المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قصة آدم وإبليس - تفسير آيات من القرآن الكريم (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الخامس)

[محمد بن عبد الوهاب]

الفصل: ‌قصة آدم وإبليس

‌قصة آدم وإبليس

تكلم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ورضي عنه على قصة آدم وإبليس فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم. عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 1: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض: جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والحزن والخبيث والطيب"2. وقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} 3.

قال ابن عباس في رواية الوالبي: الصلصال: الطين اليابس، وفي رواية: الذي إذا نقر صوت. والحمأ: الطين الأسود المتغير اللون، والمسنون: المتغير الرائحة، يقال: سنى الماء فهو مسنون إذا تغير.

1 رواه أحمد في مسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقدأخرجه أيضا أبو داود (كتاب السنة) والترمذي (كتاب التفسير) ، كماأخرجه الحاكم والبيهقي.

2 الترمذي: تفسير القرآن (2955)، وأبو داود: السنة (4693) ، وأحمد (4/400 ،4/406) .

3سورة الحجر آية: 26.

ص: 81

وقال سيبويه 1 المسنون المصور على صورة ومثال.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} 2: قال ابن القيم 3: قال ابن عباس: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} يعني: آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} لذريته، ومثال هذا ما قاله مجاهد 4:{خَلَقْنَاكُمْ} يعني آدم، {صَوَّرْنَاكُمْ} يعني في ظهر آدم.

وفي الحديث المعروف 5 أنه أخرجهم من ظهر آدم في صورة الذر، ونظيره {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} 6، والله سبحانه يخاطب

1 هو عمرو بن عثمان أبو بشر، إمام النحاة وأول من بسط علم النحو، صاحب كتاب سيبويه، ولد سنة 148 وتوفي سنة 180هـ ، راجع: وفيات الأعيان 1- 385 وراجع (لسان العرب) في معنى مسنون.

2سورة الأعراف آية: 11.

3 هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر الدمشقي، العالم الثبت صاحب المؤلفات الكثيرة الشهيرة، منها (أعلام الموقعين) و (الطرق الحكمية) و (زاد المعاد) و (مدارج السالكين) و (شفاء العليل) و (إغاثة اللهفان) . وغيرها، ولد عام 691 وتوفي عام 751هـ.

4 هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي، مولى بني مخزوم، تابعي مفسر، أخذ التفسير عن ابن عباس. ولد عام 21 وتوفي عام 104هـ. راجع مثلا: سير النبلاء جـ 4.

5 راجع في كتب التفسير الموسعة ما ذكر في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..) سورة الأعراف 172.

6سورة الحج آية: 5.

ص: 82

الموجودين والمراد آباؤهم كقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 1، وغير ذلك من الآيات، وقد يستطرد سبحانه من الشخص إلى نوع كقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} 2 إلى آخره، فالمخلوق من سلالة آدم، ومن نطفة ذريته، وقيل إن:{صَوَّرْنَاكُمْ} لآدم أيضا.

وقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 3 فأضاف النفخ إلى نفسه، وفي الصحيح - في حديث الشفاعة - "فيقولون أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء 4" فذكروا له أربع خصائص. فالمنفوخ منه الروح المضافة إلى الله إضافة تخصيص وتشريف، والله هو الذي نفخ في طينته من تلك الروح; وهذا الذي دل عليه النص.

وأما كون النفخة مباشرة منه سبحانه كما خلقه بيده، أو أنها بأمره كقوله في مريم:{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} 5 مع قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} 6.

1سورة البقرة آية: 55.

2سورة المؤمنون آية: 12-13.

3سورة الحجر آية: 29.

4 الحديث رواه البخاري (كتاب التوحيد) ومسلم (كتاب القدر) والترمذي (كتاب القيامة) وابن ماجه (كتاب الزهد) ، كما رواه أحمد في مسنده.

5سورة الأنبياء آية: 91.

6 سورة مريم آية: 17.

ص: 83

إلى آخره فهذا يحتاج إلى دليل، فإنه أضاف النفخ إلى مريم لكونه بأمره; وإلى الملك لكونه المباشر للنفخ.

