الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس المصنفات التي كتبت في أعلام ودلائل نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم
كان لانتشار الإسلام في الأقاليم المجاورة للجزيرة العربية «1» أثر فعال في امتزاج وتلاقح هذا الدين وأهله مع أصحاب الديانات التي اعتنقتها الأقوام المجاورة لهم «2» .
ولّد هذا الامتزاج والتلاقح الفكري أرضية ملائمة لنشوء الاحتجاجات الفكرية بين أصحاب الدين الجديد وأصحاب الملل والأديان التي يدين بها أهل الأرض المفتوحة والمحررة الذين لم يدخلوا الإسلام بل دفعوا الجزية «3» ، فما كان من المسلمين إلا أن أخذوا على عاتقهم مهمة إقناع وإفحام أصحاب هذه الملل والأديان، وذلك بتبيان فساد وبطلان هذه المعتقدات أمام الدين الإسلامي. وقد اتخذ المسلمون مسارين في هذا المنحى: المسار الأول: تمثل باستعمال الدليل العقلي على بطلان الدعاوى التي يطلقها علماء هذه الأديان في إنكار حقيقة نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أما المسار الثاني: تمثل باستعمال الدليل النقلي وبعرض مجموعة من البراهين والأدلة على إثبات نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا المسار
(1) ينظر، البلاذري، فتوح البلدان، نشر صلاح الدين المنجد، القاهرة، 1957، ص 18- 45.
(2)
ينظر، اوليري، دي لاسي، انتقال علوم الاغريق العرب، ترجمة: متي بيثون، مطبعة الرابطة: بغداد، ط 1، 1958 ص 52- 175، زيعور، علي، الفلسفات الهندية، دار الاندلس، بيروت، 1980، ص 386- 400.
(3)
ينظر، ترتون، أهل الذمة في الإسلام، ترجمة: حسن حبشي، دار المعارف، القاهرة، 1967، ص 211- 252.
هو مكمل للمسار الأول، لأن الاقتناع بحقيقة هذه البراهين لا يحصل إلا من بعد أن يؤمن الفرد بفساد الدعاوى السابقة المنكرة للنبوة بعامة، ولنبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخاصة. إذ تبنى مهمة ذلك جمع من العلماء أطلق عليهم اسم [المتكلمين]«4» .
عرفت الكتب التي صنفها هؤلاء العلماء باسم (كتب علم الكلام) ، التي عنيت بترسيخ عقيدة المسلم والرد على الشبهات والاراء المنحرفة ومحاججة المخالفين لهم، وقد ظهرت هذه الكتب بعد ترجمة المسلمين لكتب الأقوام المجاورة لهم ولا سيما كتب الهنود واليونان «5» .
نشأت من هذه الكتب التي تناولت قضية إثبات النبوة ضمن مباحثها مصنفات مستقلة عنها اقتصرت في حديثها على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجمع الحجج والبراهين الدالة عليها وذلك باستعمال الدليلين العقلي والنقلي في إثباتها.
اعتمدت هذه المصنفات على مختلف المصادر التي سبقتها سواء أكانت كتب سيرة أم كتب حديث، إذ تشير النصوص التي وردت في هذه الكتب الى أن أصحابها قد جمعوا هذه الأدلة والبراهين النقلية حصرا قبل أن تخصص لها مصنفات مستقلة «6» .
(4) ينظر، فرغل، يحيى هاشم، عوامل وأهداف نشأة علم الكلام، مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، مصر، 1972، ص 287- 299.
(5)
لدراسة أثر هذه الكتب والمحاور التي تناولتها، ينظر، جواد، ناصر مجيد، النبوة والعقل في الإسلام، رسالة ما جستير غير منشورة، كلية الشريعة، جامعة بغداد، 1987، ص 34- 143.
(6)
ينظر، البخاري، الصحيح، 2/ 175- 184، مسلم الصحيح، 2/ 203- 205، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مج 1، ق 1/ 96، 136، الترمذي، الجامع الصحيح، 13/ 111- 115.
اتخذت هذه الكتب أسماء عدة، فتارة تطلق على نفسها (كتب أعلام النبوة) أو (كتب دلائل النبوة)، مع العلم أن كلا من لفظتي (أعلام ودلائل) لهما المعنى نفسه الذي يقصد به:" كل دليل يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويبرهن على صدقه دون تقييده بشروط معينة فيشمل حتى السمات الخاصة في جسده عليه السلام كخاتم النبوة، ويشمل تبشير الكتب السماوية ببعثته"«7» ، ولكن الأعلام والدلائل تخالف في معناها ومدلولها ما عنته المعجزات التي أدخلت هي الأخرى في هذه الكتب والتي وصفت بأنها:" أمور خارقة للعادة مقرونة بالتحدي فالمعجزة أخص من الدليل والعلامة"«8» ، إذ نرى من ذلك أن الأعلام والدلائل لم تكن تهدف إلى تحدي الناس بل كان الهدف منها هو ترسيخ فكرة النبوة في شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أتباعه، فضلا عن كون المعجزات هي الأخرى دليلا على صدق نبوته لأنها تثبتها وتأكدها، فمن هذا نخرج إلى نتيجة أن كل معجزة هي دليل على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن ليس كل دليل على هذه النبوة معجز.
بين ابن حجر العسقلاني هذا الترابط بين معاني هذه الألفاظ آنفة الذكر، وذلك بقوله:" فكل معجزة علامة على نبوة صاحبها حتما ولكن ليس كل علامة أو دليل على النبوة أمرا معجزا يكون خارقا للعادة مقرونا بالتحدي فالمعجزة أخص من الدليل والعلامة"«9» ، ولكن ابن كثير بين هذا الأمر بأسلوب
(7) عتر، حسن ضياء الدين، نبوة محمد في القرآن، دار النصر، حلب، سوريا، ط 1973، 1، ق 1/ 235.
(8)
الرازي، محمد بن زكريا، الأربعين في أصول الدين، دار التعارف، بيروت، ط 1، ص 388.
(9)
ينظر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري،؟؟؟؟، 6/ 375.
مغاير عما طرحه ابن حجر، إذ وصف الدلائل بأنها تنقسم على قسمين: حسية وهي المعجزات، وأخرى معنوية وهي الأمانة والصدق والشجاعة والزهد وإيثار الاخرين على نفسه
…
الخ من الصفات التي اتسم بها الرسول محمد «10» صلى الله عليه وآله وسلم.
تمثلت هذه الفكرة بما كتبه البيهقي في كتابه دلائل النبوة حين جعل سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم برمتها دليلا من دلائل نبوته «11» ، وما صرح به ابن حزم حين عدّ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دليلا من دلائل نبوته، وذلك بقوله:" إن سيرة الرسول لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، تشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، فلو لم تكن معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى"«12» .
ابتدأ التصنيف في هذه الأمور في مدة مبكرة من تاريخ الإسلام الفكري، إذ تخبرنا فهارس الكتب عن تصنيف العلماء لها في بداية القرن الثالث الهجري، إذ ذكر ابن النديم أسماء عدّة مصنفات تناولت أعلام الرسول ودلائل نبوته «13» ، ثم أخذت المصنفات بالتكاثر شيئا فشيئا من بعد منتصف هذا القرن حتى نهايته، إذ اجمل أحد الباحثين عددها ب (9 مصنفات)«14» ، وهذه المصنفات التي ذكرها هذا الباحث لم تصل إلينا، فضلا عن ذلك فقد كانت مصنفات القرن الرابع والخامس الهجري أوفر حظا من المصنفات التي سبقتها، إذ وصلت إلينا منها
(10) ينظر، البداية والنهاية، 6/ 65- 70.
