المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة البقرة وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: قوله - تفسير آيات من القرآن الكريم (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الخامس)

[محمد بن عبد الوهاب]

الفصل: ‌ ‌سورة البقرة وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: قوله

‌سورة البقرة

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:

قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 1 إلى قوله - {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2 فيه مسائل:

الأولى: كون أناس من أهل الكتاب إذا وقعت المسألة وأرادوا إقامة الدليل عليها تركوا كتاب الله كأنهم لا يعلمون، واحتجوا بما في الكتب الباطلة.

الثانية: أن من العجب احتجاجهم بذلك على رسول من الرسل.

الثالثة: أن الكلام يدل على أنهم يعلمون لقوله: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3.

1 سورة البقرة آية: 102.

2قال تعالى: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) سورة البقرة آية: 102.

3 سورة البقرة آية: 101.

ص: 21

الرابعة: أن المسائل الباطلة قد تنسب إلى الأنبياء كذبا عليهم.

الخامسة: أن الكتب الباطلة قد تضاف إلى بعض الصديقين.

السادسة: أن ذلك مما تتلو الشياطين على زمان الأنبياء، كما وقع أشياء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

السابعة: أن الشياطين مزجت به الحق في زمن سليمان.

الثامنة: بيان ضلال من ضل ممن يدعي العلم في شأن سليمان ممن نسب ذلك إليه واستحسنه، أو قدح في سليمان، كما ضل أناس كثير في علي لما قتل عثمان.

التاسعة: أن من فعل السحر كفر، ولو عرف أنه باطل.

العاشرة: أن الشياطين يعلمونه الناس.

الحادية عشرة: أن العبد لو بلغ ما بلغ في العلم فلا يأمن مكر الله.

الثانية عشرة: لا ينبغي له التعرض للفتن وثوقا بنفسه، بل يسأل الله العافية.

الثالثة عشرة: سعة علم الله ومغفرته ورحمته.

الرابعة عشرة: يجعل بعض نظره إلى القضاء والقدر.

الخامسة عشرة: أن النساء من أكبر الفتن.

السادسة عشرة: أن طاعة الهوى جماع الشر كما أن مخالفته جماع الخير.

السابعة عشرة: أن الشرك الأكبر مما يخطر بالبال.

ص: 22

الثامنة عشرة: أن التلفظ بالشرك بكلمة واحدة لا يشترط في كفر من تكلم بها عقيدة القلب، ولا عدم الكراهة للشرك.

التاسعة عشرة: أن المتكلم لا يعذر، ولو أراد أن يقضي به غرضا مهما.

العشرون: أن قتل النفس أعظم من الزنى.

الحادية والعشرون: أن المعاصي بريد الكفر.

الثانية والعشرون: أن بعضها يجر إلى بعض.

الثالثة والعشرون: أن عقوبة المعصية قد تكون أكبر مما يظن العالم.

الرابعة والعشرون: أن قبول التوبة بلا عذاب لا يحصل لكل أحد، بل هو فضل من الله.

الخامسة والعشرون: أن من النعم تعذيب العبد بذنبه في الدنيا.

السادسة والعشرون: حسن الظن بالله.

السابعة والعشرون: القاعدة التي هي خاصية العقل، وهو ارتكاب أدنى الشرين لدفع أعلاهما، وتفويت أدنى الخيرين لتحصيل أعلاهما.

الثامنة والعشرون: أن السحر نوعان.

التاسعة والعشرون: أن له تأثيرا لقوله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 1.

الثلاثون: الإرشاد إلى التوكل بكونه لا يضر أحدا إلا بإذن الله.

الحادية والثلاثون: أن في من يدعي العلم من اختار كتب السحر على كتاب الله.

الثانية والثلاثون: أنهم يعارضون به كتاب الله.

1 سورة البقرة آية: 102.

ص: 23

الثالثة والثلاثون: أن اتباع كتاب غير كتاب الله ضلال.

الرابعة والثلاثون: لا تأمن الكتب ولا من ينتسب إلى العلم على دينك.

الخامسة والثلاثون: أن فساد العلماء يفسد الرعية.

