوسف، (ت 460 هـ) ، جامع بيان العلم وفضله، المطبعة الأميرية، د، ت، 1/ 61- 68، الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، (ت 463 هـ) ، تقييد العلم، تحقيق: يوسف العش، مطبعة إحياء السنة النبوية، القاهرة، 1975، ص 35- 84.
(21)
مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 83.
(22)
ينظر، السباعي، مصطفى، السنة ومكانتها في التشريع الاسلامي، دار العروبة، القاهرة، ط 1، 1961، ص 59.
(23)
ينظر، الجندي، أنور، مقدمات العلوم والمناهج، دار الأنصار، القاهرة، ط 1، 1965، ص 65.
ولّد هذا الأمر ترابطا وثيقا جدا بين الحديث والتأريخ في بداية تدوينهما عند المسلمين، إذ أسهما في رفد السيرة النبوية بالروايات التي تدخل ضمن اختصاص كل منهما «24» .
تجدر الإشارة الى أن معظم أصول هذه المدونات قد فقد، مما حدا بالباحثين على الاعتماد في دراستها على المصادر التي نقلت منها والتي وصلت إلينا، فضلا عن ان بعضها قد تضاربت فيه الاراء من حيث إنها روايات منقولة شفاها أم مدونة. كما يبين لنا استعراض هذه المدونات: -
أ. مدونات الصحابة:
ارتأينا فصل مدونات الصحابة عن مدونات التابعين، وذلك لأن مدونات كل من هذين الفريقين تختلف بكمها وأسلوبها وطريقة عرضها للحوادث عن الأخرى، وتختلف في انتقائها للحوادث المراد توثيقها، وقبل البدء بعرض هذه المدونات يجب أن نشير إلى أن أقدم ما دون عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان من قبل صغار السن من الصحابة «25» .
أما الصحابة الذين ذكرت المصادر والدراسات الحديثة أنهم قد دونوا بعض الأشياء عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله هم:
(24) ينظر، معروف، بشار عواد، مظاهر تأثير علم الحديث في علم التأريخ عند المسلمين، مجلة الأقلام، وزارة الثقافة، العراق، عدد 5، السنة الأولى، كانون الثاني، 1965، ص 22- 37.
(25)
سزكين، فؤاد، تأريخ التراث العربي، ترجمة: فهمي ابو الفضل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977، 1/ 442.
1.
سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي:
وهو من صغار الصحابة، ولي اليمن في زمن الإمام علي عليه السلام (35- 39 هـ) وكان أبوه وأخوه قيس من رؤساء الخزرج وأعيانهم، فضلا عن شهادة من كتب عن تراجم الصحابة بأنه ممن تأكدت صحبته للرسول صلى الله عليه وآله وسلم «26» .
دون هذا الصحابي بعضا من الحوادث التي مرت عليه في عصر الرسالة حتى عدته إحدى الدراسات من أوائل الذين دونوا أشياء عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «27» ، إذ أورد ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) رواية مفادها أن حفيده سعيد بن عمر قد روى عن جده وجادة «28» ، مع العلم أن مصطلح الوجادة يعني عند المحدثين ما يقف عليه الراوي في كتاب شخص يروي بدوره عنه من دون أن يلقاه أو يسمع الحديث منه أو يجيزه برواية الكتاب ونشره «29» .
اندثرت هذه المدونة بالروايات التي كتبت فيها، إذ لم يصل منها سوى بعض الروايات المتناثرة في بطون الكتب التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولا تصور سوى بعض الأحداث البسيطة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «30» .
(26) ينظر، ابن عبد البر، يوسف، الاستيعاب في معرفة الصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، مكتبة نهضة مصر، د، ت، 2/ 16.
(27)
سزكين، تأريخ التاراث العربي، 1/ 443.
(28)
شهاب الدين أحمد بن علي، تهذيب، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، 4، 1359/ 69.
(29)
ينظر، ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن، (ت 842 هـ) ، مقدمة في علوم الحديث، تحقيق: عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ مركز تحقيق: التراث، القاهرة، 1976، ص 292.
(30)
ينظر ابن حنبل، أحمد (ت 242 هـ) ، المسند، المطبعة الميمنية، مصر، 1313 هـ، 5/ 222، الطبري، محمد بن جرير (ت 310 هـ) ، تأريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط 2، 1961، 1/ 114، سزكين، تأريخ التراث، 1/ 341.
2.
سهل بن أبي حثمة الأنصاري:
صحابي من بني ساعدة بن عامر من قبيلة الأوس كان يبلغ من العمر سبعا أو ثماني سنين حين توفي الرسول ومات في أول خلافة معاوية «31» .
اهتم بتدوين بعض حوادث السيرة، إذ أشار إلى هذا الأمر حفيده محمد بن يحيى بن سهل إلى أنه كان يعتمد على ما كتبه آباؤه في حوادث السيرة، ومما يؤكد هذا الأمر أنه كان يقول في معرض حديثه عن بعض المغازي التي نقلها منه الواقدي في كتابه (المغازي)«32» ، " وجدت في كتاب آبائي"«33» .
فضلا عن ذلك فإن إحدى الدراسات الحديثة قد أكدت أن هذه المدونة قد كانت أحد المصادر المهمة المكتوبة التي اعتمدها الواقدي في كتابه المغازي «34» ووجدت هذه المدونة مكانا آخر لها عند البلاذري (ت 279 هـ) إذ نقل منها رواية واحدة «35» .
كانت هذه المدونة أوفر حظا من سابقتها لوجود شخص قد روى بعض متضمناتها من الروايات التي وثقت بعض حوادث السيرة.
(31) ينظر، ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/ 661.
(32)
ينظر، 2/ 713، 775، 777.
(33)
سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 444.
(34)
ينظر، الكبيسي، محمد فضيل، منهج الواقدي وموارده في كتاب المغازي، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1989، ص 194- 195.
(35)
ينظر، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، تحقيق: محمد حميد الله، جامعة الدول العربية، دار المعارف، ط 1، 1959، 1/ 509.
3.
عبد الله بن عباس (ت 68 هـ) :
وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الذين أخذ عنه العلم الكثير بمختلف صنوفه حتى لقب بحبر الأمة «36» .
أشارت العديد من المصادر إلى دور هذا الرجل بتوثيق أخبار السيرة والسؤال عن الأحداث التي حصلت فيها ممن شاهدها أو سمعها من الصحابة الذين هم اكبر سنا منه، إذ يشير إلى هذا الأمر:" كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل من القرآن في ذلك وكنت لا أتي أحدا منهم إلا سر باتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"«37» ، ويضيف أيضا:" لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت لرجل من الأنصار هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانهم اليوم كثر قال واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم قال فتركت ذلك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحديث فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فأتي وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي التراب فيخرج فيراني فيقول يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ألا أرسلت علي فاتيك فأقول لا أنا أحق أن اتيك، فأسأله عن الحديث، فعاش ذلك الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي ليسألوني فيقول هذا الفتى كان أعقل مني"«38» .
(36) ترجم له ابن سعد ترجمة وافية، ينظر، الطبقات الكبرى، 2/ 2/ 112- 138.
(37)
المصدر نفسه، 2/ 2/ 124.
(38)
الطبقات الكبرى، 2/ 2/ 121.
بينت هذه الرواية أن الناس قد لزموا ابن عباس وأخذوا يسألونه ويستفسرون عن الحوادث التي جرت في عصر الرسالة على الرغم من وجود صحابة عدة للرسول أكبر سنا بكثير منه حتى قال واحد من الذين لازموا عبد الله بن عباس وسمعوا منه: " إني رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تداروا في شيء صاروا إلى قول ابن عباس"«39» .
لم يقتصر ابن عباس على السؤال وحده في حفظ أخبار السيرة بل كان يكتب ما يسمعه من أجوبة عن الأسئلة والاستفسارات التي كان يطرحها على الصحابة، حتى رآه بعض الناس وقد حمل ألواحا يكتب عليها عن أبي رافعة شيئا من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «40» ، حتى كانت حصيلة هذا المجهود المضني أن ترك مجموعة كبيرة من المدونات أو الصحائف في مختلف صنوف العلم وصفها ممن شاهدها بأنها تقدر بحمل بعير «41» .
ومن اطلاعنا على الروايات التي تحدثت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف المصادر وجدنا قسما كبيرا منها ينتهي بطرق إسنادها إلى ابن عباس «42» ، وهذا راجع إلى أن ابن عباس كان ممن يحدث الناس بمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس
(39) المصدر نفسه، 2/ 2/ 122.
(40)
ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2/ 2/ 127.
(41)
ينظر، المصدر نفسه، 5/ 216، الخطيب البغدادي، تقييد العلم، ص 136.
(42)
ينظر على سبيل المثال لا الحصر ابن هشام عبد الملك، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط 2، 1955. مج 1/ 207، 214، 219، 235، 295، 308، 314، 317، 417، 480، 521، مج 2/ 47، 55، 96، 97، 113، 119، 332، الواقدي، المغازي، 18، 54، 70، 79، 103، 146، 147، 153، 209، 310، 325.
كبير يعقده في المدينة، إذ روى من شاهده أنه كان يجلس يوما لا يذكر فيه إلا الفقه ويوما التأويل ويوما المغازي ويوما أيام العرب «43» .
تبين لنا هذه الروايات المنقولة عن ابن عباس أنه لم يفصل بين الروايات التي تخص حياة الرسول والروايات التي تخص ما نطق به من أحكام شرعية وما سنه من أفعال وأقوال، حتى كانت هذه السمة التي امتازت بها مدونات ابن عباس عن أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته.
4.
عبد الله بن عمرو بن العاص (ت 65 هـ) :
ولد بمكة قبل البعثة بسنتين، وكان من صغار الصحابة الذين دونوا بعضا من أحاديث الرسول في صحيفة أسماها (الصحيفة الصادقة) . وظل هذا الرجل محايدا في اتجاهاته وميوله للأحداث التي عاصرها إلى أن توفي بمصر سنة (65 هـ) في أرجح الأقوال «44» .
كانت اهتمامات هذا الصحابي منصبة على تدوين أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أكد ابن الأثير (ت 630 هـ) هذا الأمر حين وصف مدونة عبد الله بن عمرو بأنها قد ضمت ألف حديث «45» ، حفظ الزمن لنا منها (436) حديثا بحسب
(43) ينظر، ابن سعد، الطبقات، 2/ 2/ 122.
(44)
ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7/ 1/ 189، ابن الأثير، علي بن محمد، (ت 630 هـ) ، أسد الغابة في معرفة الصحابة، مطبعة بولاق، مصر، 1280 هـ، 3/ 233.
(45)
أسد الغابة، 3/ 233.
احصائية أحد الباحثين «46» ، وأورد الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) ، أكثر من نصفها في مسنده «47» .
تناقل أحفاد عبد الله هذه الصحيفة أو المدونة، ومن الذين وصلت إليهم حفيده عمر بن شعيب، إذ أشار ابن حجر إلى هذا الأمر بقوله:" إذا حدث عمر ابن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتاب"«48»
كانت هذه المدونة إلى الحديث أقرب منها إلى السيرة ولكن محتوياتها من بعض الأحاديث التي وثقت بعض المواقف والأحداث التي حصلت في عصر الرسالة جعلتنا نوردها ضمن مدونات الصحابة للسيرة، إذ وجدنا الطبري قد اعتمد على رواية متن هذه الصحيفة بطريق عمر بن شعيب في كتابه التأريخ «49» .
هذه هي المدونات التي تناولت بعض أحداث السيرة والتي اتفقت المصادر القديمة على قيام الصحابة بتدوينها، وإن لم تكن هي نهاية جهود الصحابة في توثيق أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل توجد هنالك مدونات أخرى لا ترتقي إلى مصاف سابقتها، إذ لم يتعد توثيقها حادثة محددة أو كتابة بعض الأحاديث النبوية «50» .
(46) الخطيب، محمد عجاج، السنة قبل التدوين، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 1، 1963، ص 349- 350.
