الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع المصنفات التي كتبت في المغازي النبوية
كان هذا المنحى في التصنيف مبكرا جدا في تاريخ الإسلام، إذ بينا في الأوراق الأولى من هذه الدراسة سبب التبكير في التصنيف فيه وبينا أسبقيته في الكتابة قبل أن تكتب أي سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم «1» ، وكان وراء هذه الأسبقية عامل أساس تمثل ببقاء فكرة أيام العرب في الجاهلية عالقة في أذهان الناس بعد الإسلام مدة طويلة امتدت حتى القرون الأولى منه «2» .
كانت أسماء المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد اشتركت في مسمياتها مع المصنفات التي اختصت بعرض أعمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العسكرية، وذلك لارتباط معنى كل من لفظتي السيرة والمغازي «3» ، وهذا ما جعل عملية فرز المصنفات التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو مغازيه والتي ذكرت فهارس الكتب أسماءها تحت اسم (كتب المغازي)«4» ، عملية صعبة لفقدان معظم هذه المصنفات التي لم نعرف محاور الروايات التي وردت فيها باستثناء مصنف واحد
(1) ينظر، ص 22- 43، 50- 53 من هذه الدراسة الفصل الأول، المبحث الأول، الفصل الثاني، (المدخل) .
(2)
ينظر، الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص 29.
(3)
ينظر، ص 8- 12 من هذه الدراسة.
(4)
ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 135- 138.
وصل إلينا كاملا وهو كتاب (المغازي) لمحمد بن عمر الواقدي (ت 207 هـ) *، الذي من حسن الحظ أن بقي كتابه هذا إلى الان برغم قدمه.
شكل هذا الكتاب إحدى الدعامات المهمة التي استندت عليها معظم المصنفات عند عرضها لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله وأعماله العسكرية بخاصة، وذلك لأمور عدة أسهمت إسهاما فعالا في نيل هذا الكتاب تلك المرتبة السامية ضمن مصنفات السيرة، وهذه الأمور هي:
1.
المشاهدة والمعاينة للمواقع التي جرت فيها الحوادث المتعلقة بمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتوابعها «5» ، وهذه الخاصية قد بينها الواقدي بقوله: " ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا وسألته، هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه
…
وما عملت غراة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه" «6» .
أكد تصرف الواقدي هذا مشاهدة أحد الناس له بمكة وهو واضع ركوته التي يحفظ فيها الماء على ظهره، فسأله هذا الشخص عن الوجهة التي يقصد إليها فقال له الواقدي. " أريد أن أمضي إلى حنين حتى أرى الموقع والوقعة"«7» .
كان لهذه السمة التي اتصف بها الواقدي أثر ملموس في جعله موضع ثقة معاصرية في استمكان المواضع التي حصلت فيها حوادث السيرة بعامة والمغازي
(*) كتبت دراسة مستفيضة هذا الكتاب ومؤلفه والموارد التي اعتمد عليها الواقدي في كتابه هذا، ينظر، الكبيسي، محمد فضيل، الواقدي ومنهجه وموارده في كتاب المغازي، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب جامعة بغداد، 1992.
(5)
ينظر، المغازي، 1/ 10، 11، 12، 13، 17، 21، 28، 195..
(6)
ينظر، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 3/ 6.
(7)
ينظر، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 3/ 6.
بخاصة، إذ يروي لنا ابن سعد رواية عن شيخه الواقدي يبين فيها مكانته من بين معاصريه من معرفة هذه الأمور، وهذه الرواية مفادها: " حج أمير المؤمنين هارون الرشيد فورد المدينة فقال ليحيى بن خالد [البرمكي] ارتاد لي رجلا عارفا بالمدينة والمشاهد وكيف كان نزول جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ومن أي وجه كان يأتيه وقبور الشهداء، فسأل يحيى بن خالد فكل [من سأله] دله عليه، فبعث إلي فأتيته وذلك بعد العصر فقال لي يا شيخ أن أمير المؤمنين أعزه الله يريد أن تصلي عشاء الاخرة في المسجد وتمضي معنا إلى هذه المشاهد فتوقفنا عليها والموضع الذي يأتي جبريل عليه السلام
…
فأتيت به إلى دور المسجد فقلت له هذا الموضع الذي كان جبريل يأتيه [فيه]
…
فلم أدع موضعا من المواضع ولا مشهدا من المشاهد إلا مررت بهما عليه
…
فلم نزل كذلك حتى وافينا المسجد وقد طلع الفجر" «8» .