وفي القصة فوائد عظيمة، وعبر لمن اعتبر بها، منها: أن خلق آدم من تراب من أبين الأدلة على المعاد، كما استدل عليه سبحانه في غير موقع، وعلى قدرته سبحانه وعظمته ورحمته وعقوبته، وإنعامه وكرمه، وغير ذلك من صفاته.

ومنها أنها من أدلة الرسل عامة، ومن أدلة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. ومنها الدلالة على الملائكة وعلى بعض صفاتهم. ومنها الدلالة على القدر خيره وشره؛ فقد اشتملت على أصول الإيمان الستة في حديث 1 جبريل. ومنها وهي أعظمها أنها تفيد الخوف العظيم الدائم في القلب; وأن المؤمن لا يأمن حتى تأتيه الملائكة عند الموت تبشره، وذلك من قصة إبليس وما كان فيه أولا من العبادة والطاعة، ففي ذلك شيء من تأويل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع 2" إلى آخره.

ومنها أن لا يأمن عاقبة الذنب، ولو كان قبله طاعات كثيرة، وهو ذنب واحد، فكيف إذا كانت الذنوب بعدد رمل عالج 3، ومن هنا قول بعض السلف: نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا، فقال: اذهبوا

1 رواه البخاري (إيمان) ومسلم (إيمان) والترمذي (إيمان) وأبو داود (سنة) والنسائي (مواقيت) . كما رواه ابن ماجة وأحمد.

2 رواه أصحاب الكتب الستة عن ابن مسعود.

3 رملة بالبادية بين فيد والقُرَيات (راجع: معجم البلدان) .

ص: 84

فلا أقبل منكم عملا - أو كلاما هذا معناه -. وأبلغ منه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم 1 بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه" قال علقمة 2: كم من كلام منعنيه حديث بلال، يعني هذا. ومنها أنها تخلع من القلب داء العجب الذي هو أشد من الكبائر.

ومنها وهي من أعظمها أنها تعرف المؤمن شيئا من كبرياء الله وعظمته وجبروته; ولا يدل عليه ولو بلغ في الطاعة ما بلغ، وقد وقع في هذه الورطة كثير من العباد فمستقل ومستكثر. ومنها التحذير من معارضة القدر بالرأي لقوله:{أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} 3، وهذه بلية عظيمة لا يتخلص منها إلا من عصمه الله لكل مقل ومكثر.

ومنها وهي من أعظمها تأدب المؤمن من معارضة أمر الله ورسوله بالرأي على استدل بها السلف كل هذا الأمر، ولا يتخلص من هذا إلا من سبقت له من الله الحسنى.

ومنها عدم الاحتجاج بالقدر عند المعصية لقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 4 بل يقول كقول أبيه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} 5 الآية

ومنها معرفة قدر المتكبر عند الله خصوصا مع قوله: {فَاهْبِطْ مِنْهَا

1 رواه البخاري (رقاق) والترمذي (زهد) وابن ماجه (فتن) ، كما رواه الموطأ ومسند أحمد.

2 هو علقمة بن قيس النخعي الهمداني، التابعي فقيه أهل العراق، كان يشبه بابن مسعود، روى الحديث عن الصحابة (ت 62 هـ) .

3سورة الإسراء آية: 62.

4سورة الحجر آية: 39.

5سورة الأعراف آية: 23.

ص: 85

فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} 1.

ومنها الفخر بالأصل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التشديد 2 في ذلك; والفخر منهي عنه مطلقا، ولو كان بحق فكيف إذا كان بباطل؟ ومنها الشهادة لما كان عليه السلف أن البدعة أكبر من الكبائر، لأن معصية اللعين كانت بسبب الشبهة، ومعصية آدم بسبب الشهوة.

ومنها عدم الاغترار بالعلم; فإن اللعين كان من أعلم الخلق فكان من أمره ما كان.

ومنها عدم الاغترار بالرتبة والمنزلة فإنه كان له منزلة رفيعة; وكذلك بلعام 3 وغيره ممن له علم ورتبة، ثم سلب ذلك.

