الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول السيرة النبوية المسهبة والمستقلة ومصنفوها:
انتجت قرائح العلماء المهتمين بالسيرة مصنفات عدة أسهبوا فيها بذكر الحوادث التي تحدثت عن أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلاقته بأحداث عصره، أما أسماء المصنفات التي نهجت هذا المنحى، وأسماء المصنفين الذين كتبوها فهي:
1.
السير والمغازي لمحمد بن إسحاق (ت 151 هـ) *:
مصنف هذه السيرة هو محمد بن إسحاق بن يسار، ولد سنة (85 هـ) من أسرة كانت تسكن منطقة عين التمر في العراق، إذ وقع جده يسار أسيرا في أيدي المسلمين عندما فتح خالد بن الوليد هذه المنطقة سنة (12 هـ) ، وأصبح بعد ذلك مولى لقيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف ومن هنا جاءت نسبته بالمطلبي المخزومي «1» .
سكن محمد بن إسحاق المدينة المنورة واستفاد من هذه البيئة العلمية التي عاش بها إذ أكسبته خزينا فكريا تمثل بجلوسه في الحلقات التي كان يعقدها
(*) كتبت العديد من الدراسات عن هذه السيرة ومؤلفها محمد بن إسحاق، نخص بالذكر منها دراسة الدكتور عبد العزيز الدوري الموسومة دراسة في سيرة النبي ومؤلفها محمد بن إسحاق، وكتب الدكتور حسن الحكيم دراسة أخرى تناول فيها ريادة محمد بن إسحاق في تدوين السيرة النبوية واستعراض الموارد التي اعتمد عليها في ذلك.
(1)
ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 415، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 219- 222، السهيلي، الروض الأنف، 1/ 3- 4، ياقوت الحموي، 18/ 5.
الصحابة المتأخرون وأبناؤهم والتابعون «2» ، ولم يكتف بذلك، بل شد الرحال إلى الأمصار الإسلامية ليسمع من محدثيها ورواتها وذلك في مقتبل حياته «3» .
من هذا كله نرى أن البيئة التي سكن فيها محمد بن إسحاق المتمثلة بالمدينة المنورة والموروث السابق لأسرته التي استوطنت في منطقة اتصلت بالمدارس الفكرية المعروفة آنذاك في الحيرة وحران ونصيبين وجنديسابور «4» ، كل ذلك أدى إلى أن تشكل هذه العوامل مجتمعة أرضية صالحة لشخصية تأخذ زمام المبادرة بتصنيف أول سيرة متكاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الكلام لا يدفعنا إلى التقليل من جهود السابقين له في هذا المضمار ولكن الجهد المتميز الذي بذله ابن إسحاق جعل من السيرة التي كتبها محط إعجاب المتقدمين والمتأخرين، وخير ما نستشهد به لتبيان هذا الأمر ما ذكره بعض الباحثين حول هذه السيرة والسبب الكامن وراء شهرتها، إذ يقول أحدهم:" كان ثمرة مفهوم أوسع من مفهومات معاصريه وأسلافه، وذلك من حيث أنه لم يقصد تقديم تأريخ للرسول بل رأى أن يقدم تاريخا للنبوات أيضا"«5» ويضيف آخر قائلا: " مهما تكن أهمية أعمال الزهري وموسى بن عقبة فان عمل ابن إسحاق يبقى الأساس فيما يتصل بالسيرة وإلى حد ما بالتأريخ، وتكمن أهميته كمؤرخ في استيعابه لتجارب شيوخه وفي تطويرها وإعادة تنظيمها من
(2) الخطيب البغدادي، 1/ 214.
(3)
أورد الحكيم قوائم عدة بأسماء الشيوخ الذين سمع منهم في كل مصر من الأمصار الإسلامية، ينظر، محمد بن إسحاق وريادته في تدوين السيرة النبوية، مجلة آداب المستنصرية، كلية الاداب، الجامعة المستنصرية، بغداد، عدد 14، 1986، ص 285- 288.
(4)
ينظر، بابو إسحاق، رافائيل، مدارس العراق قبل الإسلام، مطبعة شفيق، بغداد، 1955، ص 90- 124.
(5)
جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 148.
خلال فهمه الجديد للتأريخ ومن خلال نظرته الشاملة النابعة من ثقافته الواسعة وإدراكه للمغزى السياسي (الصورة التاريخية) ومن هنا صار ابن إسحاق شيخ كتاب السيرة وصار من كتبوا بعده عيالا عليه" «6» .
ومن ذلك صارت شهرة ابن إسحاق على جميع المصنفين في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من المتقدمين والمتأخرين أشهر من نار على علم، حتى وصفه الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بالقول:" من أراد التبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق"«7» .
كانت هنالك عوامل عدة وراء شهرة هذه السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه العوامل هي:
1.
عدم وجود مصنف متكامل وشامل عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل مصنفه هذا «8» ، إذ كانت مدونات السيرة قبل هذا الكتاب مجرد صحف ومجاميع لا ترقى بمستواها إلى مصافي الكتب المصنفة والمبوبة.
2.
إحالة جمع غفير من العلماء على هذه السيرة، واعترافهم بتبحر هذا الرجل بالمغازي وأخبارها «9» .
3.
تلمذة جمهرة واسعة من طلاب العلم على يده وسماعهم السيرة منه وإجازته لهم بروايتها عنه، حتى تعدد الرواة لهذه السيرة الى حد أن خصص لها أحد الباحثين دراسة عنهم «10» .
(6) زكار، سهيل، مقدمة تحقيق كتاب السير والمغازي لمحمد بن إسحاق، دار الفكر، قم، إيران، ط 2، 1990، ص 9.
(7)
الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 219، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 5.
(8)
ينظر، المسعودي، علي بن الحسين، (ت 345 هـ) ، مروج الذهب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية، القاهرة، ط 2، 1948، 4/ 314- 315.
(9)
ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 219، ابن سيد الناس، عيون الأثر في فنون المغازي والسير، 1/ 8- 10.
(10)
ينظر، الطرابيشي، مطاع، رواة محمد بن اسحاق في المغازي والسير، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط 1، 1994، ص 22.
4.
التبويب والتنسيق للمواضيع التي شملتها السيرة وحصرها ضمن عناوين متسلسلة غير مضطربة أو مشوشة، وهذا ما جعلها محط رضا من كتب في السيرة أو علق عليها، إذ يصف أحد هؤلاء هذه الميزة التي تميزت بها سيرة ابن إسحاق بالقول:" واستغنيت عن كتاب محمد بن عمر الواقدي لأنه لم يحضرني الان ولكني رأيته كثيرا ما يجري مع ابن إسحاق فاستغنيت عنه به بفضل فصاحة ابن إسحاق في الإيراد وحسن البيان الذي لا يقل معه استحسان الحديث المعاد"«11» .
لم تقتصر هذه السيرة على هذه العوامل التي أسهمت في اشتهارها بل توافقت مع أمور أخرى أمتاز بها ابن إسحاق نفسه في عرضه لأخبار السيرة، وهذه الأمور هي:
1.
التوفيق بين أسلوب أصحاب القصص والأخبار وبين المحدثين في عرض المادة التأريخية، إذ نراه يتحدث عن أهل الكتاب الذين يسميهم أهل العلم الأول أو أهل التوراة مع إغفاله لأسماء من حدثه من أهلها «12» ، فضلا عن إتباعه أسلوب المدرسة اليمنية المشهور بالقصص والأساطير القديمة «13» ، إذ لمسنا هذا الأمر في الروايات التي سجلها لنا عن الأحداث التي جرت قبل الإسلام «14» ، أما من حيث إتباعه لمنهج المحدثين، فقد كان الإسناد في الخبر والحديث هو السمة
(11) الكلاعي، الاكتفا، 1/ 4.
(12)
ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 44، 122، 144، 202، 364.
(13)
الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 28.
(14)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 5- 248.
الغالبة على كتابه «15» ، ولا سيما عند حديثه عن مبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحوادث التي تلته إلى أن ألتحق بالرفيق الأعلى «16» .
وصفت إحدى الدراسات منهج وأسلوب ابن إسحاق هذا بالقول:
" ويتصف بصفة المؤرخ الحق، وتتمثل في الصورة الأخيرة للمزج بين كتابة التراجم على النحو الديني المأثور عند المحدثين وكتابتها على النحو الملحمي الأسطوري المأثور عن القصاص، وهذا الطابع الأصيل الذاتي الذي يتميز به مؤلف ابن إسحاق الذي يفسر العداوة بين مذاهب الرواة، ويبرز في الوقت نفسه النجاح العظيم الذي لقته على مدى الأجيال"«17» ، وتضيف دراسة أخرى بالقول" وحين نأتي إلى ابن إسحاق نحس بخطوط جديدة في التطور ومن مظاهرها الواضحة وجود عنصر القصص الشعبي والاتجاه نحو المبالغة ونحس بأننا انتقلنا إلى علماء هم مؤرخون أولا ثم محدثون من الدرجة الثانية"«18» .
2.
إدخال معظم الايات القرآنية التي نزلت بالحوادث التي تطرق إليها بضمن هيكلية النص الذي كتبه لكل حادثة، مما يعطي القارئ لهذا الكتاب الأدلة والقرائن التي أكدت الحدث التأريخي الذي سجله في مصنفه هذا «19» .
عد أحد الباحثين هذه السيرة من أقدم المصادر التي وصلت إلينا في أسباب نزول القرآن لما حوته من ذكر لأماكن نزول الايات التي رافقت مسار الدعوة
(15) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 28.
(16)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 249، 257، 261، 262.
(17)
دلافيلدا، دائرة المعارف الإسلامية، مادة (سيرة) ، 12/ 452.
(18)
الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 27.
(19)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 154- 156، 159، 320- 321، 387- 388.
الإسلامية «20» ، ولأجل ذلك أعطاها باحث آخر بعدا يتسم بالنقد والتمحيص للروايات التي أوردها ابن إسحاق في أسباب نزول بعض الايات القرآنية فيها، إذ يقول:" ويلحظ على أن ابن إسحاق يعنى بجمع الروايات المتعلقة بالنزول دون تمحيصها والموازنة بينها بترجيح أو تضعيف"«21» ، ويضيف على ذلك الأمر:" ان السيرة التي كتبها ابن إسحاق قد تضمنت أيضا تفسيرا لعدد غفير من الايات القرآنية مع مراعاته إيجاز ذلك وبيان معاني تلك الايات على وجه الإجمال من دون الولوج في التفاصيل أو إيراد الوجوه المتعددة للروايات المختلفة في الموضوع المراد استعراضه"«22» .
كان هذا الأمر دافعا إلى وضع هذه السيرة نصب أعين المفسرين الذين تناولوا أسباب نزول الايات القرآنية «23» .
3.
استشهاده بالشعر في معظم الايات التي يذكرها «24» ، ولكن هذا العامل كان من السلبيات التي وصف بها منهج ابن إسحاق في كتابة السيرة من قبل نقدة الشعر وأهل المعرفة والدراية في بحوره وأوزانه والرواة له، إذ كان الجمحي
(20) الجويني، مصطفى، مناهج في التفسير، منشاة المعارف، الاسكندرية، مصر، د. ت، ص 25.
(21)
الزيدي، كاصد، الدراسات القرآنية في سيرة ابن هشام، مجلة آداب الرافدين، كلية الاداب، جامعة الموصل، عدد 13، نيسان، 1981، ص 260.
(22)
المصدر نفسه، ص 260.
(23)
ينظر، الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، مكتبة عيسى البابي الحلبي، مصر، ط 2، 1954، 2/ 11، الطوسي، محمد بن الحسن، (ت 460 هـ) ، التبيان في تفسير القرآن، مكتبة الأمين، النجف، 1958، 3/ 17، 22، الطبرسي، الفضل بن الحسن (ت 548 هـ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق: هاشم الرسولي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1379 هـ، 2/ 200.
(24)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 23، 50، 51، 100، 213، 268، 413.
(ت 231 هـ) من هؤلاء الذين شنوا هذه الحملة على الشعر الذي ورد في سيرة ابن إسحاق، حيث وصفه بالقول: " وكان ممن افسد الشعر وهجنه، وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار
…
وكان من علماء الناس بالسير
…
فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط، وأشعار النساء فضلا عن الرجال" «25» ، ونقل الجمحي أيضا رواية ذكر فيها أن أحد العميان من الذين يحفظون الشعر قد سمع الشعر الذي نقله ابن إسحاق فقال: " فلو كان الشعر مثلما وضع لابن إسحاق
…
ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل" «26» وأكد ابن النديم (ت 381 هـ) أن ابن إسحاق كانت تعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه فيفعل «27» .
دفع هذا العامل ابن هشام إلى أن يقوم برفع الشعر الموضوع والتنبيه على الباقي من حيث صحته أو ضعفه أو خلله إذ يقول: " واني تارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ذكر
…
، لما ذكرت من الاختصار وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم يعرفها
…
" «28» .
اعترف ابن إسحاق بهذا الخلل الموجود في الأشعار التي نقلها مبينا سبب ذلك إلى أنه لا علم له بالشعر المنحول والمصنوع وغيره وإنما يؤتى به فيحمله في سيرته «29» .
(25) محمد بن سلام، طبقات الشعراء، تحقيق احمد محمود شاكر، دار المعارف، مصر، 1963، ص 7- 8.
(26)
المصدر نفسه، ص 7- 8.
(27)
الفهرست، ص 105.
(28)
السيرة، 1/ 4.
(29)
الجمحي، طبقات الشعراء، ص 8.
علق أحد الباحثين حول هذا الموضوع بالقول: " وكثير من القصائد التي أوردها ابن إسحاق وخاصة التي تتصل بحوادث المدينة، لا يوجد ما يدعو إلى الشك في صحتها، لأنها كانت معروفة لدى علماء الشعر في عصر ابن هشام بأنها صحيحة، أما القصائد الأخرى التي يحيط بها الشك لم يكن ابن إسحاق يتمسك بصحتها، ولم يقم بالبحث في توثيقها، إذ لم يكن له علم بالشعر- على حد قوله- فهو استشهد بهذه الأشعار على قدر ظهورها له جديرة بالاستشهاد لأنها تنفع في تزيين القصة، ولأن إدخال القصائد في الأخبار النثرية كان من الأمور المتبعة في الفن المأثور القديم عن القصاص العرب"«30» .