أعطت هذه السمة التي اتصف بها الواقدي في عرض الحوادث بمشاهدته لأماكن وقوعها حالة من الواقعية والصدق والابتعاد عن المبالغات والضبابية في وصف الحوادث، وذلك بتسليط الضوء على الدور الذي لعبه الموقع الجغرافي واتخاذ الخطط الحربية المناسبة له، ولم يقتصر على هذا الأمر حسب بل أخذ يعرض أيضا المسارات التي تسلكها بعض الغزوات في خروجها من المدينة إلى أماكن حدوث وقائعها مع ذكر مناطق التوقف والمواقع التي يمرون بها «9» .
نالت هذه الميزة التي اتصف بها الواقدي إعجاب محقق كتابه، إذ وصف هذه الميزة بالقول: " إنها بحق المرحلة الأولى في الأدب الجغرافي العربي إن لم تكن
(8) الطبقات الكبرى، 5/ 315.
(9)
ينظر، المغازي، 1/ 215- 219، 2/ 638، 3/ 924- 926، 939.
اللبنات والأسس التي بنى عليها كل من جاء بعده مثل ابن سعد والبلاذري ومن تلاهما في التأليف لكتب الفتوح والبلدان" «10» .
2.
المفاضلة بين الروايات وإبداء الاراء فيها. وذلك باستعمال عبارات يستشف منها حكمه على هذه الروايات مثل: (القول الأول أثبت عندنا)«11» ، أو:(وهذا الثبت عندنا)«12» ، وغير ذلك من العبارات التي يستشف منها هذا المنحى «13» .
فضلا عن استعمال هذه العبارات في هذا الكتاب، قام الواقدي باتباع مناح أخرى فيه وذلك بإعطاء حكمه على بعض الروايات التي تصف حادثة واحدة بتكراره الرواية التي يعتقد هو بصحتها «14» ، أو الخروج بمحصلة نهائية للحادثة بعد عرض رواياتها «15» ، ولم يخف الواقدي تردده في حكمه على بعض الحوادث التي تضاربت فيها الاراء، إذ عبر عن ذلك بعبارة:(يقال أو ليس بجمع عليها)«16» ، أو يذكر الروايات من دون تعليق عليها «17» .
3.
الأسلوب المستعمل في عرض حوادث الكتاب، إذ أورد الواقدي مصادره التي اعتمد عليها في كتابه هذا سواء أكانت مصادر مكتوبة أم مسموعة مع
(10) جونس، مقدمة التحقيق لكتاب المغازي، 1/ 32.
(11)
ينظر، المغازي، 1/ 35، 88- 89، 2/ 689- 690، 3/ 961- 962.
(12)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 58، 352، 3/ 961.
(13)
ينظر، المغازي، 1/ 203- 234، 2/ 406- 407، 412، 459، 510، 3/ 737- 738.
(14)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 189، 220، 247، 2/ 397، 412، 444، 509، 548، 614، 637، 674.
(15)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 91، 250، 2/ 491.
(16)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 101، 166، 172، 253.
(17)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 87- 88، 89- 91، 309، 2/ 508- 509، 545- 546، 3/ 927، 1100.
عرض سريع للمغازي والسرايا وتواريخ حدوثها، وذلك في بداية كتابه، ليكون مدخلا له وعرضا سريعا لمحتوياته «18» .