ومنها معرفة العداوة التي بين آدم وذريته، وبين إبليس وذريته وأن هذا سببها لما طرد عدو الله ولعن بسبب آدم، لما لم يخضع. وهذه المعرفة مما يغرس في القلب محبة الرب جل جلاله، ويدعوه إلى طاعته وإلى شدة مخالفة الشيطان، لأنه سبحانه ما طرد إبليس ولعنه، وجعله بهذه المنزلة الوضيعة بعد تلك المنزلة الرفيعة إلا لأنه لم يخضع بالسجود لأبينا آدم، فليس

1سورة الأعراف آية: 13.

2 ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التشديد في النهي عن الفخر بالآباء، مثل إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء وفيه -في بعض رواياته- لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم.. وقد رواه عن أبي هريرة أبو داود والترمذي والبيهقي. وفي معناه أحاديث متعددة.

3 هو بلعام بن باعوراء. راجع تفسير قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا..) سورة الأعراف 175 في كتب التفسير الموسعة.

ص: 86

من الإنصاف والعدل موالاته، وعصيان المنعم جل جلاله، كما ذكر هذه الفائده بقوله:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} 1. ومنها معرفة شدة عداوة عدو الله لنا، وحرصه على إغوائنا بكل طريق، فيعتد المؤمن لهذا الحرب عدته، ويعلم قوة عدوه وضعفه عن محاربته إلا بمعونة الله، كما قال قتادة 2: إن عدوا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم إنه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله. وقد ذكر الله عداوته في القرآن في غير موضع، وأمرنا باتخاذه عدوا.

ومنها وهي من أعظمها معرفة الطرق التي يأتينا منها عدو الله، ذكر الله تعالى عنه في القصة أنه قال:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 3، وإنما تعرف عظمة هذه الفائدة بمعرفة شيء من معاني هذا الكلام.

قال جمهور المفسرين: انتصب صراط بحذف " على "، التقدير: لأقعدن لهم على صراطك قال ابن القيم: والظاهر أن الفعل مضمر، فإن القاعد على الشيء ملازم له، فكأنه قال: لألزمنه ولأرصدنه ونحو ذلك. قال ابن عباس: دينك الواضح {مِنْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني الدنيا والآخرة، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} يعني الآخرة والدنيا، {وَعَنْ

1سورة الكهف آية: 50.

2 هو أبو الخطاب الضرير الأكمه قتادة بن دعامة السدوسي، مفسر الكتاب المحدث، كان آية في الحفظ، إماما في النسب، رأسا في العربية واللغة وأيام العرب. توفي عام 117 هـ، راجع مثلا: المعارف ص 60 وشذرات الذهب 1-153.

3سورة الأعراف آية: 17-18.

ص: 87

أَيْمَانِهِمْ}

قال ابن عباس: أشبّه عليهم أمر دينهم، وعنه أيضا: من قبل الحسنات، وقوله:{وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} الباطل أرغبهم فيه، قال الحسن 1 "السيئات يحثهم عليها ويزينها في أعينهم".

قال ابن قتادة: أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه، إلا أنه لم يأتك من فوقك، ولم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله؛ وهو يوافق قول من ذكر هذه الأوجه للمبالغة في التوكيد، أي أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم; ولا يناقض ما ذكر السلف، فإن ذلك على جهة التمثيل، فالسبل التي للإنسان أربعة فقط، فإنه تارة يأخذ على جهة شماله، وتارة على يمينه، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأي سبيل من هذه سلكها وجد الشيطان عليها راصدا له، فإن سلكها في طاعة ثبطه; وإن سلكها بالمعصية حداه. وأنا أمثل لك مثالا واحدا لما ذكر السلف، وهو أن العدو الذي من بني آدم إذا أراد أن يمكر بك لم يستطع أن يمكر إلا في بعض الأشياء، وهي الأشياء الغامضة، والأشياء التي ليست بعالية، فلو أراد أن يمكر بك في أمر واضح بين مثل التردي من جبل أو بئر وأنت ترى ذلك، لم يستطع، خصوصا إذا عرفت أنه قد مكر بك مرات متعددة، ولو أراد ليمكر بك لتتزوج عجوزا شوهاء وأنت تراها لم يستطع ذلك.