ثمن أحد الباحثين نزاهة ابن إسحاق وموضوعيته في إيراد أشعار المشركين التي قيلت ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من دون حرج حتى وإن كان فيها مساس لشخصه الكريم «31» ، إذ اعتمد في هذا الرأي على مقالة ابن هشام التي استهل بها كتابه: " وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب
…
أشعار ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم يعرفها وأشياء بعضها يشنع الحديث به وبعضا يسوء بعض الناس ذكره وبعضا لم يقر لنا البكائي في روايته" «32» .
وقام- لأجل ذلك- باحث آخر بالتفتيش عن هذه الاشعار وعقد مقارنة بين ما قاله الشعراء المسلمون في الرد على خصومهم في ز من الرسالة وما
(30) أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 146.
(31)
ينظر، هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 93.
(32)
السيرة، 1/ 4.
تضمنت تلك الأشعار من إشارات إلى وجود قصائد تضمنت هجاء للرسول صلى الله عليه وآله وسلم احتمل إيرادها من قبل ابن إسحاق لها «33» .
هذه هي الملابسات التي رافقت الشعر الذي أورده ابن إسحاق في سيرته والذي عدّ نقطة تحول وتطور في كتابة السيرة النبوية، لأنه بعمله هذا قد أعطى للأجيال التي تلته حافزا على معرفة باقي الأشعار التي قيلت في تلك الحوادث وتنبيه هؤلاء إلى ما ورد من شعر منحول وموضوع وضعيف في هذه السيرة، مما يشكل حافزا مبكرا على ظهور الدراسات النقدية للشعر عند المسلمين.
4.
الاهتمام بإيراد الأنساب وأسماء القبائل التي ينتمي إليها الشخوص الذين يعرض لهم ولأعمالهم ودورهم في أحداث عصرهم عند حديثه عن حوادث عصر الرسالة «34» ، وهذا الأمر راجع إلى طبيعة المجتمع آنذاك الذي تمثل ببروز المفاخرات بين قبائله وبين أفراد القبائل نفسها «35» ، فضلا عن ذلك فإن معظم شيوخه الذين روى عنهم هم من المدينة، إذ كانت السمة الغالبة عليهم هي الشغف بإيراد مواقف قومهم (الأنصار) في الدفاع عن الإسلام، والتفاخر بما عملوه من ماثر وبطولات مع الرسول في معاركه وحياته اليومية «36» .
(33) ينظر، أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 202- 213.
(34)
ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 130- 132، 428- 432، 505- 509.
(35)
ينظر عن الأنساب ودورها في المجتمع العربي قبيل الإسلام وبعده، علي، جواد، المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1976، 1/ 466- 468.
(36)
ينظر، الحكيم، محمد بن إسحاق، مجلة آداب المستنصرية، ص 285- 288.
لم يقتصر ابن إسحاق على إيراد أسماء المشاركين من أهل المدينة وقبائلهم بل أورد أيضا أسماء المشاركين من المشركين وحتى القتلى والأسرى منهم «37» .
مع كل هذا الاهتمام من قبل ابن إسحاق في إيراد أنساب المشاركين في الحوادث وأسمائهم، انتاب هذا الأمر بعض الهفوات نبهنا لها ابن هشام عند تهذيبه للسيرة بالإشارة إلى مواطن هذه الإشارات والقيام بتصحيحها «38» .
5.
الشمولية باستعراض الحديث التاريخي وربطه بالأحداث التي سبقته «39» ، وهذا الأمر راجع إلى عدم إيمانه باجتزاء الأحداث وأخذها كمفردة مستقلة لا علاقة لها بما سبقها من حوادث كما فعل الذين سبقوه والذين استعرضنا سابقا اسهاماتهم في تدوين وكتابة السيرة النبوية «40» .
أوضح الدوري السبب في إطلاق هذه الصفة على السيرة التي كتبها ابن إسحاق، لأنه قد عبر عن فكرة تأريخية لم يسبقه إليها أحد وهي كتابة تأريخ عالمي من المبتدأ والمغازي وتاريخ الخلفاء «41» ، ويضيف آخر حول اتصاف هذه السيرة بهذا الوصف قائلا: " إن طريقة عرض محمد بن إسحاق لمادته تعتبر أول بادرة في وضع الإسلام ومنشأه في نسق التأريخ العام فهو يرى أن ظهور الإسلام استمرار وتتمة للتأريخ المقدس اليهودي والنصراني من حيث كونه
(37) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 677، 706، 708، 2/ 3/ 122- 127، 129.
(38)
ينظر، السيرة، 1/ 60، 71، 75، 77، 81، 91، 95، 179، 218، 2/ 4، 50، 64.
(39)
الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 28.
(40)
ينظر، ص 13- 43 من هذه الدراسة.
(41)
ينظر، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 30.
ينبعث من الخلق الإلهي ومن دعوة الأنبياء السابقين لمحمد" «42» ، وأتفق باحث آخر مع هذا الرأي مبينا فيه أن فهم ابن إسحاق للتأريخ بعامة والسيرة النبوية بخاصة كان أوسع من مفهوم أسلافه ومعاصريه، وذلك من حيث انه لم يقصد تقديم تأريخ للرسول حسب بل رأى أن يقدم تأريخا للنبوات أيضا ولذلك فقد صار مرجعا رئيسا لتأريخ ما قبل الإسلام وصدره «43» .
6.
استعراض الخبر التأريخي بأسلوب جميل وذلك باستعمال إسناد جمعي في ذكر الحوادث، وذلك بجمعه روايات عدة لحدث واحد في نص منسق يستعرض الحادثة من بدايتها إلى نهايتها «44» ، نال ابن إسحاق في عمله هذا إعجاب الباحثين إذ وصف أحدهم بأنه قد اتبع هذا الاسلوب بحرص وكفاءة واستطاع أن يقدم قصة جذابة في رواياته «45» ، ويضيف آخر:" أن ابن إسحاق صاغ سيرته بأسلوب ساحر ويعرض أحداثه بتسلسل، ويجمعها بطريقة تجلب انتباه القارئ على الدوام، مع تصويره للشخصيات التي يصفها بحيث تبرز أمامنا كأننا نراها رأى العين"«46» ، وينتهي أحدهم إلى وصف أسلوب ابن إسحاق هذا بالقول:
" كان محايدا في عرضه لنشاط الجانب المناوئ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يتخلف عن تدوين ما قيل من الشعر في هجاء الرسول الكريم، وإذا تعرض للغزوات فهو يقدم
(42) دلا فيلدا، دائرة المعارف الإسلامية، 12/ 451.
(43)
جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 148.
(44)
هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 86، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 28.
(45)
الدوري، المصدر نفسه، ص 29.
(46)
نصار، نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 83- 84.
خبرا عاما موحدا من الروايات ثم يعقب بعد ذلك عليها في بعض الأحيان
…
" «47» .
من هذا كله نرى أن سيرة ابن إسحاق قد مثلت بوتقة انصهرت فيها كل النتاجات السابقة في كتابة وتدوين حوادث السيرة والتأريخ، لأن هذا الجهد المتكامل لا يأتي من فراغ بل هو نتاج حقبة تطورية في كتابة السيرة امتدت قرنا ونصف القرن من الزمان على وجه التقريب، حتى كانت هذه السيرة المعين لكل من يريد الكتابة والاطلاع على سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
2.
السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام المعافري (ت 213 هـ) :
هو عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري الذهلي، نشأ في البصرة ثم نزل في مصر ومات بها وصف هذا الرجل بأنه كان أديبا اخباريا نسابة وإماما في اللغة والنحو والعربية «48» .
أسهم هذا الرجل اسهاما بارزا في تنقيح وتهذيب السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق، إذ وضح هذا الأمر بديباجته التي افتتح بها تهذيبه هذا والتي مفادها:
" هذا كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
…
وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم
…
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة من الاختصار إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتارك
(47) الحكيم، محمد بن إسحاق، مجلة آداب المستنصرية، ص 294.
(48)
ينظر، القفطي، علي بن يوسف، (ت 646 هـ) ، إنباه الرواة على أنباء النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتب المصرية، 1950، 2/ 211- 212، الحنبلي، عبد الحي بن العماد، (ت 1089 هـ) ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، ط 2، 1979، 2/ 45.
بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ذكر ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه، [لما] ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها وأشياء بعضها يشنع الحديث به وبعض يسوء بعض الناس ذكره وبعضا مما لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص إن شاء تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به" «49» .
كانت هنالك دوافع وحوافز عدة غير التي ذكرها في مقدمته آنفة الذكر، ساعدت على قيام ابن هشام بتهذيب سيرة ابن إسحاق، إذ كانت هذه الحوافز متمثلة بوجود آليات امتلكها ابن هشام ساعدت على شروعه في هذا الأمر، إذ أشارت المصادر التي ترجمت له أنه كان من المشار إليهم بالبنان في التبحر بعلوم العربية والنحو واللغة، وعلما من أعلامها «50» .
شكلت هذه الأمور مجتمعة نقطة تحول بارزة في كتابة السيرة النبوية واسهاما جادا في تطورها، حتى عدّت السيرة التي كتبها ابن هشام أحد المختصرات الأربعة التي فضلت على أصولها في التراث الإسلامي «51» ، حتى وصفها ابن حجة الحموي (ت 767 هـ) بالقول: " فان السيرة النبوية المنتظمة بتأليف إمام الحفاظ أبي محمد عبد الملك بن هشام حكم بصحتها وقبلت الشهادة
(49) السيرة، 1/ 1- 4.
(50)
ينظر، القفطي، إنباه الرواة على أنباء النحاة، 2/ 211- 212، السيوطي، بغية الوعاة في أخبار النحاة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، ط 1، 1964، 2/ 115.
(51)
ينظر، السيوطي، المزهر في علوم اللغة، تحقيق: محمد احمد جاد المولى واخرون، دار احياء الكتب العربية، د، ت، 1/ 87.
[بها] وعقدت الحناجر وأزال [ت] الإبهام" «52» ، وهذا الأمر راجع إلى المنهج الذي اتبعه ابن هشام في تهذيبه لسيرة ابن إسحاق، والذي أكسب كتابة السيرة تطورا ملحوظا، إذ تمثل هذا التطور بعدة أمور هي:
1.
حذف الأخبار التي يشنع ذكرها وسماعها أو الأحداث التي لا علاقة لها بالسيرة من قريب أو بعيد أو التي فيها حشو وتطويل، وهذا ما لمسناه في مقدمته التي افتتح بها تهذيبه هذا «53» .
كان هذا النهج في كتابة السيرة مستحسنا ومستهجنا في آن واحد، ذلك أنه أستحسن عندما هذب السيرة من الأخبار التي لا علاقة لها بها، واستهجن لأنه قد أثار الشبهات والشكوك حول صحة المعلومات التي وردت فيها والأخبار التي حذفها، إذ وصف الصفدي (ت 728 هـ) سيرة ابن إسحاق بأنها قد رواها عنه جماعة منهم من زاد ومنهم من نقص «54» ، فكان ابن هشام كما ذكر هو نفسه ممن نقص وزاد، وأعطى اليافعي (ت 768 هـ) عذرا لتصرف ابن هشام هذا بأنه قد هذب السيرة ولخصها لكونه أديبا ونسابة «55» ، هذا من جانب العلماء الأوائل، أما بالنسبة الى الباحثين المحدثين فقد تباينت وجهات نظرهم في منحى ابن هشام هذا إذ يقول أحدهم: " لكن مما يأسف عليه لجوء ابن
(52) الحموي، أبو بكر، علي بن عبد الله، بلوغ المرام من سيرة ابن هشام والروض الأنف والأعلام، مخطوط في مكتبة الأوقاف، بغداد، برقم (5961) ، ورقة 2.
(53)
ينظر، السيرة، 1/ 4.
(54)
الوافي بالوفيات، 1/ 7.
(55)
ينظر، عبد الله بن أسعد، مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط 1، 133 هـ، 2/ 78.
هشام إلى حذف الكثير من مادة ابن إسحاق التي عدها غير ضرورية ثم صيرورته إلى تعديل بعض الأخبار أو تغذية ألفاظها بحسب ما فهمها ليكسبها قبولا ووضوحا حين رأى أنها تفتقر إليهما، ولا شك في أن تعديلاته وشروحه هذه تأثرت ببيئته الثقافية وطبيعة عصره الذي عاش فيه
…
حتى كانت اهتمامات ابن هشام اللغوية قد أثرت تأثيرا كبيرا في طريقته باختيار الأخبار وفي إيرادها، وقد ذهبت بعض اهتمامات ابن إسحاق التأريخية والأخبارية ضحية دقة ابن هشام اللغوية
…
ومن ثم فان لهذا النوع من الحذف ولا شك أسبابا سياسية وأخرى تتصل بالصورة التأريخية لعصر ابن هشام عن النبي وصحابته" «56» ، وينتهي آخر إلى ووصف باحث آخر السيرة التي هذبها ابن هشام بأنها لا يطمئن لها من حيث شموليتها لكل الأمور الجوهرية التي ذكرها ابن إسحاق «57» ، وينتهي آخر إلى وصف هذه السيرة بأنها سيرة محرفة ومبسترة ومعدلة «58» .
مع كل ما قيل فان هوروفتس لم يكن بحدة هؤلاء إذ وصف تجربة ابن هشام هذه بأنها جهد موفق حفظ لنا جانبا كبيرا من كتاب ابن إسحاق الذي لولا جهد ابن هشام هذا لعددنا كتاب ابن إسحاق في عداد الكتب الضائعة «59» .
2.
الاهتمام بالشعر الذي ورد في سيرة ابن إسحاق، إذ تمثل هذا الاهتمام بمحاور عدة:
أ- حذف الكثير من الأشعار التي أوردها ابن إسحاق وشمل هذا الحذف:
(56) زكار، مقدمة تحقيق كتاب المغازي والسير لابن إسحاق، ص 15- 16.