(47)
ينظر، أحمد بن محمد الشيباني، المسند، دار صادر، بيروت، ط 1، 1969، 2/ 158- 226.
(48)
تهذيب التهذيب، 8/ 49.
(49)
ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 86.
(50)
العمري، أكرم، بحوث في تأريخ السنة المشرفة، مطبعة الإرشاد، بغداد، ط 1967، 1 ص 141- 148.
ب. مدونات التابعين وتابعيهم:
جاء بعد الصحابة جيل التابعين أو من اتصل بهم وسمع منهم أخبار عصر الرسالة بتفصيلاته الدينية والدنيوية، وقد أكمل هؤلاء ما بدأه سابقوهم بتدوين أحداث السيرة ونشرها بين الناس. إذ وجدنا مدوناتهم قد كانت أكثر وضوحا وشمولية من سابقتها، وذلك لتبني بعضهم مهمة جمع وتدوين بعض النصوص التي وقعت بين أيديهم والتي كتبها بعض الصحابة. تلك النصوص التي تخص مشاهد الرسالة والأحداث التي عاصروها من جانب، ومن جانب آخر وجود حافز تمثل في دور مؤسسة الخلافة التي كان الأمويون على رأسها؛ حين اتجهت هذه المؤسسة الى السؤال والاستفسار من بعض هؤلاء التابعين عما يعرفونه من أخبار حول حوادث معينة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما رافقها من أمور الدعوة والدعاة، وهذا الأمر يعدّ نقلة نوعية في المسار التطوري لكتابة السيرة النبوية، فضلا عن ذلك فإن هذه المدونات تتصف بطابعها الإنساني وواقعيتها ويندر فيها ما نشاهده لدى المؤرخين في ما بعد من مبالغات «51» .
ولّدت هذه الأمور مجتمعة دورا أساسا في تكوين مرحلة انتقالية أطلق عليها (المرحلة الانتقالية بين دراسة الحديث ودراسة المغازي)«52» ، ويعطي أحد الباحثين بعدا أكثر شمولية من الرأي السابق إذ يقول: " وقد شرع الناس في الجيل التالي للصحابة، جيل التابعين بجمع روايات وأقوال النبي (ص) وأفعاله
(51) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ، ص 21.
(52)
المصدر نفسه، ص 21.
التي كانت شائعة في عصرهم، وإذا كانت مادة أحاديث عدد من الصحابة المدونة في الصحائف والكتب مشكوكا في صحتها وقيمتها، فانه لا يوجد شك في أن مثل هذه الكتب كانت نادرة في جيل التابعين الذين أخذوا معارفهم عن الصحابة ووجد بينهم أناس يعتبرون علماء بالمغازي" «53» .
كانت هذه المدونات من نتاج كل من:
1.
أبان بن عثمان (ت 105 هـ) *:
وهو ابن الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رض) ولد في المدينة المنورة وسمع من الصحابة بعض الأحاديث والروايات عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله، وعين واليا عليها في زمن عبد الملك بن مروان (67- 87 هـ)«54» .
اشتهر هذا الرجل بتدوينه مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفته بها معرفته دقيقة، إذ تذكر إحدى الروايات أنه قد قام بتدوينها في زمن مبكر، وذلك حين سأله سليمان بن عبد الملك عند زيارته المدينة في موسم الحج عن مشاهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أجابه أبان:(هي محفوظة عندي) ، فسرعان ما أحضرها له فلما قرأها أمر بتمزيقها ورميها بالنبل؛ وذلك لما رأى فيها من إبراز أبان لدور
(53) هوروفتس، يوسف، المغازي الأولى ومؤلفوها، ترجمة: حسين نصار، دار التأليف والترجمة، القاهرة، 1949، ص 30.
(*) كتب الدكتور محمد مفيد آل ياسين بحثا مستفيضا عن هذه الشخصية وعن الملابسات التي رافقتها من حيث تأكيد قيامها بتدوين أحداث السيرة، مجلة المؤرخ العربي، الأمانة العامة الاتحاد المؤرخين العرب، بغداد، العدد 57، 1999، ص 167- 174.
(54)
ينظر، ابن سعد، الطبقات، 5/ 112، ابن حيان، أبو حاتم محمد البستي (ت 354 هـ) ، مشاهير علماء الأنصار، تحقيق: فيلا شيهمر، مطبعة لجنة التأليف. والترجمة، القاهرة، 1959، ص 67.
الأنصار في هذه المشاهد، على الرغم من موقفهم المتخاذل في نصرة الخليفة عثمان بعدما حوصر وقتل في داره «55» .
تعطينا هذه الرواية- إن صحت- الجواب عن التساؤل الذي يتبادر إلى الذهن حول مصير هذه المدونة عند المعاصرين والمتأخرين عن عصر أبان، ولكن هنالك نص أورده ابن سعد في حديثه عن المغيرة بن عبد الرحمن يقول فيه:" كان ثقة قليل الحديث إلا مغازي رسول الله أخذها من أبان"«56» ، فكان هذا النص مبينا المصير الذي آلت إليه هذه المدونة بعد ما اجتمعت عليها هاتان الصعوبتان اللتان كانتا عاملا مهما في اندثار هذه المدونة، ويعلق أحد الباحثين على هذا الأمر بالقول:" إن أبان بن عثمان لم يرزق التلاميذ والرواة الذين يوصلون مروياته أو مدوناته في المغازي والسير إلى مسامع الناس"«57» ، وقد قطع الدوري بعدم وصول أي شيء من هذه المدونة في المصنفات التي اعتمدت مرويات أقرانه من التابعين عند حديثها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله «58» .
من هذا كله نخرج بمحصلة نهائية هي أننا لا نستطيع إيضاح الأسس والثوابت التي عرض بها أبان سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مدونته تلك، وذلك لاندثارها، وعدم وجود نقول منها في الكتب المتأخرة عنها، فضلا عن اسقاط أحد الباحثين أبان من ممثلي بدايات كتابة السيرة النبوية.
(55) ينظر الزبيري، الزبير بن بكار، (ت 243 هـ) ، الأخبار الموفقيات، تحقيق: سامي مكي العاني، ديوان الأوقاف، بغداد، ط 1، 1972، ص 331- 334.
(56)
الطبقات الكبرى، 5/ 156.
(57)
الأعظمي، محمد مصطفى، مغازي عروة بن الزبير، جمع وتحقيق، منشورات مكتب التربية لدول الخليج العربي، الرياض، ط 1، 1981، ص 21.
(58)
ينظر، بحث في نشأة علم التأريخ، ص 21.
2.
عروة بن الزبير (ت 94 هـ) :
هو ابن الصحابي الزبير بن العوام القرشي الذي يعد من كبار الفقهاء والمحدثين المدنيين، ومن العلماء بالسيرة وأحد الفقهاء السبعة في المدينة «59» .
وقد وضحت المعالم الأولى لكتابة السيرة عنده، وذلك لأن لمساته وآثاره فيها كانت أوضح من سابقيه إذ تذكر المصادر المتأخرة أنه أول من ألف بالمغازي «60» .
مع كل هذه الأقوال التي بينت تأليف عروة لكتاب في مغازي الرسول، لم تعط القناعة الكافية لأحد الباحثين بحتمية وجود مثل هذا الكتاب في تلك الحقبة، إذ يقول معلقا على هذا الأمر:" أما الخبر القائل بأن عروة قد ألف كتابا في المغازي فليس له مصدر قديم"«61» ، وهذا التشكيك من قبل هذا الباحث له ما يدعمه ويوصله إلى اليقين، إذا ما لا حظنا أن أحد الباحثين بعد ما قام بجمع النقول التي تحدثت عن اسهامات عروة برواية أحداث السيرة «62» ، وجدنا أنها لم تكن سوى رسائل متبادلة بينه وبين الخليفة عبد الملك بن مروان وبعض الولاة،
(59) ينظر، أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله، (ت 430 هـ) ، حلية الأولياء، مكتبة الخانجي، مصر، 1932، 2/ 176، الذهبي، محمد بن عثمان، (ت 748 هـ) ، تذكرة الحفاظ، دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1، 1956/ 62.
(60)
ينظر، الصفدي، خليل بن أيبك، (ت 764 هـ) ، الوافي بالوفيات، تحقيق: هلموت ريتر، فيسبادن، المانيا، 1961، 1/ 7، السيوطي، عبد الرحمن، (ت 911 هـ) ، الوسائل إلى معرفة الأوائل، تحقيق: محمد اسعد طلس، مكتبة الزوراء، بغداد، 1950، ص 115، حاجي خليفة، كشف الظنون، 2/ 1774.
(61)
سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 447.
(62)
ينظر، الأعظمي، مغازي الرسول لعروة بن الزبير، ص 34- 145.
تضمنت إجابة عن تساؤلات عديدة حول حادثة بدء الوحي وبعض المشاهد التي شاهدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعض الشوؤن الخاصة به «63» .
كانت هذه الاراء مبينة أن عروة لم يكن سوى مدون لبعض الأحداث من دون أن يجمعها في مصنف حتى يطلق عليه أنه (أول من ألف في المغازي)، إذ وجدنا رواية تؤكد هذه النتيجة ذكرها ابن سعد قائلا: إن لعروة كتب فقه أحرقها يوم الحرة وندم عليها كثيرا حتى كان يتمنى فقدانه لأهله وماله وبقاء تلك الكتب عنده «64» .
نستطيع من تلك النقول التي جمعها الأعظمي تبيان الخطوط العامة التي نهجها عروة في توثيق أحداث السيرة والتي تضمنت:
1.
الاستشهاد بالايات القرآنية في توثيق الرواية، وذلك لأن قسما من مروياته تعرض لأسباب نزول بعض الايات التي أوضحت بعض المواقف التي أنتهجها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأحداث التي عاصرته «65» .
2.
إيراده الأشعار التي قيلت في الحوادث التي عرضها «66» ، وهذا الاهتمام بايراد الأشعار ناشئ من أن عروة بن الزبير كان من الرواة المشهورين للشعر العربي ولا ينازعه فيه منازع «67» .
(63) ينظر على سبيل المثال، الواقدي، المغازي، 1/ 18، 56، 59، 63، 71، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 366، 375، 421- 424.
(64)
الطبقات الكبرى، 5/ 133.
(65)
ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 334- 335، 421- 424.
(66)
ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 37، 72.
(67)
ينظر، أبو نعيم، حلية الأولياء، 2/ 176، ابن كثير، إسماعيل بن عمر، (ت 774 هـ) ، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، ط 2، 1977، 9/ 101.
3.
الاعتماد على إرسال الأخبار، وذلك من دون ذكر قائليها مع العلم ان عروة لم يعاصر تلك الأحداث «68» .
علل الدوري برزو هذا المنحى عند عروة بأن الإسناد في زمنه كان مرنا وأن الناس لم يطالبوا المحدثين والرواة بإسناد أحاديثهم فضلا عن أن القواعد الدقيقة للإسناد لم تكن قد ظهرت بعد «69» .
ولكن مع هذا كله، فإن عروة لم يكن مغفلا أسانيد جميع رواياته بل كانت هنالك بعض الروايات قد أسندها إلى قائليها «70» .
هذه هي الخطوط العامة التي نهجها عروة في توثيق ورواية بعض حوادث السيرة التي مثلت نقلة نوعية ببروز الأسس والثوابت المعيارية لها من حيث وضع اللبنات التكوينية الأولى لكتابة السيرة وذلك بتقديمه نماذج أولية مكتوبة لبعض حوادث السيرة يسير عليها المتأخرون عنه ويضيفون عليها ما فات على سابقيهم من ذكر بعض الحوادث.
3.
شرحبيل بن سعد (ت 123 هـ) :
وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة. ولد في أواخر خلافة عمر بن الخطاب ولقي جماعة كبيرة من الصحابة وسمع منهم وكان يكثر التردد على الصحابي زيد بن ثابت «71» .
(68) الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ، ص 21.
(69)
المصدر نفسه، ص 21، 74.
(70)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 234، 237، 241، 243، 339، 340، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 55- 56، 70، 82.