(11)
ينظر عن دور البيهقي في ذلك، ص 76- 83 من هذه الدراسة.
(12)
الفصل في الملل والنحل، 2/ 90.
(13)
ينظر، الفهرست، ص 113، 129.
(14)
ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ص 62- 65.
مصنفات عدة أسهم كل واحد منها في تطور كتابة أعلام ودلائل النبوة ضمن كتب السيرة النبوية، وهذه المصنفات هي:
1.
دلائل النبوة لأبي بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي (ت 301 هـ) :
ولد هذا المصنف في فرياب وهي قرية في نواحي بلخ في بلاد ما وراء النهر سنة (207 هـ) ، وكان أحد الحفاظ المجدين الذين حفظوا الحديث ونشروه في بلادهم، وصنفوا العديد من الكتب التي انصب معظمها على الحديث وعلومه «15» .
يعدّ كتاب الفريابي هذا من الكتب المهمة في دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لأمور عدة هي:
1.
التعويل والاعتماد على مروياته في دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الذين تأخروا عنه وتعرضوا لهذه الجوانب في مصنفاتهم، إذ اعتمد عليه أبو نعيم الاصفهاني في مواضع عدة من كتابه دلائل النبوة التي بلغت أربعة مواضع «16» ، ونقل البيهقي روايات عنه أيضا «17» ، فضلا عن نقل ابن كثير ثلاث روايات عنه 1 17 أ، وقد بينت هذه النقول بمجملها مكانة هذا الكتاب وأثره في المصنفات التي تلته.
(15) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 7/ 199، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4/ 259، الذهبي، العبر، 4/ 119.
(16)
ينظر، دلائل النبوة، 2/ 146- 147، 149- 152.
(17)
ينظر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 3/ 530- 531، 532، 537- 538- 549.
(17 أ) ينظر، البداية والنهاية، 6/ 110- 111.
2.
الاهتمام بروايته والحصول على الإجازة بها من قبل العلماء وذلك حتى عصور متأخرة «18» .
3.
اكتسابه صفة القدم بالنسبة الى المصنفات التي وصلت إلينا عن دلائل وأعلام النبوة.
هذه الأمور التي تضمنها هذا الكتاب والتي أكسبته أهمية كبيرة ضمن كتب دلائل النبوة، فضلا عن اتصافه بمميزات عدّة تمثلت بمحاور عدة:
1.
التخصص باستعراض جانبين من الجوانب التي شملتها المعاجز الحسية*، وهذان الجانبان هما:
أ. ذكر البركة التي حصلت في الطعام القليل الذي أكل منه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليشبع الباقي منه عددا غفيرا من المسلمين، وذلك بإيراد الروايات التي تطرقت إلى هذا الأمر «19» .
ب: ذكر تكرار حادثة نبع الماء من بين أصابعه عند وضعه لهن في ماء قليل لا يكفي من حوله من الناس، وذلك بجمع طرق الروايات التي اتفقت على حدوث هذه المعجزة وفي مواطن عدة «20» .
(18) كتب محقق هذا الكتاب إحصائية باسماء العلماء الذين حصلوا على اجازة برواية هذا الكتاب حتى نهاية القرن الثامن الهجري، ينظر، جري، عامر حسن، مقدمة التحقيق لكتاب دلائل النبوة للفريابي، دار حراءن المدينة المنورة، السعودية، ط 1، 1986، ص 15- 18.
(*) المعاجز الحسية: هي المعاجز التي لمسها وشاهدها المسلمون عيانا كانشقاق القمر ورد الشمس للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ينظر، ابن كثير البداية والنهاية، 6/ 74- 93.
(19)
ينظر، دلائل النبوة، ص 29- 53.
(20)
ينظر، المصدر نفسه، ص 55- 88.
مع العلم أن الفريابي لم يقتصر على ذكر الروايات التي اختصت بعرض المعاجز التي حصلت ضمن هذين المحورين، إذ أقحم في أحد مواضع كتابه هذا روايات تتضمن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأشجار لتكون فيها البركة والخير والنماء «21» .
تدل هذه الميزة التي اتصف بها منحى الفريابي على رغبة جامحة تتمثل بإيجاد مجموع بسيط يضم جوانب محدودة من المعجزات الحسية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من دون الإكثار منها والاستفاضة بإيراد جميع ما اثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معاجز حسية.
2.
تعدد طرق الروايات في الخبر الواحد، إذ نراه يورد أكثر من طريق لحادثة واحدة تضمنت ذكرا لمعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإن اختلفت هذه الطرق في ألفاظها ولكنها أعطت المعنى نفسه «22» .
3.
عدم إبداء الاراء من قبل الفريابي في الروايات التي يوردها في كتابه هذا، إذ حشد فيه ما وصل إليه منها في هذا الجانب من دون تبيان مقدار صحة أو ضعف أو غريب هذه الروايات، التي قسمها المحدثون إلى أنواع عدة «23» ، ولأجل ذلك ظهرت روايات عدة اتسمت بالغرابة وأتسم رواتها بالضعف «24» .
أعطى البيهقي تعليلا لبروز هذه الحالة في مثل هذه المصنفات إذ يقول: " ومما يجب معرفته في هذا الباب أن تعلم أن الأخبار الخاصة المروية على ثلاثة أنواع
(21) ينظر، المصدر نفسه، ص 54.
(22)
ينظر، المصدر نفسه، ص 2- 5، 6- 8، 14- 15، 17- 18، 19- 22، 30- 36.
(23)
ينظر، النيسابوري، معرفة علوم الحديث، ص 25- 39، 52- 103.
(24)
ينظر، دلائل النبوة، ص 1- 8، 5- 18، 25- 38، 39- 50.
نوع أتفق أهل العلم بالحديث على صحته وهذا على حزبين أحدهما أن يكون مرويا من أوجه كثيرة وطرق شتى حتى دخل في حد الانتشار وبعد من توهم الخطأ فيه، أو تواطؤ الرواية على الكذب فيه فهذا الضرب من الحديث يحصل به العلم المكتسب ومن ذلك ما روي في المعجزات والفضائل والأحكام، فقد روي بعض أحاديثها من أوجه كثيرة، والضرب الثاني أن يكون مرويا من جهة الاحاد، ويكون مستعملا في الدعوات والترغيب والترهيب
…
وأما في المعجزات
…
فقد روت فيها أخبار الاحاد في ذكر أسبابها إلا أنها مجتمعة في إثبات معنى واحد وهو ظهور المعجز على شخص واحد
…
، بل إذا جمع بينها وبين الأخبار المستفيضة في المعجزات والايات التي ظهرت على سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم دخلت في حد التواتر الذي يوجب العلم الضروري وتثبت بذلك خروج رجل من العرب يقال له محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ادعى أنه رسول رب العالمين وظهرت عليه الايات وأورد على الناس من المعجزات التي باين بها من سواه بما آمن عليه من أنعم الله عليه بالهداية مع ما بقي من أمته من القرآن المعجز" «25» .