السادسة والثلاثون: أن السحر وقع في زمن خلافة النبوة حتى أن عمر وغيره أمر بقتل الساحر ولم يستتبه كما استتاب المرتد.

السابعة والثلاثون: أن الحسد سبب لرد كتاب الله.

الثامنة والثلاثون: أن الحاسد قد يبغض الناصح ويسعى في قتله.

التاسعة والثلاثون: أن الحسد يحمله على رد حظه من الله في الدنيا والآخرة.

الأربعون: أنه من أخلاق اليهود.

الحادية والأربعون: أن المحسود يرفعه الله على الحاسد.

الثانية والأربعون: أن بالطاعة خير الدنيا والآخرة، وبالمعصية العكس.

الثالثة والأربعون: أن في من ينتسب إلى العلم من يختار الكفر على الإيمان مع علمه أن من اختاره لا حظ له في الآخرة.

الرابعة والأربعون: أن الإنسان يجتمع فيه الضدان يعلم ولا يعلم.

الخامسة والأربعون: بيان غبنهم والتسجيل على فرط جهلهم في هذا الشراء.

السادسة والأربعون: أن السبب في هذا الشرك اشتراء شيء خسيس تافه من الدنيا.

ص: 24

السابعة والأربعون: أنهم لمحبتهم ما هم عليه من الجاهلية وغرامهم به نبذوا كتاب الله الذي عندهم وراء ظهورهم، كأنهم لا يعرفونه.

الثامنة والأربعون: أن الذي حملهم على هذه العظائم أنه أتاهم أمر من الله موافق لدينهم لكن مخالف لعادتهم الجاهلية.

التاسعة والأربعون: الفرق بين المعجزات والكرامات، وبين ما يفعله الشياطين تشبها بذلك وتشبيها.

الخمسون: التنبيه على قول الصحابي: "أويأتي الخير بالشر؟ " 1 وجوابه صلى الله عليه وسلم.

الحادية والخمسون: أنه لا ينبغي للإنسان أن ينكر ما لم يحط به علمه، فقد ضل بالتكذيب بهذه القصة فئام 2 من الناس لظنهم أنها تخالف ما علموه من الحق; وتكلم بسببها ناس في نبي الله سليمان بن داود عليه السلام.

1 الحديث رواه البخاري (في الجهاد والزكاة والرقاق) ، ورواه مسلم في كتاب الزكاة، والنسائي في كتاب الزكاة، وابن ماجة في الفتن، وأحمد في مسنده جـ 3 ص 7، 21 وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم (إن الخير لا يأتي إلا بالخير ولكن الدنيا خضرة حلوة..)

2 الفئام: الجماعة من الناس. ولا واحد له من لفظه. راجع مثلا: لسان العرب.

ص: 25

وقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 فيه مسائل:

الأولى: كون أناس ينتسبون إلى العلم والدين يجري منهم هذا عمدا جراءة على الله. وما أكثر من ينكر هذا!

الثانية: التنبيه على كثرة هذا الصنف.

الثالثة: كون المنتسب إلى العلم يقتضي إضلال غيره إذا عجز عنه.

الرابعة: أن سبب هذا الأمر الغريب هو الحسد، لا خوف مضرة، ولا طلب مصلحة.

الخامسة: أن المنتسب إلى العقل والعلم قد يسعى فيما يعلم أنه مصلحة لدنياه ليزيله، وفيما يعلم أنه مضرة لدنياه ليأتي به، فإنهم يعلمون أن زوال المفاسد وحصول المصالح في هذا الدين، وكانوا يستفتحون به قبل مجيئه على من ظلمهم، فلما جاءهم حملهم الحسد على ما ذكر.

السادسة: أن الحسد قد يكون سببا للكفر كما وقع لهؤلاء ولإبليس.

السابعة: ذكر العفو الذي هو من أسباب العز وقهر الخصم، كما ورد في الحديث.

1 سورة البقرة آية: 109- 110.

ص: 26

الثامنة: الرفق في الأمر وفعله بالتدريج كما فعل عمر بن عبد العزيز.