انعكس هذا الأمر أيضا على بعض الغزوات التي عرضها في كتابه، إذ ذكر مصادره في بداية حديثه عن كل غزوة من هذه الغزوات «19» .
نال هذا الأمر إعجاب العديد من الباحثين الذين اطلعوا على كتاب الواقدي، إذ وصفه أحدهم بالقول: " ويبدو واضحا للقارئ الحديث إن من أهم السمات التي تجعل الواقدي في منزلة خاصة بين أصحاب السير والمغازي تطبيقه المنهج التاريخي العلمي الفني، فاننا نلاحظ عند الواقدي أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير، فهو
…
يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم تلك الأخبار، ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تاريخ محدد للغزوة بدقة
…
ثم يذكر المغازي التي غزاها [الرسول صلى الله عليه وآله وسلم] بنفسه
…
ومن اليسير أن نستدل على فطنة الواقدي وإدراكه كمؤرخ من المنهج الموحد الذي يستعمله" «20» ، ويضيف آخر واصفا أسلوبه هذا بالقول إنه كان: " أكثر ارتباطا بأساليب مدرسة المدينة
…
ونهجه في العرض منظم منطقي يذكر مصادره الأساسية وهي 25 اسما وتواريخ المغازي" «21» .
(18) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 1- 8.
(19)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 119، 346، 363، 2/ 384، 395.
(20)
جونس، مقدمة التحقيق لكتاب المغازي، 1/ 31.
(21)
مصطفى، التاريخ العربي والمؤرخون، 1/ 165.
تبين لنا هذه الاراء التي وصفت أسلوب الواقدي هذا حجم الجهد الذي بذله في كتابته لمصنفه ومقدار النقلة النوعية التي اوجدها لكتابة السيرة النبوية بعامة، إذ انتهج هذا الأسلوب والمنحى مؤرخون عديدون كتبوا في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله «22» .
4.
الاهتمام في إيراد المعجزات التي ظهرت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المغازي، إذ وجدناه يتتبع أخبارها ويحدد أماكن وأوقات حدوثها «23» ، فمنها ما ذكره عن معجزة نبع الماء من بين أصابعه عندما وضعها في ركوة ليس فيها إلا القليل من الماء بعد ما اشتد العطش بالمسلمين عند رجوعهم من غزوة تبوك «24» .
كان عمل الواقدي هذا أحد الأسس والثوابت التي اتكأت عليها المصنفات التي اختصت بجمع دلائل نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته، إذ نجد أبا نعيم الأصفهاني (ت 430 هـ) كثيرا ما كان ينقل نصوصا منه في كتابه [دلائل النبوة]«25» ، واعتمد عليه أيضا البيهقي عند إحصائه معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودلائل نبوته «26» .
مع كل هذه الأمور التي أوجدها الواقدي لكتابة السيرة فإنها لم تكن شافعة له بالحصول على ثقة علماء عصره في ما يرويه من حوادث ولا سيما من قبل
(22) ينظر، ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 20- 25، العظيمي، التاريخ، ورقة 51- 52، الكلاعي، الاكتفا، 1/ 2- 7.
(23)
ينظر، المغازي، 1/ 93- 94، 97- 98، 107، 125- 127، 242، 243، 251، 263- 264، 274، 276، 323- 324.
(24)
ينظر، المصدر نفسه، 3/ 1040- 1041.
(25)
ينظر، 1/ 37، 47، 70، 106، 107، 113، 119، 2/ 247، 248، 252، 255، 308.
(26)
ينظر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 3/ 15- 16، 31، 79- 80، 88- 89، 94- 95، 99، 133، 149- 150، 168.
المحدثين فقد نعتوه بأنه كان كذابا ويفتعل الأحاديث ويضعها، ووصفوه أيضا بأنه كان يحدث بالمناكير ويضع الأسانيد
…
الخ من الأحكام التجريحية التي وسم بها الواقدي «27» ، ولكن مع هذه الصفات القاسية التي وصف بها الواقدي فقد وجد من يوثق الواقدي ويرفعه إلى مرتبة أمير المؤمنين في الحديث فضلا عن نعوت أخرى تعارض الكلام السابق الذي جرح فيه «28» .