ومن ثم فقد أصبح من المتيقن أن كتّاب الدلائل قد أرادوا إثبات هذه الروايات لأنها قد اتفقت على معنى واحد وهو ظهور المعجزات من شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع اختلاف في فحوى هذه المعجزات وكيفياتها.
(25) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 1/ 32- 36.
أمتاز أسلوب الفريابي بالدوران في فلك الرواية وعدم إبداء وجهات النظر في الأخبار التي ذكرها أو التعليق عليها مقتفيا بذلك أثر المحدثين عند تصنيفهم الكتب وذلك بالتركيز في جمع الروايات على وفق الأبواب التي تنتمي إليها من دون إضفاء أي رأي عليها.
هذه هي الأمور التي اضفاها الفريابي في كتابه هذا على كتابة دلائل النبوة أولا وكتب السيرة ثانيا في الإسهام بتطور كتابتها.
2.
تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 416 هـ) :
هو قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني، وهو من كبار علماء المعتزلة ومتكلميهم الذي انتهت إليه رئاستهم حتى صار شيخها غير مدافع، وفاقت شهرته في الأقاليم الإسلامية حد الوصف، فضلا عن قيامه بتصنيف كتب عديدة في الانتصار لجماعته وتبيان أفكارها وعقائدها «26» .
كانت فكرة النبوة وإثباتها من المسائل المهمة التي تناولها القاضي عبد الجبار بالبحث والدراسة، بل خصص لها حيزا كبيرا في مصنفه الكبير (المغني)«27» ، فضلا عن تخصيصه مصنفا مستقلا لها أسماه (تثبت دلائل النبوة) ، وهذا الكتاب هو مدار بحثنا.
(26) ينظر، المرتضى، أحمد بن يحيى (ت 775 هـ) ، طبقات المعتزلة، تحقيق: علي سامي النشار، دار المطبوعات الجامعية، مصر، 1971، ص 118- 120، الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 3/ 202.
(27)
ينظر، المغني في أبواب العدل والتوحيد، تحقيق: إبراهيم مدكور، دار المعارف، القاهرة، 1958، 15/ 5- 410.
تناول القاضي عبد الجبار هذه الفكرة بفرز واستقلال عن باقي المسائل الاعتقادية الأخرى، إذ عرض القرائن والدلائل التي تؤكد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم «28» .
حدد القاضي عبد الجبار تاريخ تصنيفه هذا الكتاب بسنة (385 هـ)«29» ، وهذا التاريخ يجعلنا في محل تريث قبل التسرع في تبيان المحاور التي تناولها هذا الكتاب وإسهامه في تطور كتب الدلائل ضمن كتب السيرة النبوية، إذ كتب هذا المصنف في عصر احتدمت فيه الطروحات الفكرية التي تبنتها الفرق والنحل الإسلامية وغير الإسلامية كافة «30» ، ومن المستبعد أن يكتب القاضي عبد الجبار مصنفه هذا في مثل هذا العصر من دون أن يحاكي مجرياته ومحدثات أموره سواء أكانت بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، وذلك لأن لكل عصر أثرا ملموسا في كل مصنف يكتب فيه «31» ، إذ تشير المصادر التي ترجمت لهذه الشخصية الى أنه قد نال مكانة بارزة ضمن علماء عصره، فضلا عن كونه متكلم المعتزلة ورئيسهم «32» ، إذا ما علمنا أن هذه الطائفة قد اسهمت إسهاما بارزا في شحذ همم المسلمين على المحاججة والمناظرة معهم ثم مع الملل الأخرى وتأسيس حلقات الدرس لهذه الأمور مجتمعة «33» .
(28) ينظر، تثبيت دلائل النبوة، عبد الكريم عثمان، الدار العربية، بيروت، ط 1، 1966، ص 10- 655.
(29)
ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 42- 168.
(30)
ينظر، متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، 1/ 284- 286.
(31)
ينظر، روز نثال، مناهج العلماء في البحث العلمي، ص 184- 201.
(32)
ينظر، المرتضى، طبقات المعتزلة، ص 115.
(33)
ينظر، جار الله، المعتزلة، ص 203- 213.
نال هذا المصنف مكانة بارزة في نفوس العلماء الذين أطلعوا عليه، إذ وصفوه بنعوت عدة فمنها ما وصفه الذهبي بالقول:" إنه [القاضي عبد الجبار] قد أجاد به وبرز"«34» ، ويضيف ابن كثير على هذا الكلام آنف الذكر قائلا:
" [كتاب تثبيت دلائل النبوة] من أجل مصنفاه وأعظمها وقد أبان فيه من علم وبصيرة جيدة"«35» ، وينتهي أحد المحدثين إلى وصفه بالقول:" ولم نر ما يقارب كتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار في قوة الحجاج وحسن الصياغة في دفع شكوك المشككين"«36» .
إن هذه الاراء التي قيلت في هذا الكتاب لم تطلق جزافا ما لم يلمس قائلوها في قرارة أنفسهم نفسا تجديديا أو أفكارا اصيلة ضمن مباحث الكتاب ومناقشة ما ورد فيه من نصوص، وهذا ما كان فعلا، إذ وجدنا فيه مميزات تبين أصالة القاضي عبد الجبار في تصنيفه هذا الكتاب، وهذه الميزات هي:
1.
الأسلوب الحواري في كتابة النصوص وذلك بالإجابة عن التساؤلات التي ترد في ذهن المتلقي حول القضايا مدار البحث والبراهنة على صدق هذه الإجابات بما يعرضه فيه من أدلة، إذ استعمل عبارات عدة تبين هذا الأسلوب وهي:" أعلم رحمك الله"«37» ، أو" فإن قلنا كذا قيل
(34) ابن حجر، لسان الميزان، 3/ 368.
(35)
ابن حجر، المصدر نفسه، 3/ 368.
(36)
الكوثري، محمد زاهد، مقدمة التحقيق لكتاب تبيين كذب المفتري في ما نسب لأبي الحسن الأشعري لابن عساكر، مطبعة التوفيق، دمشق، 1347، ص 18.
(37)
ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 31، 41، 131، 154، 192- 193، 200، 208، 209.
كذا" «38» ، ومن ثم فإن هذا الأسلوب الحواري يظل حكرا على مصنفات المتكلمين بسبب هيمنة المحاججة والمناظرة على أساليبهم في الطرح والكتابة «39» ، وهذا الأسلوب قد اعتمده القاضي عياض في كتابه [الشفا بتعريف حقوق المصطفى] ، وإن لم يشر ضمنا إلى من سبقه في هذه الطريقة «40» .
2.
استنطاق الايات القرآنية بما تحويه من دلائل على صدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوب غير مطروق على مسامع من سبقه من المسلمين، أو من صنف في هذا الجانب من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لأن القاضي عبد الجبار لم يكن في كتابه هذا جامعا لدلائل النبوة من أفواه الرواة الذين نقلوها إلى الناس، ولا سيما في الايات القرآنية التي تضمنت ذكرا لمعجزة حسية مثل الإسراء والمعراج «41» ، أو انشقاق القمر «42» ، بل كان القاضي عبد الجبار في كتابه هذا مفتشا عن دليل حسي لم تلتفت إليه أعين الرواة والمحدثين، وهذا ما جعل الشواهد على هذا الأمر كثيرة في هذا الكتاب «43» ، فمن هذه الايات التي استنطق القاضي عبد الجبار ما تضمنت من دلائل، وإن كان القرآن
(38) ينظر، المصدر نفسه، ص 25، 27، 29، 37، 35، 56، 39، 64.
