الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
أفرزت المباحث التي مرت بعد أن بينت ورصدت التطور الذي حصل في كتابة السيرة النبوية في العصر العباسي من حيث أساليب عرضها، والمناهج التي كتبت بها مصنفات السيرة وتوابعها، نتائج عدّة ظهرت بين ثنايا السطور، لتكوّن محصلة نخرج بها من هذه الدراسة، وهذه النتائج هي:
أولا: اشتراك لفظتي السيرة والمغازي بالمعنى والمدلول في استعمالات مؤرخي السيرة في بداية كتابتها والتصنيف فيها، ولكن هذا الاشتراك بدأت عراه بالانفصال تدريجيا بعد أن اتسعت مصنفات السيرة ومتعلقاتها وأخذت أبعادها الموضوعية بالاستقلال.
ثانيا: اتسمت الكتابات الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالطابع الشخصي في تدوينها، إذ كانت مجرد جهود فردية قام بها ثلة من الصحابة والتابعين وسجلوا بعض الحوادث التي تبين دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومكابداته في نشر الإسلام، فضلا عن تدوين الحوادث التي كان لهم ولأفراد قبيلتهم دور بارز فيها، تمثل بموقفهم في الدفاع عن الإسلام وعلاقتهم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان من بعض غايات هذه المدونات المفاخرة القبلية التي كانت سائدة بين القبائل العربية قبل الإسلام، مع وجود غايات أخرى تمثلت بكون بعض هذه المدونات عبارة عن جوابات لبعض الأسئلة التي كان الخلفاء والولاة
يطرحونها على المهتمين بأخبار السيرة وأحداثها حول بعض المواقف والتصرفات التي بدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو من المسلمين أثناء سير الدعوة، حتى كانت هذه المدونات، فضلا عما تناقلته الألسن من وصف لبعض الحوادث، هي المادة الأولى لكتابات الجيل الثاني من التابعين وتابعي التابعين الذين دونوا بعض أحداث السيرة بشمولية واتساع أكثر من سابقيهم ليكونوا بمجهودهم هذا الأساس الذي استندت إليه المصنفات الشاملة والمبوبة لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله.
ثالثا: وقفت الدولة الأموية متمثلة بخلفائها وولاتها، إلا الخليفة عمر بن عبد العزيز، موقفا مضادا من كتابة سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لشعور يختلج في نفوسهم أن كتابة السيرة النبوية بتفاصيلها معناها تشهير بمثالب آبائهم وأجدادهم ومواقفهم السلبية تجاه الإسلام والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من جراء ذلك تأخرت كتابة أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى بداية العصر العباسي أي بعد ما يقارب القرن ونصف القرن من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
رابعا: بالضد من الموقف الذي انتهجته الدولة الأموية في تحجيم تدوين أحداث السيرة، أتبعت الدولة العباسية متمثلة بخلفائها الأوائل سياسة مغايرة للسياسة الأموية، إذ سمحت بكتابة أول سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تقتصر على ذلك، بل دعمت وشجعت ذلك، وقربت المهتمين بأخبار السيرة وأغدقت الهبات عليهم، ولكن هذا الاهتمام والدعم لم يكن يجري دون تنازلات تذكر، بل صاحب ذلك شطب بعض الروايات وحذفها ولا سيما
تلك الروايات التي تتحدث عن مواقف العباس بن عبد المطلب وأحواله أثناء الدعوة الإسلامية، مع تفخيم دور البيت العباسي في انتشار الإسلام.
خامسا: كان للتجربة التي قام بها ابن إسحاق حين كتب أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم صدى واسع عند المسلمين، إذ حفزت هذه التجربة علماء المسلمين ومحدثيهم على إفراد مصنفات تتناول حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودوره في أحداث عصره خالية من الأقوال والأحكام التشريعية. فكان ذلك بداية لانفصال عرى الترابط بين سيرة الرسول وحياته الشخصية من جهة، وبين أقواله وأفعاله من جهة أخرى؛ مع العلم أن أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله عدّت أحكاما واجبة التنفيذ من قبل المسلمين، لأن السنة النبوية الشريفة المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن، فقام المحدثون بالاهتمام بهذه الأحكام وترك وصف الحوادث التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الأخبار ومن ثم المؤرخين، فنشأ عن هذا الأمر في بدايته مجموع من الإخباريين عرفوا بأصحاب المغازي والسير.