(57)
جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 148.
(58)
مؤنس، حسين، هامش على كتاب التمدن الإسلامي لجرجي زيدان، دار الهلال، مصر، د، ت، 3/ 107.
(59)
ينظر، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 82- 83.
أولا: حذف الأشعار المنحولة، إذ تمثل هذا الحذف بعبارته التي افتتح بها كتابه والتي مفادها: " وتارك ذكر
…
أشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها" «60» ، إذ نلمس من هذا الكلام وجود قناعة خاصة في معرفة الأشعار المنحولة التي أثبتها ابن إسحاق في سيرته.
تمثلت هذه الفكرة التي نهجها ابن هشام في مواطن عديدة من السيرة التي كتبها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم «61» ، فمن هذه المواطن تعليقه على الشعر الذي أورده ابن إسحاق والذي تضمن ما قاله عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حادثة ذبح ولده عبد الله:" وبين أضغاث هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر"«62» .
علل أحد الباحثين منحى ابن هشام هذا بالقول: " وعموما فان ترك ابن هشام للأشعار المنحولة التي أوردها ابن إسحاق في سيرته والتي لم تصح لديه، لعدم معرفة أحد من أهل العلم بالشعر بها أو لإنكار ثقات لها واقتناعهم بعدم صحتها، هو عمل توثيقي عظيم خلص شعر السيرة من أخطر سوءة كانت تشوه حقيقته، وأعاد إلينا الكثير من الثقة والاطمئنان إلى أصالته"«63» ، ولكن هذا الرأي فيه من المبالغة والتسرع في طرح وجهات النظر الشيء الكثير إذ إن حذف ابن هشام لهذا الشعر الذي خلص السيرة بحسب رأيه من التشويه قد أفقدنا من الناحية التأريخية والعلمية بعض الإشارات والأساليب التي استعملت
(60) السيرة، 1/ 4.
(61)
ينظر، السيرة، 1/ 51- 52، 65، 116.
(62)
المصدر نفسه، 1/ 155.
(63)
أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 221.
في هذا الشعر المنحول إن صح رأيه فيها لأننا لم نحصل على تلك الأشعار حتى نتبين مدى مصداقية ابن هشام في حذفه لها بوصفها أشعارا منحولة، إذ كان الأجدر به إيراد تلك الأشعار مع تبيان رأيه فيها وترك الحكم عليها من قبل قرائها ليتبينوا صحة ما قاله ابن هشام فيها.
ثانيا: حذف الأشعار الرديئة، وشملت هذه الأشعار ما لم يتكامل وزنه، والتي في وزنها الشعري ركاكة، والتي اختلفت قوافي أبياتها، إذ نراه قد طبق هذا المنحى في أماكن عديدة، اذ حذف بعض الأبيات من قصيدة قالها أحد الشعراء يرد فيها على قصيدة حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لاختلاف قوافي هذه الأبيات، وهذا ما جسدته مقالته التي مفادها:" لقيت منها أبياتا تركناها لقبح اختلاف قوافيها"«64» ، وحذف أيضا أبياتا شعرية لأحد المشركين التي رثى بها أبناءه الذين قتلوا في معركة بدر معللا سبب هذا الحذف بالقول:" هذا أفواء وهي مشهورة في أشعارهم وهي عندنا إعفاء، وقد أسقطنا من رواية ابن إسحاق ما هو أشهر من هذا"«65» .
من هذا نلاحظ أن ابن هشام قد أشار في بعض الأحيان إلى ما يحذفه من أبيات وقصائد ولكنه من قوله آنف الذكر يبن لنا أنه تارة يذكر سبب حذفه لهذه الأبيات وتارة يترك سبب حذفها من دون إشارة، مما يدل على أن الشعر الذي خفي عنا كان أعظم مما هو مثبت، أما ظاهرة الاقواء التي ذكرها آنفا فقد أوضح معناها أحد الباحثين بالقول: " وظاهرة الاقواء في القصيدة هي اختلاف
(64) السيرة، 2/ 213.
(65)
المصدر نفسه، 1/ 648.
شكل القوافي بين الدال المنصوبة والدال المكسورة والتي تأتي على غير ذلك في اختلاف في الشكل" «66» ، أما قول ابن هشام عن هذه الظاهرة- وهي مشهورة في أشعارهم- يدل على أن شعر المكيين كان يكثر فيه هذا العيب الشعري.
وهكذا فان ابن هشام في منحاه هذا قام بحذف بعض القصائد والابيات الشعرية لا لشك منه في صحة صدورها من أفواه قائليها بل كان على أساس إنتقاء الأشعار الجيدة والحسنة وإثباتها في تهذيبه هذا لسيرة ابن إسحاق ورفع الأشعار الرديئة التي تشكل برأيه عيبا ظاهرا في هذا التهذيب إن هو اثبت هذه الأشعار، وهذا الأمر أفقدنا معلومات تأريخية مهمة تضمنتها تلك الأشعار التي حذفها ابن هشام.
ثالثا: حذف الأشعار المقذعة، ومعنى القذع في اللغة هو الخنا والفحش، وأقذعه أي رماه بالفحش وأساء القول فيه وهو الفحش في الكلام الذي يقبح ذكره، والهجاء المقذع الذي فيه فحش وسب يقبح نشره، وأقذع له أي أفحش في سمته «67» .
قام ابن هشام بحذف الأشعار التي تضمنت تلك الصفات التي عناها معنى القذع والتي وصفها بعبارته التي تضمنتها مقدمته: " وأشياء بعضها يشنع الحديث به وبعض يسوء الناس ذكره"«68» ، إذ شمل الحذف الأشعار التي تضمنت قذعا للمسلمين والمشركين على حد سواء، إذ وجدنا أمثلة عديدة على هذا
(66) أحمد، شعر السيرة، ص 222.
(67)
ينظر، ابن منظور، لسان العرب، مادة (قذع) ، 8/ 262.
(68)
السيرة، 1/ 4.
الكلام «69» ، فمن ذلك ما أورده ابن هشام من أبيات قالها حسان بن ثابت في هجاء أحد المشركين لقيامه باعتراض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإصابته له في جبهته في معركة أحد، حذف ابن هشام بعض هذه الأبيات معللا ذلك بالقول:" تركنا منها بيتين أقذع فيهما"«70» ، كذلك قام بحذف بعض أبيات قالتها هند بنت اثاثة ترد فيها على موقف هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان من قيامها بتأليب المشركين على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين معللا هذا الأمر بالقول:" تركنا منها ثلاثة أبيات أقذعت فيها"«71» .
بين أحد الباحثين المساوئ التي ترتبت على قيام ابن هشام بحذف بعض الأشعار بالقول: " إذا وضعنا في الاعتبار ما حذف من أشعار كان فيها تعريض بالنبي وصحابته دون أن يكون هنالك ما يشير إليها سوى ما قاله في مقدمته، عند ذلك يمكن أن يمثل هذا الحذف في مجموعه نقصا له أهميته في تحديد الأصول الحقيقة في شعر السيرة، ولما كان ابن هشام يستهدف به التهذيب والتنقيح فان ذلك يعني تغاضيه عما استهدفه من توثيق وتحقيق، وواضح أن هذين الهدفين هنا متضادان لا يلتقيان"«72» .
نرى مما عرضناه آنفا أن هذا الحذف لم يكن لأشعار مشكوك في صحة نسبتها إلى قائليها، إذ لم يعترض عليه أحد من نقدة الشعر القدامى بمغمز أو ملمز من حيث قطعية صدوره من أفواه قائليه سوى أنه قد حوى فحشا ورميا
(69) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 413، 2/ 19، 20، 32، 93، 177، 178، 225- 226، 567.
(70)
السيرة، 2/ 81.
(71)
المصدر نفسه، 2/ 92.
(72)
أحمد، شعر السيرة، ص 226.
بالمثالب والصفات النابية وهذا ما وضع رواة هذا الشعر ومدونيه في أمرين لا ثالث لهما، الأمر الأول تقبل هذا الوضع (حذف هذه الأشعار) على الرغم من غياب بعض الحقائق التأريخية والسمات التي كان يتصف بها الأشخاص المقذع فيهم إن صدقت دعوى قائليها، وهذا الأمر يشعرنا بوجود فجوة كبيرة في معرفة شخصيات تلك الحقبة التاريخية وطباعهم وتصرفاتهم التي انعكست بطبيعة الحال على سلوكهم اليومي، وهذا الأمر يعد عقبة تعيق عمل الباحثين من طلاب الحقيقة من الجمهور، إذا ما علمنا أن ابن كثير الدمشقي (ت 772 هـ) قد ذكر بعد إيراده للأشعار التي أوردها ابن هشام في غزوة أحد:" إن ابن إسحاق في يوم أحد قد روى أشعارا كثيرة تركنا كثيرا منها خشية الإطالة وخوف الملالة"«73» ، وهذا ما يبين أن ما خفي من تلك الأشعار كان أعظم مما وصل إلينا، أما الأمر الثاني فهو رواية وتدوين تلك الأشعار، وهذا ما يدخل قائليه وسامعيه في دوامة لا مخرج منها وذلك لأسباب عدة:
1.
حرمة سماع السباب والفحش في حق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقتل الذي يقوم بسبه، بإجماع المسلمين كافة على ذلك «74» ، وهذا الأمر ناشئ من أن ذلك يعد استخفافا بحق هذا الرسول العظيم.
أشار السهيلي (ت 581 هـ) إلى هذا الأمر بمقالته التي مفادها: " ولكني لا أعرض لشيء من أشعار الكفرة التي نالوا فيها من رسول الله إلا بشعر من أسلم
(73) البداية والنهاية، 4/ 60.
(74)
ينظر، ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب، بيروت، 1982، ص 3- 4.
وتاب بحضرته ككعب وابن الزبعرى، وقد كره كثير من أهل العلم فعل ابن إسحاق لإدخال الشعر الذي نيل فيه من رسول الله، إذ قال أبو عبيد رواية نصف بيت من ذلك حرام وعلى القول بالإباحة، فان النفس تقذر تلك الأشعار وتبغضها وقائليها في النار، فالإعراض عنها خير من الخوض فيها وتتبع معانيها" «75» .
2.
الانتقاد من قبل عدم المجوزين لها ونشرها بين الناس، إذ تشير المصادر التي ترجمت لابن إسحاق أنه قد تعرض لحملة عنيفة من قبل العلماء لروايته هذا الشعر وتدوينه ونشره بين الناس «76» ، ولأجل قيام ابن إسحاق بهذا الأمر عدّ ذلك نزاهة وأمانة علمية منقطعة النظير في نقل وقائع الأحداث ومجرياتها من دون مراعاة للمشاعر والعواطف «77» .
3.
زعزعة أفكار وآراء المسلمين ببعض الشخصيات المقذع بها لما تضمنت هذه الأشعار من ألفاظ نابية ووصف لما صدر منهم من أفعال معيبة في نظر الاخرين دفعت الشعراء إلى تعييرهم بها، وهذا ما بينه أحد الباحثين بالقول:" ان لهذا النوع من الحذف ولا شك أسبابا سياسية وأخرى تتصل بالصورة التأريخية لعصر ابن هشام عن النبي وصحابته"«78» ، وأضاف آخر على هذا القول آنف الذكر: " ومما لا شك فيه أن الرواة قد أهملوه وانصرفوا عن روايته ولا يرضون
(75) الروض الأنف، 2/ 57.
(76)
ينظر، ابن النديم، الفهرست، ص 105، الجمحي، طبقات الشعراء، ص 8، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 220- 222.
(77)
هوروفتس، المغازي الأولى مؤلفوها، ص 93.
(78)
زكار، مقدمة تحقيق السير والمغازي لابن إسحاق، ص 15- 16.
لأنسفهم أن يحملوا تلك الأقوال القادحة في دينهم القاذفة في أعراض نبيهم وصحابته، إذ يرون في حملها وزرا وفي روايتها نكرا" «79» .
هذه هي الأسباب التي وقفت حائلا دون تكرار تجربة ابن إسحاق في رواية الشعر المقذع الذي ظل حبيس القلوب لا الورق مما استحسن الرواة والمهتمون بأخبار السيرة وشعرها الأمر الأول الذي ذكرناه آنفا لما فيه من استراحة لنفوسهم وإرضاء لجمهور المسلمين.
رابعا: حذف الأشعار للاختصار، لم يكتف ابن هشام بما حذفه من شعر السيرة لعدم صحة نسبته لقائليه أو لرداءة وزنه الشعري، أو للقذع الذي اعتراه، بل راح يحذف بعض ما تبقى من هذا الشعر اختصارا لما يريد كتابته من أحداث مرت بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته في أثناء الدعوة الإسلامية، إذ أوضح أحد الباحثين هذا الأمر بالقول: " وجد ابن هشام بين يديه كمية ضخمة من الأشعار التي ضمنها ابن إسحاق في سيرته وكانت هذه الأشعار هي شاغله الأكبر حين عزم على تنقيح السيرة واختصارها ومن ثم كان حذفه لكثير منها بين منحول أو رديء أو مقذع، ولكن يبدو أنه لم يجد ذلك كافيا لإخراج السيرة على الصورة التي يريدها وأن الأشعار ما زالت بالكثرة التي تزيد على المطلوب أو ربما وجد كثرتها تكاد تطغى على أحداث السيرة وأخبارها التي تمثل جوهرها الحقيقي وعمادها الرئيسي، فرأى أن يختصر جانبا آخر من هذه
(79) أحمد، شعر السيرة، ص 207.
الأشعار ليخفف من طيغان كثرتها على جوهر السيرة وليكون المقام الأول فيها هو لما تزخر به من أحداث ومواقف" «80» .
أشار ابن هشام في تهذيبه للسيرة إلى المواضع التي اختصر فيها عبارات مختلفة، إذ نلاحظه قد حدد سبب اختصاره لإحدى القصائد بأنه لم يرد فيها ذكر للحادثة التي قيلت فيها سوى بيتين منها «81» ، وفي أماكن أخرى يستطرد في الحديث بأنه قد حذفها خوفا من التطويل «82» ، وفي أماكن أخرى لم يشر ابن هشام إلى الأسباب التي دفعته إلى حذف بعض القصائد والأبيات الشعرية «83» .