علل ابن سيد الناس (ت 734 هـ) هذا التناقض بالأحكام الصادرة على شخص الواقدي من قبل علماء الجرح والتعديل بالقول: " إن سعة العلم مظنة لكثرة الأغراب وكثرة الأحزاب، مظنة للتهمة، والواقدي غير مدفوع عن سعة العلم فكثرت بذلك غرائبه
…
وقد روينا عنه من تتبعه آثار المواقع وسؤاله في أبناء الصحابة والشهداء ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضي انفرادا بروايات وأخبار لا تدخل تحت الحصر وكثيرا ما يطعن في الراوي برواية وقعت له من أنكر تلك الرواية عليه واستغربها منه ثم يظهر له أو لغيره بمتابعة متابع أو سبب من الأسباب من مقتضى الطعن فيتخلص بذلك من العهدة" «29» .
تبقى لنا ملاحظة تجب الإشارة إليها وهي معرفة مدى الموضوعية والأمانة في نقل وقائع الأحداث من دون مجاملة أو حذف، إذ قطع أحد الباحثين بأن الواقدي كان أمينا في عرضه لحوادث المغازي «30» ، ولكن باحثا آخر لم يكن رأيه مشابها لهذا الرأي بل وصف الواقدي بالقول: " قلنا إن منهج الواقدي
(27) ينظر، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 3/ 12- 18.
(28)
ينظر المصدر نفسه، 3/ 9- 12.
(29)
عيون الأثر، 1/ 20.
(30)
ينظر، الكبيسي، الواقدي ومنهجه في كتاب المغازي، ص 172- 184.
متكامل في التأريخ والحوادث بصورة أكمل [من سابقيه] ولكن يجب علينا تحريا للإنصاف أن نتقبله بحذر في ذكر تأريخ بعض الحوادث" «31» ، ولكن هذا الباحث يستدرك على رأيه هذا فيقول: " أو على الرغم من هذه الاختلافات في التواريخ فإننا نجدها أدق وأثبت بعامة في نظامها من التواريخ المماثلة في كتب السيرة الأخرى هذا فضلا عما أنفرد به الواقدي حين يعرض في مغازيه الأخبار الكثيرة التي لا نجدها عند غيره
…
وعلى الرغم مما ذكرت من آراء نقدية مثل الاختلاف في الواقع في بعض تواريخ الحوادث فلابد من الاعتراف بأن مغازي الواقدي أكمل وأتم مصدرا محايد دون تعصب لتأريخ حياة النبي في المدينة" «32» .
هذه هي الاراء التي وصف بها الواقدي وأسلوبه وطريقة عرضه للحوادث وما أكسبته هذه الطريقة من تجديد وتطور في أساليب كتابة السيرة النبوية حتى اصبح هذا الكتاب أحد المصنفات المهمة التي لا يستغني عنها كل شخص يريد أن يتعرف على حوادث عصر الرسالة بعامة وأعمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بخاصة.
وصل إلينا كتاب آخر في المدة قيد الدراسة تناول مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، صنفه أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي (ت 643 هـ) *، وأسماه [الاكتفا في مغازي الرسول والثلاثة الخلفا]«33» .
(31) جونس، مقدمة التحقيق لكتاب المغازي، 1/ 32.
(32)
المصدر نفسه، 1/ 33- 34.
(*) هو أحد العلماء الأندلسيون الذين ولدوا في سنة 565 هـ، في مدينة بلنسيه، وبرع في مختلف علوم عصره، وتوفي شهيدا عند محاربته الفرنجه سنة 643 هـ، ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 209، المقري، نفح الطيب في أخبار الأندلس الرطيب، 2/ 502، 609.
(33)
ينظر، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 141.
