المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة طه سئل رحمه الله عن معنى هذه الآية: {قَالَ رَبِّ - تفسير آيات من القرآن الكريم (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الخامس)

[محمد بن عبد الوهاب]

الفصل: ‌ ‌سورة طه سئل رحمه الله عن معنى هذه الآية: {قَالَ رَبِّ

‌سورة طه

سئل رحمه الله عن معنى هذه الآية: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} 1 الآية. 2.

فأجاب: اعلم رحمك الله أن الله سبحانه عالم بكل شيء يعلم ما يقع على خلقه، وأنزل هذا الكتاب المبارك الذي جعله تبيانا لكل شيء، وتفصيلا لكل شيء، وجعله هدى لأهل القرن الثاني عشر، ومن بعدهم، كما جعله هدى لأهل القرن الأول ومن بعدهم.

ومن أعظم البيان الذي فيه بيان 3 جواب الحجج الصحيحة، والجواب عما يعارضها، وبيان الحجج 4 الفاسدة، ونفيها؛ فلا إله إلا الله، ماذا حُرمه المعرضون عن كتاب الله من الهدى والعلم! ولكن لا معطي لما منع الله.

1 سورة طه آية: 125.

2 قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} سورة طه الآيات: 124-127.

3 في س "بيان الحجج الصحيحة".

4 في س "وبيان بطلان الحجج الفاسدة".

ص: 263

وهذه التي سئلتُ عنها فيها بيان بطلان شبه يحتج بها بعض أهل النفاق والريب في زماننا; وهذا في قضيتنا هذه. وبيان ذلك أن هذه في آخر قصة آدم وإبليس، وفيها من العبر والفوائد العظيمة لذريتهما ما يجل عن الوصف. فمن ذلك أن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، ولو فعل لكان فيه طاعة لربه وشرف له; ولكن سوَّلت له نفسه أن ذلك نقص في حقه إذا خضع لواحد دونه في السن ودونه في الأصل على زعمه، فلم يطع الأمر واحتج على فعله بحجة; وهي أن الله خلقه من أَصْلٍ خير من أصل آدم، ولا ينبغي أن الشريف يخضع لمن دونه، بل العكس؛ فعارض النص الصريح بفعل الله الذي هو الخلق، فكان في 1 هذا عبرة عظيمة لمن رد شيئا من أمر الله ورسوله، واحتج بما لا يجدي. فلما فعل لم يعذره الله بهذا التأويل; بل طرده ورفع آدم وأسكنه الجنة. وكان مع عدو الله من الحذق والفطنة ودقة المعرفة ما يجل عن الوصف; فتحيّل على آدم حتى ترك شيئا من أمر الله، وذلك بالأكل من الشجرة، واحتج لآدم بحجج، فلما أكل لم يعذره الله بتلك الحجج، بل أهبطه إلى الأرض وأجلاه 2 عن وطنه.

ثم قال: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} 3 4 يقول تعالى: لّما أجليتكم عن وطنكم فإن بعد هذا الكلام وهو

1 في س " في هذه".

2 في س "وجلّاه".

3 سورة طه آية: 123.

4 قوله تعالى في نهاية قصة آدم: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) الآية: 123 وبعدها مباشرة (ومن أعرض عن ذكري

) .

ص: 264

أني مرسل 1 إليكم هدى من عندي، لا أكَلِكُمْ إلى رأيكم ولا رأي علمائكم، بل أنزل إليكم 2 العلم الواضح الذي يبين الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، والنافع من الضار، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 3:

ومعلوم أن الهدى هو هذا القرآن، فمن زعم أن القرآن لا يقدر على الهدى منه إلا من بلغ رتبة الاجتهاد، فقد كذب الله في خبره أنه هدى؛ فإنه على هذا القول الباطل لا يكون هدى إلا في حق الواحد من الآلاف المؤلفة، وأما أكثر الناس فليس هدى في حقهم، بل الهدى في حقهم أن كل فرقة تتبع ما وجدت عليه الآباء. فما أبطل هذا من قول! وكيف يصح لمن يدعي الإسلام أن يظن في الله وكتابه هذا الظن؟

ولما عرف الله سبحانه أن هذه الأمة سيجري عليها ما جرى على من قبلها من اختلاف على أكثر من سبعين فرقة، وأن الفرق كلها تترك هدى الله إلا فرقة واحدة، وأن الفرق 4 كلها يقرون بأن كتاب الله هو الحق، لكن يعتذرون بالعجز، وأنهم لو يتعلمون كتاب الله ويعملون به لم يفهموه لغموضه قال:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 5؛ وهذا تكذيب لهؤلاء الذين ظنوا في القرآن ظن السوء. قال ابن عباس: تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضلّ

1 في س "أرسل إليكم".

2 في س "بل أنزل عليكم".

3 سورة النساء آية: 165.