لم يقف الأمر عند هذا الحد بل استنتج أحد الباحثين ان ترك ابن هشام لقصيدة أو أبيات من الشعر في موضع من مواضع الاستشهاد الشعري ليس معنى ذلك أن هذه الأماكن هي التي حذفت منها الأشعار فقط، بل من المحتمل أنه قد ترك قصائد وأبياتا في مواضع أخرى من دون أن يشير إليها مكتفيا بالسبب الذي ذكره في مقدمته «84» ، ولا يستبعد هذا الباحث أن لابن إسحاق يدا هو الاخر في ترك بعض الأبيات والقصائد التي يستشعر أنها ناقصة ومبتورة «85» .
(80) أحمد، المصدر نفسه، ص 226- 227.
(81)
ينظر، السيرة، 2/ 38.
(82)
ينظر، السيرة، 1/ 14، 47، 58، 65، 68، 71، 72، 73، 92، 100، 151، 186، 2/ 79، 374، 428.
(83)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 226، 425، 571، 573، 2/ 263.
(84)
احمد، شعر السيرة، ص 227.
(85)
ينظر، أحمد، شعر السيرة، ص 229- 230.
ومن كل ما ذكرنا نرى أن هنالك غايات متعددة دفعت ابن هشام الى حذف بعض الأشعار التي وردت في السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ب. التنبيه على الأشعار المشكوك فيها:
بعد أن حذف ابن هشام جما غفيرا من الأبيات والقصائد الشعرية لغايات متعددة، رأيناه قد وجه اهتمامه بعد ذلك إلى ما أثبته من قصائد وأبيات شعرية، إذ عرض تلك الأشعار على نقاد الشعر في عصره ليسترشد بارائهم «86» ، ولأجل ذلك طفحت إلى السطح مشكلة جديرة بالوقوف عندها وهي التعارض في أقوال هؤلاء النقاد الذين استقرأ رأيهم في تلك الأشعار فهم بين مصوب لها من جهة صدورها ومخطئ لتلك الجهة، ولهذا لم يجد ابن هشام مناصا من أن يردف آراءهم عن كل نص شعري حامت حوله الشكوك والشبهات، إذ وضع مقياسا لهذه الأشعار المشكوك في صحتها وذلك بأن بين مع كل نص شعري مقدار الشك الذي يحوم حوله، فعندما تكثر الشكوك حول نص معين يردف ذلك النص بعبارة:" وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها"«87» ، مع العلم أن تعليق ابن هشام في هذه الحالة لا ينسحب على النص نفسه أو يقدح في صحته وأصالته وإنما ينسحب على نسبته إلى قائله الذي نسبه إليه ابن إسحاق، فعبارته آنفة
(86) ينظر، أحمد، شعر السيرة، ص 229- 230.
(87)
ينظر، السيرة، 1/ 592، 595، 596، 2/ 8- 11، 42، 53، 155، 183، 563.
الذكر تعني أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرون أن يكون هذا النص الشعري قد صدر من فم هذا القائل الذي ذكره ابن إسحاق، ولم يشتهر عند الرواة قائل آخر نسبت إليه تلك الأشعار، وهذا ما يفسر لنا عدم ذكر ابن هشام لاسم قائل آخر لهذا الشعر الذي شك فيه، سميت هذه الظاهرة من قبل أحد الباحثين بظاهرة الخلط والتداخل في أشعار السيرة «88» .
أما إذا تقلصت تلك الشكوك حول بعض النصوص الشعرية بحيث لم تتعد ذلك الكم الهائل الذي تنطبق عليه عبارة ابن هشام آنفة الذكر، تغيرت عبارته إلى:" وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها"«89» ، وهذا ما يدل على أن هذه العبارة قد خصت بعض الأشعار التي لم تكن شكوك العلماء فيها بنفس حجم سابقتها، وبذلك فان ابن هشام قد حصر الشك أو الإنكار لهذه النصوص في قسم قليل من بعض العلماء، وإذا كان ذلك يعني ترجيح الحكم بالصحة عليها فان ذلك لا يعني القطع بها «90» .
لم يردف ابن هشام الاراء التي ذكرها لبعض العلماء في هذه الأشعار برأيه الشخصي فيها في مواطن عدة، وفي مواطن أخرى تدخل برايه في مدى صحة نسبة قصيدة إلى غير قائلها الذي ينسبها إليه ابن إسحاق «91» ، وهذا ما دفع أحد الباحثين إلى التعليق على ذلك بالقول: " ورأينا في تعليقات ابن هشام وتعقيباته مدى دقته في التعبير عن الحقيقة والتزامه بالحيادية في مواقفه، والأمانة في عرض
(88) أحمد، شعر السيرة، ص 192- 202.
(89)
ينظر، السيرة، 1/ 649، 650، 2/ 23، 28، 39، 141، 165، 168، 176، 177، 178، 268.
(90)
أحمد، شعر السيرة، 237.
(91)
ينظر، السيرة، 1/ 14، 88، 89، 101، 129، 227، 232، 497، 643، 2/ 392، 409، 448، 544.
معلوماته، والعدالة في تقرير أحكامه، ولأجل ذلك يتبين لنا منهجه في توثيق شعر السيرة، وجهده في حصر أوهام الشك التي أحاطت به" «92» .
ان هذا الرأي آنف الذكر لم يجانب الحقيقة بكل تفاصيلها إذ أشار ابن هشام نفسه إلى أنه لم يكن موضوعيا ولا أمينا ولا نزيها في نقل بعض الحوادث بتفاصيلها، إذ أشار في مقدمته التي افتتح بها كتابه الى أنه قد حذف أشياء يسوء بعض الناس ذكرها «93» ، فهو بذلك قد راعى مشاعر بعض الناس وحذف تلك الأشياء التي يسوء بنظره ذكرها وتخدش عواطفهم، ولأجل ذلك انبرى أحد الباحثين إلى وضع قائمة ببعض الشعر الذي حذفه ابن هشام الذي راعى فيه العواطف والمشاعر «94» .
ج. تلخيص وتمحيص وإضافة بعض الأشعار التي لم يروها ابن إسحاق في سيرته:
نرى أن ابن هشام في تهذيبه هذا للسيرة لم يكن راويا لها بالمعنى الحرفي فقط بل أضاف عدة عبارات وألفاظ وأبيات شعرية على الأصل، إذ تبين بعض العبارات التي زخرت بها السيرة هذا الأمر ومن ذلك قوله:" أنشدني بعض أهل العلم بالشعر أو أنشدني غير واحد من أهل العلم بالشعر"«95»
علل منحى ابن هشام هذا من قبل أحد الباحثين بما مفاده: " من خلال عرض ابن هشام للأشعار على أهل العلم وجد لديهم روايات مختلفة لبعض
(92) أحمد، شعر السيرة، ص 242.
(93)
ينظر، السيرة، 1/ 4.
(94)
ينظر، الحكيم، محمد بن إسحاق، مجلة آداب المستنصرية، عدد 14، ص 299- 312.
(95)
ينظر، السيرة، 1/ 115، 116، 2/ 468، 503، 514.
الأبيات والعبارات أو الألفاظ فحرص على تسجيلها تعقيبا على رواية ابن إسحاق، أو الأخذ بتلك الروايات وتعديل النص الشعري على أساسها مع الإشارة إلى مواضع التعديل التي أجراها" «96» ، ويضيف هذا الباحث عن الموارد التي استقى ابن هشام منها معلوماته للشعر الذي وثق به أحداث السيرة، إذ يقول: " وبنظرة شاملة لكل ما قام به ابن هشام من تمحيص للأشعار وتصحيح نسبتها واستقصاء للروايات المختلفة التي أخذها من أهل العلم بالشعر نلاحظ أنه كان يراجع في ذلك علماء البصرة ورواتها لأنه كان ينتمي إلى مدرستهم التي نشأ بها وتقلى العلم على أيدي أساتذتها
…
" «97» .
هذه هي الأمور التي حاولنا تبيينها لإيضاح الرؤية التطورية لكتابة السيرة النبوية عند ابن هشام في نقده للشعر الذي حوته السيرة التي كتبها ابن إسحاق للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ انصبت معظم جهود ابن هشام على هذا الأمر عند تهذيبه لهذه السيرة.
3.
إضافة روايات جديدة لم يثبتها ابن إسحاق في سيرته مما يدل على بروز اتجاه تكاملي في كتابة السيرة، وهذا ما وضحته مقالته التي افتتح بها مقدمة كتابه هذا:" ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك بمبلغ الرواية له والعلم به"«98» .
(96) أحمد، شعر السيرة، ص 243.
(97)
المصدر نفسه، ص 253.
(98)
السيرة، 1/ 4.
أدت هذه الروايات التي أردف بها سيرة ابن إسحاق مهمة جديدة وذلك بكشفها حقائق وحوادث مهمة ساد بعضها الغموض لعدم تقصي ابن إسحاق لتفاصيلها «99» ، فضلا عن ذلك أن هذه الروايات لم تشمل تطعيم الروايات التي وردت في سيرة ابن إسحاق حسب بل تعدى ذلك إلى إحالة القارئ إلى مواضع هذه الإضافات التي ذكر قسما منها في مكان وأحال إلى تكملته في مكان آخر بعبارة:" وسأذكر حديثها إن شاء الله تعالى في موضعه"«100» .
بينت لنا هذه الفقرة ان الحس التأريخي قد أخذ مساره عند ابن هشام وذلك بتكملة الحوادث التي أورد ها ابن إسحاق مقتضبة وذلك بإعطاء صورة واضحة لها، مما عدّ ذلك تطورا ملحوظا في كتابة السيرة النبوية.
4.
إيضاح معاني الألفاظ الغريبة الواردة في متن السيرة، إذ لا نكاد نتصفح ورقة منها إلا ووجدنا فيها إيضاحا لبعض الألفاظ التي وردت فيها «101» .
لم يقتصر هذا الإيضاح على تبيان ألفاظ من دون أخرى بل شمل كذلك حتى آيات القرآن الكريم «102» ، واقرب مثال على ذلك ما نراه عند تعرضه لاية لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ «103» ، إذ نراه يقوم بشرح
(99) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 6، 8، 42، 62- 63، 77، 79، 81، 193، 195- 199.
(100)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 224، 649، 714، 2، 51، 57، 58، 89، 203.
(101)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 27، 37، 45، 72، 96، 119.
(102)
ينظر، السيرة، 2/ 106- 108، 238، 246، 248، 303.
(103)
سورة قريش، آية 1- 2.
هذه الاية والألفاظ المبهمة فيها مع التحليل اللغوي لمشتقات هذه الألفاظ ومعانيها «104» .
شجع هذا العامل الذي اتسمت به سيرة ابن هشام أحد الباحثين على تخصيص دراسة مستقلة تناول فيها هذه الإيضاحات للألفاظ الغريبة الواردة فيها وإبداء رأيه في هذا الجهد الذي بذله ابن هشام وتقويم إسهاماته في هذا الأمر ومقارنته بسابقه ابن إسحاق إذ انتهى هذا الباحث إلى نتيجة مفادها: " إن ابن هشام أمتاز على سلفه ابن إسحاق في هذا الباب المهم في أبواب علم التفسير التفسير باللغة ذلك أن ابن إسحاق وإن كان يفسر الاي تفسيرا مبنيا في الغالب على معانيها التي تدل عليها ظواهرها ومن دون أن يتناولها بخلاف متبادل منها معتمدا جانب الإيجاز، إلا أنه مع هذا المنهج لم يكن يعنى بالاستشهاد اللغوي الذي صار فيما بعد عمدة التفسير اللغوي، على حين عني به خلفه ابن هشام عناية كبيرة وبخاصة الشعر العربي القديم الذي أولاه اهتماما فائقا وكرس له جهدا كبيرا، فكثيرا ما يعقب ابن هشام على ما يورده ابن إسحاق في أسباب نزول الايات وتفسيرها وبيان معاني غريبها والاحتجاج لها بالشعر القديم قصيدة ورجزة
…
وهذا التفسير يجري غالبا مجرى الاستكمال لما يورده ابن إسحاق من تفسير، لبيان الحجة في تفسير الغريب بالشواهد الشعرية" «105» .
(104) ينظر، السيرة، 1/ 57- 58.
(105)
الزيدي، الدراسات القرآنية في سيرة ابن هشام، آداب الرافدين، عدد 13، ص 270.
كان لاهتمام ابن هشام باللغة والنحو وتضلعه منهما حتى عد من الأئمة المبرزين في هذين العلمين «106» ، أثر فعال في بلوغ التهذيب هذا المبلغ من الإيضاح والتعبير للألفاظ الغريبة والمستعصية والتي حفزت العلماء الذين أتوا بعد ابن هشام بالاحتذاء بحذوه بإكمال شرح الألفاظ التي برأيهم قد تركها أو التي لم يوضحها بشكل مفهوم، وذلك بإفراد مصنفات مستقلة تناولوا فيها شرح هذه الألفاظ التي أوردها ابن هشام في سيرته «107» .
5.
استقصاء وتتبع أسماء الذين استخلفهم رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة المنورة في أثناء سيره للمعارك التي قام بقيادتها بنفسه أو عند سفره لبعض الشؤون الأخرى «108» ، وهذا الأمر يبرز لنا فكرا إداريا متطورا شرعه الرسول وجعله سنة لمن يأتي بعده بعدم ترك أمور الناس من قبل الذي يتولاهم دون وصاية أو نائب ينوب عنهم عند غيابه مهما كان وقت ذلك الغياب قصيرا.
6.
تصحيح ابن هشام للهفوات والأخطاء التي وقع بها ابن إسحاق في أثناء عرضه لبعض الحوادث التأريخية أو أسماء الأشخاص «109» ، مما شكل ذلك ظاهرة لافتة للنظر تمثلت ببروز مبكر للمنحى النقدي في الروايات التي وردت في السيرة النبوية.