وأنت ترى أن اللعين أعاذنا الله منه يأتي الآدمي في أشياء واضحة بينة أنها مما حرم الله ورسوله فيحمله عليها حتى يفعله; ويزينها في عينه حتى يفرح بها، ويزعم أن فيها مصلحة ويذم من خالفه; كما قال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ

1 هو أبو سعيد الحسن بن يسار، إمام أهل البصرة في زمانه التابعي الورع (21-110 هـ) .

ص: 88

الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} 1 الآية.

وقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2 وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 3 وهذا معنى قول من قال: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من قبل الدنيا فإنهم يعرفونها وعيوبها ومجمعون على ذمها، ثم مع هذا لأجلها قطعوا أرحامهم وسفكوا دماءهم، وفعلوا ما فعلوا، وهذا معنى قول مجاهد {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : من حيث يبصرون، فهو لم يقنع بإتيانه إياهم من الجهة التي يجهلون أنها معصية مثل ما فسر به مجاهد {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} قال: من حيث لا يبصرون، ولا من جهة الغيب كما قال فيها بعضهم، الآخرة أشككهم فيها، لم يقنع بذلك عدو الله حتى أتاهم في الأمور التي يعرفونها عيانا أنها النافعة وضدها الضار، وفي الأمور التي يعرفون أنها سيئات وضدها حسنات، ومع هذا أطاعوه في ذلك إلا من شاء الله منهم كما قال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4.

وقال تعالى حكاية عنه: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ

1سورة ال عمران آية: 188.

2سورة البقرة آية: 42.

3سورة البقرة آية: 102.

4 سورة سبأ آية: 20.

ص: 89

خَلْقَ اللَّهِ} 1 الآية.

قال الضحاك 2: مفروضا معلوما، وحقيقة الفرض التقدير، والمعنى أن من اتبعه فهو نصيبه المفروض. فالناس قسمان: نصيب الشيطان ومفروضه، وحزب الله وأولياؤه.

قوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} يعني عن الحق، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} قال ابن عباس: تسويف التوبة وتأخيرها، وقال الزجاج 3: أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك حظهم من الآخرة.

وقوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} 4، البتك القطع، وهو ههنا قطع آذان البحيرة. وقوله:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} ، قال ابن عباس: دين الله، وقاله ابن المسيب 5 والحسن وإبراهيم 6 وغيرهم، ومعنى ذلك أن الله فطر عباده على الفطرة وهي الإسلام كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 7 الآية، وفي الصحيح:" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه 8") الحديث، فجمع صلى الله

1سورة النساء آية: 118-119.

2 هو الضحاك بن مزاحم البلخي الخراساني، كان مفسرا له كتاب في التفسير (ت 105هـ)، راجع مثلا: ميزان الاعتدال 1- 471.

3 هو إبراهيم بن السري عالم النحو واللغة البغدادي، ولد عام 241 وتوفي عام 311هـ.

4سورة النساء آية: 119.

5 هو أبو محمد سعيد بن المسيب المخزومي القرشي، سيد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان راوية لفقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

6 هو إبراهيم بن يزيد بن قيس، أبو عمران النخعي، كان فقيها من أكابر التابعين، وفقيه أهل العراق في عصره (46-96هـ) .

7سورة الروم آية: 30.

8 رواه البخاري ومسلم والطبراني في الكبير والبيهقي في السنن.

ص: 90

عليه وسلم

بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد وغيره، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يغيرهما. ثم قال تعالى:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا وتعلو، والدنيا دول وستكون لك، ويطول أمله، ويعده الحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها، فالوعد في الخير، والتمنية في الطلب والإرادة.

