الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الجن
روى 1 الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة 2 عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهناك حين رجعوا إلى قومهم فَقَالُوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} الآية. فأنزل 3 الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
1 سنستعين في الجزء الباقي من التفسير بالمخطوطة 673- 86 بمكتبة الرياض بدخنة، لأن المخطوطة 516- 86 غير كاملة في هذا الجزء الباقي، حيث سقط منها تفسير بعض السور مثل (سورة الجن) و (سورة المدثر) . أما المخطوطة 673-86 فتبدأ من سورة الجن إلى آخر التفسير.
وأما المخطوطة س فهي كاملة في التفسير كله.
2 موضع بالحجاز قريب من مكة فيه نخل وكروم: معجم البلدان.
3 راجع: صحيح البخاري (كتاب التفسير) باب (سورة قل أوحي) وصحيح مسلم أيضا في تفسيرها.
يعني أنهم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لهم هذا.
وقوله: {عَجَبًا} أي: بليغا في لفظه ومعناه. {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} بالفتح لأنه نائب 1 فاعل أوحي، وإِنَّا سَمِعْنَا بالكسر لأنه محكي بعد القول.
وقوله: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} أي إلى الصواب وقيل: إلى التوحيد. {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} 2 يقول: تعالى جل جلاله وعظمته وغناه عن اتخاذ الصاحبة والولد; وذلك أنهم لما سمعوا القرآن فهموا التوحيد وتنبهوا على الخطإ في علم تنزيه الله عما لا يليق به، فاستعظموا ذلك ونزهوه عنه.
وقوله: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} 3 سفيههم: إبليس، قاله مجاهد، وقيل هو أو غيره من مردة الجن، والشطط مجاوزة الحد في الظلم أو غيره.
وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 4 يعني أن في ظننا أن أحدا من الثقلين لن يفتري على الله ما ليس بحق، فلسنا نصدقهم فيما أضافوا إليه من ذلك فلما سمعنا القرآن تبين لنا افتراؤهم.
1 في س " لأنه فاعل ".
2 سورة الجن آية: 3.
3 سورة الجن آية: 4.
4 سورة الجن آية: 5.
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1 ومعنى هذا أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر وخاف قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه; يريد الجن وكبيرهم، فلما سمع ذلك الجن استكبروا وقالوا: سُدْنا الجن والإنس; فذلك الرهق، والرهق في كلام العرب غشيان المحارم. {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} 2 قيل: إنه مما حكى الله عن الجن أي: أن الإنس ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، وقيل من كلام الله.
والضمير في: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} للجن، والخطاب في {ظَنَنْتُمْ} للإنس.
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} 3 يؤخذ من قوله: {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} 4 أن الحادث الملأ والكثرة، وكذلك مَقَاعِدَ أي: كنا نجد بعض المقاعد خالية من الحرس، والآن ملئت المقاعد كلها. ومعنى هذا أنهم يذكرون سبب ضربهم في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلموا أن الله أراد بهم رشدا 5.
1 سورة الجن آية: 6.
2 سورة الجن آية: 7.
3 سورة الجن آية: 7-8.
4 سورة الجن آية: 8.
5 قوله تعالى: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) الآية: 10.
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} 1 يقولون: منا الصالحون، ومنا قوم دون ذلك، الآية، والقدة من قد، كالقطعة من قطع، وُصفت الطرائق بذلك لدلالتها على القطع والتفرق، قال الحسن: أمثالكم: فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة. قال ابن كيسان 2 لكل فرقة هوى كأهواء الناس.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} 3 الظن هنا بمعنى اليقين، وهذه صفة أحوال الجن وعقائدهم منهم أخيار وأشرار، وأنهم يعتقدون أن الله عزيز غالب، لا يفوته مطلب، ولا ينجي عنه مهرب.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} 4 يقولون: لما سمعنا القرآن آمنا به، وهذا يدل على أن
1 سورة الجن آية: 11.
2 يبدو أنه ابن كيسان أبو الحسن محمد بن أحمد عالم العربية البغدادي تلميذ المبرد وثعلب، وهو صاحب كتاب (معاني القرآن) وكتاب (غريب الحديث)(والمهذب في النحو) ت 299 هـ، راجع: شذرات الذهب ج 2 ص 232، وإن كان هناك أيضا صالح بن كيسان المدني مؤدب أبناء عمر بن عبد العزيز الذي كان من فقهاء المدينة الجامعيين بين الحديث والفقه، وهو أحد الثقات في رواية الحديث ت 140 هـ، راجع: تهذيب التهذيب ج 4 ص 399، لكن الأول هو الأظهر أنه هو المقصود; لأنه لغوي مفسر للقرآن صاحب كتاب فيه، والتفسير المنقول عنه هنا أقرب إلى التفسير اللغوي.
3 سورة الجن آية: 12.
4 سورة الجن آية: 13.
الإيمان بالله هو والإيمان بالقرآن متلازمان. والبخس أن يُبخس من حسناته، والرهق أن يُحمل عليه ذنب غيره.
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 1 القاسطون: الكافرون، يقال: قسط فهو قاسط إذا ظلم، وأقسط فهو مقسط إذا عدل; وروي أن الحجاج قال لسعيد 2 بن جبير: "ما تقول فيَّ؟ قال: قاسط عادل. فقال القوم: ما أحسن ما قال. قال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا; وتلا هذه الآية: وقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} 3 يقول: لو استقاموا على طريقة الإسلام لوسّعنا عليهم في الدنيا، وذكر الماء الغدق وهو الكثير لأنه سبب لسعة الرزق.