(71)
ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 228، البستي، مشاهير علماء الأمصار، ص 77.
انصبت اهتمامات شرحبيل بن سعد على دراسة مغازي الرسول بعامة وغزوة بدر بخاصة حتى عدّه بعض من ترجم له أنه كان من أعلم الناس في زمانه بالمغازي والبدريين «72» .
أعطى هوروفتس توضيحا لهذه الاهتمامات بجعلها لا تتعدى سوى إعداد القوائم بأسماء المهاجرين إلى المدينة ومن اشترك بغزوتي بدر وأحد «73» ، ولكن أحد الباحثين يفند هذا الرأي باعتماده على مقالة ابن حجر التي يقول فيها" كان شرحبيل بن سعد عالما بالمغازي اتهموه أنه يدخل فيهم من لم يشهدوا بدرا وفيمن قتل يوم أحد إن لم يكن منهم وكان قد احتاج فسقط عند الناس فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال أو ان الناس قد اجترءوا على هذا، فدب على كبر السن وقيد من شهد بدرا وأحدا ومن هاجر للحبشة والمدينة وكتب ذلك"«74» ، إذ يتبين من هذا النص أن كاتب القوائم هو موسى بن عقبة وليس شرحبيل بن سعد كما فهم هوروفتس «75» .
ولكن هذا الرأي آنف الذكر لا ينفي بتاتا أن شرحبيل لم يكن مدونا لبعض حوادث السيرة إذ كانت مروياته التي أغفلها المعاصرون له قد ضمت أخبارا عن السيرة، إذ يبين النص الذي أورده ابن حجر والذي أوضح فيه أن أحدا من الناس قد سأل محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) المعاصر لشرحبيل عن سبب إغفاله لمرويات الأخير في المغازي وعدم إدراجها في كتابه أو ضمن
(72) ابن حجر، تهذيب التهذيب، 4/ 321.
(73)
المغازي الأولى، ص 26.
(74)
تهذيب التهذيب، 10/ 361.
(75)
نصار، هامش ص 6 من كتاب المغازي الأولى ومؤلفوها لهوروفتس.
الروايات التي يلقيها على مسامع الناس، فأجاب ابن إسحاق على هذا التساؤل بالقول:" وأحد يحدث عن شرحبيل"«76» .
كان سبب إغفال هذه الأخبار التي رواها شرحبيل هو لكبره وخرفه واختلال عقله كما ذكر ذلك ابن سعد «77» ، هذا من جانب ومن جانب آخر فأن الناس كانت تتحاشاه مخافة لسانه الذي يكيل التهم لمن يرده من أبناء الصحابة بأن أباك أو جدك لم يشهد بدرا «78» ، أو يجعل من لا سابقة له في الإسلام سابقة «79» .
ولّدت هذه الأمور مجتمعة عزوفا من قبل المهتمين بسيرة الرسول لما تفوه به شرحبيل حتى لم نجد أية رواية عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ترجع في إسنادها إليه سوى رواية واحدة أوردها ابن سعد 79 أ.
من هذا كله نستنتج أن هذا العزوف لمرويات هذا الراوي يدل على وجود حس نقدي مبكر للرواية والرواة.
4.
وهب بن منبه (ت 114 هـ) وهو يماني المولد، فارسي الأصل. سكن المدينة، وحدث بها، وكان من المقربين لدى الخلفاء الأمويين، وممن أشتهر برواية أخبار الأمم السالفة وأهل الكتاب، وعرف العديد من لغات عصره 79 ب.
(76) تهذيب التهذيب، 4/ 321.
(77)
الطبقات الكبرى، 5/ 288.
(78)
ابن أبي حاتم، عبد الرحمن الرازي (ت 327 هـ) ، الجرح والتعديل، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الهند، ط 1، 1952، 1، 2/ 4/ 339.
(79)
ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 361.
(79 أ) ينظر الطبقات الكبرى.
(79 ب) ينظر، ابن سعد، المصدر نفسه، 5/ 543، ابو نعيم الاصبهاني، حلية الاولياء، 4/ 61- 83.
عدّ هذا الرجل من قبل أحد المتأخرين في عداد من كتب في المغازي «80» ، ومال الى هذا الرأي أحد الباحثين إذ علق على ذلك بالقول:" وقول حاجي خليفة صحيح فقد وجد أحد المستشرقين بين مجموعة أوراق بردي في هيدلبرج [بالمانيا] مجلدا يحوي قطعة من كتاب المغازي هذا"«81» ، ووافق باحث آخر على هذا الرأي ايضا «82» .
ولكن نسبة هذه المجلدة في المغازي إلى وهب محل تدبر وتأمل، وذلك بملاحظتنا ان سندها الذي أورده لنا هوروفتس قد حوى في طريق الإسناد إلى وهب سبطه عبد المنعم بن إدريس (ت 228 هـ)«83» الذي اتفق جميع العلماء الذين ترجموا له على أنه وضاع ويضع الحديث على جده وهب «84» .
تدل الرواية التي أوردها لنا أبو نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) التي ينتهي إسنادها إلى وهب والتي وجد في أحد طرقها سبطه عبد المنعم على مصداقية الكلام آنف الذكر «85» ، إذ أخرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) هذه الرواية ضمن الموضوعات «86» ، فضلا عن تعليق أحد الباحثين على هذه الرواية بالقول:
" وهذه الفقرة طويلة مفصلة ولكن قارئها لا يسعه غلا أن يشك فيها الشك
(80) حاجي خليفة، كشف الظنون، 2/ 1747.
(81)
هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 34.
(82)
سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 441.
(83)
المغازي الأولى، ص 35.
(84)
الذهبي، الضعفاء والمتروكون، تحقيق: محمد أحمد قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1982، 2/ 23.
(85)
ينظر، حلية الأولياء، 4/ 73.
(86)
ينظر، عبد الرحمن، الموضوعات، تحقيق: عبد الرحمن محمد، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط 1، 1966، 2/ 295- 301.
الشديد فأسلوبها مما لا نألفه في أساليب تلك الفترة وعبارتها غريبة عن الرجل الذي يعيش في ذلك العصر وكان للخيال فيها دور كبير، ولذلك إن صحت نسبتها لوهب فأننا لا نستطيع إطلاق صفة مؤرخ بل قصاص" «87» .
إن الذي دفعنا لإثارة هذه الشكوك حول صحة كتابة وهب لمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أننا لم نجد في أثناء تصفحنا للكتب التي تحدثت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رواية ينتهي سندها إلى وهب أو يكون هو في أحد طرقها هذا من جانب، ومن جانب آخر كانت معظم الروايات التي وصلت إلينا عن وهب تتضمن عرضا لأخبار الأنبياء والرسل والأمم والأقوام السالفة «88» ، مع ذكر ابن النديم (ت 381 هـ) أن له كتابا في هذه المحاور من التأريخ «89» ، وهذا ما دفع بهوروفتس إلى عدّ اسهامات وهب في هذه الجوانب من التأريخ مدخلا متمما لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لارتباط الرسالات التي استعرضها وهب بالرسالة التي أتى بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم «90» ، فضلا عن ذلك فقد عدّ أحد الباحثين تدوين وهب لأخبار الرسل والأمم السالفة حافزا للمؤرخين الذين أتوا بعده على جعلهم وهبا من أوائل من قدم نموذجا للتأريخ العالمي متمثلا في تأريخ الرسالات؛ حتى
(87) نصار، نشأة التدوين التاريخي عند العرب، ص 50.
(88)
ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 10، 39، 41، 43، 108، 176، 201، 226، 300، 304، 322، 407.
(89)
ينظر، الفهرست، ص 24.
(90)
المغازي الأولى، ص 34.
كان لذلك صدى قوي في عقل محمد بن إسحاق حين بدأ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار الأمم والأقوام والأنبياء السالفة التي أسماها بأخبار المبتدأ «91» .
هؤلاء هم التابعون الذين هم في الطبقة الأولى من علماء المغازي والسير الذين وجدنا أن ملامح كتابتهم لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يشوبها التشويش والغموض في عدم وضوح المنهج والأسلوب في الكتابة، واندماج الخبر المدون بالخبر المروي شفاها، وعدم وجود قرينة دالة على الفصل بينهما، أما أصحاب الطبقة الثانية ممن تلوا هؤلاء، واسهموا اسهامات جليلة في تطور كتابة السيرة النبوية فهم:
1.
عبد الله بن أبي بكر (ت 135 هـ) :
ينتمي هذا الرجل إلى أسرة مدينة عريقة في النسب والحسب، ولها أياد بيض في تأريخ الإسلام، وثقه كل من ترجم له، وسمع الحديث من جمع غفير من كبار التابعين «92» .
دون هذا الرجل مجموعة كبيرة من أحداث السيرة، إذ يشير الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) إلى أن عبد الملك بن أخي عبد الله قد قدم بغداد وأقام فيها وحدث بأخبار المغازي عن عمه عبد الله، وكتب جلساؤه هذه المغازي ورووها عنه «93» ، ويعطي ابن النديم (ت 381 هـ) بعدا أكثر من ذلك بجعله ممن صنف كتابا مستقلا بالمغازي يحتمل فيه أنه أقتبسه من عمه «94» .
(91) المدني، أمين، التأريخ العربي ومصادره، دار المعارف، القاهرة، 1971، ص 400.
(92)
ينظر، ابن حيان، مشاهير علماء الأمصار، ص 68، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 5/ 165.
(93)
أبو بكر أحمد بن علي، تأريخ بغداد، مطبعة السعادة، القاهرة، 1931، 10/ 409.
(94)
ينظر، الفهرست، ص 282.
وقد اسهم هذا الرجل في تطور كتابة السيرة النبوية بنقلة نوعية، وتمثل هذا الاسهام بعدة جوانب هي:
1.
ترتيب الحوادث التي تعرض لها بحسب قدمها الزمني «95» ، وهذه النتيجة مستوحاة من القوائم التي ذكرها محمد بن إسحاق للمغازي وتأريخها من أولها إلى آخرها بالاعتماد على ما كتبه عبد الله بن أبي بكر في هذا الجانب «96» ، مع الإشارة إلى أن هذا الكلام لا ينطبق على السيرة حسب بل شمل الحوادث الأخرى لتاريخ الإسلام التي ذكرها ضمن أخباره التي رواها أو التي دونها «97» .
يستدل من هذا على أن عبد الله بن أبي بكر لم يكن مسترسلا في ذكر الحوادث التأريخية بل كان يحاول ضبط الواقعة بحسب سبقها الزمني مع ذكر تأريخ وقوعها، وهذا ما دفع بأحد الباحثين إلى جعله أول واضع للمنهج الحولي عند المسلمين «98» .
2.
إيراده بعض الوثائق التي كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتي أرسلها إلى الملوك والقبائل، أو الوصايا التي أوصى بها صلى الله عليه وآله وسلم عماله على البلدان «99» ، ومن ذلك الرسالة التي بعثها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك حمير في اليمن «100» ، أو الوصية التي أوصى بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جد عبد الله الأكبر عمر بن حزم، وذلك حين
(95) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 43.
(96)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 594، 2/ 310، 302، 293، 225، 201، 193، 108، 55.
(97)
ينظر، الطبري، التاريخ، 3/ 339، 387، 459، 575، 4/ 214، 432، 6/ 192.
(98)
مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 156.
(99)
هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 43.
(100)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 594.
أرسله من قبله إلى أهالي نجران في اليمن ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم، وتكون هذه الوصية مرجعا له في أموره «101» .
ويبدو أن أصل هذه الوثيقة كان موجودا عند عبد الله أو أسرته، وذلك لقيمتها المعنوية لأنها تعدّ شاهدا حيا على دور أسرته وأجداده في خدمة الإسلام، وأن انتخاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لجده من بين باقي الصحابة ليكون عامله على نجران دليل على مكانة هذا الرجل في نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوليه هذه المهمة.