(106) ينظر، القفطي، إنباه الرواة، 211، 2، السيوطي، بغية الوعاة، 2/ 115.
(107)
ينظر، برو كلمان، كارل، تأريخ الأدب العربي، ترجمة: عبد الحليم النجار، دار المعارف القاهرة، 1968، 3/ 3- 15.
(108)
ينظر، السيرة، 1/ 591، 598، 601، 612، 2/ 43، 46، 102، 190، 202، 209، 213، 202، 220، 234، 271، 284، 289، 308، 328، 370، 399، 519، 601.
(109)
ينظر، السيرة، 1/ 19، 78، 89، 95، 282، 299، 323، 2/ 55، 64، 88، 209، 222.
7.
التعريف بالأعلام الذين ترد أسماؤهم في الروايات وأسماء قبائلهم وأنسابهم «110» ، ولم يقتصر هذا التعريف على الأعلام فقط بل تعداه إلى التعريف بأسماء الأماكن والبقاع التي ترد في سياق العرض بأخبار السيرة وذلك بتوضيح أبعادها ومواقعها وبعدها وقربها عن المدينة ومكة «111» .
أعطى هذا التعريف من قبل ابن هشام مادة وفيرة لأصحاب التراجم والأنساب الذين اهتموا بتقصي أحوال الرجال وأنسابهم، هذا بالنسبة إلى التعريف بالأعلام، أما التعريف بأسماء الأماكن والبقاع فقد كان تجربة مبكرة في هذا الجانب حفزت العلماء المسلمين على تكرارها وتخصيص مصنفات مستقلة لها، إذ شكلت هذه التجربة إحدى البواكير الاولى للكتابة الجغرافية عندهم.
هذه هي الجوانب التطورية التي أضفاها ابن هشام على كتابة السيرة النبوية والتي أسهمت إسهاما مباشرا في شهرة تهذيبه هذا الذي عدّ أحد المختصرات الأربعة التي فضلت على أصولها «112» ، مع العلم أن هذه الشهرة قد حصلت في.
القرون التي تلت القرن الخامس الهجري، وهذا ما أوضحه القفطي حين أشار إلى ذلك الأمر بالقول: " وللمصريين بها [يقصد سيرة ابن هشام] فرط غرام وكثرة رواية وعن المصريين نقلت إلى سائر الافاق «113» ، إذ وجدنا المصنفات التي كتبت قبل القرن الخامس الهجري لم يرد فيها أي اقتباس عن سيرة ابن هشام، مما دفع أحد الباحثين إلى تبيان المسار الذي سلكته هذه السيرة بتقصي
(110) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 62، 77- 78، 81، 82، 83، 97، 109، 112- 114، 178.
(111)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 148، 185، 436، 491- 492، 613، 2/ 204، 400، 517، 633.
(112)
ينظر، السيوطي، المزهر، 1/ 87.
(113)
إنباه الرواة، 2/ 212.
الرواة الذين حصلوا على إجازة روايتها والانتهاء بنتيجة من هذا التقصي تمثلت بقوله: " أما النقول التي وصلت إلينا منها فهي في أغلبها من مصنفات المتأخرين والمغاربة الذين فاحت فهارس إجازاتهم العلمية في الحديث ورواية مصنفات بالطرق والوسائط التي يصل بها هؤلاء إلى ابن هشام لأجل الحصول على رواية السيرة التي هذبها"«114» .
أسهمت هذه السيرة التي اختز لها ابن هشام في تحفيز همم بعض العلماء بالشروع في شرحها والتعليق على الروايات التي وردت فيها، واختصار مباحثها، أجملت إحدى الدراسات هذه الشروح والتعاليق والاختصارات في إحصائية بينت الكم من المصنفات الذي اختصت به سيرة ابن هشام، وهذه الإحصائية هي «115» :
أ. الشروحات:
1.
الروض الأنف الباسم في الذب عن سيرة أبي القاسم لعبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (ت 581 هـ) .
2.
الإملاء المختصر في شرح غريب السير لأبي ذر مصعب بن مسعود الخشني (ت 604 هـ) .
3.
الوصول إلى السؤول في نظم سيرة الرسول للفتح بن موسى المغربي (ت 663 هـ) .
4.
الميرة في حل مشكل السيرة ليوسف بن عبد الهادي (ت 909 هـ) .
(114) الطرابيشي، رواة محمد بن إسحاق، ص 198.
(115)
ينظر، برو كلمان، تأريخ الادب العربي، 3/ 3- 15.
ب. المختصرات:
1.
مختصر السيرة لعماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي (ت 711 هـ) .
2.
خلاصة السيرة النبوية ليحيى بن حمزة بن علي (ت 747 هـ) .
3.
مختصر السيرة لمحمد بن أبي بكر بن جماعة (ت 819 هـ) .
أشار أحد الباحثين إلى أن المستشرق لويس برونله قد أولى هذه الشروحات والمختصرات اهتماما ملحوظا إذ تصدى للتعليق عليها ودراسة منهجيتها وإسهاماتها في تطور كتابة السيرة من جهة والقيام بنشر بعض هذه الشروحات من جهة أخرى «116» .
تضمنت المدة قيد الدراسة وجود اثنين من شروحات السيرة، كان لها أثر فعال في كتابة السيرة بعامة، وهذان الشرحان هما:
أولا: الروض الأنف لعبد الرحمن السهيلي (ت 581 هـ) *:
أوضح السهيلي الغاية التي من أجلها كتب شرحه لسيرة ابن هشام وذلك بمقدمته التي افتتح بها كتابه، والتي مفادها: " وبعد فاني قد انتجبت في هذا الإملاء بعد استخارة ذي الطول والاستعانة بمن له القدرة والحول إلى إيضاح ما وقع في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سبق إلى تأليفها أبو بكر محمد
(116) ينظر، سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 477.
(*) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي الأندلسي مؤرخ حافظ ومحدث نحوي ولغوي مقرئ، تنقل بين بلاد الأندلس والمغرب وكانت له علاقات طيبة مع المرابطين وأهدى كتابه هذا لأحد أمرائهم، وله مصنفات عديدة في فنون مختلفة، ينظر، القفطي، إنباه الرواة، 2/ 162- 164، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 137- 139.
ابن إسحاق المطلبي ولخصها عبد الملك بن هشام بن المعافري المصري النسابة النحوي مما بلغني علمه ويسر لي فهمه من لفظ غريب أو إعراب غامض أو أعلام مستغلق أو نسب عويص، أو موضع فهم ينبغي التنبيه عليه أو خير ناقص يوجد السبيل إلى تتمته مع الاعتراف بكلول الحد عن مبلغ ذلك الجد" «117» .
نستطيع من مقدمته هذه أن نبين المنحى الذي نحاه السهيلي في شرحه السيرة التي لخصها ابن هشام ومدى دور هذا الشرح وأثره فيها، إذ نرى هذا المنحى قد تركز في عدة أمور هي:
1.
انتخاب مضامين متعددة من فقرات السيرة ومباحثها للشرح والتعليق وعدم التعليق والشرح عليها برمتها، إذ وضح تعليقاته مصدرة بعبارة:" قال المؤلف، وقال الشيخ المؤلف"، مع إهمال الشرح الذي كتبه ابن هشام للسيرة إلا إذا كانت هنالك ثمة إضافة منه عليه «118» .
2.
الشمولية والتوسعة في عرض الرواية، إذ لم يقتصر على شرح ألفاظها فقط بل كان يلم بكل تفاصيلها من حيث ورود آية قرآنية فيها فيقوم بتفسيرها، أو مسألة فقهية ترد ضمنا فيها يقوم بإيضاحها مع تبيان لما يرد في السيرة من أحاديث نبوية يقوم بايضاح مدى صحتها وقوتها وضعفها، مع تعريف بأنساب واحساب الرجال الذين ترد أسماؤهم في الروايات التي
(117) الروض الأنف، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط 1، 1967، 1/ 33.
(118)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 45، 75، 3/ 256، 5/ 119.
يشرحها، وهذا ما أجملته مقالته التي مفادها: " وتحصل في هذا الكتاب من فوائد العلوم والاداب وأسماء الرجال والأنساب ومن الفقه الباطني اللباب، وتعليل النحو وصفة الأعراب ما هو مستخرج من نيف على مائة وعشرين ديوانا
…
وقد عنت لي منه فنون، فجاء الكتاب من أصغر الدواوبن حجما
…
" «119» .
3.
إعطاء الجانب اللغوي في أثناء شرح السيرة أولوية منقطعة النظير، وذلك راجع إلى أن السهيلي كان من المشهود لهم بطول الباع في العربية وغريب الألفاظ والنحو «120» .
دفع هذا الاهتمام السهيلي إلى إعطاء القصائد والأبيات الشعرية الواردة في السيرة مكانة بارزة عند شرحه لها والتعليق عليها «121» ، ولكنه استثنى من ذلك أشعار الكفار فلم يتطرق إلى شرحها معللا ذلك بكراهة أهل العلم لهذا الشعر فضلا عن أن النفس تقذر تلك الأشعار وتبغضها مع قائليها «122» .
وهذا الأمر راجع إلى ورعه وتحرجه الديني الذي لا يريد بشرحه لهذه الأبيات المساس بمقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الرفيع.
4.
الترجيح بين الروايات وإبداء رأيه فيها «123» ، وهذا ما يدل على نبوغ شخصيته العلمية المستقلة وعدم التقليد الأعمى بالشرح لما ورد في المتن من ألفاظ سواء أكانت صحيحة أم سقيمة، وكان هذا الترجيح في معاني الألفاظ
(119) المصدر نفسه، 1/ 35- 36.
(120)
ينظر، القفطي إنباه الرواة، 2/ 162- 164، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 137- 139.
(121)
ينظر، الروض الأنف، 1/ 84، 186، 253، 254، 359.
(122)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 57.
(123)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 109، 126، 366، 5/ 119، 142، 6/ 194.
حصرا، وقد بدا لنا أن آراء السهيلي هذه ما هي إلا وجهات نظر خاصة به في هذه الألفاظ، وهذا يؤكد استقلالية هذا الكتاب وعدم التزامه بما ورد في سيرة ابن هشام.
أسهمت هذه الأمور بأجمعها في حصول هذا الشرح للسيرة التي لخصها ابن هشام مكانة طيبة في نفوس العلماء الذين اطلعوا عليه، فحاول قسم منهم إبداء رأيهم فيه والتعليق على ما ورد فيه من آراء، وأهتم قسم آخر منهم باختصار الأشياء المهمة التي حواها هذا الشرح وجعلها في مصنف مستقل، وهذا ما أوضحته لنا إحصائية حاجي خليفة لهذه الإسهامات التي تمثلت بمصنفات خص بها العلماء كتاب السهيلي الروض الأنف، وهذه الإحصائية هي «124» .
1.
الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم، وهي حاشية كتبها مغلطاي بن قليبج (ت 762 هـ) على ما ورد في الروض.
2.
نور الروض، وهو مختصر للروض الأنف كتبه محمد بن أبي بكر المعروف بابن جماعة (ت 819 هـ) .
3.
حاشية القاضي عين المناوي (ت 871 هـ) علق فيها أيضا على بعض ما ورد في شرح السهيلي هذا، وقام سبطه زين العابدين بن عبد الرؤوف المناوي بتجريد هذه الحاشية.
وأهتم آخرون بالحصول على إجازة بروايته والاجتهاد في طلبها، إذ تبين كتب الفهارس التي كتبها بعض العلماء للمصنفات التي حصلوا على إجازة
(124) ينظر، كشف الظنون، 1/ 917- 918.
بروايتها حقيقة هذا الأمر «125» ، فضلا عن ذلك فان هذا الكتاب قد وجد له متنفسا في بعض المصنفات التي تلته إذ اقتبس مؤلفوها نصوصا منه وكان أحد المصادر التي أعتمد عليها في كتابة هذه المصنفات «126» .
ثانيا: الإملاء المختصر في شرح غريب السير لأبي ذر مصعب بن محمد الخشني (ت 604 هـ)«127» :
كان لاهتمامه البارز باللغة وعلومها أثر فعال في قيامه بشرح بعض الألفاظ الغريبة الواردة في السيرة، مما جعل كتابه هذا أثرا خالصا في اللغة ومظانها، إذ نلمس ذلك جليا في المقدمة التي افتتح بها كتابه هذا والتي يقول فيها:" قصدت في شرح ما استفهم من غريب معانيه وإيضاح ما التبس تعقيده على حامله وروايه مع اختصار لا يخل وإيجاز يتم به البيان ويستقل"«128» ، ولأجل ذلك كان كتابه هذا تلخيصا لبعض الروايات وشرحها، مع عدم التوسع في إيراد كل مضامين السيرة، وهذا ما وضحته مقالته التي مفادها: " لم يقصد فيه إشارة إلى كتابه الإملاء قصد التأليف فتمتد فصوله وأبوابه وإنما هي عجالة خاطر وغنية
(125) ينظر، ابن خير الأشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 232، الوادي آشي، برنامج الوادي آشي، ص 221.
(126)
ينظر، الكلاعي، الإكتفا في مغازي الرسول، 1/ 7، ابن كثير، الفصول في اختصار سيرة الرسول، مطبعة العلوم، القاهرة، ط 1358، 1 هـ، ص 37.
(127)
مصنف هذا الكتاب هو مصعب بن محمد بن مسعود بن عبد الله الجيالي المالكي أديب ونحوي ومؤرخ وشاعر نحرير وفقيه فاضل، عاش في بلاد الأندلس وتضلع بعلوم العربية واللغة وتوابعها، ينظر، ابن الابار، محمد بن عبد الله، (ت 658 هـ) ، التكملة لكتاب الصلة، تحقيق عزت العطار، مطبعة السعادة، مصر، 1955، 2/ 700، السيوطي، بغية الوعاة، 2/ 286- 288.
(128)
الإملاء المختصر، تحقيق لويس برونله، مطبعة هندية، القاهرة، 1329 هـ، ص 2.