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} 4 أي لنختبرهم كيف شكرهم. قال الحسن: "والله إن كان أصحاب محمد لكذلك: كانوا سامعين لله، مطيعين لله، فلما فتحت كنوز كسرى وقيصر وثبوا على إمامهم وقتلوه". وأخرج ابن جرير عن عمر: "حيث كان الماء كان المال، وحيث ما كان المال كانت الفتنة".
وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} 5 "قال ابن عباس: شاقا، وأصله أن الصعود فيه مشقة على الإنسان".
1 سورة الجن آية: 14-15.
2 أعلم التابعين، أخذ العلم عن ابن عباس وابن عمر، قتله الحجاج بواسط عام 95 هـ.
3 سورة الجن آية: 16-17.
4 سورة طه آية: 131.
5 سورة الجن آية: 17.
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 قال قتادة: "كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد". وقيل 2 المساجد: أعضاء السجود السبعة.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} 3 معناه: لما قام عبد الله يعبده، كادوا يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا منه ما لم يروا مثله. وعبادة عبد الله ليس بأمر مستبعد عن العقل، ولا مستنكر حتى يكونوا عليه لبدا. وقيل: لما قام عبد الله وحده مخالفا للمشركين، كادوا لتظاهرهم على عدوانه يزدحمون عليه متراكمين.
وعن قتادة قال: "لما قام عبد الله للدعوة تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به ويطفئوا نور الله، إلا أن يتم هذا الأمر وينصره على من ناوأه":
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 4 أي قال للمتظاهرين عليه: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} 5 أي: ما أتيتكم بأمر منكر، ولا ما يوجب إطباقكم على عداوتي، إنما التعجب ممن يدعو غير الله، ويجعل له شريكا. {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَدا} 6 المعنى: لا أستطيع أن أضركم أو أن أنفعكم إنما الضار النافع الله عز وجل.
1 سورة الجن آية: 18.
2 هنا نقص في س.
3 سورة الجن آية: 19.
4 سورة الجن آية: 20.
5 سورة الجن آية: 20.
6 سورة الجن آية: 21.
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} 1 ومعنى الاستثناء قيل أنه من {لَا أَمْلِكُ} (أي: لا أملك إلا بلاغا 2 من الله){وَقُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي} : جملة معترضة لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه على معنى أن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما، لم يصح أن يجيره منه أحد، أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه. والملتحد الملتجأ وقيل:{بَلَاغًا} بدلا من {مُلْتَحَدًا} أي لن أجد من دونه مَنْجى إلا أن أبلغ ما أرسلني به.
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} 3 كان الكفار يستضعفونه ويستقلون أتباعه; وتغرُّهم قوتهم وكثرتهم، حتى إذا رأوا ما يوعدون علموا كيف الحال، فقال المشركون: متى 4 يكون هذا الموعود؟ إنكارا له، فقال: قل إنه كائن لا ريب فيه، وأما وقته فلا أدري متى يكون، لأن الله لم يبينه لما له فيه 5 من الحكمة. {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ
1 سورة الجن آية: 22.
2 قوله تعالى: (إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) الآية: 23.
3 سورة الجن آية: 24-25.
4 في س " متى هذا ".
5 قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) الآيتان: 26-27.
شَيْءٍ عَدَداً} 1 2.
أي: ليعلم الله أن الأنبياء بلَّغُوا الرسالات، كقوله:{حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} 3 4.
{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} 5 بما عند الرسل من الحكم والشرائع.
{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} 6 من القطر والرمل وورق الأشجار وغير ذلك فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه؟ والله أعلم.
وقال أيضا الشيخ محمد رحمه الله تعالى على قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 7 8: وبعد، فهذه عشر درجات:
الأولى: تصديق القلب أن دعوة غير الله باطلة، وقد خالف فيها من خالف.
الثانية: أنها منكرٌ يجب فيها البغض; وقد خالف فيها من خالف.
الثالثة: أنها من الكبائر والعظائم المستحقة للمقت والمفارقة، وقد خالف فيها من خالف.
الرابعة: أن هذا هو الشرك بالله الذي لا يغفره، وقد خالف فيها من خالف.
الخامسة: أن المسلم إذا اعتقده أو دان به كفر. وقد خالف فيها من خالف.
1 سورة الجن آية: 28.
2 الآية 28 وهي الآية الأخيرة في سورة الجن.
3 سورة محمد آية: 31.
4 سورة محمد الآية: 31 ونصها (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) .
5 سورة الجن آية: 28.
6 سورة الجن آية: 28.
7 سورة الجن آية: 18.
(8" الآية: 18 من سورة الجن، وقد سبق كلام في تفسيرها، وهذا إضافة إليه.
السادسة: أن المسلم الصادق إذا تكلم به هازلا أو خائفا أو طامعا كفر بذلك، وأنى ينزل القلب هذه الدرجات ويصدقه بها.
السابعة: أنك تعمل معه عملك مع الكفار، من عداوة الأب والابن وغير ذلك.
الثامنة: أن هذا معنى "لا إله إلا الله"، والإله المألوه، والإلهية عمل من الأعمال، وكونه منفيا عن غير الله ترك من التروك.
التاسعة: القتال على ذلك حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
العاشرة: أن الفاعل للدعوة لغير الله لا تقبل منه الجزية كما تقبل من اليهود، ولا تنكح نساؤهم كما تنكح نساء اليهود، لأنه أغلظ من اليهود كفرا.
وكل درجة من هذه الدرجات إذا نزلتها تخلَّف عنك بعض من كان معك، والله أعلم.