(39)
ينظر، دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، ط 4، 1957، ص 95- 97.
(40)
ينظر، ص 191- 197، من هذه الدراسة.
(41)
ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 46.
(42)
ينظر، المصدر نفسه، ص 55.
(43)
ينظر، المصدر نفسه، ص 84، 314، 344، 346، 371، 434، 436، 484.
بمجمله دليلا على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك بوجود الإعجاز فيه «43» ، ولكن وجدت فيه أدلة ضمنية أخرى دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول القاضي عبد الجبار في تعليقه على سورة الكوثر*:" وذلك أن قريشا لما اعييتهم الحيل في أمر رسول الله كانوا يستروحون إلى أدنى غم ينالهم صلى الله عليه وآله وسلم، فمات إبنه إبراهيم وهو أكبر ولده وبه كان يكنى ومات ابنه عبد الله فسرت قريش بذلك، وقال بعضهم لبعض فقد أبتر محمد، فأنزل الله عز وجل هذه الايات فانبترت ديانات قريش والعرب كلها وبطلت عن آخرها، ولم يبق على ذلك الدين عين تطرف، وتم أمره صلى الله عليه وآله وسلم وسطع نوره وعلى وقهر وفي هذا غيوب كثيرة أخبر بها قبل أن تكون"«44» ، وفي مكان آخر من هذا الكتاب يتحدث عن أعلام النبوة التي حصلت في أثناء مكثه صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، إذ يقول: " ومنها انقضاض الكواكب وامتلاء السماء منها من كل جانب على وجها انتقضت به العادة وخرج عن المتعاد، وهذه آية عظيمة وبينة جليلة وواضحة جسمية وقد نطق بها القرآن فقال حاكيا عن الجن وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «45» ، فإن قيل ومن أين لكم هذا أو قد سبقكم زمانه ونحن لا نؤمن بكتابكم ولا نقر بنبيكم وخبرونا عن طريق معرفتكم «43» ينظر، ما كتبه القاضي عبد الجبار في كتابه هذا حول هذا الأمر، المصدر نفسه، ص 400- 509.
(*) سورة الكوثر، (إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وأنحر، إن شانئك هو الابتر) ، آية 1- 3.
(44)
ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 38- 40.
(45)
سورة الجن، آية 8، 9.
بذلك هل هو ضرورة أم اكتساب؟ فقيل له العلم بذلك طريقة الاستدلال والاكتساب ويتهيأ لكل عاقل من كافر ومؤمن أن يعرف ذلك ويجب عليه أن يعرف وسبيله سهلة قريبة فمن نظر واستدل عرف، ومن لم يستدل لم يعرف، والدليل على أن ذلك قد كان، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تلى هذه السورة واحتج بذلك على العدة والولي، فعلمنا أنه أمر قد كان ووقع، فإن الحجة به قد قامت وظهرت وقهرت، لأنه لا يجوز أن يقصد عاقل إلى قوم يدعوهم إلى صدقه ونبوته ويحرص في إجابتهم إلى طاعته والانقياد ويريد منهم ذلك ثم يقول: من علامة نبوتي ودلائل رسالتي أن النجوم لم تكن تنقظ وأنها الان انتقضت، وهو يعلم أنهم يعلمون أن هذا أمر لا أصل له وأنه قد كذب في ما أدعى، وهذا الأمر لا يقع من عاقل كائنا من كان فكيف بمن يدعي النبوة، وعقله العقل الراجح الموصوف ثم يقصد إلى أمر ظاهر مكشوف في السماء البارزة للخلق أجمعين
…
وفي تركهم ذلك دليل على صحة هذه المعجزة" «46» ، على هذه الشاكلة استنطق القاضي عبد الجبار الايات القرآنية في إظهار ما تحويه من دلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
3.
الاستيعاب والهضم الكامل لاراء الملل والمذاهب الإسلامية، إذ بينت النصوص التي حواها هذا الكتاب مصداقية هذا الاستنتاج «47» ، إذ حشد لهذا الأمر كل إمكانياته العقلية والنقلية لتبيان فساد وضعف ووهن آراء
(46) تثبيت دلائل النبوة، ص 64- 66.
(47)
ينظر، المصدر نفسه، ص 91- 275، 401، 426- 434، 509- 511، 528- 655.
المخالفين له في الدين والمعتقد، فتراه في كتابه هذا يحاجج معظم الفرق والملل التي كانت في عصره، مما أفاد ذلك في تبيان وجهات نظر تلك الفرق والملل في موضوع النبوة ودلائلها.
4.
نقد وتحليل المصنفات التي سبقته أو عاصرته والتي تناولت دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سواء أكانت مصنفات مستقلة في ذلك أم مذكورة في مصنف أوسع وأشمل، فمن المصنفات التي نقدها، الكتب التي تناولت معجزة الإسراء والمعراج بالدحض والتكذيب «48» ، إذ يقول في ذلك: " وهذه الكتب قد نقضها غير واحد من المعتزلة والمطاعن على الأنبياء كلهم إنما هي من جهة هؤلاء الشيع
…
فإعرف هذا فإنه من العجائب، وبك إلى معرفته اشد الحاجة، فمن هذه الكتب كتاب (الجارف) ، و (الأركان) للحداد، وكتاب الحصري في (تسوية أصحاب الكلام بالعوام) وكتاب (الزمردة) وكتاب (غريب المشرقي (وكتاب حنين (البهائم) ، وكتاب (التاج في القدم) لابن الراوندي" «49» ، ولم يقتصر نقده في كتابه هذا على المصنفات التي كتبت في هذا الأمر بل شمل نقده «50» . مناهج دقيقة في تحليل الكتب ونقدها، ومن ثم عكس هذا التحليل على المصادر التي تكتب في موضوع السيرة النبوية ومتعلقاتها.
(48) ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 46- 52.
(49)
المصدر نفسه، ص 51- 52.
(50)
ينظر، المصدر نفسه، ص 64، 71، 72، 75، 802، 129، 194، 198، 24، 225.
ومع كل ما ذكرنا من جوانب إيجابية تسجل لهذا الكتاب وتعطيه مكانا بارزا في المصنفات التي أسهمت في تطور كتابة دلائل النبوة من جهة وسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جهة أخرى، ظهرت في هذا الكتاب جوانب سلبية أضعفت من شأنه وحدت من تأثيره، وهذه الجوانب هي:
1.
الاستطراد في العديد من أبواب الكتاب والخروج على مضمونه، والمقصد الذي من أجله صنف، حتى ليشعر القارىء له بأن عنوان الكتاب يختلف عما حواه من أمور لا علاقة لها بدلائل النبوة وتثبيتها، ولا سيما ذكره وعرضه لاراء الفرق الإسلامية بالخلافة ومن يصح لها من الصحابة والمسلمين «51» ، فضلا عن سرده للأحداث التي تمخضت عن استخلاف كل واحد من الخلفاء الراشدين (رض)«52» .
2.