التاسعة: أنه سبحانه يمهل ولا يهمل.

العاشرة: الإشعار بالنسخ قبل وقوعه.

الحادية عشرة: تسلية المظلوم المحسود.

الثانية عشرة: التنبيه على العلة.

الثالثة عشرة: أن الظالم الحاسد يذله الله كما جرى الهؤلاء إلى يوم القيامة. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1 فيه:

الرابعة عشرة: وهي الاستدلال بالصفات على الأفعال.

الخامسة عشرة: وهي الاستدلال بالقدرة على ما لا يظن وقوعه.

السادسة عشرة: وهي الاستدلال بها على جعل العفو سببا لعز العافي وذلة المعفو عنه، عكس ما يظن الأكثر. وأما الاستدلال بها على ما كذب به الجهال استبعادا مثل عذاب القبر وغيره، أو مثل الصراط والميزان وغيرهما، أو ما يجري في الدنيا من تبديل الأحوال من الغنى إلى الفقر وضده، ومن الذل إلى العز وضده، فأكثر من أن يحصر.

ولكن من أحسن ما فيها المسألة السابعة عشرة: وهي: تنبيه أعلم الناس على أشكل المسائل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2 والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا; كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.

1 سورة البقرة آية: 20.

2 سورة البقرة آية: 20.

ص: 27

وقال: ذكر بعض ما في قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} 1 إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} 2 من بيان الحق وإبطال الباطل.

الأولى: إذا كانت المحاجة في الله سبحانه من أقرب ما يكون إليه من المختلفين في مسألة التوحيد، وبيان ذلك بمعرفة الله تعالى فيما اجتمعنا وإياكم عليه، ومعرفة حالنا وحالكم في المسألة، وذلك أنا مجمعون على استوائنا وإياكم في العبودية، بخلاف ملوك الدنيا، فإن بعض الناس يكون أقرب إليهم من بعض بالقرابة وغيرها، ونحن مجمعون أيضا أنه لا يظلم أحدا من عبيده بل كل نفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 3 بخلاف ملوك الدنيا فإنهم يأخذون مال هذا ويعطونه هذا; فإذا كان الأمر كذلك فكيف تدعون أنكم أولى بالله منا، ونحن له مخلصون وأنتم به مشركون؟ وكيف يظن به أنه يساوي بين من قصده وحده لا شريك له، ومن قصد غيره وأعرض عنه؟ وهل يظن عاقل أو سفيه برجل من بني آدم خصوصا إذا كان كريما، أن من قصده وضاف عنده يكرهه ولا يضيفه، ويخص

1 سورة البقرة آية: 139.

2 قال تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) .

3 سورة البقرة آية: 286.

ص: 28

بالرضى والكرامة والضيافة من أعرض عنه وأضاف عند غيره، مع استواء الجميع في القرب منه والبعد; هذا لا يظن في الآدمي فكيف يظن برب العالمين، فتبين بقضية العقل أن ما جاءت به الرسل من الإخلاص هو الموافق للعقل، وما فعل المشركون هو العجاب المخالف للعقل، فيا لها من حجة ما أعظمها وأبينها، لكن لمن فهمها كما ينبغي.

ص: 29

وقال الشيخ رحمه الله: ذكر بعض ما في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} 1 إلى الجزء، ففي الآية الأولى مسائل:

الأولى: معرفة أنه تعالى حكيم لا يضع الأشياء إلا في مواضعها، لأنه ما جعله إماما إلا بعد ما أتم ما ابتلاه به. وسئل بعضهم: أيما الابتلاء أو التمكين؟ فقال: الابتلاء ثم التمكين.

الثانية: إذا كان يبتلي الأنبياء هل يفعلونه أم لا؟ فكيف بغيرهم؟

الثالثة: الثناء على إبراهيم بأنه أتم الكلمات التي ابتلاه بها، وقيل: إن الله لم يبتل أحدا بهذا الدين فأتمه إلا إبراهيم، ولهذا قال:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} 2.