ناظر ثم عرض عليّ هذا الإملاء بعد كماله فتصفحته، ورغب في حمله عني فبعد لأي ما أذنت لذلك وأبحته" «129» .
بين لنا الكلام آنف الذكر تردد الخشني في البداية بالاعتداد بكتابه هذا على أنه كتاب يستحق أن يروى عنه ويتناقله الناس، وذلك لما نهجه فيه من اختصار وترجيح للروايات التي يختارها والتي تكون بنظره الأصوب والأدق فتستحق عند ذلك بنظره الشرح لألفاظها «130» .
تمثل ذلك النهج الذي سار عليه الخشني في كتابته لمصنفه هذا مع الإشارة ضمنا إلى أنه لم يردد ما قاله ابن هشام بل كان يعلق على قسم من آرائه ويرد عليها «131» ، فضلا عن ذلك فان هذا الكتاب لم يتطرق إلى ذكر الأخبار والحكايات إلا نادرا وفي أماكن محدودة منه «132» ، وما ذلك إلا لكون هذا الكتاب قد خصص لشرح ألفاظ الأبيات والقصائد حصرا والتي كانت متنا مستقلا بذاته «133» ، بعكس ما انتهجه السهيلي في شرحه للسيرة، من إيراد بعض الروايات والتعليق على أنساب الرجال وأحسابهم فضلا عن تبيان صحة الأحاديث وضعفها حتى حوى كتابه معارف عدة أوضحته مقدمته التي افتتح بها كتابه (الروض الأنف)«134» .
(129) المصدر نفسه، ص 2.
(130)
ينظر، المصدر نفسه، ص 7، 148، 218، 304، 343.
(131)
ينظر، المصدر نفسه، ص 106، 148، 159.
(132)
ينظر، المصدر نفسه، ص 62، 197- 198، 258، 307.
(133)
ينظر، المصدر نفسه، ص 57، 83، 140، 148، 200.
(134)
ينظر، الروض، 1/ 35- 36.
وفي النتيجة فلو أجرينا موازنة بين هذين الشرحين آنفي الذكر للسيرة التي كتبها ابن هشام، لوجدنا أن شخصية السهيلي في كتابه الروض الأنف من حيث شرحه للألفاظ الواردة في السيرة أبرز من شخصية الخشني الذي قلص شرحه إلى أقل حد ممكن من الروايات التي وردت في سيرة ابن هشام، وهذا ما جعل الشرح الذي قام به السهيلي للسيرة، أكثر شمولية وتفصيلا من الشرح الذي كتبه الخشني لها.
3.
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) :
مصنف هذا الكتاب هو أحمد بن الحسين بن علي بن موسى بن عبد الله، ولد سنة 384 هـ في بيهق إحدى قصبات نيسابور، درس الحديث والفقه على مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) وبرع فيه حتى صار من كبار الأئمة فيهما، ولأجل ذلك وصف بأنه لو شاء أن يعمل لنفسه مذهبا يجتهد فيه لكان قادرا على ذلك لسعة علومه ومعرفته بالاختلاف، وترك لأجل ذلك مصنفات كبيرة أصبحت في ما بعد أصولا يعتمد عليها معظم المسلمين «135» .
كانت هنالك دوافع عدة جعلتنا ندخل هذا الكتاب ضمن كتب السيرة الشاملة مع العلم أن الناظر للعنوان أول وهلة يلاحظ أن الكتاب مخصص للحديث عن الدلائل التي ظهرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن بعد تصفحه تبين أنه كتاب في السيرة قرن فيه مؤلفه الدلائل التي ظهرت من الرسول بأحواله، إذ
(135) ينظر، ابن عساكر، علي بن الحسن، (ت 571 هـ) ، تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام أبي الحسن الأشعري، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مطبعة التوفيق، دمشق، 1347 هـ، ص 265- 268، ابن الأثير، الكامل في التأريخ، 8/ 104، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1/ 57- 59.
أشار إلى ذلك بمقدمته التي يقول فيها: " واستعنت به في إتمام ما قصدته [تصنيف كتاب في دلائل النبوة] مع ما نقل إلينا في شرف أصله وطهارة مولده وبيان أسمائه وصفاته وقدري حياته ووقت وفاته وغير ذلك مما يتعلق بمعرفته صلى الله عليه وسلم
…
والاعتماد على جملة ما تقدمه من الصحيح أو المعروف عند أهل المغازي والتواريخ" «136» ، ولأجل ذلك كانت هذه الكلمات معبرة عن فحوى الكتاب ومضامينه التي جعلتنا نضعه ضمن مصنفات السيرة الشاملة.
شكل هذا الكتاب نقلة نوعية في كتابة السيرة وذلك للإسهامات التي أضفاها والتي تضمنت محاور وأساليب مثلت حلقة مهمة من حلقات التطور في كتابة السيرة النبوية، وهذه الإسهامات هي:
1.
كتب البيهقي كتابه هذا على وفق منظور فلسفي وكلامي، وبعبارة أدق كتب سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ميرزا فيها الجانب الإعجازي الذي تضمنها، إذ جعل من سيرة الرسول بمجملها معجزة من المعاجز التي لا تصدر عن أي كائن حي إلا كان نبيا مرسلا من الله سبحانه وتعالى، ولأجل ذلك نراه قد برز قبل استعراضه لهذه السيرة الخوارق والنبوءات السابقة للأنبياء والأصفياء والصالحين ومعاجزهم ومقارنتها بمعاجز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «137» .
كان لهذا المنحى الذي سلكه البيهقي صدى في العديد من المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أشار ابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) إلى هذا الأمر بقوله: " وأن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي
(136) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1986، 1، 1/ 69.
(137)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 75- 391، 2/ 3- 259.
تصديقه ضرورة، وتشهد بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفي" «138» ، ووافقه ابن كثير في هذا المنحى إذ قال" وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته، أي من دلائل نبوته،
…
يظهر بتدبر سيرته من حين ولد إلى أن مات" «139» .
بينت هذه النصوص آنفة الذكر مصداقية المنحى الذي سلكه البيهقي في عدّه سيرة الرسول دليلا من دلائل نبوته مقدما إياها مع معاجزه وخوارقه.
2.
استعمال النقد والتمحيص بين الروايات والأحاديث وإبداء الاراء فيها، وهذا ما أكده قوله:" وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، فلا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزا فيما اعتمد عليه أهل السنة من الاثار"«140» .
استعمل في هذا النقد والتمحيص بين الروايات أساليب المحدثين في ذلك، وكان لانتهاجه هذا الأمر سبب تمثل بطلب أحد تلامذته منه معرفة ما أورده من روايات وأحاديث في هذا الكتاب من حيث صحتها والاحتجاج بموجبها، إذ يقول: " ويعلم أن كل حديث أوردته فيه قد أردفته بما يشير إلى صحته، أو
(138) الفصل في الملل والنحل، المطبعة الادبية، القاهرة، 1320 هـ، 2/ 90.
(139)
البداية والنهاية، 6/ 70.
(140)
دلائل النبوة، 1/ 47.
تركته مبهما وهو مقبول في مثل ما أخرجته، وأوردته بإسناد فيه ضعف أشرت إلى ضعفه وجعلت الاعتماد على غيره" «141» ، ويضيف على ذلك بالقول:
" واستعنت في إتمام ما قصدته من ذكر دلائل نبوة نبينا ومعرفة أحواله من الاكتفاء بالصحيح من السقيم والاجتزاء بالمعروف من الغريب، إلا فيما لا يتضح المراد من الصحيح أو المعروف دونه فأوردته والاعتماد على جملة ما تقدمه الصحيح أو المعروف عند أهل المغازي والتواريخ"«142» .
لم يكتف البيهقي بذلك بل اقترح على قراء كتابه أن يفهموا المعايير التي يبينها فيه في ما يخص الرواية والرواة، إذ يقول في صدر ذلك:" ومن وقف على تميز في كتبي بين صحيح الأخبار وسقيمها وساعده التوفيق على صدق فيما ذكرته، ومن لم ينعم النظر في ذلك، ولم يساعده التوفيق فلا يغنيه شرحي لذلك وإن أكثرت، ولا إيضاحي له وإن أبلغت"«143» .
وهكذا فان البيهقي بإشاراته وإيضاحاته هذه للرواية والرواة قد أعطى مفاتيح لمن يريد تعرّف مقدار وثاقة وضعف المحدث والحديث والرواية والرواية، مما يبين انصهار مناهج المؤرخين في عرض الرواية التأريخية بمقاييس المحدثين ومعاييرهم، وهذا مما لا نجده بنفس الوضوح في مصادر أخرى عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مستعملة هذا المنحى في الكتابة.
3.
إيراده روايات لم توردها المصادر التي تقدمت عليه ولم تكن معروفة قبله، أو تعرضه لحوادث تناولتها المصنفات التي سبقته بالاختصار والاقتضاب، فمن
(141) المصدر نفسه، 1/ 46.
(142)
المصدر نفسه، 1/ 69.
(143)
المصدر نفسه، 1/ 47.
ذلك ما ذكره عن حديث قس بن ساعدة الإيادي الذي تنبأ فيه بظهور نبي في أرض العرب أوشك زمانه على الحلول «144» ، ورؤية صورة النبي مع صور الأنبياء «145» ، وحديث أحد الكهان الذين تنبأ أيضا بظهور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «146» ، وغير ذلك من الروايات التي زخر بها هذا الكتاب ولا سيما عند حديثه عن الحقبة الزمنية التي سبقت ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والبعثة النبوية «147» .
أما بالنسبة الى الحوادث التي أوردتها المصنفات التي سبقته مختصرة، فقد أرخى البيهقي لنفسه العنان في تفصيل مجريات هذه الحوادث، فمن ذلك حادثة حفر عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لبئر زمزم «148» ، كذلك ذكره لحادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتفاصيلها «149» ، وإسهابه في ذكر حادثة المباهلة مع نصارى نجران التي تضمنت ذكرا لتفاصيلها ابتداء من دخول هؤلاء النصارى المدينة وانتهاء بخروجهم منها.
4.
فسح المجال للأحاديث والروايات الضعيفة والموضوعة والمكذوبة بأن تأخذ مجراها في الكتاب على الرغم من تأكيده التيقظ والروية في إثبات الأحاديث والروايات الصحيحة والمشهورة عند أهل المغازي والتواريخ «150» .
(144) ينظر، دلائل النبوة، 2/ 101- 113.
(145)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 385- 391.
(146)
ينظر، المصدر نفسه، 2/ 241- 253.
(147)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 80- 82، 124، 139- 145، 348- 350، 2/ 71- 72، 116- 117، 118- 121، 260- 261، 316.
(148)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 85- 87.
(149)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 113.
(150)
ينظر، المصدر نفسه، 1/ 46.
فمن هذه الروايات ذكره لحادثة شق الصدر بتفاصيل وطرق لم ترد عند سابقيه «151» ، إذ علق بعد إيراده لها:" وقد روى محمد بن زكريا الغلابي بإسناده عن ابن عباس عن حليمة السعدية هذه القصة بزيادات كثيرة وهي لي مسموعة، إلا أن محمد بن زكريا هذا متهم بالوضع فالاقتصار على ما هو معروف عند أهل المغازي أولى، ثم أني استخرت الله تعالى في إيرادها فوقعت الخيرة على ما تقدمه من نقل أهل المغازي لشهرته بين المذكورين"«152» ، فضلا عن هذا كله فقد تضمن أحد أجزاء هذا الكتاب من هذه الروايات الشيء الكثير «153» .
لم ترد هذه الروايات التي وردت في كتاب البيهقي هذا في مصنفات سبقت هذا الكتاب، وما ذلك إلا لعدم قناعة المتقدمين عليه بالرواية والرواة فضلا عن أن هذه الروايات هي من نتاج عقليات القصاص الذين يميلون قلوب الناس إليهم وذلك بروايتهم لكل غريب ومستعظم ومهول في نفوس الادميين «154» ، مما دفع هذا التكالب في إيراد الروايات الخاصة في معاجز الرسول والخوارق التي بدرت منه إلى شن أحد المتربصين للإسلام والمسلمين من الذين ينظرون إلى الأمور بجزئية إلى نبذ هذه الروايات كلها، إذ يقول ابن العبري (ت 683 هـ) في معرض حديثه عن دلائل نبوة الرسول والمعجزات التي أحصتها الكتب له:
" وقد نقل عنه المعجزات
…
كانجذاب الشجر إليه وتسليم الحجر عليه
…
ولم يبلغ رواة هذه الغرائب حد التواتر إنما نقلت على سبيل الاحاد وكان اعتماد
(151) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 131- 136.
(152)
دلائل النبوة، 1/ 139.
(153)
ينظر، المصدر نفسه، 6/ 7- 553.
(154)
ينظر، ابن الجوزي، القصاص والمذكرين، ص 10- 11.
العلماء من الإسلاميين في إثبات نبوته على القرآن وادعوا فيه الإعجاز لأنه تحدى الفصحاء" «155» .
ومن هذا كله نرى أن إيراد هذه الروايات قد كان نقطة ضعف تسجل على هذا الكتاب.
5.
استعمال منهجية صارمة في إيراد الروايات التي تعد طريقة فريدة من نوعها في مثل هذه المصنفات، إذ تمثلت هذه المنهجية بتطبيق قواعد وأسس خص بها البيهقي كتابه هذا، ويمكن إجمال هذه القواعد والأسس التي اختطها البيهقي والتي شكلت نقلة نوعية في مناهج كتابة السيرة بعدة محاور هي:
أولا: جمع أسانيد الروايات المتعددة في سند جمعي واحد، وذلك بأن يأتي بالطرق التي وردت الرواية بها فيذكرها كلها في سياق واحد، وتستعمل هذه الطريقة عندما تستوي مراتب الرواة وتتفق رواياتهم لفظا ومعنى ويجمع بينهم في سياق واحد «156» ، وسلك البيهقي في هذا الجمع للأسانيد مسالك عدة هي:
أ. العطف بين الشيوخ، وذلك بأن يروي الحادثة الواحدة عن شيخين فأكثر من شيوخه عاطفا بينهم بالواو، ثم يذكر الإسناد والمتن لهذه الرواية «157» .