سادسا: تعددت مصنفات السيرة وتكاثرت على طول العصر العباسي بسبب تشعب الغايات والمقاصد التي من أجلها كتبت، والظروف التي أحاطت بكتابتها أيضا. إذ كانت هنالك غايات علمية تمثلت جيدا وبوضوح الأمر بجهود عبد الملك بن هشام المعافري في نقد بعض الأشعار التي حوتها سيرة ابن إسحاق، حين بين عبد الملك أن بعض هذه الأشعار نسبت إلى غير قائليها، فضلا عن ضعف وركاكة الأشعار الأخرى، ولكن هذه الغاية
العلمية التي دفعت بابن هشام إلى نقد الشعر الذي ورد في سيرة ابن إسحاق لم تسر على وتيرة واحدة، إذ تأثر ابن هشام بوجهات نظر عصره عن أحداث السيرة ومواقف المشاركين فيها من صحابة مسلمين فضلا عن المشركين وغيرهم، حيث وجدنا منه مجانبة للحقيقة حين غمط بعض الحقائق والروايات حقها حين وصفها بأنها مما يسوء ذكره، فضلا عن امتناع شيخه من إجازته بروايتها، ولمسنا غايات علمية من تصنيف أحمد بن فارس لمختصره في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي ضغط أخبارها في ورقات معدودة لم تتعد أصابع اليدين، ليسهل على الناس حفظها واستيعابها. هذا بالنسبة الى الغايات العلمية، أما بالنسبة الى الغايات الأخلاقية، فكانت هذه الغايات وراء الثراء بالتصنيف في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله وجوانبه الشخصية، الأمر الذي أدى إلى اختلاف المصنفات التي كتبت من اجل هذه الغاية من حيث طرحها للروايات وللأسلوب الذي انتهجته في كتابتها، حتى وجدنا نوعين من هذه المصنفات: الأول: اختصر فيه أصحابه الروايات التي تعنى بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله. أما النوع الثاني: فقد أسهب أصحابه في ذكر الأخبار والأحداث التي رويت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
سابعا: كان لتنوع وتشعب الصور التي كتب بها التأريخ عند المسلمين، أثر فعال في تضمين مصنفات التأريخ في صورها كافة، بسرد متباين لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها، يختلف بين مصنف وآخر بحسب حجم كل واحد منها، وبحسب نظرة المؤرخ للحيز الذي تستحقه السيرة في كل مصنف من هذه المصنفات التاريخية، الامر الذي أوجد خزينا معرفيا ثرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يضاف إلى بقية مصنفات السيرة ومتعلقاتها. وقد أضفت
هذه المصنفات التاريخية تنوّعا ملحوظا في كتابة السيرة، لا من حيث أساليب العرض فحسب، بل من حيث تنوع المناهج التي كتبت بها هذه المصنفات لاختلاف الأوقات التي ظهرت فيها.
ثامنا: إن لعظمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في نفوس المسلمين أثرا ملحوظا في كتابة مصنفات تتناول جوانب من سيرته تتميز بالاستقلالية والفرز عن باقي الجوانب الأخرى التي تضمنتها السيرة النبوية، إذ ظهرت لأجل ذلك مصنفات تخصصت بعرض شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه وصفاته وعلاقاته مع زوجاته وأهل بيته والمسلمين، كان الهدف منها تعريف المسلمين بطريقة عيشه، فضلا عن ذكر حوادث متفرقة من السيرة في مصنفات مستقلة مثل حادثة المولد، أو المغازي وغيرها، إذ كان للعصر الذي صنف فيه كل مصنف من هذه المصنفات التي كتبت من اجل هذه الغاية أثر واضح في كتابته وتداوله بين الناس.