الرابعة: أنه سبحانه جازاه على ذلك بأمور، منها: أنه جعله للناس إماما; ولما علم عليه السلام كبر هذه العطية سألها للذرية، وهي الخامسة.

السادسة: أن الله أجابه أن هذه المرتبة لا ينالها ظالم ولو من ذرية الأنبياء.

السابعة: أن هذا يدل على أن الإمامة في الدين تحصل لغير الظالم، فليست بمختصة.

الثامنة: معرفة قدر هذه المرتبة التي أكرم بها، وهي الإمامة في الدين.

وأما الآية الثانية 3 ففيها مسائل:

1قال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) .

2 سورة النجم آية: 37.

3قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) سورة البقرة آية: 125سورة البقرة آية: 125.

ص: 30

الأولى: كونه سبحانه جعل البيت الذي بناه إبراهيم مثابة مع المشاق العظيمة، وذلك من الآيات.

الثانية: أنه جعله أمنا عند الكفار، وذلك من أعجب الآيات.

الثالثة: أمره أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، وهذا من الخصائص، فيتفطن المؤمن لشبهة المبتدعة، لأنه لا يجوز أن يتخذ من مقام غيره مصلى.

الرابعة: أن فيها الرد على أهل الكتاب الذين لا يعظمونه، مع ما فيه من الآيات، ومع ما عندهم من العلم بذلك.

قال: وأما الآية الثالثة 1 ففيها مسائل:

الأولى: ذكره أنه عهد إلى إبراهيم وإسماعيل أن يطهراه لهذه الطائفة، ولذلك أنزل الله:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 2.

الثانية: أن فيها الرد على أهل الكتاب والمشركين.

الثالثة: العجب العجاب معاكستهم هذا الأمر، فلا يردون عنه إلا الطائفة المأمور بتطهيره لهم.

الرابعة: أنه نعتهم بالطواف والركوع والسجود والعكوف، فدل على أن نفس العكوف فيه عبادة.

الخامسة: أن التقدم عند الله بالأعمال الصالحة لا بالنسب، فأمره بتطهيره لهم وإن لم يكونوا من ذريته، وأمره بطرد ذريته عنه إذا لم يكونوا كذلك.

وأما الآية الرابعة 3 ففيها مسائل:

ص: 31

الأولى: دعوة إبراهيم أن يجعله آمنا، ولا يناقض تحريمه يوم خلق الله السموات والأرض.

الثانية: دعوة إبراهيم للبلد وأهله بالأمن والرزق.

الثالثة: الآية العظيمة في إجابة هذه الدعوة.

الرابعة: تخصيصه بها من آمن بالله واليوم الآخر.

الخامسة: قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} فلما دعا بأمر الدين منع الله الظالم من ذريته، ولما خص بالأمر الآخر من آمن قال الله:{وَمَنْ كَفَرَ} ، وذلك للفرق بين الدارين.

السادسة: أنه لما أخبر أن ذلك للمؤمن وغيره، فقد يتوهم منه كرامة الجميع، فأخبر أنه لو علم العاصي فيه بالأمن والرزق فإنه يضطره إلى عذاب النار.

السابعة: أن المجاورة عنده كما أنها تنفع المطيع فهي تضر العاصي لقوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} 1، ولذلك انتقل ابن عباس منها إلى الطائف.

وأما الآية الخامسة 2 ففيها مسائل:

الأولى: التصريح بأن الاثنين بنياه.

الثانية: جلال الله وعظمته في قلوب الذين يعرفونه لدعوتهما بالقبول، وكان بعض السلف لما قرأها جعل يبكي ويقول:"ما بال خليل الله يرفع قواعد بيت الله ويخاف أن لا يقبله".

الثالثة: توسلهما بالصفات.

ص: 32

الرابعة: طلبهما أن يرزقهما الله الإسلام وهما هما، والغفلة عن هذه الكلمة من العجائب.

الخامسة: إشراكهما في الدعوة بعض الذرية، ففيها رغوب المؤمن وحرصه على صلاح ذريته.

السادسة: طلبهما ان يعلمهما المناسك، ففيهما حرصهما على العمل بالنص مع عصمتهما.