أكد هذا الأمر بروز الترعة القبلية والمفاخرات بين أبناء الصحابة وأحفادهم، ثم انعكاس هذه الترعة على الكتابة التأريخية، حيث تمخض في هذه المرحلة تركيز الرواة في ذكر دور قبائلهم ومتعلقيهم في الحوادث التي عاصروها وإغفال الأدوار التي قام بها الأشخاص الاخرون أو ذكروها عرضا من دون تفصيل، وخير دليل على ذلك هو عدم وجود أية رواية لهذا الرجل عن الحوادث التي رافقت بداية الدعوة والتي سبقت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، إذ عزا الدوري هذا الأمر إلى بقاء فكرة أيام العرب ومفاخراتها عالقة في أذهان وعقول الناس وتصرفاتهم «102» .
3.
تضمين الروايات التي يذكرها بما قيل في مناسباتها من شعر «103» ، كما تبين ذلك الروايات التي وردت في السيرة «104» ، وهذا الأمر راجع إلى كون عبد
(101) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 594.
(102)
بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 26.
(103)
هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 45.
(104)
ينظر، ابن هشام، 2/ 40- 48، 125- 126.
الله من أسرة محبة للشعر ورواية له «105» ، فضلا عن أن البيئة التي عاش فيها كانت من أخصب البيئات قريحة لإنشاد الشعر وروايته «106» .
4.
إغفاله للرواة الذين سمع منهم أحداث السيرة وتساهله في كثير من إسناد رواياتها، إذ وجدناه يحدث بها كأنه شاهد عيان لها «107» ، ويعلل أحد الباحثين بروز هذا الأمر في الروايات التي رويت من قبل الأشخاص الذين عاشوا في هذه الحقبة من تأريخ الإسلام بأن الإسناد لم تكتمل مقوماته بعد «108» .
5.
استشهاده بما نزل في الحوادث التي تطرق إلى ذكرها من آيات قرآنية «109» .
6.
لم يختص اهتمام عبد الله بن أبي بكر على الحوادث التي حصلت في عصر الرسالة، ولا سيما بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل تعدى ذلك ليشمل الحوادث والأخبار التي سمعها عن الأقوام التي عاشت قبل هذا العصر والتي ذكرت في القرآن الكريم «110» .
يبين لنا هذا العرض للجوانب التي اكسبها عبد الله بن أبي بكر لكتابة السيرة أن هذه الكتابة قد بدأت معالمها بالاتضاح شيئا فشيئا نحو الشمولية والتنظيم.
(105) ينظر، أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين (ت 356 هـ) ، الأغاني، دار الكتب المصرية، 1961، 6/ 158.
(106)
ينظر، ضيف شوقي، الشعر والغناء في مكة والمدينة في العصر الأموي، دار المعارف، القاهرة، 1982، ص 14.
(107)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 153، 274، 395.
(108)
الدليمي، داود سلمان، الإسناد عند المحدثين، رسالة ما جستير غير منشورة، كلية الشريعة، جامعة بغداد، 1987، ص 103.
(109)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 216.
(110)
ينظرن، المصدر نفسه، السيرة، 1/ 57، 168، 435، 446.
2.
عاصم بن عمر بن قتادة (ت 120 هـ) *:
هو عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر الظفري الأوسي المدني، وكان راوية للعلم وثقه في الحديث «111» .
كان هذا الرجل من العلماء بأخبار المغازي «112» ، ولأجل ذلك استقدمه الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) من المدينة ونصب له منبرا في المسجد الجامع بدمشق ليحدث الناس بالمغازي وسيرة الرسول ومناقب الصحابة «113» .
تبين لنا المعلومة في النص السابق أن عاصما قد توافرت له فرصة في نشر أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله على الناس بمباركة من الخليفة نفسه مما لم يتوافر لأقرانه من التابعين، الأمر الذي أدى إلى كثرة الروايات التي وصلت إلينا عن هذا الرجل في كتب السيرة والمغازي «114» .
ولكن هذا الأمر جعل مسألة تدوين عاصم لأخبار المغازي والسيرة أمرا غير مقطوع بصحته، وذلك لأنه كان رواية أكثر مما هو مدون، وإن كانت إحدى الدراسات الحديثة تؤكد أن المحدثين كانوا يستعينون بصحائف أو رقاع
(*) كتب الدكتور خالد العسلي بحثا. مستفيضا عن هذه الشخصية ودورها في كتابة رواية أحداث الإسلام في مجلة كلية الاداب، جامعة بغداد، عدد 8، 1965، ص 226- 240.
(111)
ينظر، ابن قتيبة، محمد بن مسلم، (ت 276 هـ) ، المعارف، تحقيق: ثروة عكاشة، القاهرة، 1960، ص 466.
(112)
ابن حجر، الإصابة في تميز الصحابة، القاهرة، 1328 هـ، 3/ 447.
(113)
ينظر، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 5/ 54- 55.
(114)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 321، 345، 382، 405، الواقدي، المغازي، 1/ 129، 2/ 500.
يدونون فيها ما يحفظونه خوفا من النسيان «115» ، واستدل أحد الباحثين على كون عاصم قد دون معلومات عديدة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتماد على الروايات الطويلة التي كان يرويها للناس «116» ، ومنها روايته لحادثة إسلام سلمان الفارسي «117» .
وتبقى هذه الاراء مجرد استنتاجات شخصية لا تؤكدها القرائن، إذ اعطى العسلي توضيحا لهذا اللبس بعد استعراضه للنقول التي ورد فيها اسم عاصم بن عمر حين قال:" وبالرغم من أنه كان عالما بالمغازي ورجال الصحابة لم يرد ذكر لكتاب ألفه عاصم بن عمر بن قتادة في المغازي، فالمعلومات التي وصلت عنه جاء معظمها عن طريق رواية ابن إسحاق رواها ابن هشام والواقدي وابن سعد والطبري، أما من جاء بعدهم من المؤرخين فهم ينقلون المعلومات نفسها التي قدمها ابن هشام وابن سعد والطبري"«118» .
مع كل ما ذكرناه من آراء فإن ذلك لا يمنع من أن يكون عاصم قد اكسب كتابة السيرة روافد جديدة لم تألفها سابقا إذ تمثلت هذه الروافد ب:
1.
بروز الاتجاه القبلي في رواية أحداث السيرة، إذ تمثل ذلك بالتركيز في رواية أحداث المرحلة المدنية من الدعوة الإسلامية وإبراز دور الأنصار فيها
(115) مصطفى، تأريخ العرب والمؤرخون، 1/ 76- 77.
(116)
محمد عطه الله، مقاصد المؤرخين المسلمين في التراجم والسير، رسالة ما جستير غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1996، ص 51.
(117)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 198- 204.
(118)
عاصم بن عمر، ص 228.
ومواقفهم المشرفة وأعمالهم البطولية التي قاموا بها دفاعا عن الإسلام والرسول صلى الله عليه وآله وسلم «119» .
2.
إيراد المعجزات ودلائل النبوة التي بدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «120» ، وهذا الأمر يعد اتجاها جديدا والتفاتة ذكية من قبل عاصم بايراد هذه الأمور التي لم تألفها مسامع الناس من قبل رواة السيرة والمغازي.
3.
وصف المعارك وصفا دقيقا ابتداء من أول حادثة إلى آخرها «121» ، إذ خص معركة بدر فقدم لنا فيها وصفا دقيقا للحوادث التي جرت فيها «122» .
4.
التتبع في معرفة من كان حاضرا من الصحابة عند ذكره الحوادث التي يعرضها في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا سيما الحوادث الكبرى «123» .
ساعد هذا التبيان لأسماء المشاركين في الحوادث على تعرّف مواقف كل شخص من الصحابة المعاصرين لذلك الحادث ودوره فيه، مع إعطائه مادة جاهزة لكتاب التراجم يتكئون عليها في حديثهم عن كل شخصية يترجمون لها ويبينون مواقفها في أحداث عصرها.
5.
الدقة والتبصر وعدم التكلف في اختيار العبارات عند سرده لحوادث السيرة «124» ، وهذا الأمر يبين لنا أن أصحاب السيرة الأوائل كانت عباراتهم سهلة ولا يكتنفها غموض أو تعبير صعب أو ثقيل على اللسان.
(119) العسلي، عاصم بن عمر، ص 238.
(120)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 541، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 107- 110، ابن كثير، البداية والنهاية، 2/ 308.
(121)
ينظر، ابن هشام، المصدر نفسه، 1/ 606، 2/ 227، 240.
(122)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 606.
(123)
ينظر، الواقدي، المغازي، ص 213، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 354- 355، 364، 398.
(124)
ينظر، العسلي، عاصم بن عمر، ص 239.
6.
الاتجاه نحو رواية الحوادث باستقلالية وشمول من دون قطعها، وإن استمرت هذه الحوادث مدة أطول «125» ، مما يعدّ بداية للمنهج الموضوعي في كتابة السيرة، وترك المنهج الحولي القائم على رواية الحوادث على وفق السنين وتسلسلها الزمني، مع العلم أن العسلي يشكك في كون هذا الاتجاه أهو من عند عاصم أم أنه جاء نتيجة تلاعب المؤرخين الذين نقلوا عنه «126» .
7.
إبداء الاراء ووجهات النظر برواة الحوادث ودوافعهم في القول «127» ، إذ تمثل هذا الأمر في إبداء عاصم وجهة نظره في الرواية التي ذكرت قولا للعباس بن عبادة بن نضلة الخزرجي* في الأنصار حين قال:" والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أعناقنا"«128» .
مثّل هذا الأمر نقلة نوعية في بروز الاتجاه النقدي والتعليق على الروايات التي ترد إلى مسامع عاصم بن عمر.
هذه هي الروافد التي أكسبها عاصم بن عمر لكتابة السيرة النبوية، مع استمرار المنحى المألوف في ذلك العصر وهو الترسل وعدم الاهتمام والتشدد بذكر مسانيد الروايات التي يذكرها «129» ، وهذا الأمر لم يقطع فيه العسلي إذ يقول: " ولا نعلم هل أن الحذف [في رواة الخبر] هو من ابن إسحاق أم أنه من
(125) ينظر، المصدر نفسه، ص 239.
(126)
المصدر نفسه، ص 239.
(127)
هوروفتس، المغازي الأولى، ص 49.
(*) صحابي شهد بيعة العقبة وتوفي في عام الرمادة سنة 18 هـ، ينظر، ابن حجر، الإصابة في معرفة الصحابة، 2/ 23.
(128)
ابن هشام، السيرة، 1/ 446.
(129)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 214، 219، 2/ 87، 325، 498، الواقدي، المغازي، 1/ 35، 42، 55.
عاصم" «130» ، إذ اعتمد العسلي على الإسناد الذي كان يذكره ابن إسحاق عند ذكره لبعض مسانيد رواياته والتي يقول فيها" حدثني عاصم بن عمر عن أشياخ قومه" «131» .
ويبدو لنا من الروايات التي ذكر ابن إسحاق فيها اسم عاصم، أنه لم يستعمل هذه العبارة آنفة الذكر في مسانيد باقي رواياته، مما دفعني ذلك إلى التكهن بأن هذه اللفظة مقتصرة على عاصم وأن الأخير هو الذي حذف أو أغفل ذكر رواة الخبر الذي يرويه.
3.
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124 هـ) :
من كبار الجيل الثاني من التابعين الذين أخذ عنهم العلم الكثير بمختلف صنوفه وأدى دورا متميزا في كتابة الحديث النبوي ونشره بين الناس مع تقريب الأمويين له وجعله بعضهم مؤدبا ومعلما لصبيانهم «132» .
لعبت هذه الشخصية دورا بارزا في إرساء الأسس والثوابت العامة لكتابة السيرة النبوية «133» ، وما ذلك إلا لان الزهري يكتب ويدون كل ما يسمعه من حديث أو حكم أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله فضلا عن أخبار من أتى بعده، إذ يحدث من رآه وصاحبه: " كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه
(130) عاصم بن عمر، ص 228.
(131)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 214، 219، 2/ 87، 325، 498.
(132)
ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 180.
(133)
سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 450، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 23.