تاسعا: أدت الأفكار الإلحادية المنكرة للنبوات إلى ظهور مصنفات أخذت على عاتقها مهمة جمع العلامات والدلائل التي ظهرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتي أكدت نبوته، فضلا عن ظهور نمط آخر من المصنفات التي صدرت عن المصنفات السابقة عليها والتي جمعت العلامات والدلائل. وقد تمثل هذا التصنيف بكتابة مصنفات تقوم على إثبات هذه العلامات والدلائل عقليا ونقليا، وإعطائها طابع أساليب المتكلمين ليسهم هذان الاتجاهان في ظهور مصنفات كانت من نتاجات كتب الحديث والكلام.
عاشرا: كانت المصنفات الأولى التي تحدثت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمختلف جوانبها ومتعلقاتها وأنماط كتابتها ولا سيما مصنفات القرون الأربعة الأولى أكثر عقلانية ورصانة من المصنفات التي تلتها والتي كانت جمعا محضا وتكرارا لروايات سابقة فضلا عن فسح هذه المصنفات المجال للروايات الضعيفة والواهية أن تدخل في هيكل السيرة، وهذا أوجد كما هائلا من الروايات التي لم تعرفها الأصول الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أحد عشر: تلاقح وانصهار أساليب مناهج المؤرخين والمحدثين فضلا عن المتكلمين والفلاسفة وأهل اللغة والتفسير في تشكيل المصنفات التاريخية التي وثقت حوادث السيرة النبوية بمختلف جوانبها حتى تنوعت هذه المصنفات واختلفت آليات عرض كل واحد منها بوجود وجهات نظر مختلفة كتبت بموجبها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد جوانبها.
هذه هي محصلة البحث الذي أثبتنا فيه أن كتابة السيرة النبوية قد مرت بمراحل تطورية، وتشكلت بقوالب مختلفة حاكت بها العصر الذي صنفت فيه، وبينت نفسية الكاتب الذي دونها، ووجهة نظره من أحداثها ومدى ارتباطها وأثرها في الأحداث التي سبقتها والتي تلتها.
وقبل أن أنهي خاتمة هذه الدراسة يجب علي التنويه ببعض الأمور أو التوصيات، أحسب أن الاخذ بها سوف يسهم في فسح مجال أكبر للتنوع في الدراسات عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجوانبها المختلفة، وهذه التوصيات هي:
1.
نشر وتحقيق التراث الفكري المخطوط للسيرة النبوية بمختلف جوانبه مع جعل الأولوية للمصنفات الأقدم أو التي تنشر جانبا جديدا، أو تسلط مزيدا من الضوء عن جانب من جوانب السيرة النبوية الشريفة.
2.
تجميع الاقتباسات والنقول المبثوثة في مختلف المصنفات عن السيرة النبوية لابن إسحاق وإضافتها للتهذيب الذي عمله ابن هشام لها ولا سيما الروايات التي لم يثبتها الأخير في تهذيبه، إذ وجدت أثناء إطلاعي على موارد العديد من مصنفي السيرة أنهم قد ضمنوا مصنفاتهم نصوصا عدة من سيرة ابن إسحاق، فضلا عن كون هذه السيرة هي أحد مصادرهم الرئيسة، ومن ثم نستطيع الحصول على مجموع مقارب للسيرة التي كتبها محمد بن إسحاق والتي ضاعت مع ما ضاع من تراثنا.
3.
تخصيص دراسات مستقلة وموسعة للمصنفات والمصنفين الذين كتبوا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجوانبه الشخصية، وذلك لتكمل هذه الدراسات ما شرعنا فيه بهذا البحث، إذ كان كتاب [دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة] لأبي بكر البيهقي في طليعة هذه المصنفات، لتشعب المنهج الذي كتب فيه مصنفه هذا، وتعدد الموارد الذي اعتمدها في إثبات رواياته. هذا واحد من الأمثلة بالنسبة إلى المصنفات؛ أما بالنسبة الى المصنفين فإن ابن الجوزي بتراثه الفكري الواسع الذي خلفه لنا والذي ضم في معظمه سيرة متكاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحتاج إلى دراسة موسعة تتناول هذه الكتب وتحصي إسهامات كل واحد منها وتباينه عن الاخر.
وفي ختام هذا البحث نرجو أننا قد وفقنا في هذا الموضوع، في جوانبه المتعددة، وأسال الله (جلّ وعلا) أن يتقبله مني بقبول حسن، وأن يكون خالصا لوجهه الكريم، فإنه نعم المولى ونعم النصير.