السابعة: طلبهما أن يتوب عليهما وهما هما; ففيهما خوفهما من الذنوب.

الثامنة: التوسل بالصفات.

التاسعة: التعليل بكونه (التواب الرحيم) ولولا ذلك لاستحقا العقوبة.

العاشرة: الرد على المشركين وأهل الكتاب.

الحادية عشرة: أن دعوتهما بهذه النعمة التي هي أعظم النعم للذرية جعلها الذريه من أعظم المصائب.

وأما الآية السادسة 1 ففيها مسائل:

الأولى: دعوتهما للذرية ببعثة الرسول، فكانت عندهم أعظم البلاء مع دعواهم أنهم على ملتهما.

1قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سورة البقرة آية: 129.

ص: 33

الثانية: أنهما أرادا بذلك أن يعلمهم الكتاب والحكمة ويتلو عليهم الآيات ويزكيهم; قيل: إن استماع التلاوة والتزكي بها فرض عين; وأما علم الكتاب والحكمة ففرض كفاية.

الثالثة: أن نسبة الزكاة إلى السبب لا بأس بها، مع أن المزكي في الحقيقة هو الله وحده.

الرابعة: التوسل بالصفات.

وأما الآية السابعة 1 فهي من جوامع الكلم وأظهر البراهين فنذكر شيئا من ذلك:

الأولى: أنه بين أن ملة إبراهيم هي الإسلام; ومنه تعظيم البيت وحجه، ومع إقرار علماء أهل الكتاب لذلك يرغبون عنه; وهذه مسألة مهمة يدل عليه قوله:"ومن رغب عن سنتي فليس مني 2") .

الثانية: أن أكثر الناس رغبوا عن اسم الإسلام، وعندهم لا فضيلة فيه، ولا بد عندهم من نسبة دين خاصة.

الثالثة: أعجب من ذلك أنهم لا يعرفون معنى الإسلام (وعندهم لا فضيلة فيه) 3 بل هذا عندهم صورة لا معنى لها.

1قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) سورة البقرة آية: 130.

2 صحيح البخاري، كتاب النكاح، ورواه أيضا مسلم وأبو داود والدارمي وأحمد.

3 زيادة من المخطوطة 516-86.

ص: 34

الرابعة: أعجب من الجميع أنهم إذا بين لهم معناه اشتد إنكارهم لذلك مع قراءة هذه الآية وأمثالها.

الخامسة: التي سيق الكلام لأجلها، أنك إذا عرفت ملته فالواجب الاتباع، لا مجرد الإقرار مع المرغوب عنها.

السادسة: أن من فعل ذلك 1 لم يضر إلا نفسه.

السابعة: أن ذلك في غاية الجهل والسفه الواضح مع ادعائهم الكمال في العلم.

الثامنة: كيف يطلب أفضل من طريقه، والله سبحانه هو الذي اصطفاه، ووعده في الآخرة ما وعده بسبب طريقه.

وأما الآية الثامنة 2 ففيها مسائل.

الأولى: أن مسألة الإسلام الذي هو سبب الكلام والخصومة أن الله سبحانه هو الذي أمره بذلك.

الثانية: أنه استجاب لله فيما أمره فقال: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3.

الثالثة: وصفه ربه سبحانه بما يوضح المسألة، وهو الربوبية للعالم كله. فانظر رحمك الله تعالى إلى هذا التقرير والثناء والتوضيح للإسلام، مع حقارته وإنكاره عند من يقرأ هذه الآيات وما بعدها.

1 في س (لا يضر) .

2قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة البقرة آية: 131.

3 سورة البقرة آية: 131.

ص: 35

وأما الآية التاسعة 1 ففيها العجب العجاب.

الأولى: أن الله سبحانه ذكر أن إبراهيم وصى بالإسلام ابنيه وهما هما.

الثانية: أن يعقوب وصى بها بنية وهم هم.

الثالثة: تحريضه الذرية على ذلك بأن الله الذي اختاره لهم، فلا ترغبوا عن اختيار الله.