الألواح والصجف يكتب كلما سمع" «134» ، وأكدت لنا هذه الرواية مقولة للزهري أوردها أبو نعيم الأصفهاني مفادها" حضور المجلس بلا نسخة ذل" «135» .
بينت لنا هذه الروايات أن الزهري كان ممن يشتهرون بتدوين ما يسمعون، مما يجعلنا نعطي صفة التأكيد أن الزهري قد كانت له بعض المدونات عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أن أبا الفرج الأصفهاني يذكر أن الزهري قد شرع بكتابة السيرة في مطلع القرن الثاني الهجري ولم يكتب لها الاكتمال «136» ، حتى عدّ السهيلي (ت 508 هـ) أن أول سيرة ألفت في الإسلام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي السيرة التي ألفها الزهري «137» ، فضلا عن وجود متأخرين تابعوا هؤلاء في مقالتهم هذه «138» .
مع كل تلك التأكيدات من قبل هؤلاء العلماء حول تأليف الزهري أول سيرة في الإسلام، لم يطمئن أحد الباحثين إليها إذ قال:" من الصعب الجزم بأن المعلومات التي نقلها الرواة عن الزهري مقتبسة من كتبه أم من رواياته"«139» ،
(134) الفسوي، يعقوب بن سفيان، (ت 277 هـ) ، المعرفة والتأريخ، تحقيق: أكرم ضياء العمري، ديوان الأوقاف، بغداد، 1974، 1/ 639، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 102.
(135)
حلية الأولياء، 3/ 666.
(136)
ينظر، الأغاني، 22/ 23.
(137)
ينظر، عبد الرحمن، الروض الأنف، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط 1967، 1، 1/ 214.
(138)
ينظر، الحلبي، علي بن برهان، (ت 1044 هـ) ، السيرة الحلبية، المكتبة التجارية، القاهرة، 1962، 1/ 3، حاجي خليفة، كشف الظنون، 2/ 1460، 1747.
(139)
العلي، صالح أحمد، التدوين وظهور الكتب المصنفة، بحث في المجمع العلمي العراقي، مجلد 31، عدد 2، 1980، ص 27.
إذ اعتمد هذا الباحث على مقولة الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) التي مفادها: " أنه لم يكن مع ابن شهاب كتاب إلا كتاب في نسب قومه"«140» .
إن هذا الرأي لا ينفي مطلقا كون الزهري قد دون بعض أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في صحف أو دفاتر اعتمد عليها من أتى بعده بدليل أن معمر بن راشد الذي يعد من أحد رواة أحاديثه، قد قال:" كنا نرى انا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من علم الزهري"«141» .
وقد طعن الزهري لكثرة تقربه للأمويين ومجالسته لهم، إذ وصف بالقول:
" أي رجل الزهري لولا أنه أفسد نفسه بصحبة الملوك"«142» ، وأن التقرب لدى الحكام كان يعدّ مثلبة تسجل على العلماء، حتى صرح الإمام جعفر بن محمد الصادق (ت 148 هـ) بالقول معقبا على هذا الأمر:" الفقهاء أمناء الرسل فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتهموهم"«143» ، ولهذا الأمر كان الإمام علي بن الحسين (زين العابدين)(ت 94 هـ) كثيرا ما كان ينصحه بترك علاقته تلك مع الأمويين وانعكاسها على سمعته كعالم له مكانته حتى بعث له برسالة طويلة بين فيها مساوئ العلاقة بين الحكام والعلماء لأن الحكام يتخذون العلماء مقصدا يلتمسون منه كسب رضا عامة الناس وإيجاد من يسوغ لهم
(140) ابن عبد البر، يوسف، الانباه على قبائل الرواة، دار الثقافة، بيروت، ط 4، 1984، ص 44.
(141)
ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ص 476.
(142)
الذهبي، تأريخ الإسلام، تحقيق: عبد السلام تدمري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 4، 1995، 5/ 149.
(143)
أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، 3/ 194.
أفعالهم ولا يعارض أقوالهم «144» ، حتى صرح الزهري في حقه بالقول:" علي بن الحسين أعظم الناس عليّ منة"«145» .
مع كل ما ذكر عن الزهري حول علاقته بالأمويين فإن ذلك لا يقلل من الدور الكبير الذي لعبه في كتابة السيرة، حتى عدّه الدوري أول من أعطى السيرة هيكلا محدودا ورسم خطوطها بوضوح «146» .
ويبدو أن هذه المكانة التي حظي بها الزهري والاحتواء لأحداث السيرة وتقعيد أسسها راجع إلى تقصيه وسؤاله كل من كان له علم بحادثة أو موقف من الصحابة والتابعين الذين عاصرهم وشاهدهم بل حتى ربات الحجال من دون تردد في أيام صغره وحداثة عمره «147» .
لأجل هذا كله زخرت كتب السيرة والتأريخ بالنقول عن هذا الرجل حتى لا نجد أي كتاب من هذه الكتب إلا وفيه اقتباسات كثيرة عنه «148» .
تمثلت الجهود التي بذلها الزهري في تطور كتابة السيرة بعدة محاور هي:
1.
الاهتمام والجدية في إيراد مسانيد الروايات والأحاديث، ويعزو الدوري هذا الاتجاه من قبل الزهري الذي خالف فيه سابقيه إلى أن وجهة الزهري هي وجهة محدث في تحصيل العلم واكتسابه «149» .
(144) ينظر، ابن شعبة، الحسن بن علي الحراني، (توفي في نهاية القرن الرابع الهجري) ، تحف العقول عن آل الرسول، المطبعة الحيدرية، النجف، 1965، ص 198- 201.
(145)
ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 158.
(146)
بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 23.
(147)
ينظر، الفسوي، المعرفة والتأريخ، 2/ 5.
(148)
ينظر، الواقدي، المغازي، 3/ 695، 741، 752، 795- 796، 864، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 495، 554.
(149)
بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 63.
قطع الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) بريادة الزهري في إسناد الحديث، إذ يعده أول من تبنى إسناده «150» ، وهذا ما جعل أحد الباحثين يعطي للزهري دورا كبيرا في تاريخ الحديث إذ يقول:" ويتضح لنا من بحث سلاسل أسانيد الحديث أن اسم الزهري يحتل معظم المكان الثاني بعد أسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما يجعلنا نقرر له دوره الكبير في تأريخ الحديث"«151» .
تمثلت النقلة المنهجية في الإسناد الذي تبناه الزهري في رواياته هي كتابة أسانيد متعددة لرواية واحدة أو التي تكمل بعضها بعضا، إذ أطلق على هذا الإسناد (الإسناد الجمعي)«152» .
ومما يدل على أهمية الإسناد عند الزهري، أنه طلب منه أحد جلسائه ذات يوم أن يأتي بحديث من دون إسناد فقال الزهري له:" أيرقى السطح بلا سلّم؟ "«153» ، وعلق على راو لا يسند حديثه: " قاتلك الله
…
ما أجرأك على الله ألا تسند حديثك؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة" «154» .
بينت لنا هاتان الروايتان مدى تشدد وصرامة الزهري بإسناد الأحاديث والروايات، وفي شحذ همم الرواة والمحدثين بذكر أسانيد رواياتهم؛ الأمر الذي
(150) ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل، 4/ 1/ 74.
(151)
سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 48.
(152)
ينظر، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 94.
(153)
السيوطي، عبد الرحمن، تدريب الراوي، المطبعة الميمنية، القاهرة، 1924، ص 359.
(154)
الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، (ت 405 هـ) ، معرفة علوم الحديث، تصحيح معظم حسين، دار الافاق الجديدة، بيروت، ط 3، 1979، ص 6، الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1972، ص 556.
أثمر النتائج الطيبة في معرفة رواة الأحاديث والأخبار التي كان لها الدور المهم في معرفة قوة الرواية وضعفها مما كان له الأثر الفعال في تسهيل مهمة علماء الجرح والتعديل بعد ذلك.
2.
الشمولية في عرض حوادث السيرة من المولد إلى الوفاة وعدم الاقتصار على ذكر جانب واحد أو شذرات متفرقة منها «155» ، إذ أعطى أحد الباحثين وصفا لهذا المنحى الجديد في عرض أخبار السيرة، عدّ فيه الزهري أول جامع لما رواه التابعون عن السيرة مع ما أضاف إليها من الأخبار التي أعطت بعد ذلك الهيكل العام للسير المعروفة عند ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي «156» ولكن مع هذه الشمولية في عرض الزهري لأحداث السيرة، وجدت هنالك فجوات في هذا العرض، إذ إن رواياته عن المرحلة المكية قليلة نسبيا قياسا بحجم الروايات التي تحدث بها عن المرحلة المدنية*، وهذه القلة من الروايات التي تخص المرحلة المكية ليس مرجعها إلى عدم وقوف الزهري على أخبار هذه المرحلة بل أن ذلك راجع إلى مواقف أسرته من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه والدين الذي بعث به، إذ اتسمت تلك المواقف بالعداء في بداية الدعوة الإسلامية «157» ، فكان من الحرج عليه أن يذكر تلك المواقف خشية أن يعير بها.
تخلص مما ذكرنا آنفا إلى أن الزهري قد وضع الأسس والعنوانات للمرتسم الزمني الخاص بحوادث السيرة بحسب أسبقيتها التأريخية وترك المجال
(155) ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 655، 660- 661، الطبري، التأريخ، 5/ 499، 6/ 495.
(156)
جونس، مقدمة تحقيق: كتاب المغازي للواقدي، ص 22.
(*) أورد ابن هشام حوالي 9 روايات عن المرحلة المكية، أما بالنسبة للمرحلة المدينة فقد بلغت أكثر من 40 رواية.
(157)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 360- 361، 409، 592، 619، 628.
مفتوحا لمن يأتي بعده ليكمل ما بدأه ويسد الثغرات التي ظهرت في أثناء عرضه حوادث السيرة في تطعيمها بما رافقها من أمور أغفلها أو لم يصل إلى تفاصيلها.
3.
إيراد الشواهد من الايات القرآنية التي نزلت في الحوادث التي تطرق لذكرها، وذلك أنها تعطي وثاقة للخبر الذي يرويه في تلك الروايات «158» .
أشار الدوري إلى أن هذا المنحى في إيراد الروايات مشفوعة بما نزل فيها من القرآن، قد أظهر بجلاء أن دراسة القرآن بما يحفل به من إشارات إلى شؤون المسلمين بالمدينة بخاصة كان عاملا مساعدا على ظهور الدراسات التأريخية الشاملة «159» .
4.
إيراد ما قيل من شعر في الحوادث التي عرضها من أخبار السيرة «160» ، وهذا راجع إلى أن الزهري كان رواية للشعر ومتذوقا له «161» .
علل الدوري هذا المنحى من قبل الزهري بالقول: " وهذا طبيعي إذا تذكرنا أن الناس عامة كانوا يميلون للشعر وأنه كان عنصرا أساسيا للثقافة"«162» .
هذه هي الجهود التي قام بها الزهري والتي أسهمت اسهاما جادا في تطور كتابة السيرة، وأحدثت نقلة نوعية فيها فضلا عن عرض أحداثها بأسلوب سهل وبسيط «163» .
(158) ينظر، الواقدي، المغازي، 2/ 612- 624، 631- 633.
(159)
ينظر، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 94.
(160)
ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 68- 89، ابن كثير، البداية والنهاية، 9/ 343.
(161)
ينظر، الفسوي، المعرفة والتأريخ، 1/ 561- 562.
(162)
بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 95.
(163)
ينظر، نصار، نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 65.
ومن هذا كله نرى أننا كلما اقتربنا من منتصف القرن الثاني الهجري، أخذت الأصول الأولية للسيرة تأخذ بالوضوح شيئا فشيئا وذلك راجع إلى قربها من مرحلة التبويب والتصنيف التي يحددها الذهبي بسنة (143 هـ)«164» ، إذ كان العلماء على حد قوله قبل هذه السنة يكتبون في صحف غير مرتبة «165» .
4.