التحامل وكيل التهم والشتائم وإطلاق بعض الألفاظ النابية والبذيئة على بعض الفرق الإسلامية المخالفة له في العقيدة، مما أبعد الكتاب والكاتب عن الموضوعية والحوار العلمي الذي يجب أن يتصف به شخص مثل القاضي عبد الجبار، حتى أن الذي ينظر إلى هذا الكتاب لا يتصور أنه كتاب يعنى بإثبات دلائل النبوة في معظم صوره بل يراه من جانب آخر كتابا من كتب المحاججة والمناظرة في مسائل اعتقادية لا دخل لدلائل النبوة فيها مثل الإمامة
(51) ينظر، المصدر نفسه، ص 255- 280، 528- 537.
(52)
ينظر، المصدر نفسه، ص 280- 299، 554- 558، 560- 615.
والعصمة للإمام ونشوء الفرق الإسلامية ونقل أفكارها مشفوعة بعبارات الازدراء والتحقير لها «53» .
ولأجل هذين العاملين لم ينل هذا الكتاب الانتشار بين الكتب ولم يعتمد عليه أحد من العلماء الذين عرضوا دلائل النبوة سواء من المعاصرين له أم من المتأخرين.
هذه هي العناصر التي اوجدها القاضي عبد الجبار لكتابة دلائل النبوة وطريقة عرضها للناس من حيث استعمال آليات وأساليب جديدة في كتابتها، وما ذلك إلا لدور العصر الذي عاش فيه القاضي عبد الجبار والذي كان له الأثر الفعال في خروج كتابه على هذا الشكل والصورة.
3.
أعلام النبوة لأبي الحسن الماوردي (ت 450 هـ) :
هو علي بن محمد بن حبيب قاضي القضاة وأحد أقطاب علماء المعتزلة ومتكلميهم، ولد في البصرة سنة (364 هـ) ، وانتقل إلى بغداد ومكث بها إلى أن وافته المنية، برع في مختلف العلوم العقلية والنقلية «54» .
صنف الماوردي كتابه هذا على طريقة من سبقه في استعمال لفظة أعلام بدلا من لفظة الدلائل «55» .
(53) ينظر، المصدر نفسه، ص 34- 42، 46، 90، 52- 91، 201- 211، 245- 252.
(54)
ينظر، السبكي، طبقات الشافعية، 3/ 303، ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، 3/ 285.
(55)
استعمل ابن سعد عبارة (علامات النبوة) وذلك عند حديثه عن دلائل نبوة الرسول ومعجزاته، ينظر، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 96- 111، 113- 126.
سار الماوردي على هدى شيخه القاضي عبد الجبار في استعمال الدليلين العقلي والنقلي لإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فضلا عن مناقشة هذه الأدلة «56» ، إذ بين منحاه هذا بالمقدمة التي إفتتح بها كتابه قائلا:" الحمد الله الذي أحكم ما خلق وقدر وعدل فيها ودبر وأنذر بما أنشأ وأظهر واستأثر بما أخفى وأسر وأنعم بما امر وخطر، وأرشد إلى إنذاره بتفضيل ما تميز على ما كلف من أوان التعبد فيصل بالعقل إلى علمه واستعلامه إلى فهمه واستفهامه فيصير مهيئا لقبول ما كلف من التعارف ومعانا على ما تعبد به من الشرائع.. وهذا لا يستقر في النفوس إلا برسل مبلغين عن الله ثوابه في ما أمر وعقابه في ما حضر فوجب أن يوضح في إثبات النبوات ما ينتفي عنه ارتياب مغرور وشبهة معاند"«57» .
بينت هذه المقدمة أن جل اعتماد الماوردي كان على الاستدلال العقلي في إثبات النبوات وبضمنها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الأمر راجع إلى كون المعتزلة قد أولوا العقل مكانة مهمة في محاكمتهم للأفعال والحوادث والعقائد التي يجب على المسلمين التعبد بها، وهذا ما أشار إليه أحد الباحثين الذين درسوا هذه الصلة بالقول: " كانت الطبية النقدية التي اتسم بها فكر المعتزلة منذ تأسيساته الأولى هو السبب المباشر في انتهاج هذه الحركة الطريق العقلي، فإنه بالضرورة السبب الذي دعاه إلى استنباط الحجج العقلانية ومنطقية من خلال قراءتهم الفاحصة لأوراق الفلسفة اليونانية وبالقدر نفسه فانه لم يكن بوسع هؤلاء أن يقفوا على
(56) ينظر، أعلام النبوة، مكتبة الكليات القاهرة، 1971، ص- 223.
(57)
المصدر نفسه، ص 7.
الحياد في معركة أثارتها القوى المعادية للإسلام
…
إذ عمدوا في هجومهم على الإسلام إلى استخدام المنطق والفلسفة سلاحا في تثبيت ادعائها،.. فاستعانوا بمثل ما استعان به الخصوم في اعتماد الأسلوب الجدلي والأداة المنطقية وصياغة لغة تحليلة لإبراز ما يمكن في الدين من القوى والفضائل" «58» .
ونتيجة لانتهاج الماوردي طريقة سلفه القاضي عبد الجبار في استعمال العقل بالاستدلال على صحة ما أثبته من دلائل وذلك بمناقشته للروايات التي وصلت إليه عن دلائل وأعلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ظهر هنالك اتفاق بالمنحى عند هذين المصنفين في كتابتهما عن دلائل وأعلام نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن باختلاف في طريقة العرض، إذ لم يقع الماوردي في المزالق التي أوقع القاضي عبد الجبار نفسه بها عندما استطرد في مصنفه إلى قضايا لا تمت بصلة إلى دلائل النبوة والأمور المتعلقة بها «59» .
أوضح الماوردي منحاه في كتابة أعلام النبوة الذي طبقه بصرامة شديدة بقوله: " وقد جعلت كتابي هذا مقصورا على ما أفضى ودل عليه ليكون على الحق موضحا وللسرائر مصلحا على صحة النبوة دليلا وشبه المستريب مزيلا وجعلت ما تضمنه مشتملا على أمرين أحدهما ما اختص باثبات النبوة من أعلامها والثاني فيما يختلف من أقسامها وأحكامها ليكون الجمع بينهما أنفى للشبهة وأبلغ في الإبانة"«60» .
(58) الراوي، عبد الستار، ثورة العقل، دار الرشيد، وزارة الثقافة والأعلام، العراق، ط 1، 1982، ص 16.
(59)
ينظر، ص 211- 216، من هذه الدراسة.
(60)
إعلام النبوة، ص 7.
دلت مقالة الماوردي آنفة الذكر إن جهوده قد انصبت على إيراد الأعلام الدالة على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من دون تحميلها فوق طاقتها من إيراد أخبار تشتت فكر القارىء وتبعده عن الموضوعية والتدرج في عرض تلك الأعلام، ولأجل هذا المنحى الذي انتهجه الماوردي كان كتابه هذا اسهاما جادا في تطور كتابة الأعلام والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مصنفات مستقلة من جهة وأثر هذه المصنفات في تطور كتابة السيرة من جهة أخرى، وذلك بما طرحه من محاور لم تألفها المصادر التي سبقته في هذا الجانب، وهذه المحاور هي:
1.