الرابعة: أن مع هذا التقرير الواضح عند من يدعي كمال العلم، ويدعي اتباع الملة أحقر الطرائق ولا مدح فيه، ولا يصير من المسكوت عنه إلا من رغب عنه إلى اسم غيره، وإلا من اقتصر عليه اتخذوه هزوا، فاعتقدوا غاية جهله، بل أفتوا بكفره وقتله.

الخامسة: قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 فحرضهم على لزوم ذلك إلى الممات، وعدم الزيادة عليه لما في طبع الإنسان من طلب الزيادة خصوصا مع طول الأمل.

وأما الآية 3 العاشرة ففيها مسائل:

الأولى: وصية يعقوب عند الموت ولم يكتف بما تقدم.

الثانية: لبنيه وهم هم.

1 سورة البقرة آية: 132.

2قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة البقرة آية: 132.

3قوله تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) سورة البقرة آية: 133.

ص: 36

الثالثة: أنه لشدة التحريض وكبر الأمر عنده أخرجه مخرج السؤال.

الرابعة: أنه قال: {مِنْ بَعْدِي} لأن الغالب أن الأتباع بعد موت كبيرهم ينقصون.

الخامسة: جوابهم {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} الآية لأن في هذا معنى الحجة، وظهور الأمر أن من اتبع الصالحين يسلك طريقهم، وأما كونه يترك طريقهم بزعمه أنه اتباع لهم فهذا خلاف العقل.

السادسة: قولهم: {إِلَهاً وَاحِداً} يعنون للخلائق كلهم، لكن متبع مهتد وضال.

السابعة: إخبارهم له بلزومهم الإسلام بعد موته.

الثامنة: ذكرهم له أن ذلك الإسلام لله وحده لا شريك له; ليس لك ولا لآبائك منه شيء.

التاسعة: أن العم أب لأن إسماعيل عمه لكن مع التغليب.

العاشرة: أن ذلك من أوضح الحجج على ذريتهم مع إقرارهم بذلك، ومع هذا يزعمون أنهم على ملتهم مع تركها وشدة العداوة لمن اتبعها.

الحادية عشرة: أن فيها ردا عليهم في المسألة الخاصة; وهي اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا.

وأما الآية الحادية عشرة 1 ففيها مسائل:

1قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة البقرة آية: 134.

ص: 37

الأولى: المسألة التي ضل بها كثير، وهي ظنهم أن صلاح آبائهم ينفعهم.

الثانية: البيان أن الذي ينفع الإنسان عمله.

الثالثة: أن الذي يضره عمله، ولا يضره معصية أبيه وابنه.

وأما الآية الثانية عشرة 1 ففيها مسائل وهي من جوامع الكلم أيضا:

الأولى: أن من دعا إلى أي ملة كانت وهي من الملل الممدوحة السالم أهلها قيل له: بل ملة إبراهيم لأنها إن كانت باطلة فواضح; وإن كانت صحيحة فملة إبراهيم أفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أحب الأديان إلى الله الحنيفيةالسمحة 2") .

الثانية: وهي مما ينبغي التفطن لها أنه سبحانه وصفها بأن إبراهيم حنيفا بريئا 3 من المشركين، وذلك لأن كلا يدعيها فمن صدق قوله بالفعل وإلا فهو كاذب.

الثالثة: أن الحنيف معناه المائل عن كل دين سوى دين الإسلام لله.

الرابعة: أن من الناس من يدعي أنه لا يشرك وأنه مخلص، ولكن لا يتبرأ من المشركين، وملة إبراهيم الجمع بين النوعين.

1قوله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سورة البقرة آية: 135.

2 صحيح البخاري (كتاب الإيمان) ، ورواه الترمذي وأحمد أيضا.

3 في س (بري) .

ص: 38

وأما الآية الثالثة عشرة 1 ففيها مسائل:

الأولى: أمر الله سبحانه أن نقول: ما ذكر في الآية، وليس هذا من إظهار العمل الذي إخفاؤه أفضل.

الثانية: الإيمان بجميع المنزَّل.

الثالثة: عدم التفريق بينهم.

الرابعة: التصريح بالإسلام.