كان في النية جعل هذا الكتاب من ضمن كتب السيرة المستقلة التي تناولناها في الفصول السابقة «34» ، وذلك لما عاهد الكلاعي نفسه في مقدمة هذا الكتاب على تصنيفه كتابا يحوي ذكرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومواقفه وأحواله وأعماله العسكرية التي يقول فيها:" هذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر نسبه ومولده ومبعثه وكثيرا من خصائصه وأعلام نبوته ومغازيه وأيامه من لدن مولده إلى أن استأثر الله به روحه الطيبة إليه"«35» ، ولكن الذي حصل أنه لم يقم بما اشترط به على نفسه من ذكر الأمور التي ذكر أيامه بعرضها في كتابه هذا، إذ بمجرد الوصول إلى حادثة الهجرة والحوادث التي رافقتها «36» ، انعطف جانبا عن ذكر أحواله الخاصة التي عرضها قبل الهجرة «37» ، ليقتصر في حديثه على ذكر إجراءات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله المدينة فقط «38» ، ثم بعد ذلك أخذ بسرد أعمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العسكرية إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى «39» .
هذه هي الأسباب التي دفعتنا إلى جعل هذا الكتاب منحصرا ضمن الكتب التي عرضت مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه.
(34) ينظر، ص 49- 101 من هذه الدراسة.
(35)
الاكتفا، 1/ 2.
(36)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 428- 458.
(37)
سنظر، المصدر نفسه، 1/ 9- 430.
(38)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 458- 493.
(39)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 3- 444.
نهج الكلاعي في كتابه هذا منهجا مغايرا لما ألفته المصادر التي سبقته عند عرضها حوادث السيرة، فإنه لم يكن مقلدا لها بل كان صاحب نهج مستقل تمثل بمحاور عدة هي:
1.
استعمال المحسنات البديعية في كتابة فقرات مختلفة من كتابه «40» ، فمن هذه الفقرات ذكره لحادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول فيها: " فولد عبد الله بن عبد المطلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين وسيد المرسلين، ونخبة الخلق أجمعين، فنسبه أشرف الأنساب وسببه إلى الله سبحانه واصطفائه واختياره له أفضل الأسباب، وبيته من قريش أواسط بيوتها الحرمية وأعرق معادنها الكرمية،
…
لؤاهم على من ناوأهم منصور وسؤدد البطحاء عليهم مقصور والعيون إليهم آية سلكوا صور" «41» .
وصف محقق كتاب الكلاعي هذا الأسلوب بالقول انه كان: " يلتزم شارات عصره من السجع والجناس والطباق وغير ذلك من المحسنات، فلذلك كان الأسلوب المرضي في ذلك الحين، ولكنه كان يتميز بحاسة مرهفة في اختيار الكلمات الرقيقة وحسن الملائمة بينها في الأسلوب وذلك هو مجال التفاضل بين الكتاب
…
وتحسف روح كاتب يطاوعه الأسلوب وتحضره الكلمات المعبرة، ومع التزامه بالسجع فلا تجد فيه عبارة مستكرهة ولا لفظة مجتلبة في غير موضعها مع عاطفة بادية وشعور نابض" «42» .
(40) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 3- 4، 35، 43- 44، 144- 145.
(41)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 34- 35.
(42)
عبد الواحد، مصطفى، مقدمة التحقيق لكتاب الاكتفا، صفحة هـ.
2.