كتابة مدخل توضيحي للكتاب ومضامينه «61» ، وهذا الأمر قد اختصت به المصنفات التي تناولت الأعلام الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كتبت في عصر الماوردي، إذ قدم أبو نعيم الأصفهاني مدخلا توضيحيا افتتح به كتابه [دلائل النبوة] وضح فيه عملية الاصطفاء الإلهي للأنفس التي يختارها الله للرسالة والنبوة مع التعريف لمعنى النبوة والرسالة والوحي والعناصر المتممة لها «62» ، كذلك فعل البيهقي الشيء نفسه عندما ابتدأ كتابه [دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة] بمقدمة أوضح فيها طريقة عرض الكتاب وطبيعة الأخبار التي ذكرها فيه مع سرد لمباحث الكتاب وأبوابه «63» .
اتفق الماوردي في منحاه مع منحى معاصريه، ولكنه اختلف معهم في المضمون الذي حواه مدخله لكتابه أعلام النبوة، إذ اتسم مدخله الذي أسماه
(61) ينظر، المصدر نفسه، ص 9- 54.
(62)
ينظر، دلائل النبوة، 1/ 32- 38.
(63)
ينظر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 1/ 5- 71.
(مقدمة الأدلة) باستعراض مسائل التوحيد والأدلة على إثبات وجود الله مع تبيان دور العقل في الوصول الى العلم بذلك «64» ، وإفهام المكلف (الإنسان) بعد وصوله إلى إثبات وجود الله والاقتناع بأن معرفة الرسل هي جزء من معرفة الله والأدلة على وجوده «65» ، ثم بعد ذلك يبين دور المكلف باتباع الرسول الذي بعثه الله إليه في كل ما يأمره من أحكام «66» ، وينتهي بعد ذلك إلى إثبات النبوات السابقة وآراء المسلمين وغير المسلمين فيها على اختلاف نحلهم ومللهم، ثم الانتهاء إلى إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم «67» .
بين هذا المدخل الذي افتتح الماوردي به كتابه الطريقة التي رسمها لنفسه في عرضه المتدرج والمنسق لمحاور الكتاب ومضامينه، إذ ابتدأ بتوضيح المسائل الأساس في العقيدة الإسلامية وهي إثبات وجود الله ثم بعد ذلك تقعيد الأسس الأولى لفكرة النبوة وارتباطها الجوهري بوجود الله سبحانه وتعالى ، والبناء على هذه الأسس في إثبات النبوات وذلك بالأدلة التي تؤكد دعوى أصحابها في ذلك ولا سيما نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما أوجد تسلسلا منطقيا في عرض الأفكار من دون إحداث فجوة أو حلقة مفقودة تضطر القارىء المبتدىء الى الاستعانة بمصنف آخر لكي يردم هذه الفجوة، فكان هذا الكتاب مستقلا بطرح أفكاره من ألفها إلى يائها.
(64) ينظر، أعلان النبوة، ص 9- 12.
(65)
ينظر، المصدر نفسه، ص 13- 18.
(66)
ينظر، المصدر نفسه، ص 18- 22.
(67)
ينظر، المصدر نفسه، ص 22- 54.
2.
الفصل بين الأعلام التي حصلت في زمني الحرب والسلم من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ يقول في خاتمة كتابه هذا موضحا ذلك:" فهذه جملة متفقة وقاعدة مستقرة في ترتيب رسالاته واحكام شريعته، فأما أحكام جهاده في حروبه وغزواته، فسنذكره في كتاب نفرده في سيرته نوضح به مواقع أعلامه ومبادىء أحكامه، وبالله تعالى التوفيق"«68» .
شاطر الماوردي في ذلك الفريابي حين اقتصر على ذكر جانبين من الجوانب التي تعرضت لها كتب دلائل النبوة «69» ، وإن لم يتبع نهجه في عرضها، وهذا ما يشكل سمة تضاف إلى دلائل النبوة وهي تسليط الضوء على جوانب مستقلة من الأمور التي اتفقت عليها المحاور التي حصلت فيها تلك الحوادث والتي عدت دليلا من دلائل النبوة.
3.
التوفيق بين منحى المتكلمين القائم على المحاججة والمناظرة العقلية ومناهج المحدثين التي يغلب عليها النقل، وذلك بإيراد الرواية الموافقة للفكرة أو الباب الذي يطرحونه في مصنفاتهم «70» ، إذ أوضح الماوردي أسلوبه القائم على المحاججة بالعقل والنقل في إثبات النبوات وإعلامها، وذلك بقوله:
" الكلام في إثبات النبوات يتقرر مع المعترفين ببعثة الرسل إلا أن منكريها يعمون الجميع بها ويدفعون كل مدع لها والكلام معهم قد قدمناه في إثبات النبوات على العموم.. وقد قدمنا أقسام المعجزات فإذا ظهرت إحداهن حجت ودلت على صحة النبوة وقد ظهر محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثرها مع ما تقدمها
(68) المصدر نفسه، ص 233.
(69)
ينظر، الفريابي، دلائل النبوة، ص 29- 53، ص 55- 88.
(70)
ينظر، روز نثال، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، ص 113- 121.
من إنذار وظهر في نبوّة بها من آثار، وتحقق بها من نبوات فصارت أعلم النبوات إعجازا وأوضحها طريقا وامتيازا" «71» .
دافع الماوردي عن الروايات التي أثبتها في كتابه هذا من حيث إنها أخبار آحاد، وذلك عند رده على بعض التساؤلات التي تطرح من جراء ذلك، إذ يجيب في دفاعه عن مسلكه هذا ب:" فعندنا جوابان أحدهما أن رواة الاحاد قد أضافوه إليه في جمع كثير قد شاهدوه وسمعوا راويه فصدقوه ولم يكذبوه، وفي الممتنع إمساك العدد الكبير عن رد الكذب، كما يمتنع افتعالهم للكذب ولكن جار اتفاقهم على الصدق مع الكثرة والافتراق وامتنع اتفاقهم عن الكذب، فلأن داوعي الصدق علة متناصرة ودواعي الكذب خاصة متنافرة، ولذلك كان صدق أكذب الناس أكثر من كذبه لأنه لا يجد من يصدق به أو يجد من الكذب من لا يقبل به.. والثاني أنها أخبار وردت من طرق شتى وأمور متغايرة فأمتنع أن يكون جميعها كذبا وإن كان في آحادها مجوز، فصار مجموعها من التواتر ومفترقها من الاحاد فصار متواتر مجموعها حجة وإن قصر مفترق آحادها عن الحجة وإذا استقر هذا الأصل في الأخبار لم يخرج المروي من أعلام الرسول عنها"«72» .
هذه هي المحاور التي اضفاها الماوردي في كتابه أعلام النبوة، ومع كل ذلك لم يلاق هذا الكتاب الذيوع والانتشار والتأثير في المصنفات التي تلته من حيث الاقتباس من نصوصه، إذ لم نجد سوى نقول قليلة في بعض المصنفات «73» ، ومع
(71) أعلام النبوة، ص 56.
(72)
المصدر نفسه، ص 91- 96.
(73)
ينظر، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1/ 79، النباطي، علي بن يونس العاملي (ت 877 هـ) الصراط المستقيم لمستحقي التقديم، تحقيق: موسى بناتي، المكتبة الإسلامية، طهران، 1384 هـ، 1/ 6.