موسى بن عقبة (ت 141 هـ) :
وهو من موالي آل الزبير ومن أعلام عصره، ويعدّ من كبار المحدثين وثقاتهم، برع في الفقه وفي رواية الحديث وكانت له حلقة درس في المسجد، وسمع الحديث من كبار التابعين «166» .
كان لهذه الشخصية دور بارز في توثيق أحداث السيرة والمغازي بخاصة، حيث ذكرت بعض المصنفات قيام هذا الرجل بتصنيف كتاب في مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «167» ، وحصلت هذه المدونة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه على احترام معاصريها حتى أوصى الإمام مالك ابن أنس (ت 179 هـ) أصحابه باعتمادها بقوله:" عليكم بمغازي الشيخ الصالح موسى ابن عقبى فأنها اصح المغازي عندنا"«168» .
(164) ينظر، تذكرة الحفاظ، 1/ 151، 229.
(165)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 229.
(166)
ينظر، ابن حبان، مشاهير علماء الأمصار، ص 80، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 148، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 360.
(167)
ينظر، ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير، تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط 1، 1961، ص 29.
(168)
ينظر، الذهبي تذكرة الحفاظ، 1/ 148.
إن رأي الإمام مالك في مغازي موسى بن عقبة محل تحفظ وتدبر، إذ إنه لم يطلق كلامه هذا جزافا بل أراد منه إيجاد مصنف في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه يقف ندا للسيرة التي كتبها محمد بن إسحاق لرسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذلك إلا لتعاظم العداء الشخصي بين الإمام مالك وابن إسحاق الذي وصل حدا أن تقاذف الاثنان التهم بينهما «169» ، فأراد الإمام مالك في مقالته هذه أن يسقط المغازي التي كتبها ابن إسحاق من أعين الناس ويجعل مغازي موسى بن عقبة افضل منها بشحذ همم الناس على قراءتها.
لم نرد في هذا الاستدراك أن نحطّ من مكانة المغازي التي كتبها موسى بن عقبة بل أردنا التنبيه فقط إلى الملابسات التي كانت وراء إصدار مالك مثل هذا الحكم على هذه المغازي، إذا ما علمنا أن الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) قد وافق على مقالة مالك ولكنه لم يطعن بباقي المصنفات التي عاصرت مغازي ابن عقبة، إذ قال:" عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة"«170» .
حصلت هذه الاراء والأحكام التي أطلقها هؤلاء العلماء على هذه المغازي التي كتبها ابن عقبة، على احترام من جاء بعدها من العلماء، إذ حرصوا
(169) ينظر، ابن أبي حاتم، تقدمة المعرفة في كتاب الجرح والتعديل، تحقيق: عبد الرحمن المعلي، مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1321 هـ، ص 22.
(170)
الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 148.
على الحصول على إجازة بروايتها «171» ، وأهتم آخرون بتضمين اقتباسات منها في مصنفاتهم واختصار بعض رواياتها «172» .
كان وراء كتابة ابن عقبة لمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم موقف ذكره ابن حجر وهو أن ابن عقبة قد رأى الناس يطعنون بشر حبيل بن سعد ويذمونه ويتهمونه بالكذب، فشرع في كتابة مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يترك مجالا للطعن لمن تسول له نفسه ذلك «173» .
بقيت نقول كثيرة من هذه المغازي في بطون الكتب التي تحدثت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله استطعنا أن نتعرف منها طبية تلك المغازي وأثرها في تطور كتابة السيرة النبوية التي تركزت في عدة محاور أضفتها على كتابة السيرة، إذ تمثلت ب:
1.
ربط أحداث السيرة بالأحداث التي سبقتها قبل الإسلام وما جاء بعدها إلى العصر الذي عاش فيه ابن عقبة، وإن كان الذين سبقوه قد برز فيهم هذا المنحى ولكنهم لم يماثلوا ابن عقبة في عرضه هذه الأحداث، إذ أعطى نقلة لمؤلفي الموسوعات التأريخية مثل ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والبلاذري وغيرهم، ومنه بدأت ملامح المدرسة التأريخية تتضح أكثر من السابق «174» .
(171) ينظر، ابن خير الأشبيلي، (ت 575 هـ) ، فهرست ما رواه عن شيوخه، تحقيق: فرنشيسكه قراره، دار التعارف، بيروت، 1973، ص 230، سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 55.
(172)
ينظر، ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 29.
(173)
ينظر، تهذيب التهذيب، 10/ 361.
(174)
مصطفى، تأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 159.
2.
لم تقتصر مدونته تلك على أخبار المغازي فقط بل تعدتها إلى ذكر أسماء من هاجر إلى الحبشة، والمشتركين ببيعة العقبة وحادثة الهجرة «175» .
3.
الاهتمام بالسند وإيراده مع الرواية «176» ، وكانت معظم مروياته عن الزهري حتى عدّ المحدثون كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من اصح الكتب «177» .
4.
إيراد الوثائق العائدة إلى عصر الرسالة ضمن مدونته هذه «178» ، ومما يدل على أنه أطلع على أصولها ما ذكره موسى نفسه من أن كريبا مولى عبد الله بن عباس قد وضع عنده حمل بعير من كتب مولاه «179» ، وهذا يبين لنا أن ابن عباس كان ممن يجمعون أصولا من هذه الوثائق.
5.
إغفال مدونته هذه الأشعار التي ذكرت في الحوادث التي تطرق لذكرها «180» ، إذ لم يتطرق لهذه الاشعار سوى في أماكن محدودة جدا وفي مصنفين فقط «181» .
(175) ينظر، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 361، نصار، نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 54.
(176)
هوروفتس، المغازي الأولى، ص 72.
(177)
ينظر، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 361.
(178)
مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 159.
(179)
ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 216، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 361.
(180)
هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 73.
(181)
ينظر، أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، 3/ 16، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 231.
هذا هو منهج موسى بن عقبة في كتابة السيرة الذي نرى منه أن كتابة السيرة أخذت بالاستقرار عنده شيئا فشيئا، وصولا إلى كتابة أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قبل محمد بن إسحاق «182» .
مثّل هذا العرض السابق لجهود التابعين الذين ذكرت المصادر قيامهم بتدوين حوادث السيرة، مرحلة انتقالية بين الكتابة المشوشة المضطربة والكتابة المنسقة الخاضعة لمنهج دقيق، ولم تقتصر على جهود هؤلاء فقط بل وجدت هنالك مدونات أخرى لم تكن بحجم سابقتها ذكرتها بعض المصادر وهي:
1.
مدونة نافع مولى عبد الله بن عمر (ت 119 هـ) ، إذ دون فيها غزوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لنبي المصطلق، إجابة منه لتساؤل أحد المسلمين عن هذه الغزوة «183» .
2.
مدونة عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب (ت 142 هـ) ، التي دون فيها ما رواه الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري (ت 76 هـ) عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «184» ، وقد وصلت نقول من هذه المدونة في بعض المصنفات التي تطرقت لأحداث السيرة «185» .
إن جميع من ذكرناهم من التابعين الذين تبنوا تدوين أحداث السيرة، قد كانوا من أهل المدينة ومن المنتمين إلى مدرستها التي عرفت ب (مدرسة
(182) الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 151.
(183)
ينظر ابن سلام، الأموال، ص 116.
(184)
الخطيب البغدادي، تقييد العلم ص 104.
(185)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 120، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 65.
المدينة) «186» ، ولكن هذا لا يعني أن تدوين السيرة قد انحصر في المدينة بل شاطرتها أمصار إسلامية في عملها هذا ولكن بصورة أضيق منها، إذ أوضح ابن تيمية الحراني (ت 728 هـ) مكانة كل مصر من هذه الأمصار في تدوين المغازي والسيرة إذ يقول:" أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة ثم أهل الشام ثم أهل العراق فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم"«187» ، في حين يعطي الأوزاعي (ت 133 هـ) وصفا أكثر تطرفا لمكانة هذه الأقاليم بتدوين ورواية السيرة إذ يقول:" ومغازي رسول الله وأصحابه كانت من جانب الشام والحجاز دون العراق"«188» .
ذكرت إحدى الدراسات الحديثة أن مكانة أهل الشام لا تقل قدرا عن مكانة أهل المدينة في رواية وتدوين السيرة والمغازي، وذلك باستعراضها للعديد من الأسماء الذين ذكرت بعض المصادر قيامهم بكتابة وتدوين بعض حوادث السيرة «189» ، أما بالنسبة الى مكانة أهل العراق في رواية وتدوين المغازي فكانت أكثر وضوحا من سابقتها إذ أشار أحد المصادر إلى مقولة ذكرها عبد الله بن عمر بن الخطاب عن مكانة عامر الشعبي (ت 103 هـ) برواية المغازي، إذ وصفه- بعد ما سمعه يحدث الناس ويقرأ عليهم المغازي- قائلا: " لهذا أحفظ مني
(186) ينظر، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 49- 169.
(187)
أحمد بن عبد الحليم، مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1980، ص 9.
(188)
أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، (ت 182 هـ) ، الرد على سير الأوزاعي، تحقيق: مصطفى السقا، المكتبة السلفية، القاهرة، 1378 هـ، ص 4.
(189)
ينظر، عطوان، حسين، الرواية التأريخية في بلاد الشام في العصر الأموي، دار الجيل، بيروت، د، ت، ص 95، 206- 208.
لها وكأنه شهدها مع رسول الله (ص) " «190» ، وانفردت إحدى الدراسات الحديثة برأي مفاده أن عامرا كان من المدونين والحافظين لأخبار المغازي في كتاب «191» ، وهذا الرأي تعوزه الدقة لأن عامرا الشعبي كان من الذين يميلون الى الحفظ بدلا من التدوين «192» .
وجد من بين أهل العراق من ذكرت المصادر قيامه بتدوين أحداث من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في صحائف بقيت نقول منها في المصنفات التي أتت بعدها، وهو:
سليمان بن طرخان التميمي البصري (ت 143 هـ) :
وهو من التابعين البارزين والمحدثين المشهورين الذين وثقهم كل من ترجم له، سمع الحديث عن أنس بن مالك والامام الحسن بن علي عليه السلام «193» ، وعدّ سزكين هذا الرجل من المهتمين بكتابة السيرة والمغازي وممن صنف فيها «194» ، وكانت لهذا الرأي مصاديق عدة، إذ حصل ابن خير الأشبيلي (ت 575 هـ) على إجازة برواية المغازي التي كتبها سليمان بن طرخان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واسماها ب [كتاب سيرة النبي] لسليمان بن طرخان «195» ، فضلا عن
(190) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6/ 252، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 12/ 230.
(191)
ينظر، حمادي، عبد الخضر، الحركة الفكرية في القرن الأول الهجري، رسالة ما جستير غير منشورة، معهد الدراسات القومية والاشتراكية، الجامعة المستنصرية، بغداد، 1984، ص 95- 96.
(192)
ينظر، الخطيب البغدادي، تقييد العلم، ص 46.
(193)
ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 294.
(194)
ينظر، تأريخ التراث العربي، 1/ 453.
(195)
ينظر، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 231.
ذلك فقد أيد السخاوي وجود هذا الكتاب بجعل ولده معتمر (ت 178 هـ) راوية له «196» .
كانت المغازي التي كتبها سليمان بن طرخان محل جدل بين بعض الباحثين إذ أغفلها كل من هوروفتس والدوري حين عرضا المدونات الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «197» ، فضلا عن ذلك فقد سوغ باحث آخر إغفال هذه المغازي من قبل بعض الدراسات لأن المصادر القديمة لم تذكر قيامه بتدوينها «198» ، ويضيف آخر أنه لم تكن له تلك الإسهامات الملموسة والواضحة في كتابة السيرة لكي تجعل من صاحبها عنوانا يستشهد به ضمن الذين غرزوا نواة التأريخ العربي «199» .