طغيان الجانب العاطفي في كتابة هذا المصنف على الجانب العلمي الذي انعدم فيه وتضاءل، إذ لم نجد فيه نقدا لرواية أو نص أو تعليق على حادثة ما بل كان مجرد مصنف جمعت فيه بعض الأخبار التي تصف الأعمال العسكرية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومجاهدته الكفار، وهذا ما بينته عبارته التي مفادها: " هذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نسبه ومولده
…
إلى أن استأثر الله به وقبض روحه الطيبة
…
وكل ذلك يشهد الله ان المراد فيه بالقصد الأول وجهه الكريم وإحسانه العميم ورحمته التي شق لنفسه منها الرحمة، ثم القصد الثاني، متوفر على إيثار الرغبة في إيناس الناس بأخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم هو عمارة خواطرهم بما يكون لهم في العاجل والاجل أنفع وأسلم
…
فانه لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله في أعداء تنزيله فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله أو يستمعوا ما أمتحنه الله به من المحن التي لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله فيعتبر بعظيم ما لقيه من شدائد الخطواب ويصطبروا لعوارض الكروب تأدبا لأدبه وجريا في الصبر على ما يصيبه والاحتساب لما ينوبهم على طريقة صبره واحتسابه، وتلك غايات لم نبلغ عفوها بجهدنا، ولن أدانيها بنهاية ركضها وشدنا وإنما علينا بذل الجهد في قصد الاهتداء، وعلى الله سبحانه وتعالى المعونة في الغاية والابتداء" «43» ، ويضيف الكلاعي في مكان آخر من كتابه هذا عند حديثه عن أجداد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
(43) الاكتفا، 1/ 6.
وأحواله والروايات التي ذكرت مشاركتهم في حوادث عصرهم «44» قائلا:
" وكل هذه الأخبار وإن انقطعت بعض ما كنا بسبيله من أمر بني قصي فلا أيضا من الإفادة بنحو ما قصدنا وحسن الاستماع بالشأن المناسب لما اعتمدناه ما يحسن اعتراضها وينضم في سلك واحد مع ما مر في ذلك أو يأتي في أغراضها، وعلينا معونة الله تعالى في تجديد الترتيب كله
…
ورد هذه الأحاديث المتفرقة في حكم الحديث المتصل فنطيل ولا نمل ونقصر فلا نقل فلذلك ببركة المختار الذي يهمنا تخليد أولية وتيمن لخدمة آثاره وسيرته صلى الله عليه وسلم" «45» .
كان وراء انتهاجه لهذا المسلك عامل جوهري تمثل بالظروف التي تعيشها الأندلس في عصره من الحروب المستمرة والمستعرة بين المسلمين والفرنجة «46» ، فكان هذا الكتاب أحد الوسائل التي أراد بها الكلاعي بث الحماس في صفوف المسلمين في تلك البقعة من أرض الإسلام وذلك بعرضه للمواقف التي بدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام في الدفاع عن الإسلام بالروح والجسد والمال والأولاد، ولم يقتصر الكلاعي على ذلك بل كان هو نفسه في طليعة المجاهدين الذين حاربوا الفرنجة وسقط شهيدا في أرض إحدى المعارك التي حصلت معهم «47» .
(44) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 72- 144.
(45)
المصدر نفسه، 1/ 44.
(46)
ينظر، المقري، نفح الطيب، 6/ 189- 350.
(47)
ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 209.
3.
إدخال النصوص الشعرية المتأخرة عن عصر الرسالة في سياق عرضه لحوادث السيرة «48» ، فمن هذه النصوص الشعرية التي أوردها الكلاعي في كتابه هذا قصيدة طويلة بلغ عدد أبياتها (121 بيتا) سميت معراج المناقب ومنهاج الحسب الثاقب «49» .
علل الكلاعي سبب إيراده هذه القصيدة الطويلة في كتابه هذا بالقول:
" وقد اعتنى الناس بنسبه نثرا ونظما [يقصد نسب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشريف]
…
وقد رأيت أن أورد منها هنا ما يختص بهاذ النسب الكريم
…
إذ المنظوم أعذب جريا على الألسن وأذهب رأيا في الإفادة بالمستحسن" «50» .
كان عمل الكلاعي هذا سنة متبعة في عصره ولكنها لم تكن بمثل هذه الصورة من الترتيب والتنظيم والكثرة، إذ وجدنا مصنفات عدة قد نحت منحاه هذا، بتطعيم بعض الحوادث التاريخية لعصر الرسالة بما قيل في وصفها من شعر لدى المتأخرين «51» .