كل ذلك فإن هذا لم يمنع بعض العلماء من أن يصفوه بعبارات الثناء، إذ أطراه طاش كبري زاده وأثنى عليه وعده من الكتب المهمة في إثبات أمارات النبوة «74» ، وفعل الشيء نفسه حاجي خليفة حين وصف هذا الكتاب بعبارات الإعجاب «75» .
فضلا عن ذلك فقد إهتم بعض الباحثين والمحدثين به، وعدوه من أحد أنفع الكتب وأحسنها في هذا العلم (أعلام ودلائل النبوة وإثباتاتها) ، على الرغم من كثرتها «76» .
وما ذلك إلا لطبيعة الكتاب القائمة على مناقشة النصوص بأسلوب المتكلمين الصعب من حيث سلاسة عباراته وألفاظه، فضلا عن أن الطروحات التي عرضها الماوردي في كتابه هذا لم يسر أحد على منوالها من الذين تأخروا عنه، إذ اختصروا في عرضهم دلائل النبوة على مجرد جمعها من دون إعطاء إيضاحات مسبقة للغاية من عرض هذه الأعلام ومناقشتها وتأسيس الأحكام عليها كما فعل الماوردي بل كانت مجرد استقصاء للروايات التي تحدثت عن دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعلامه «77» ، وما ذلك إلا لانتفاء المسوغ من تكرار ما قيل في ذلك ما دامت القناعة في النبوة قد تولدت ولم تظهر عند المتأخرين مشكلة مثل التي ظهرت في القرون التي سبقتهم.
(74) ينظر، مفتاح السعادة ومصباح السيادة، 1/ 263.
(75)
ينظر، كشف الظنون، 1/ 126.
(76)
ينظر، كرد علي، محمد، كنوز الأجداد، مطبعة الترقي، دمشق، 1950، ص 224، السرحان، محي هلال، مقدمة التحقيق لكتاب أدب القاضي للماوردي، وزارة الأوقاف العراق، 1974، 1/ 51.
(77)
ينظر، ابن كثير، البداية والنهاية، 6/ 65- 301، ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/ 286- 288.
ومن ثم كان هذا الكتاب من آخر الكتب التي استعرضت دلائل وأعلام نبوة الرسول مقرونة بمناقشات حامية للطروحات المضادة من قبل المنكرين للنبوات تارة، والرافضين لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تارة أخرى.
4.
دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني (ت 430 هـ) :
هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى المهراني ولد سنة (336 هـ) باصفهان، وبرع منذ نعومة أظفاره في حفظ الحديث وسيرة السلف، إذ خصص لهذين الأمرين جل مصنفاته التي تضمنت كتبا في التراجم والطبقات والحديث «78» .
صنف أبو نعيم كتابه هذا حين سأله أحد تلاميذه بذكر مجموع ما وصل إليه من الروايات التي تحدثت عن معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودلائل نبوته، وهذا ما أشارت إليه مقدمته التي يقول فيها:" أما بعد فقد سألتم عمر الله بالبصائر الجميلة طوياتكم.. جمع المنتشر من الروايات في النبوة والدلائل والمعجزات والحقائق"«79» .
دلت هذه المقدمة على أن المصنفات التي سبقت مصنف أبي نعيم هذا لم تكن ملبية لرغبات الناس في الوقوف على معظم إن لم نقل جميع الدلائل والمعجزات التي ظهرت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرادوا إشباع نهمهم في هذا الجانب
(78) ينظر، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1/ 75- 76، ابن كثير، البداية والنهاية، 12/ 45، السبكي، طبقات الشافعية، 3/ 7- 11.
(79)
دلائل النبوة، ص 31.
فطلبوا من أبي نعيم لما عرفوا فيه من العلم والفضل أن يصنف لهم كتابا يجمع لهم ما تناثر من هذه الدلائل والمعجزات، وصنف لهم كتابه هذا مع تأكيده أن مهمته تلك ليست بالسهلة اليسيرة، وهذا ما أوضحته مقالته التي مفادها:
" وأعلموا أن معجزات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن يحصرها عدد وأشهر من أن يحصره سند.. وقصدنا جمع ما نحن بسبيله
…
من جمع المنتشر من الابار والصحيح والمشهور من مروي الأخبار" «80» .
فلو وجد مصنف حوى هذه الأمور قبل مصنف أبي نعيم لما طرح عليه هذا التساؤل، وهنا يمكن سر نجاح هذا الكتاب واشتهاره، ان هذا المنحى في جمع تلك المعجزات قد صاحبها تطور ملموس في كتابتها ضمن مصنفات السيرة، إذ تمثل هذا التطور بمسائل عديدة هي:
1.
فسحه المجال لدخول بعض الروايات التي لم نجد لها أصولا عند من سبقه من العلماء الذين اهتموا بهذه الأمور وأوردوها في كتبهم «81» ، فمن الروايات التي وجدت في هذا الكتاب ولم توجد عند غيره، رواية الصور التي وجدت على ثياب جبلة بن الأيهم الغساني جد الغساسنة وفيها صور كل نبي من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم «82» ، كذلك إيراده رواية تضمنت محاورة جرت بين الله سبحانه وتعالى ونبيه موسى عليه السلام يطلب الأخير
(80) المصدر نفسه، ص 38- 39.
(81)
ينظر، المصدر نفسه، ص 80- 84، 86- 87، 92- 93، 97- 106، 114- 119، 119- 121.
(82)
ينظر، المصدر نفسه، ص 56- 64.
فيها من الله أن يجعله من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم «83» ، نال عمله هذا انتقادا من قبل البيهقي الذي وصف الكتب التي سبقته والمتأخرة منها بخاصة، والتي احتمل محقق كتاب الدلائل أن هذا النعت يعود على كتاب أبي نعيم «84» ، إذ يقول البيهقي واصفا ذلك بالقول:" وقد صنف جماعة من المتأخرين في المعجزات وغيرها كتبا وأوردوا فيها أخبار كثيرة من غير تمييز منهم صحيحها من سقيمها ولا مشهورها من غريبها ولا مرويها من موضوعها حتى أنزلها من حسنت نيته في قبول الأخبار منزلة واحدة في القبول"«85» ، مع العلم أن البيهقي هو الاخر قد وقع في المطب نفسه، إذ أورد هو الاخر روايات لم تعرف في المصادر التي سبقته أو التي كانت متداولة على ألسن العلماء «86» .
أوجد هذا الأمر حافزا لدى بعض المتأخرين على إثبات بعض الروايات التي شاكلت هي الأخرى الروايات التي أوردها أبو نعيم في كتابه هذا «87» .
ومع كل ذلك تبقى هذه الأمور مسائل ظنية إذ أوضح قطب الدين الراوندي (ت 573 هـ) هذا الخلاف الحاصل من تعارض وجهات النظر في بعض الروايات التي تحدثت عن المعجزات التي حصلت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالقول: " إعلم أن معجزاته على أقسام منها من انتشر نقله وثبت وجوده عاما في كل مكان وزمان من حين ظهوره كالقرآن الذي نتلوه.. ومنها ما رواه
(83) المصدر نفسه، ص 77- 79.
(84)
ينظر، قلعجي، مقدمة التحقيق لكتاب دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للبيهقي، 1/ 43.
(85)
دلائل النبوة ومعرفة أحوال الشريعة، 1/ 39.