ومنها أن معرفة هذه القصة تزرع في قلب المؤمن حب الله تعالى الذي هو أعظم النعم على الإطلاق، وذلك من صنعه سبحانه بالإنسان وتشريفه وتفضيله إياه على الملائكة، وفعله بإبليس ما فعل لما أبى أن يسجد له، وخلقه إياه بيده ونفخه فيه من روحه; وإسكانه جنته، وقد خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل مع آبائهم، وذكرهم بذلك واستدعاهم به، وذكرهم أنه فعله بهم كقوله:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 1 وغير ذلك، ذكر النعم التي هي أصل الشكر الذي هو الدين، لأن شكرها مبني على معرفتها وذكرها; فمعرفة النعم من الشكر بل هي أم الشكر، كما في الحديث 2:"من أسدي إليه معروف فذكره فقد شكره، فإن كتم فقد كفره" هذا في الأشياء التي تصدر من بني آدم، فكيف بنعم المنعم على الحقيقة والكمال؟

1سورة البقرة آية: 50.

2 روي بمعناه عن ابن عباس، ورواه أحمد في مسنده بمعناه عن عائشة.

ص: 91

واجتمع الصحابة يوما في دار يتذاكرون ما منَّ الله عليهم به من بعثه محمد صلى الله عليه وسلم.

ومنها أن التأويل الفاسد في رد النصوص ليس عذرا لصاحبه، كما أنه سبحانه لم يعذر إبليس في شبهته التي أبداها كما يعذر من خالف النصوص متأولا مخطئا، بل كان ذلك التأويل زيادة في كفره.

ومنها أن مثل هذا التأويل ليس على أهل الحق أن يناظروا صاحبه، ويبينوا له الحق كما يفعلون مع المخطئ المتأول، بل يبادر إلى عقوبته بالعقوبة التي يستحقها بقدر ذنبه; وإلا أعرض عنه إن لم يقدر عليه; كما كان السلف الصالح يفعلون هذا وهذا. فإنه سبحانه لما أبدى له إبليس شبهته فعل به ما فعل; ولما عتب على الملائكة في قيلهم، أبدى لهم شيئا من حكمته وتابوا. وقد وقعت هذه الثلاث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي فتح الله فيها مكة، فإنه لما أعطى المؤلفة قلوبهم ووجدت عليه الأنصار عاتبهم واعتذروا قبل عذرهم; وبين لهم شيئا من الحكمة، ولما قال له ذلك الرجل العابد:" اعدل "، قال له كلاما غليظا. واستأذنه بعض الصحابة في قتله ولم ينكر عليه 1، لكن ترك قتله لعذر ذكره. ولما فعل خالد بن الوليد ببني جذيمة ما فعل رد عليهم ما أخذ منهم ووداهم، ولا نعلم أنه عاتب 2 خالدا ولا منعه ذلك من تأميره على الناس.

1 راجع: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام جـ 4 ص 144 (تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد) - طبع دار الفكر.

2 راجع: المرجع السابق ص 55 وما بعدها، ففيه تفصيل ذلك.

ص: 92

ومنها أن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها، فإن الخوض معه في إبطالها تضييع للزمان وإتعاب للحيوان، مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته، وكان السلف لا يخرجون مع أهل الباطل في رد باطلهم كما عليه المتأخرون، بل يعاقبونهم إن قدروا وإلا أعرضوا عنهم.

وقال أحمد لمن أراد أن يرد عليهم: اتق الله ولا تنصب نفسك لهذا، فإن جاءك مسترشدا فأرشده. وهو سبحانه لما قال اللعين:{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} 1 قال: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} 2 ولما قالت الملائكة ما قالت: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3 ثم بين لهم ما بين حتى أذعنوا.

ومنها معرفة قدر الإخلاص عند الله، وحماية لأهله لقول اللعين:{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 4 فعرف عدو الله أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص.

ومنها أن كشف العورة مستقر قبحه في الفطر والعقول لقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} 5، وقد سماه الله فاحشة.

ومنها أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بالفجرة، بل يكون على حذر منهم ولو قالوا ما قالوا، خصوصا أولياء الشيطان الذين تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، فإن اللعين حلف {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 6.

ومنها أن زخرفة القول قد تخرج الباطل في صورة الحق كما في الحديث: "إن من 7 البيان لسحرا" فإن اللعين زخرف قوله بأنواع منها تسمية

1سورة الأعراف آية: 12.

2سورة الحجر آية: 34.

3سورة البقرة آية: 30.

4سورة الحجر آية: 40.

5سورة الأعراف آية: 20.