4.
الاختصار والإحالة إلى صفحات كتابه، وذلك بعدم تكرار الروايات التي تشترك في سياق حوادث كثيرة «52» ، فمن ذلك عرضه لأخبار أجداد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحوالهم «53» ، ويعرض أخبار جده قصي بن كلاب بشيء من
(48) ينظر، الاكتفا، 1/ 85- 86، 143، 175، 190، 191، 2/ 389، 391.
(49)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 36- 43.
(50)
المصدر نفسه، 1/ 36.
(51)
ينظر، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1/ 96، 127، 128- 129، 145، 180، 200، 236، 238، 239، ابن عربي، محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار، 1/ 44، 49.
(52)
ينظر، الاكتفا، 1/ 96، 113، 135، 155، 212.
(53)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 9- 34.
التوسعة في العرض ولكنه ينعطف ويقول: " والحديث في ذلك طويل وسنذكره إن شاء الله عند ذكره ولايته للبيت، وهناك نذكر ماثره وعظم غنائه في إقامة أمر قومه إن شاء الله، فان القصد هنا الإيجاز ما أمكن في إيراد هذا النسب المبارك لتحصل لسامعه الفائدة في انتظامه واتصاله ولا يظل ذلك عليه بما تخلل أثنائه من القواطع التي تباعد بين أطرافه"«54» ، هذا مع العلم أن المسعودي قد سبقه في ذلك، ولكنه لم يكن بطريقته نفسها في اختصار الخبر وإحالة القارئ إلى صفحات أخر من الكتاب بل كان المسعودي يكرر ذكره للرواية بالحيز نفسه الذي خصصه لها مسبقا، ولكن باختصار جزئي ضئيل فيها «55» .
5.
الاعتماد على المصنفات المكتوبة بدلا من الروايات الشفوية في عرض حوادث الكتاب، وهذا ما أشارت إليه مقدمة كتابه التي ذكر فيها إحصائية للمصادر التي اعتمد عليها في كتابة مصنفه هذا «56» ، والتي كان للسيرة التي كتبها ابن إسحاق أثر بارز في هذه المصادر، إذ وصف هذا الاعتماد من قبله على هذه السيرة بالقول:" ولكن عظم المعول بحكم الخاطر الأول على كتاب ابن إسحاق، إياه أردت وتجريده من اللغات وكثيرا من الأنساب والأشعار قصدت، وعلى ترتيبه غالبا جريت ومترعه في أكثر ما يخص المغازي تحريت، فأنه الذي شرب ماء هذا الشأن فأنقع وحل كتابه في نفوس العام والخاص أجل موقع"«57» .
(54) المصدر نفسه، 1/ 32.
(55)
ينظر، مروج الذهب، 2/ 274، 277، 281، 283، 284، 285، 290، 291، 292، 303.
(56)
ينظر، الاكتفا، 1/ 2- 7.
(57)
المصدر نفسه، 1/ 5.
نال هذا الكتاب مكانة في نفوس العلماء المتأخرين عنه، إذ عدّوه من المصنفات المرموقة في مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتوابعها «58» .
بينت هذه المكانة كثرة النسخ الخطية الهائلة لهذا الكتاب التي أشار أحد الباحثين إلى أماكن وجودها في المكتبات التي احتفظت بها «59» .
مع كل ما ذكرناه فإن هذا الكتاب لم يسهم إسهاما جادا وجوهريا في تطور كتابة السيرة لأنه لم يصنف كتابه هذا لغاية علمية فيناقش بعض الروايات ويستدل على صحة بعض الحوادث بل كان هدفه كما رأينا هدفا أخلاقيا تمثل بعرض صفحات من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الجهادية في مجابهة المشركين.
(58) ينظر، السخاوي، الأعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، ص 167، الصالحي، سبل الهدى والرشاد (السيرة الشامية) ، 1/ 3.
(59)
ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 133.