الخامسة: التصريح بإخلاص ذلك لله، وليس هذا من الثناء على النفس، بل من بيان الدين الذي أنت عليه، ولهذا قال بعض 2 السلف: ينبغي لكل أحد أن يعلم هذه الآية أهل بيته وخدمه.

وأما الآية الرابعة عشرة 3 ففيها مسائل:

الأولى: قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} 4 فيها التصريح أن الإيمان هو العمل.

1قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) سورة البقرة آية: 136.

2 في س (قال ابن عباس) .

3قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة البقرة آية: 137.

4 سورة البقرة آية: 137.

ص: 39

الثانية: أن هذا الكلام في غاية 1 إنصاف الخصم.

الثالثة: أن الذي لا ينقاد له ليس داؤه جهالة بل مشاقة.

الرابعة: أنك إذا أنصفته وأصر فهو سبب لانتقام الله منه.

الخامسة: الاستدلال بالصفات.

وأما الآية الخامسة عشرة 2 ففيها مسائل.

الأولى: قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي دين الله، فدل على أن ذلك هو العمل.

الثانية: الدلالة الواضحة، وهو أنه لا أحسن من الدين الذي تولى الله بيانه والأمر به.

الثالثة: أنكم أيها الخصوم إن افتخرتم بإسلامكم للأنبياء والصالحين، فإسلامنا لله وحده؛ ومعنى ذلك لزوم هذا الدين الذي تولى الله بيانه.

وأما الآية السادسة عشرة 3 ففيها مسائل:

الأولى: أمر الله لنا أن نحاجهم بهذه الحجة القاطعة: فإذا كان الله رب الجميع، وأيضا أنه بإقراركم (أنه) 4 عدل لا يظلم بل كل عامل

1 زيادة من المخطوطة 516-86.

2قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) سورة البقرة آية: 138.

3قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) سورة البقرة آية: 139.

4 زيادة من المخطوطة 516-86.

ص: 40

فعمله له، وافترقنا في كوننا قاصدينه مخلصين له الدين وأنتم قصدتم غيره; فكيف يساوي بيننا وبينكم أو يخص بكرامته من أعرض عنه دون من قصده؟ هذا لا يدخل عقل عاقل.

الثانية: أن الخصوم محاجتهم في الله لا في غيره مع فعلهم هذا في هذه الخصومة.

وأما الآية السابعة عشرة 1 ففيها مسائل:

الأولى: إن كانت الخصومة في الصالحين ودعواهم أنهم على طريقهم، فهم لا يقدرون أن يدعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على طريقتهم; بل يصرحون أنهم على غيرها ولكن يعتذرون أنهم لا يقدرون عليها، فكيف هذا التناقض؟ يدعون أنهم تابعوهم مع تحريمهم اتباعهم، وزعمهم أن أحدا لا يقدر عليها!.

الثانية: قوله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} فهذه لا يقدر أحد أن يعارضها، فإذا سلمها وسلم لك أن العلم الذي أنزله الله ليس هو لعدم القدرة فهذا الذي عليه غيره، وهذا إلزام لا محيد عنه.

الثالثة: أن منهم من يعرف الحق ويكتمه خوفا من الناس مع كونه لا ينكره، فلا أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، فكيف بمن جمع مع الكتمان دفعها وسبها وتكفير من آمن بها؟

1قوله تعالى: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) سورة البقرة آية: 140.

ص: 41

الرابعة: الوعيد بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1. والله أعلم.

وقال أيضا رحمه الله تعالى:

وأما قوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ} 2 الآية، فهذه حجة أخرى، وبيانها أنا إذا أجمعنا على الإمام والأئمة أنهم ومن اتبعهم على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فهذه أيضا مثل التي قبلها. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة بعدهم قد أجمعنا أنهم ومن اتبعهم على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فنقول: هذه المسألة التي اختلفنا وإياكم فيها هل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قولنا أو على قولكم؟ فإذا أقروا أن دعاء أهل القبور والبناء عليها وجعل الأوقاف والسدنة عليها من دين الجاهلية، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كله، وهدم البناء الذي جعلته الجاهلية على القبور، ونهى عن دعاء الصالحين وعن التعلق عليهم، وأمر بإخلاص الدعوة لله، وأمر بإخلاص الاستعانة لله; وبلغنا عن الله أنه يقول:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3.