4 في س "وأن كل الفرق".

5 سورة طه آية: 123.

ص: 265

في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وبيان هذا أن هؤلاء يزعمون أنهم لو تركوا طريقة الآباء ويقتصرون على الوحي، لم يهتدوا بسبب أنهم لا يفهمون، كما قالوا:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} 1، فرد الله عليهم بقوله:{بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} 2؛ فضمن لمن اتبع القرآن أنه لا يضل كما يضل من اتبع الرأي; فتجدهم في المسألة الواحدة يحكون سبعة أقوال أو ستة ليس منها قول صحيح، والذي ذكر 3 الله في كتابه في تلك المسألة بعينها لا يعرفونه.

والحاصل أنهم يقولون: لم نترك القرآن إلا خوفا من الخطإ، ولم نُقْبِلْ على ما نحن فيه إلا للعصمة. فعكس الله كلامهم، وبين أن العصمة في اتباع القرآن إلى يوم القيامة.

وأما قوله تعالى: {وَلَا يَشْقَى} فهم يزعمون أن الله يرضى بفعلهم ويثيبهم عليه في الآخرة، ولو تركوه واتبعوا القرآن لغلطوا أو عوقبوا، فذكر الله أن من اتبع القرآن أمن من المحذور الذي هو الخطإ عن الطريق، وهو الضلال، وأمن من عاقبته وهو الشقاء في الآخرة.

ثم ذكر الفريق الآخر الذي أعرض عن القرآن فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 4 وذكْرُ الله هو القرآن الذي بيَّن الله فيه لخلقه ما يحب ويكره، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 5 6 الآيتين، فذكر الله لمن أعرض عن القرآن، وأراد الفقه من غيره عقوبتين:

1 قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) سورة البقرة الآية: 88.

2 سورة البقرة آية: 88.

3 في س "ذكره".

4 سورة طه آية: 124.

5 سورة الزخرف آية: 36.

6 قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) سورة الزخرف: 36-37.

ص: 266

إحداهما: المعيشة الضنك; وفسرها السلف بنوعين:

الأول: ضنك الدنيا: وهو أنه كان إنْ غنيا سلط الله عليه خوف الفقر، وتعب القلب والبدن في جمع الدنيا، حتى يأتيه الموت ولم يتهنّ بعيش.

والثاني: الضنك في البرزخ وعذاب 1 القبر.

وفُسّر الضنك في الدنيا أيضا بالجهل; فإن الشك والحيرة لها من القلق وضيق الصدر ما لها. فصار في هذا مصداق قوله في الحديث عن القرآن: "من ابتغى الهدى من غيره أضله الله" 2 3 عاقبهم بضدِّ قصدهم، فإنهم قصدوا معرفة الفقه فجازاهم الله بأن أضلّهم، وكدّر عليهم معيشتهم بعذاب قلوبهم بخوف الفقر وقلة غناء أنفسهم، وعذاب أبدانهم بأن سلط عليهم الظلمة والحيرة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء؛ فإن أعظم الناس تعاديا هؤلاء الذين ينتسبون إلى المعرفة.

ثم قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 4 والعمى نوعان:

1 في س "وهو عذاب القبر".

2 الترمذي: فضائل القرآن (2906)، والدارمي: فضائل القرآن (3331) .

3 روى الترمذي بسنده (في كتاب ثواب القرآن) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.. وذلك في حديث طويل، ثم علق عليه الترمذي بقوله:"هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث (راويه) مقال". سنن الترمذي (كتاب ثواب القرآن) .

4 سورة طه آية: 124.

ص: 267

عمى القلب، وعمى البصر. 1 فهذا المعرِض عن القرآن لما عميت بصيرته في الدنيا عن القرآن جازاه الله بأن حشره يوم القيامة أعمى. قال بعض السلف: أعمى عن الحجة، لا يقدر على المجادلة بالباطل، كما كان يصنع في الدنيا.

{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} 2 فذكر الله أنه يقال له: هذا 3 بسبب إعراضك عن القرآن في الدنيا، وطلبك العلم من غيره.

قال ابن كثير في الآية 4 {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} 5 أي: خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 6 أي في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح ولا تنعّم.

ظاهره أن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا فكانت معيشتهم ضنكا وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفا 7 لهم معاشهم مع سوء ظنهم بالله. ثم ذكر كلاما طويلا وذكر ما ذكرته من أنواع الضنك، والله أعلم.

1 في س "وعمى البصيرة". والظاهر أن عمى القلب هو عمى البصيرة.

2 سورة طه آية: 125.

3 في س "إن هذا".

4 راجع: تفسير ابن كثير جـ 3 ص 168 (طبعة المكتبة التجارية) .

5 سورة طه آية: 124.

6 سورة طه آية: 124.

7 في 516-86 "مخالفا".

ص: 268