ب. تعداد الأسانيد وذكر المتن عقب الإسناد الأول للحديث أو الرواية مع استعمال عبارة: (بمثله، بنحوه، فذكره بمعناه)«158» .
(155) غريغوريوس، مختصر تأريخ الدول، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ط 2، 1984، ص 163.
(156)
ينظر، الصالح، صبحي، علوم الحديث ومصطلحه، دار العلم للملايين، بيروت، ط 3، 1965، ص 280- 285.
(157)
ينظر، دلائل النبوة، 1/ 106، 126، 162، 163، 220، 235، 238، 268، 3/ 5- 8.
(158)
ينظر، دلائل النبوة، 1/ 77، 156، 167، 222، 230، 232، 245، 261، 6/ 137، 200.
ج. إفراد كل سند مع متنه بالرواية، وذلك بأن يروي الحديث أو الرواية بأسانيد متعددة ويتبع كل إسناد بلفظ المتن والذي روي به فيعيد المتن لزيادة ألفاظ أو دلالات أو اختلاف بين الرواة فيه «159» .
د. اختصار الأسانيد، وذلك بأن يروي الحديث أو الرواية بسندها أو بمتنها ثم يذكر عقب ذلك باقي الأسانيد، ولكنه يكتفي من ذلك بذكر بعض العبارات التي تبين هذا المنحى مثل:(وبإسناده أو بمثل هذا الإسناد)«160» ، استعمل هذا النمط من أنماط جمع الأسانيد في الروايات التي تتسلسل الواحدة تلو الأخرى ويتشابه رواتها.
كان هذا المنحى من قبل البيهقي بجمعه لأسانيد رواياته محاكيا لنهج من سبقه في ذلك وخصوصا محمد بن إسحاق الذي سار على هذا النهج في السيرة التي كتبها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم «161» ، ولكن محاكاته هذه لم تكن بالمعنى الحرفي بل كانت صيغة مغايرة لما انتهجه المصنفون الذين سبقوه، لأن اتجاهه هذا كان ثمرة من ثمار المسيرة الطويلة التي قطعها علم الحديث والإسناد والتي بلغت أكثر من ثلاثة قرون ونصف «162» .
ثانيا: إيراد بعض الروايات عن الحوادث التأريخية مقرونة بالقرائن المؤكدة لها سواء أكانت تلك القرائن على هيأة آية قرآنية أم حديث نبوي شريف أم
(159) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 81- 84، 110، 123، 158، 164، 170- 171، 176، 207، 229، 362.
(160)
ينظر، المصدر نفسه 1/ 76، 169، 285، 6/ 27.
(161)
هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 86، الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ، ص 28.
(162)
عن علم الحديث وتطوره ينظر، الأعظمي، محمد مصطفى، دراسات في الحديث النبوي، جامعة الرياض، السعودية، ط 1396، 1 هـ، ص 13- 48.
موافقة لرواية راو آخر ذكرها بسند مختلف، وقد انتهج البيهقي في إثبات هذه القرائن مناحي عدة، وهذه المناحي هي:
أ. بدء بعض أبواب الكتاب بإيراد آيات من القرآن تكون بيانا لما سيتناوله هذا الباب من مباحث، فقرن بذلك آيات القرآن بالحوادث التأريخية التي رافقت نزولها «163» .
ب. تقديم الروايات التي لها أصل في الصحيحين (البخاري ومسلم) أو إحداهما على الروايات الأخرى التي ترد بطرق مختلفة، وذلك عند بداية عرضه لبعض حوادث السيرة «164» ، ولم يحد عن هذا المنحى إلا لسبب يقتضي ذلك كأن تكون الرواية أو الحديث المخرج أكثر انطباقا على الصيغة أو العنوان الذي عقده للباب أو الفصل الذي يروم الكتابة فيه من الرواية التي وردت في الصحيحين أو إحداهما «165» .
ج. الإكثار من إيراد المتابعات* من الروايات «166» ، إذ كان قصده من إيراد تلك المتابعات هو تقوية تلك الروايات من حيث حقيقة وقوعها، وذلك لأن
(163) ينظر، دلائل النبوة، 1/ 151، 308، 333، 351، 373، 2/ 176، 184، 195، 225، 3/ 5، 28، 45، 74، 267، 310، 312، 6/ 201.
(164)
ينظر، المصدر نفسه 2/ 212، 215، 244، 262.
(165)
ينظر، دلائل النبوة، 1/ 145- 148، 152، 153، 2/ 185- 186.
(*) المتابعة: هي مشاركة راو لراو آخر في رواية حديث عن شيخه أو عمن فوقه من المشايخ، ينظر، ابن الصلاح، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 38- 40.
(166)
ينظر، دلائل النبوة 2/ 199، 220، 224، 242، 266- 268، 330.
الرواية أو الحديث إذا تعددت طرقه قوي وصار صالحا للاحتجاج به إن كان ضعيفا أما إذا كان صحيحا فإنه يزداد قوة إذ ورد من طريق آخر «167» .
هذه هي المنهجة التي اتبعها البيهقي في إيراد الروايات الخاصة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودلائل النبوة والتي تعد طريقة فريدة من نوعها لأنها مثلت تلاقحا بين مناهج المؤرخين والمحدثين في الكتابة التاريخية بعامة والسيرة النبوية بخاصة.
6.
إيراد نصوص شعرية من قصائد وأراجيز لم توردها المصادر التي تقدمت عليه وقد بلغت هذه النصوص (115) نصا شعريا «168» ، ولكن هذه النصوص كانت ناقصة ومبتورة وذلك لتأثير صبغة المحدث التي اصطبغ بها منحاه من إيراد الأشعار، لأن المحدثين كانوا حذرين جدا في إيراد الشعر، أو عدّه من المنمقات للروايات، إذ لم يعتمدوه دليلا على صحة الخبر المروي «169» .
عطف على الروايات التي أورد فيها نصا شعريا مبتورا بعبارة: (وذكر سائر الأبيات، أو إلى آخر القصيدة)«170» ، وهذا ما يبين أنه لم يكن مهتما بإيراد جميع أبيات القصائد التي يستشهد بها، ولكن هذا الأمر لم يكن منطبقا على كل
(167) السيوطي، تدريب الراوي، ص 388.
(168)
ينظر، دلائل النبوة 3/ 316، 328، 329، 330، 341، 370، 378، 439، 442، 4/ 217، 215، 218، 267، 268.
(169)
عن تحرج المحدثين والفقهاء في رواية الشعر ينظر الجبوري، يحيى، الإسلام والشعر، مطبعة النهضة بعداد 1964، ص 8- 173، أحمد، شعر السيرة، ص 35- 69.
(170)
ينظر، دلائل النبوة، 3/ 316، 328- 329، 330، 341، 370، 387، 439، 442، 4/ 215، 217، 218، 267، 267، 5/ 12، 48، 211، 314- 315، 410.
صحائف الكتاب بل وجدنا هنالك قصائد قد أوردها كاملة في مضانها «171» ، واللافت للنظر أن هذه القصائد التي أوردها كان لها النصيب الأوفر منها برواية ابن إسحاق لها والتي لم توردها المصادر التي اعتمدت على سيرته التي كتبها.
هذه هي طبيعة الأشعار التي وردت في هذا الكتاب والتي حفظ لنا بموجبها قسما من شعر السيرة الضائع الذي أغفلته المصادر السابقة عليه، ولكن هذا الشعر لم يمحص وينقد كما فعل ابن هشام عند عرضه شعر السيرة «172» .
حفزت هذه الإسهامات مجتمعة العلماء بإبداء وجهات نظر متعددة في هذا الكتاب وذلك بعد ما اطلعوا عليه واستعملوه في مصنفاتهم، إذ لم نجد مصنفا من المصنفات التي تلته والتي تعرضت لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا وكان هذا الكتاب أحد مصادره الرئيسة «173» ، أما وجهات النظر فقد كانت متفقة على كون هذا الكتاب من المصنفات المهمة لسيرة الرسول ودلائل النبوة، إذ يقول الذهبي في معرض حديثه عن هذا الكتاب: " فعليك يا أخي بكتاب دلائل النبوة
(171) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 27- 30، 130، 181، 2/ 102، 113، 124، 250- 254، 256- 258، 260- 261، 423.
(172)
ينظر، السيرة، 1/ 4.
(173)
ينظر، ابن عساكر، تهذيب تأريخ دمشق، مطبعة الترقي، دمشق، 1349 هـ، 1/ 10، 13، 17- 21، 32، الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، تحقيق: علي اكبر غفاري، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، 1379 هـ، ص 16، 26، 48، 50، 57- 58، 78- 79، 130- 131، ابن شهر آشوب، محمد بن علي (ت 588 هـ) ، مناقب آل أبي طالب، المطبعة العلمية، قم، 1379 هـ، 1/ 6- 10، الأربلي، علي بن عيسى (ت 682 هـ) كشف الغمة في معرفة الأئمة، المطبعة الحيدرية، النجف، ط 1972، 2، 1/ 13، ابن كثير، البداية والنهاية، 6/ 75، 76، 100، 104، 111، 117، 132، 139، الذهبي، تأريخ الإسلام، 1/ 89، 155، 307- 310، السيوطي، الخصائص الكبرى، 1/ 3، 4، 6، 9، 24، 2/ 9، 12، 19، 21.
للبيهقي فانه شفاء لما في الصدور وهدى ونور" «174» ، ويبدي ابن كثير رأيه بهذا الكتاب فيقول: " وقد جمع الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله كتابا شافيا
…
مقتديا بمن تقدمه في ذلك كما اقتدى به كثير ممن أتى بعده" «175» .
ولأجل ذلك كانت لهذا الكتاب مكإنة طيبة في نفوس العلماء، إذ شرع بعض المتأخرين باختصاره واقتضابه، إذ ذكر حاجي خليفة أن أبا حفص عمر بن علي الأنصاري المعروف بابن الملقن (ت 804 هـ) قد اختصر هذا الكتاب «176» ، وأطلع برو كلمان على مختصر لكتاب (دلائل النبوة) مخطوطا في مكتبة الظاهرية في سوريا، ولكنه مجهول المؤلف يحمل أسم" بغية السائل عما حواه كتاب الدلائل عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته" مكتوبا سنة 755 هـ «177» .
قبل أن نختم عرضنا للمناحي التطورية التي أسهم بها البيهقي في كتابته لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، يجب التنبيه إلى أن هذا الكتاب قد حوى قسما كبيرا من السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق ولا سيما في الباب الخاص بدلائل نبوته من مولده إلى وفاته «178» ، إذ اعتمد على رواية يونس بن بكير* لهذه السيرة التي
(174) سير أعلام النبلاء، تحقيق محيي الدين العمروي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1997، 15/ 39.
(175)
الفصول في اختصار سيرة الرسول، ص 101.
(176)
كشف الظنون، 1/ 760.
(177)
تاريخ الأدب العربي، 6/ 231.
(178)
ينظر، دلائل النبوة، 6/ 7- 553.
(*) هو يونس بن بكير بن واصل الشيباني الكوفي الحافظ المؤرخ صاحب المغازي والسير والمكثر بالرواية عن ابن إسحاق وأحد الطرق المعتمدة عن العلماء في معرفة المغازي والسيرة لابن إسحاق حتى وصف لأجل ذلك بأنه أحد أوعية العلم بالمغازي والسير، ينظر، ابن سعد، الطبقات، 6/ 399، الذهبي، سير أعلام النبلاء، 9/ 245، تذكرة الحفاظ، 1/ 326.
تتضمن بحسب رأي بعض الباحثين روايات لم ترد عند باقي رواتها «179» ، ولأجل ذلك نستطيع وضع مصنف توفيقي بين ما كتبه ابن هشام والطبري من نقول عن سيرة ابن إسحاق وبين ما كتبه البيهقي من نقول من هذه السيرة للكم الهائل من الروايات التي حواها كل مصنف من مصنفات هؤلاء الأعلام.
وفي الختام أود أن أشير إلى أن هذا الكتاب يحتاج إلى دراسة مفصلة لمنهجه وموارده وطريقة عرضه للروايات، وذلك لما تضمن من جهد كبير وواسع أردف السيرة النبوية بتراث جم كان على مدار العصور محل إعجاب واعتماد من قبل كل مصنف يبغي الكتابة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعامة، ودلائل نبوته بخاصة.
4.
الوفا بأحوال المصطفى لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) :
مصنف هذا الكتاب هو عبد الرحمن بن ابي الحسن علي بن محمد برع في الوعظ والإرشاد حتى فاق فيه الأقران، وترك مصنفات كثيرة في مختلف العلوم والفنون والمعارف، نشأ في بغداد وبزغ نجمه فيها إلى أن توفاه الله سنة 597 هـ «180» .
(179) ينظر، الطرابيشي، رواة محمد بن إسحاق، ص 54.
(180)
ينظر، ابن الأثير، الكامل في التأريخ، 12/ 171، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 2/ 321، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 1342، ابن كثير، البداية والنهاية، 13/ 28- 30.
كان لاهتمامات ابن الجوزي في الوعظ والإرشاد أثر ملموس في تضمينه السيرة النبوية في معظم مصنفاته التي كتبها «181» ، فضلا عن أنه كان يكن تقديسا عظيما لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه، ونلمس ذلك من وصاياه التي يقول فيها:" من أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضا، فليتفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم"«182» ، فضلا عن وجود هذا الشعور في مقالته التي أفتتح بها أحد كتبه:
" ولما سميت كتابي هذا صفة الصفوة رأيت أن أفتتحه بذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فانه صفوة الخلق وقدوة العالم"«183» .