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وأتباعهم، والأئمة وأصحابهم على ذلك; ولم يحدث هذا إلا بعد ذلك، أعني دعاء غير الله والبناء على القبور، وما يتبع ذلك من المنكرات; فكيف تقرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 سورة البقرة آية: 74.

2 سورة البقرة آية: 140.

3سور الجن: الآية 18، ونصها (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) .

ص: 42

وأصحابه والأئمة من بعدهم على ما نحن عليه، ثم تنكرونه أعظم من إنكار دين اليهود والنصارى مع إقراركم أنه الدين الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة؟ أم كيف تنصرون الشرك وما يتبعه، وتبذلون في نصره النفس والمال مع إقراركم أنه دين الجاهلية المشركين؟ هذا هو الشيء العجاب، لا جعل الآلهة إلها واحدا، يا أعداء الله لو كنتم تعقلون!! وليس هذا في هذه المسألة وحدها بل كل مسألة اختلفنا وإياهم فيها، وأقروا أن ما نحن عليه هو الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه; فهذه الخصومة فيها واقعة فاصلة لها.

فإن أقروا بذلك، ولكن زعموا أن الناس أحدثوا أمورا تقتضي حسن ما هم عليه، كقولهم: هذه بدعة حسنة فيها من المصالح كذا وكذا; وفي تركها من المفاسد كذا وكذا، فيجاوبون بالمسألة الثالثة، وهي قوله:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 1. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقراركم أوصانا بقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة 2"، فقد أقررتم أنه أمر بلزوم ما أمرتم بتركه، وأنه نهى عما أمرتم بفعله; مع إقراركم أنه أوصى بهذه الوصية عند وقوع الاختلاف في أمته، مع إقراركم أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فالله سبحانه قد علم ما يحدث في خلقه إلى يوم القيامة، ومع هذا أمر بطاعة رسوله الذي أقررتم به وأنتم تشهدون أنه قاله.

فإذا بان لك أن الأولى، في الأمر بالإخلاص والنهي عن الشرك، وأن الثانية في الأمر بلزوم

1 سورة البقرة آية: 140.

2 رواه أبو داود في كتاب السنة، كما رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، ورواه الدارمي في مقدمة سننه.

ص: 43

السنة والنهي عن البدعة، بان لك أن هذا هو تقرير القاعدتين اللتين عليهما مدار الدين، وهما: لا يعبد إلا الله، والثانية: لا يعبد إلا بما شرع. فالأولى: قوله: "إنما الأعمال بالنيات 1"، والثانية قوله:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد 2 ". فإن كان المحاج لا يقر ببعض ذلك، بل أنكر شيئا من تفاصيل ما ذكرنا، فهي المسألة الرابعة وهو قوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} 3. فإن كان هذا في الكاتم مع المحبة وتمنى ظهوره، ولكن أحب الدنيا عليه، فكيف بالكاتم المبغض؟ فإن كان يدعي أنه لم يفعل ذلك وأنه تابع لهذا الحق لكنه يكتم إيمانه كمؤمن آل فرعون مع معرفتك أنه كاذب، فهي المسألة الخامسة، وهي أن تقول له: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 4. فإن أقر بهذا كله ولكنه استروح إلى أنه من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم جيرانه أو غير ذلك من الأسباب، مثل مدحه الإمام الذي ينتسب إليه، أو أصحابه فهي المسألة السادسة وهي قوله:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5.

1 رواه البخاري، كتاب الوحي، وكتاب العتق، ومناقب الأنصار، وكتاب الطلاق، كما رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

2 رواه البخاري، كتاب الاعتصام، وكتاب البيوع، وكتاب الصلح. كما رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد.

3 سورة البقرة آية: 140.

4 سورة البقرة آية: 74.

5 سورة البقرة آية: 134.

ص: 44