6سورة الأعراف آية: 21.

7 رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي.

ص: 93

الشجرة شجرة الخلد; ومنها تأكيد قوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 1 وغير ذلك مما ذكر في القصة; فينبغي للمؤمن أن يكون من زخرف القول على حذر، ولا يقنع بظاهره حتى يعجم العود.

ومنها أن في القصة شاهدا لما ذكر في الحديث: "إن من العلم 2 جهلا" أي من بعض العلم ما العلم به جهل، والجهل به هو العلم، فإن اللعين من أعلم الخلق بأنواع الحيل التي لا يعرفها آدم، مع أن الله علمه الأسماء كلها؛ فكان ذلك العلم من إبليس هو الجهل، وفي الحديث:"إن الفاجر خب لئيم 3 وإن المؤمن غر كريم" وأبلغ من ذلك وأعم منه قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 4، فقيل لهم ما قيل وعوتبوا، فكانت توبتهم أن قالوا:{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} 5 فكان كمالهم ورجوعهم عن العتب وكمال علمهم أن أقروا على أنفسهم بالجهل إلا ما علمهم سبحانه. ففي هذه القصة شاهد للقاعدة الكبرى في الشريعة المنبه عليها في مواضع منها قوله صلى الله عليه وسلم: "وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها 6 ") .

1سورة الأعراف آية: 21.

2 رواه أبو داود عن بريدة، ويروى (إن من البيان سحرا وإن من العلم جهلا) .

3 رواه أبو داود (كتاب الأدب) والترمذي (كتاب البر) ، كما رواه أحمد في مسنده 3- 294.

4سورة البقرة آية: 30.

5سورة البقرة آية: 32.

6 راجع في هذا المعنى: الترمذي (كتاب اللباس) وابن ماجه (كتاب الأطعمة) ، وصحيح البخاري (كتاب الاعتصام) وصحيح مسلم (كتاب الفضائل)، وراجع تفسير قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) سورة المائدة: 101 في كتب التفسير الكبيرة.

ص: 94

ومنها أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بخوارق العادة إذا لم يكن مع صاحبها استقامة على أمر الله، فإن اللعين أنظره الله تعالى ولم يكن ذلك إلا إهانة له وشقاء له، وحكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير، فينبغي للمؤمن أن يميز بين الكرامات وغيرها، ويعلم أن الكرامة هي لزوم الاستقامة.

ومنها أن الأمور التي يحرص عليها أهل الدنيا قد تكون عقوبة ومحنة، والجاهل يظنها نعمة، مثل المال والجاه وطول العمر، فإن الله أعطى اللعين من النظرة ما أعطاه.

ومنها أن يعلم المؤمن أن الذنوب كثيرة ولا نجاة له منها إلا بمعونة الله وعفوه، وأن كثيرا منها قد لا يعلمه من نفسه، فإن أكثر الكبائر القلبية مثل الرياء والكبر والحسد، وترك التوكل والإخلاص وغير ذلك، قد يتلطخ بها الرجل وهو لا يشعر، ولعله يتورع عن بعض الصغائر الظاهرة، وهو في غفلة عن هذه العظائم. ومنها أن يعرف قدر معصية الحسد وكيف آل باللعين حسده إلى أن فعل به ما فعل.

ومنها وهو من أحسنها أن يعرف صحة ما ذكر عن بعض السلف أن من لم يجاهد في سبيل الله ابتلي بالجهاد في سبيل الشيطان، ومن بخل بإنفاقه المال في طاعة الله ابتلي بإنفاقه في المعاصي وفيما لا ينفعه، ومن لم يمش في طاعة الله خطوات، مشى في طاعة الشيطان أميالا وأشباه ذلك، والدليل من القصة أبلغ من هذا بكثير، فإن اللعين أبى أن يسجد لزعمه أن ذلك نقص في حقه، ثم صار بعد ذلك يكدح جهده في القيادة والدياثة وأنواع الرذائل.

ص: 95

ومنها أن في القصة معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه 1") إلى آخره، ومن ذلك قوله حكاية عن إبليس:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} 2، فإنهم ذكروا في معناه أي: آمرهم بتغيير خلق الله، وهي فطرته التي فطر عباده عليها، وهي الإسلام لله وحده لا شريك له.