واستدرك أحد الباحثين على هذه المواقف والاراء السابقة بإزاء ابن طرخان وكتابته لمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن أشار إلى أن أحد المستشرقين (فون كريمر) قد حصل على مخطوط لمغازي الواقدي يضم في نهايته أوراقا من مغازي أبي المعتمر سليمان بن طرخان اسماها ناسخ المخطوطة ب [السيرة الصحيحة]«200» ، ولا يخفي هذا الباحث شكوكه واستغرابه من إغفال الطبري لمغازي سليمان بن طرخان، أكان سبب ذلك الإغفال هو عدم وثاقة الطبري
(196) ينظر، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن، الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، تحقيق: فرانز روزنثال، مكتبة المثنى، بغداد، 1964، ص 159.
(197)
ينظر، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 3- 96، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص 5- 98.
(198)
نصار، نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 69.
(199)
المدني، التأريخ العربي ومصادره، 2/ 437.
(200)
نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 69.
بمغازي هذا الرجل؟ أم لانها لم تصل إليه؟ أم لم يؤلف سليمان مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصلا، وهذه المغازي التي وصلتنا محمولة عليه؟ «201» .
تبقى مهمة تعرّف الأسلوب الذي كتب به سليمان المغازي أسيرة الدراسة التي علمها نصار لهذه المغازي «202» وذلك لعدم توفر النسخة التي اعتمد عليها الباحث في معرفة جهود ابن طرخان في كتابة السيرة النبوية، إذ أوضح رأيه فيها بالقول: " إن الذي يتأمل هذه السيرة يجد أنها موجزة ومصغرة ومنسقة ومنتظمة لا تذكر فيها الفواصل والزوائد كما نرى عند المؤرخين الاخرين، مع إغفال الأسانيد للمرويات التي يتعرض لذكرها منفردة وفي موضوع واحد من دون تداخل للمواضيع الأخرى وبعبارة أدق يعتمد سليمان على إيراد كل الروايات التي ذكرت عن الموضوع الذي يطرحه، وأن وصفه يمتاز بالقوة والحياة، ويشعر القارئ بأنه مشرف على المعركة يرى الأبطال ويشاركهم مشاعرهم وأفعالهم كما يشعر بأن المؤلف لا يكتفي بمجرد ذكر الأعمال وإنما يدقق فيها ويبسطها بسطا صادقا يجعلنا نستطيع أن نميز ما يدور في خلد المؤمنين في كل موضع، وكثيرا ما تكون هذه الانفعالات في غير صالح المسلمين، ولكنه يأتي بروايات غريبة عن الغزوات الكبيرة المعروفة تخالف ما أجمع عليه المؤرخون الاخرون ويأتي أيضا بروايات مخالفة في غزوات النبي (ص) لنبي قريظة وخيبر ومؤتة
(201) نصار، المصدر نفسه، ص 69.
(202)
ينظر، المصدر نفسه، ص 69- 71.
والحديبية ووفاة الرسول (ص) مع عنايته بإيراد الايات القرآنية وشرح مناسباتها التأريخية واعتنى أيضا بإيراد الشعر ولكن بصورة أقل من سابقيه" «203» .
ويبدو أن سبب إغفال المؤرخين لهذه المغازي هو وجود آراء مخالفة ومتناقضة أوردها ابن طرخان معارضا فيها الروايات التي أتفق عليها جمع كثير من المهتمين بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إننا لم نجد أي اقتباس من هذه المدونة في المصنفات التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله.
وذكر بعض الباحثين اسما آخر للتابعين الذين قاموا بتدوين أحداث السيرة قبل أن تكتب السيرة الشاملة التي صنفها ابن إسحاق، وهو:
معمر بن راشد (ت 153 هـ) :
ولد في البصرة وعاش في اليمن وترعرع فيها، لازم الزهري وسمع منه كثيرا وتصدر للتدريس والفتيا في اليمن، واتفقت المصادر التي ترجمت له على وثاقة حاله «204» .
ذكر ابن النديم أن له كتابا أسماه (المغازي)«205» ، وأشار سزكين إلى أن أحد الباحثين قد قام بنشر هذا الكتاب في الولايات المتحدة الأمريكية «206» ، ولم نستطع الحصول على نسخة منه، الامر الذي حرمنا من فرصة الوقوف على منهجية مؤلفه وطريقة عرضه لأحداث السيرة، ولكن سزكين قد تولى عنا هذه
(203) المصدر نفسه، ص 69- 71.
(204)
ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 375، البخاري، محمد بن إسماعيل، (ت 256 هـ) ، التأريخ الكبير، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط 1، 1361 هـ، 4/ 1/ 78.
(205)
ينظر، الفهرست، ص 106.
(206)
ينظر، تأريخ التراث العربي، 1/ 465.
المهمة فقام بوصف أسلوب الكتاب ومنهجه، إذ قال: " لم يرتب [معمر بن راشد] مادته ترتيبا زمنيا كما فعل معاصروه
…
بل رتبها ترتيبا موضوعيا على غرار عمل المحدثين" «207» ، ومن مراجعتنا للاقتباسات التي نقلت من كتابه هذا تبين لنا مصداقية هذا الرأي وموضوعيته «208» ، فضلا عن ذلك أن معمرا لم يلتزم بالمغازي حصرا بل وجه عنايته كذلك إلى تأريخ أهل الكتاب والأقوام السالفة «209» ، وهذه الظاهرة مشخصة أيضا في النقول التي وصلت إلينا عن مدونة معمر تلك «210» .
اعتمد معمر بن راشد كثيرا في مدولته هذه على ما رواه شيخه الزهري «211» ، ولأجل ذلك أطلق عليه النوري (ت 676 هـ) بصاحب الزهري «212» .
كانت اتجاهاته في كتابة السيرة موافقة لما نحاه شيوخه ومعاصروه نحو الاهتمام بإيراد سند الحديث والرواية، وإثبات الايات القرآنية التي نزلت في الحوادث التي يتطرقون إلى ذكرها، مع مخالفتهم في إغفال ما قيل في تلك الحوادث من شعر «213» .
(207) المصدر نفسه، 1/ 564.
(208)
ينظر، الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، (ت 211 هـ) ، المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي، بيروت، ط 1، 1972، 5/ 330- 485.
(209)
ينظر، هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 75.
(210)
ينظر، الصنعاني، المصنف، 5/ 313، 420، 426، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 34، 40، 83، 98، 121.
(211)
ينظر، الصنعاني، المصدر نفسه، 5/ 313، 440.
(212)
محيي الدين بن شرف، تهذيب السماء واللغات، مطبعة المنيرية، القاهرة، 1913، 2/ 107.
(213)
ينظر، الصنعاني، المصنف، 5/ 322، 324، 340، 342، 347، 357، 358، 359، الواقدي، المغازي، 3/ 889.
بقي لنا أن نذكر أن اتجاهات معمر قد نهجت المنحى الذي سلكه المحدثون في ما بعد، وهو عرض الحوادث من دون إخضاعها لعامل السبق الزمني والقدم، فضلا عن إغفال الأشعار التي قيلت في الحوادث التي يذكرونها «214» ، إذ مثل بمنحاه هذا تطورا نوعيا في كتابة السيرة إذ اتسم منهجه بالطابع النقلي الخاص بعرض الروايات من دون مناقشة أو تعقيب عليها، فضلا عن تشتت وبعثرة الروايات التي يذكرها لفقدان طابع السبق الزمني لهذه الحوادث من حيث أسبقية القدم منها في العرض.
هؤلاء هم الأشخاص الذين أدوا دورا في تدوين ورواية أحداث السيرة التي سبقت سيرة محمد بن إسحاق التي تمثّلت فيها جهود معظم هؤلاء الأشخاص «215» .
لم تقتصر مدونات سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أصحابه ومتعلقيه على النثر، بل نظمت كثير من القصائد التي أرخت بعض الحوادث التي حصلت في عصر الرسالة، إذ رفدت القصائد التي جادت بها قريحة الشعراء السيرة النبوية ببعض الحوادث المهمة التي لولاها لبقيت مبهمة وغير معروفة، إذ وصف أحد الباحثين هذه المقاطع الشعرية التي انبرى لجمعها ودراستها بالقول: " تزخر السيرة النبوية بالكثير من النصوص الشعرية التي تمثل جانبا مهما من تراثنا الأدبي والتي لا تقف أهميتها على الناحية الأدبية فحسب بل تتجاوزها إلى نواح أخرى دينية وتأريخية إذ صورت لنا كثيرا من الأحداث والمواقف في الحقبة الأولى من تأريخ
(214) ينظر، الصنعاني، المصنف، 5/ 322، 324، 340، 343، 347، 357، 359، الواقدي، المغازي، 3/ 889، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 286، 322.
(215)
هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها.
الإسلام وتضمنت ذخرا وافرا من المعاني والأفكار التي أفرزها ذلك التغير الشامل والتطور الهائل الذي أحدثه الإسلام في جميع جوانب الحياة" «216» .
أشار أحد المصادر إلى أن عددا من القصائد والمقطوعات الشعرية التي قيلت في عصر الرسالة قد كتبها أصحابها أو من سمعها، إذ ذكر ابن سلام الجمحي (ت 193 هـ) أنه قد أطلع على القصيدة التي قالها أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حق ابن أخيه والتي مطلعها:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ربيع اليتامى عصمة للأرامل
في كتاب كتبه أحد أقاربه قبل أكثر من مئة سنة «217» .
بينت هذه الرواية مكانة تلك القصائد في نفوس المسلمين حتى قاموا بتدوينها لتشكل حلقة تكاملية في تكوين ملامح واضحة لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد إدخالها وتطعيمها بالحوادث التي قيلت فيها، واستنتج أحد الباحثين أن الأنصار كانوا يهتمون بتدوين شعرهم الخاص بأحداث السيرة لأنه زاخر بأمجادهم ومفاخرهم العظيمة في نصرة الإسلام ونبيه «218» .
من هذه المدونات النثرية والشعرية التي عرضناها آنفا يتبين لنا المسار الذي سلكته كتابة السيرة قبل منتصف القرن الثاني الهجري عندما شرع محمد بن إسحاق في تصنيف أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم «219» .
(216) أحمد، شوقي رياض، شعر السيرة النبوية، دار المأمون، مصر، ط 1، 1987، ص 3.
(217)
محمد بن سلام، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود شاكر، دار المعارف، القاهرة، د، ت، ص 224.
(218)
ينظر، أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 120، 128.
(219)
الذهبي، تذكرة، الحفاظ، 1/ 151.
يتبين لنا من عرض هذه المرحلة أنه قد كانت هنالك عوامل عديدة وراء تأخر كتابة أول سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما يقرب من القرن والنصف على التحاقه بالرفيق الأعلى، وهذه العوامل هي:
1.
تحجيم الأمويين وولاتهم لأي مشروع في كتابة سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعلل مرجليوث هذا الدافع من قبل الأمويين بالقول: " وحين نقرأ أنه لم يكن الناس في العهد الأموي يجرؤون على تسمية أبنائهم بعلي أو حسن أو حسين، لا يدهشنا أن تتأخر أقدم ترجمة للنبي إلى ما بعد قيام العباسيين، إذ لم يكن من الممكن أن تروى ترجمة النبي في أيام الأمويين دون زعزعة إخلاص المسلمين لحكمهم زعزعة خطيرة ولم تكن النتائج لتحسن الأوضاع،
…
فأنه كلما قل سماعهم أنباء عن صدر الإسلام ازداد احتمال احتفاظهم بطاعتهم" «220» .
وردت روايات كثيرة أكدت هذا العامل، فمنها الرواية التي ذكرها أبو الفرج الأصفهاني والتي عرض فيها محاورة جرت بين الزهري وخالد بن يزيد القسري حول طلب الأخير كتابة سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومناقشة الزهري لهذه الرغبة من كون السيرة تحمل في جنباتها ذكرا لماثر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فما كاد الزهري يخبره بهذا الأمر إلا واستشاط غضبا فقال له أتركه ألا تراه في قعر الجحيم «221» ، كذلك ما أورده السيوطي (ت 911 هـ) أن
(220) دراسات عن المؤرخين العرب، ترجمة: حسين نصار، دار الثقافة، بيروت، د، ت، ص 16- 17.