(86)
ينظر، ص 76- 83 من هذه الدراسة.
(87)
ينظر، ابن عساكر، تهذيب تاريخ دمشق الكبير، 1/ 85- 89، 111- 113، 325- 340.
المسلمون وأجمعوا على نقله وكان اختصاصهم بنقله لأنهم كانوا هم المشاهدين له وظهرت بين أيديهم في سفر كانوا هم المصالحبين له في حضرا أم في حضر لم يحضره غيرهم فلذلك انفردوا بنقلها وهم الجماعات الكثيرة التي لا يجوز على مثلها نقل الكذب بما لا أصل له، والثالث من هذه الأقسام ما شاهده بعض المسلمين فنقلوه إلى حضرة جماعتهم وكان المعصوم وراءهم فلم يوجد منهم إنكار لذلك فيستدلوا بتركهم النكيرة عليهم على صدقهم لأنهم على قربهم لا يجوز لهم السكوت على باطل ومنكر يسمعونه فلا ينكرونه.. ومنها ما ظهر في وقته قبل مبعثه تأسيسا لأموره ومنها ما ظهر على أيدي سراياه في البلدان.
البعيدة إبانة لتصديقهم إياه في ادعائه النبوة لأنهم ممن لا يظهر عنهم المعجزات إذ لم يكونوا من أوصيائه فيعلم بذلك تصديقه بدعواه" «88» .
2.
المفاضلة بين العديد من الروايات والأحاديث التي وردت في هذا الكتاب ونقدها والتعليق عليها «89» ، فمن ذلك ما ذكره حول أحد الدلائل التي أكدت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمتضمنة وجود اسم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسم أمته في الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل)«90» ، إذ يعلق على إحدى الروايات التي أورد هذه الدلالة بالقول:" وهذا الحديث من غرائب حديث سهيل، لا أعلم أحدا رواه مرفوعا إلا من هذا الوجه"«91» ، ويضيف في مكان آخر حول الروايات التي عرضت قصة أصحاب الفيل وإرسال عبد المطلب
(88) سعد بن هبة الله، الخرائج والحرائح، طبع حجر، إيران، 1305 هـ، ص 173.
(89)
ينظر، دلائل النبوة، ص 224، 227، 228- 286، 231، 235، 481، 498- 499، 656.
(90)
ينظر، المصدر نفسه، ص 77- 79.
(91)
المصدر نفسه، ص 79.
لابنه عبد الله إلى ابرهه «92» ما مفاده: " روى قصة أصحاب الفيل من وجوه وسياق عثمان بن المغيرة أتمها وأحسنها شرحا وذكر ان عبد المطلب بعث بابنه عبد الله، فهو وهم بعض النقلة لأن الزهري ذكر أن عبد الله بن عبد المطلب كان موته عام الفيل، وأن الحارث بن عبد المطلب كان أكبر ولد عبد المطلب وكان هو الذي بعثه على فرسه لينظر مالقي القوم"«93» .
وهذه النقطة التي سجلت لأبي نعيم تخفف من حدة وقطعية القول الذي أطلقه البيهقي في نعته للكتب التي سبقته من أنها لم تميز بتاتا بين الروايات فأخذتها بمنزلة واحدة في القبول «94» .
3.
إدخال النصوص الشعرية التي تتضمن عرضا لدلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «95» ، وهذا ما يدل على أن إدخاله لهذه الأشعار ضمن كتابه هذا لم يكن من دون قصد حيث إنها قد وردت في الرواية التي وصلت إلى مسامعه وأنظاره، بل كان وراء إدخاله لها غاية لأنها تضمنت في أبياتها ذكرا للدلائل التي عرضتها الرواية، فمن ذلك ذكره للبشائر التي سبقت ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم «96» مشفوعة بقصيدة لأحد الشعراء يقول فيها:
نهار وليل كلا آدب بحادث
…
سواء عليها ليلها ونهارها
(92) ينظر، المصدر نفسه، ص 178- 185.
(93)
دلائل النبوة، ص 185.
(94)
ينظر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 1/ 39.
(95)
ينظر دلائل النبوة، ص 224، 227، 285- 286، 331، 455، 481، 498- 499، 656.
(96)
ينظر، المصدر نفسه، ص 102- 129.
يود بأن بالأحداث حيث تأدبا
…
وبالنعم الضافي علينا ستورها
على غفلة يأتي النبي محمد
…
فيخبر أخبارا صدوقا خيرها «97»
إن هذه الأشعار التي أوردها أبو نعيم في كتابه هذا لم يبين مدى صحة نسبتها الى قائليها أو مدى دقة أوزانها بل نقلها كما وصلت إليه، إذا ما علمنا أن هنالك شعرا منحولا كثيرا في هذا الجانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أضفته الطبيعة البشرية الجامحة نحو التهويل والمبالغة «98» .
4.
المقارنة بين المعجزات التي ظهرت من الأنبياء وما ظهر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من معجزات مماثلة لجميع المعجزات التي ظهرت من الأنبياء الذين سبقوه «99» .
هذه هي الجوانب التي اضفاها أبو نعيم على كتابة دلائل النبوة من جهة وكتابة السيرة النبوية من جهة أخرى، لأن هذا الكتاب قد أستوعب معظم المصنفات التي سبقته، ليأتي البيهقي ليكمل ما سبقه أبو نعيم إليه «100» .
لم تنطفىء جذور التصنيف في دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذين الكتابين بل إستمر العلماء بتصنيف العديد من الكتب في هذا الجانب، وإن لم تكن بمستوى الكتب التي سبقتها، إذ عدد لنا أحد فهارس الكتب التي عنت بجمع
(97) المصدر نفسه، ص 15- 17.
(98)
ينظر، أحمد شعر السيرة النبوية، ص 96- 192.
(99)
ينظر، دلائل النبوة، ص 75- 80.
(100)
ينظر، حماده، مصادر السيرة النبوية وتقويمها، ص 44- 46.
أسماء المصنفات التي كتبت في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه المصنفات مع تبيان أماكن وجود بعضها والتي لا زالت مخطوطة ولم تر النور حتى الان في المدة قيد الدراسة «101» ، إذ دلت هذه المصنفات على استمرار وديمومة التصنيف في دلائل النبوة.
قرن بعض المصنفين في دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المعجزات التي ظهرت منه، بالكرامات التي ظهرت من الائمة عليهم السلام ، وأسبق من نهج هذا النهج من العلماء قطب الدين الراوندي إذ أردف سرده لمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بسرد كرامات الائمة عليهم السلام «102» ، وهذا ما جعل طريقته تلك منهاجا لبعض المتأخرين عنه في ايراد كرامات الائمة عليهم السلام مسبوقة بعرض لمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «103» .
هذه هي الإسهامات التي أظهرتها كتب أعلام ودلائل النبوة في الهيكل العام لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتي كانت حلقة من حلقات التطور في كتابة السيرة النبوية.
(101) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 64- 65.
(102)
ينظر، الخرائج والجرائح، ص 182- 189.
(103)
ينظر، النباطي، الصراط المستقيم لمستحقي التقديم، 1/ 40- 62، الحر العاملي، محمد بن الحسن (ت 1104 هـ) ، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، تحقيق هاشم الرسولي، المطبعة العلمية، قم، 1379 هـ، 1/ 280- 2/ 244.