أشارت إحدى الباحثات إلى هذا الأمر بعدما استعرضت مصنفات ابن الجوزي وخرجت منها بالنتيجة الاتية: " ومن ثبت مؤلفات ابن الجوزي ومقارنتها ببعض نستطيع أن نتبين منهجه في التأليف وطريقته، بأنه كان كثيرا ما يكرر ما كتبه في كتب سابقة ومن باب معين ويألف منه تصنيفا جديدة وبعنوان جديد وبإضافة جديدة إن لم يحذف من مواد الكتاب السابق ولو ألقينا نظرة
(181) ينظر، المنتظم في أحوال الملوك والأمم، مخطوط مصور في مكتبة الإمام الحكيم العامة برقم (577) ، مجلد 1، ورقة 79- 156. مجلد 2، ورقة 1- 76، صفة الصفوة، تحقيق: محمود فاخوري، دار الوعي، حلب، 1389 هـ، 1/ 46- 233، تلقرح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، الهند، 1927، ص 4- 39، المدهش، 40- 43، الحدائق في علم الحديث والزهديات، تحقيق: مصطفى السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1، 1986/ 151- 325.
(182)
ابن الجوزي، صيه الخاطر، تحقيق محمد الغزالي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، لا، ت، ص 294.
(183)
صفة الصفوة، 1/ 6.
بسيطة على ثبت تاليفه في المواضع المختلفة لرأينا مدى التشابه الكبير في عناوين تلك الكتب وأسمائها في الموضوع المعين الواحد" «184» .
خص ابن الجوزي من بين مصنفاته مصنفا مستقلا استعرض فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشمولية وتفصيل أسماه (الوفا لأحوال المصطفى) بعدما وجد الحاجة ملحة في عصره إلى وجود هكذا مصنف، إذ بين هذا الأمر في مقدمة كتابه هذا التي أفتتحها بالقول:" وأني رأيت خلقا من أئمتنا لا يحيطون علما بحقيقة فضيلته فأحببت أن أجمع كتابا أشير فيه إلى مرتبته وأشرح حاله من بدايته إلى نهايته وأدرج في ذلك الأدلة على صحة رسالته، وتقدمه على جميع الأنبياء في رتبته، فإذا انتهى الأمر إلى مدفنه في تربته ذكرت فضل الصلاة عليه وعرض أعمال أمته وكيفية بعثته، وموقع شفاعته وأخبرت بقربه من الخالق يوم القيامة ومنزلته"«185» .
نرى من هذا الاستعراض وجود حافزين ألحا على ابن الجوزي في كتابة مصنفه هذا، الحافز الأول، حافز أخلاقي تمثل بالتبرك بكتابة السيرة النبوية، أما الحافز الثاني فهو حافز علمي تمثل بتصنيف كتاب يعالج فيه أحوال المصطفى وسمو مرتبته وحقيقة فضيلته بعدما جهل بعض الناس هذا الأمر في عصره.
ولأجل ذلك كانت المحاور التي حواها مصنف ابن الجوزي هذا من الإسهامات الجادة في تطور كتابة السيرة لأنه استعرض فيها أمورا عدة لم توجد
(184) إبراهيم، ناجية عبد الله، قراءة في مؤلفات ابن الجوزي، المكتبة العالمية، بغداد، ط 1، 1989، ص 14.
(185)
الوفا بأحوال المصطفى، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار اكتب الحديثة، القاهرة، ط 1، 1966، 1/ 1.
في باقي المصنفات التي سبقته والتي تشابهت معه في المنحى والأسلوب في طرح مضامين السيرة ومتعلقاتها الجانبية، وهذه الأمور التي استعرضها هي:
أولا: شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه، إذ عرضها بشكل منفصل بهذه السيرة وذلك بتخصيص فصل مستقل لها «186» .
ثانيا: دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته، إذ ضمنها في أماكن متعددة من هذه السيرة «187» ، وهذا ما أشارت إليه مقالته في مقدمته التي افتتح بها كتابه والتي مفادها: " فأحببت أن أجمع كتابا اشير فيه إلى مرتبته وأشرح حاله من بدايته إلى نهايته
…
" «188» .
ثالثا: خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والميزات التي فضل الله تعالى بها نبيه على سائر الخلق أجمعين وما أوجبه الله تعالى على أمته في طاعته وتقديم محبته على النفس «189» .
هذه هي الأمور التي أدخلها ابن الجوزي على كتابه هذا والتي تضمنت جمعا لجوانب شتى من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أفردها العلماء قبله بالتأليف في مصنفات عديدة منذ القرون الأولى حتى عصره «190» ، أما التجديد في عمل ابن الجوزي هذا فهو قيامه بجمع هذه الجوانب في إطار واحد وإدخالها في قالب تنظيمي دقيق جعلها متصلة الحلقات ومترابطة مع الحوادث التي عاصرتها، مع الإشارة ضمنا
(186) ينظر، الوفا بأحوال المصطفى، ص 415- 645.
(187)
ينظر، المصدر نفسه، ص 265، 352.
(188)
الوفا بأحوال المصطفى، ص 2.
(189)
ينظر، المصدر نفسه، ص 255- 383.
(190)
ينظر، 171- 230 من هذه الدراسة.
إلى وجود عامل ساعد على جمع هذه الجوانب وذلك بكون ابن الجوزي قد وضع كتابه هذا على أساس الموضوع في عرضه لمضامين الكتاب، إذ كانت هذه المضامين غير خاضعة لمقياس القدم والتسلسل في عرض الحدث التأريخي، وهذا ما أشارت إليه مقدمة كتابه الذي عرض فيه أبوابه ومباحثه «191» .
لم تقتصر هذه السيرة التي كتبها ابن الجوزي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المنحى فقط بل صاحبته مناح أخرى كانت بمجملها نقلة نوعية تسجل لهذه السيرة، مع إسهام في تطور كتابتها، وهذه المناحي هي:
1.
حذف الأسانيد من الروايات سواء أكانت روايات شفوية أم اقتباسات من مصنفات مكتوبة حصل على إجازة لروايتها «192» .
علل ابن الجوزي منحاه هذا بالقول: " ولا أطرق الأحاديث خوفا على السامع من ملالته"«193» .
بين لنا هذا المنحى الذي أنتهجه ابن الجوزي في كتابه هذا الاسترسال في ذكر الروايات الغثة والسمينة منها، لأن إيراد هذه الروايات محذوفة السند يبين لنا العفوية وعدم التدبر في إثباتها، حتى شكل ذلك أمرا أظهر فيه أن الإسناد قد بلغ في عصر ابن الجوزي من الوهن مداه، إذ اكتفى المصنفون بالاعتماد على النقولات من الكتب التي سبقتهم وترك الروايات المسندة بطريق شفاهي.
2.
اعتماده على المصنفات التي كتبها العلماء السابقون عليه والتي تعرضت للسيرة من قريب أو بعيد وإشارته إليها في مواضع كثيرة من كتابه «194» ، وهذا
(191) ينظر، الوفا، ص 2- 29.
(192)
ينظر، المصدر نفسه، ص 34، 39، 67، 74، 88، 91، 100، 110، 116.
(193)
المصدر نفسه، ص 1.
(194)
ينظر، المصدر نفسه، ص 38، 39، 72، 100، 104، 110، 142، 172، 191، 240، 281، 379، 382.
ما يدل على وصول هذه المصنفات إليه واعتماده عليها، فهو بذلك قد حفظ لنا قسما من مضامينها، مما ساعد الباحثين على إجلاء بعض الغموض الذي يصاحب أسماء بعض الكتب التي ذكرها ابن الجوزي والتي أخذتها عوادي الدهر ولم يبق من هذه المصنفات سوى أسمائها ونقول متفرقة في بطون بعض الكتب.
فضلا عن ذلك فقد أثبت ابن الجوزي بعض تعليقات شيوخه على قسم من الروايات التي أثبتها في كتابه هذا «195» .
ولأجل ذلك كانت هاتان الطريقتان في إثبات النصوص سمة اتصف بها هذا الكتاب مع العلم انها لم تكن وليدة أو انها بل كانت هنالك مصنفات سبقته اتصفت بهذه السمة «196» ، ولكن الميزة التي اتصف بها مصنف ابن الجوزي هذا تمثلت بأن هذا المنحى قد تبلورت جميع اتجاهاته في هذا الكتاب، إذ لم نجد فيه نصا مسندا أو مناقشة لرواية أو ترجيح واحدة على أخرى بل كان مجرد لم شتات من الروايات المبعثرة هنا وهناك في بطون الكتب وإخراجها في مصنف مستقل.
3.
إغفال الأشعار الواردة في حوادث السيرة، إذ كاد الكتاب يخلو تقريبا من الأبيات والقصائد الشعرية التي حفلت بها تلك الحوادث، إذ لم نجد في هذا
(195) ينظر، الوفا، ص 142، 268، 270، 320، 324، 350، 351، 358.
(196)
ينظر، اليعقوبي، أحمد بن واضح، (ت 292 هـ) ، التأريخ، مطبعة الغري، النجف، 1358 هـ، 2/ 4- 102، المسعودي، مروج الذهب، 2/ 272- 303.
الكتاب إلا مواضع قليلة جدا استشهد بها ابن الجوزي في ما قيل في تلك الحوادث من شعر «197» .
علل إغفال ابن الجوزي لهذه الأشعار برغبته في الاقتصار والاكتفاء بعرض جوانب الموضوع من دون إطالة لأن أشعار السيرة تأخذ حيزا كبيرا من الكتاب المراد تصنيفه فيها «198» .
4.
التناسق والترتيب في عرض الحوادث، والمنهجية الدقيقة في تقسيم الكتاب إلى أبواب كبيرة ثم إلى أصغر منها، بحيث أن كل رواية تذهب إلى الباب الذي يوافق مضامينها «199» ، فهو بذلك قد وضع أسسا منهجية لمباحث السيرة لم تكن بهذه الصورة والتقسيم في العرض والإيراد عند من سبقه، حتى انتهج بعض المصنفين المتأخرين في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خطته هذه في العرض «200» ، إذ أشار هذا المصنف إلى هذا الأمر بالقول: " فهذا كتاب
…
ذكرت فيه قطرات من بحار فضائل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مبدأ خلقه قبل خلق سيدنا آدم
…
وأعلام نبوته وشمائله وسيرته وأفعاله وأحواله وتقلباته إلى أن نقله الله تعالى إلى أعلى جنابه وما أعد له منها من الانعام والتعظيم
…
وأثبت ما فيه من الأبواب، وهي بنحو ألف باب والله الهادي للصواب" «201» ، فضلا
(197) ينظر، الوفا، ص 82- 84، 128- 129، 136، 152- 157، 244، 245.
(198)
عبد الواحد، مصطفى، مقدمة تحقيق كتاب الوفا، صفحة (ق) .
(199)
ينظر، الوفا، ص 2- 29.
(200)
ينظر، الصالحي، سبل الهدى والرشاد، ص 7- 85.
(201)
سبل الهدى والرشاد، 1/ 1- 6.
عن اعتماد الصالحي نفسه كتاب ابن الجوزي هذا وجعله في قائمة مصادره التي افتتح بها كتابه (سبل الهدى والرشاد)«202» .
5.
التناقض في عرض الروايات، إذ أشار في مقدمة هذا الكتاب الى أنه لا يخلط الصحيح بالكذب كما يفعل غيره من المصنفين لإكثار الروايات «203» ، ولكنه في كتابه هذا لم يلتزم بهذا العهد الذي قطعه على نفسه في كتابه هذا إذ نقل روايات موضوعة فيه أشار هو نفسه في أحد كتبه إلى وضعها «204» ، فمن هذه الروايات ما ذكره حول الطينة التي خلق الله منها نبيه «205» .
تنبه العديد من العلماء الذين ترجموا لابن الجوزي في مصنفاتهم إلى هذه الظاهرة في كتبه، إذ علق الذهبي عليه بالقول: " وكان كثير الغلط فيما يصنفه، فانه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبر
…
وله وهم كثير في تواليفه يدخل عليها الداخل من العجلة والتحويل إلى مصنف آخر، وأن جل علمه من كتب ما مارس فيها أرباب العلم كما ينبغي" «206» ، وأضاف ابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) بالقول: " مع هذا فللناس فيه رحمة الله عليه كلام لوجوه، منها كثرة أغلاطه في تصانيفه، وعذره في هذا واضح وهو انه كان مكثرا من التصانيف فيصنف الكتاب ولا يعتبره بل يشتغل بغيره" «207» .
(202) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 15.
(203)
ينظر، الوفا، ص 1.
(204)
ينظر المصدر نفسه، ص 34، 273، 402، 575- 577، 667، 807، الموضوعات، 1/ 302، 293، 292، 294، 281، 303.
(205)
ينظر، المصدر نفسه، ص 35، الموضوعات، 1/ 281.
(206)
تذكرة الحفاظ، 4/ 1347.
(207)
عبد الرحمن بن أحمد، ذيل طبقات الحنابلة، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، مصر، 1952، 1/ 416.
بهذا المنحى الذي سلكه ابن الجوزي في كتابه هذا أصبح لكتابة السيرة أسلوب يتميز باضفاء بعض الروايات الموضوعة في هيكلها.
6.
انطماس شخصية المؤلف في هذا الكتاب، وذلك لعدم وجود رأي مستقل له في الحوادث التي عرضها فيه، إذ لا توجد في هذا الكتاب سوى تعليقات بسيطة في أماكن قليلة منه لا تتعدى أصابع اليد الواحدة «208» .
وهذا الأمر مرجعه إلى أن ابن الجوزي كان في كتابه هذا ناقلا أكثر مما هو ناقد، وذلك لبروز الحافز الأخلاقي في هذا الكتاب على حساب الحافز العلمي المتمثل بمناقشة الروايات وغربلتها والترجيح في ما بينها، فضلا عن ذلك لم نجد فيه إحالة واحدة إلى أحد مصنفاته الأخرى التي استعرض فيها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «209» .
هذه هي المناحي التي أضفاها هذا المصنف على كتابة السيرة النبوية إذ شكلت إنعطافة مهمة فيها ومغايرة عن المصنفات التي سبقته.
(208) ينظر، الوفا، ص 73، 216، 269، 278، 339.
(209)
ينظر، المنتظم في أحوال الملوك والأمم، مجلد 1، ورقة 79- 156، مجلد 2، ورقة 1- 76، صفة الصفوة، 1/ 46- 233، تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، ص 4- 39، المدهش، 40- 43، الحدائق في علم الحديث والزهديات، 1/ 151- 325.