(221)
ينظر، الأغاني، 22/ 4.
سعيد بن المسيب كان لا يذكر اسم علي بن أبي طالب في الروايات والأحاديث التي سمعها منه خوفا من ولاة الأمويين وبطشهم «222» .
ولم يكن موقف الأمويين في تحجيم سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ناتجا من ورود اسم الإمام علي عليه السلام ضمن طياتها فقط بل كان دور الأنصار فيها عاملا آخر أدى بطبيعة الحال إلى هذه النتيجة فقد كانت الرواية التي أوردها الزبير بن بكار (ت 224 هـ) من تمزيق سليمان بن عبد الملك للمغازي التي كتبها أبان بن عثمان بعد ما وجد فيها تسجيلا لمواقف الأنصار المشرفة «223» ، إذ أشار قبيصة بن ذؤيب* إلى أسباب هذا الكره الذي يكنه الأمويون للأنصار بعد ما سأله سليمان عن ذلك فأجاب قبيصة بالقول:" يا ابن أخي أول من أحدث ذلك معاوية بن أبي سفيان ثم أحدثه مروان ثم أحدثه أبوك، فقال: علام ذلك؟ فقال: لأنهم قتلوا قوما من قومكم وما كان في خذلانهم عثمان (رض) فحقدوا عليهم وحنقوهم وأورثوه لكم"«224» ، ويضيف البلاذري في مكان آخر أن عبد الملك قد مر على بعض ولده فرأى في أيديهم بعضا من الصحائف فيها ذكر للمغازي فأخذها وحرقها وقال عليك بكتاب الله فاقرأه والسنة فأعرفها وأعمل بها «225» .
(222) ينظر، الحاوي للفتاوى، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة نهضة مصر، 1374 هـ، 2/ 208.
(223)
ينظر، الأخبار الموفقيات، ص 332- 333.
(*) تابعي من المدنيين الذين سكنوا دمشق وكان فقيها ومن أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت وجعله عبد الملك بن مروان من خاصته (ت 86 هـ) ، ينظر، ابن قتيبة، المعارف، ص 447، ابن عبد البر، الاستيعاب، 4/ 1272، ابن الأثير، أسد الغابة، 4/ 191.
(224)
البلاذري، أنساب الأشراف، مخطوطة مصورة في مجمع اللغة العربي، دمشق، 1/ 1165، نقلا عن عطوان، الرواية التأريخية في بلاد الشام، ص 77- 78.
(225)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 1165، نقلا عن عطوان، المصدر نفسه، ص 78.
بين أحد الباحثين أسباب هذا الإحجام من قبل الأمويين في السماح بانتشار ورواية وكتابة أخبار السيرة والمغازي بستة أسباب هي:
السبب الأول: إنهم كانوا يعتقدون أن جمهور المسلمين في أيامهم ليسوا كجمهور المسلمين في صدر الإسلام وإنما قد تغيروا وتبدلوا إذ فارقوا أخلاق المسلمين الأولين وصاروا لا يقاربونهم في النقاء والصفاء.
السبب الثاني: إنهم كانوا يقرون في قرارة أنفسهم بأنهم ليسوا كمن سبقهم من الخلفاء الراشدين، وإنما هم دونهم درجات فهم لا يبلغون مبلغهم في الصلاح والتقوى والورع.
السبب الثالث: إنهم كانوا يؤمنون بأن نظام الحكم في الإسلام له قواعد وأسس ولكنها جميعها ليست ثابتة بل منها المتغير ومنها الثابت وما يصح منها للناس في عصر قد لا يصلح لعصر آخر وما تصح فيه حياة الناس في عهد قد تفسد به حياتهم في عهد ثان.
السبب الرابع: إنهم كانوا يخشون أن يندد الناس بسياستهم ويشهروا بممارستهم ويثوروا على خلافتهم ويسعوا للتطويح بدولتهم إذا هم أباحوا لهم الاطلاع على سيرة من سبقهم وسمحوا لهم بروايتها.
السبب الخامس: إنهم كانوا يرون أن رواية المغازي والسير تهيج الإحن والضغائن الكامنة وتحرك الحزازات والعداوات القديمة بينهم وبين الأنصار، فقد قتل الأنصار الأمويين وفتكوا بهم يوم بدر وانتقم الأمويون منهم وتشفوا بهم يوم أحد وكان الأنصار يفتخرون بأنهم من أهل السابقة والقدم في الإسلام، وأنهم
منعوا الرسول الكريم من كفار قريش من الأمويين وغيرهم، وكانوا يعدون الأمويين ممن تأخر إسلامهم وأنهم من المؤلفة قلوبهم، وكان الأمويون لا يغضون عن جراحاتهم ولا ينسون مناهضة الأنصار لهم ولشيعتهم، وكان ذلك مصدر خصام بينهم في صدر الإسلام.
السبب السادس: أنهم كانوا يعلمون بأن ليس لهم نصيب من المغازي والسير لأنهم صدوا عن سبيل الله وناصبوا الرسول (ص) العداء وصبوا عليه وعلى من آمن برسالته أصناف العذاب وقتل من قتل منهم وهم يدافعون عن أوثانهم وسلطانهم في أول الدعوة، ولم يدخلوا الإسلام إلا بعد فتح مكة فكفوا الناس عن رواية المغازي والسير لكتمانها وإخفائها وأنهم كانوا يعتقدون أن في إطلاع الناس عليها نشرا لمساوئ الأمويين وازدراء بهم وتجريحا لهم وفيه إظهار لمحاسن الأنصار وثناء عليهم «226» .
جعل هذا السبب جهود الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم من الذين عاصروا الدولة الأموية، بتدوين ورواية أحداث السيرة مقتصرة على رغبات شخصية بحتة عدا المدة التي تولى فيها عمر بن عبد العزيز الخلافة (99- 101 هـ) إذ تبنى فيها عملية كتابة وتدوين الحديث ونشره ورواية السيرة ومناقب الصحابة على جمهور المسلمين «227» .
(226) عطوان، الرواية التأريخية في بلاد الشام، ص 67.
(227)
ينظر، ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ص 98، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 5/ 54- 55.
شبه مرجليوث هذا الموقف من قبل الأمويين بالسد الذي تجمعت خلفه المياه فما أن إنصدع هذا السد وتلاشى حتى ظهرت إلى العيان السيرة المبوبة والشاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإيعاز من السلطة المركزية المتمثلة بالخليفة نفسه «228» .
2.
ندرة مواد الكتابة وغلاء أثمانها، إذ كان هذا العامل من العوامل المباشرة التي أدت إلى تأخر عملية التدوين للمرويات الشفوية، بسبب طبيعة مواد الكتابة وأحوالها التي يصفها ابن النديم بالقول: " كتب أهل مصر بالقرطاس المصري ويعمل بالقصب البردي والروم تكتب بالحرير الأبيض والرق وغيره في الطومار المصري، وفي الفلجان وهي جلود الحمير الوحشية، وكانت الفرس تكتب في جلود الجواميس والبقر والغنم، والعرب تكتب في أكتاف الأبل واللخاف وهي (الحجارة الرقاق البيض) وفي عسب النخل، والصين في الورق الصيني ويعمل من الحشيش
…
فأما الورق الخراساني فيعمل من الكتان ويقال إنه حدث في أيام بني أمية وقيل في الدولة العباسية
…
وقيل أن صناعا من الصين عملوه في خراسان على مثال الورق الصيني
…
" «229» .
يبدو لنا من كلام ابن النديم أن هذه المواد كانت تتسم بالقلة لاختصاص كل بلد بمادة يكتب فيها لعدم وجود مواد كثيرة منها تساعد على انتشارها في كل البلاد، وإن وجدت فإنها غالية الأثمان، مما أسهم ذلك في قلة الكتابة والاعتماد على الحفظ «230» ، وظل الاقتصاد فيها مستمرا حتى انتقلت صناعة
(228) ينظر، دراسات عن المؤرخين العرب، ص 19.
(229)
الفهرست، ص 22- 23.
(230)
ينظر، جب، هاملتون، دراسات في حضارة الإسلام، ترجمة: إحسان عباس وآخرين، دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1977، ص 286.
الورق من الصين إلى الدولة العربية الإسلامية عن طريق عمليات الفتوحات الإسلامية ولا سيما عند وصولهم إلى مدينة سمرقند التي يقول عنها الثعالبي عند وصفه لها: " من خصائص سمرقند الكواغيد التي عطلت قراطيس مصر والجلود التي كانوا يكتبون فيها لأنها أحسن وأنعم وأرفق ولا يكون إلا بها وبالصين"«231» ، ومن سمرقند نقل العرب صناعة الورق إليهم وأنشأوا في بغداد مصنعا للورق في زمن العباسيين «232» .
ولهذا كانت ندرة مواد الكتابة من العوامل التي عاقت كتابة السيرة ونشرها بين الناس، فما أن أنتشر الورق ورخص ثمنه إلا وأقبل العلماء على تصنيف الكتب بمختلف اتجاهاتها وبضمنها السيرة، وترجمة تراث الأمم المجاورة والقديمة إلى لغتهم «233» .
3.
غياب المنهج وأساليب العرض وسبك العبارات وتنسيق الجمل في مجموع متكامل من قبل المسلمين، وهذا العامل راجع إلى أنهم لم يألفوا تصنيف الكتب المبوبة على وفق موضوع معين «234» ، وكان هذا السبب عاملا ليس في تأخر كتابة سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقط بل في تأخر كتابة العلوم والمعارف الأخرى من قبل المسلمين آنذاك، إذ نلاحظ أن نشأة التدوين التأريخي وبضمنه كتابة السيرة النبوية قد مر بمراحل ثلاث إلى أن وصل إلى صيغته المألوفة وهذه المراحل هي: -
(231) عبد الملك بن محمد، لطائف المعارف، تحقيق: إبراهيم الابياري، حسن كامل، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1960، ص 218.
(232)
عن تطور صناعة الورق وأثرها في الحركة الفكرية الإسلامية، ينظر، مزبان، سهيلة حسن، الحركة الفكرية في العراق (132- 254 هـ) ، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1992، ص 17- 25.
(233)
ريسلر، جاك، الحضارة العربية، ترجمة: محمد عزيز نويهض، الدار المصرية للكتاب، 1961، ص 174.
(234)
مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 377، 401.
أ. تقييد الفكرة أو الحديث في صحائف مستقلة للمذاكرة والحفظ، وهذه المرحلة هي أدنى المراحل وأيسرها.
ب. تدوين الأفكار المتشابهة أو الأحاديث التي اختصت بموضوع معين في ديوان واحد، وتعدّ هذه المرحلة هي المرحلة الوسطى.
ج. تصنيف المجاميع وترتيب ما دوّن وتنظيمه ووضعه تحت فصول محددة وأبواب مميزة وهذه المرحلة من أهم هذه المراحل وأعقدها «235» .
من هذا نرى أن هذه المراحل قد شكلت الحلقات التي مر بها تصنيف الكتب إذا ما علمنا أن اللغويين عند عرضهم لمعنى كلمة (صنّف) وجدناهم يقولون: " وصنفه تصنيفا جعله أصنافا وميز بعضه عن بعض ومنه تصنيف الكتب"«236» .
أعطى أحد الباحثين تعليلا للسبب الذي أدى إلى ظهور أولى المصنفات عند المسلمين في بداية العصر العباسي حصرا بأن طبيعة التطور الذي أحدثه النضج العلمي الذي نشأ بالاتصال الفكري من قبل المسلمين بالأمم المجاورة، واقتباس تجارب هذه الأمم في تصنيف الكتب وتوثيق علومهم ونقلها إلى بلاد الإسلام «237» .
هذه هي العوامل والأسباب التي كانت وراء تأخر التصنيف في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حتى بداية العصر العباسي.
(235) المصدر نفسه، 1/ 92- 100.
(236)
ابن منظور، لسان العرب، مادة صنف، 9/ 198.
(237)
ينظر، شلبي، أحمد، موسوعة التأريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، 1966، 3/ 216.