ومنها أن فيها معنى القاعدة الكبرى في الشريعة المذكورة في مواضع، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 3 وهي من قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} 4، فإنهم ذكروا أن معناه قطع آذان البحيرة تقربا إلى الله على عادات الجاهلية.

ومنها أنها تفيد المعنى العظيم المذكور في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 5 وما في معناه من النصوص، وذلك مستفاد من صنع اللعين; فإنه مع علمه بجبروت الله وأليم عذابه، وأنه لا محيص له عنه; ويعرف من الأمور ما لا يعرفه كثير من أهل العلم، ومع ذلك لم يتب ولم يرجع، بل أصر وعاند، وطلب النظرة لأجل المعصية مع علمه بعقابه وعدم مصلحته من فعله. وهذا باب عظيم من معرفة الرب وقدرته، وتقليبه القلوب كيف يشاء، وتيسيره كل عبد لما خلق له فيفعله باختياره.

ومنها أن الله سبحانه قد يعاقب العبد إذا غضب عليه بعقوبات باطنة في دينه وقلبه لا يعرفها الناس، مع إمداده إياه في الدنيا كما قال تعالى:

1 رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه وسبق في ص 90.

2سورة النساء آية: 119.

3 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .

4سورة النساء آية: 119.

5سورة الأنفال آية: 24.

ص: 96

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} 1 كما فعل إبليس.

ومنها أن فيها شهادة لما ذكر عن بعض السلف أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها.

ومنها أنها تفيد القاعدة المعروفة أن الجزاء من جنس العمل، وذلك أنه قصد الترفع فقيل له:{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} 2 فقصد العز فأذله الله بأنواع من الذل.

ومنها الشهادة لصحة الكلام المذكور عن بعض السلف في قوله: والله إن معالجة التقي التقوى أهون من معالجة غير التقي الناس، وقول من قال: مصانعة وجه واحد أهون من مصانعة ألف وجه. وبيان ذلك أن اللعين لما تخيل أن عليه من أمر الله شيئا من النقص، فلو قدم طاعة الله وآثرها على هواه وسجد لآدم، فلو قدر أن ما تخيله صحيح وأن ذلك غضاضة عليه، لكان في جنب ما أتاه من الشر والهوان والصغار جزءا يسيرا، فالله المستعان، فكيف ولو فعل ذلك لكان فيه شرفه وسعادته، مما هو عادة الله في خلقه أن من تواضع لله رفعه.

ومنها أن الفاجر قد يعطيه الله سبحانه كثيرا من القوى والإدراكات في العلوم والأعمال حتى في صحة الفراسة، كما ذكر عن اللعين حين تفرس فيهم أنه يغويهم إلا المخلصين، فصدق الله فراسته في قوله:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3. فإن قيل في الحديث:

1سورة التوبة آية: 77.

2سورة الأعراف آية: 13.

3 سورة سبأ آية: 20.

ص: 97

" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله 1 ") فلا يناقض ما ذكرناه، بل يدل على أن المؤمن أتم في هذه الخصلة من غيره وأصدق، كما كان في العلم والإيمان والأعمال والحلم والصبر وغير ذلك، ولو كان للفجار شيء من ذلك.

ومنها الشهادة للقاعدة المعروفة في الشريعة أن كل عمل لا يقصد به وجه الله فهو باطل، لاستثنائه المخلصين.

ومنها الشهادة للقاعدة الثانية، وهي أن كل عمل على غير اتباع الرسول غير مقبول، لقوله في القصة:{اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} 2، الآية فقسم الناس إلى قسمين: إلى أهل الجنة، وهم الذين اتبعوا الهدى المنزل من الله، وأهل الشقاق والضلال، وهم من أعرض عنه؛ فانتظمت هذه القصة لهاتين الآيتين العظيمتين اللتين هما أكبر قواعد الشريعة على الإطلاق.

القاعدة الأولى: فيها حديث عمر " إنما الأعمال بالنيات 3") .

والقاعدة الثانية: حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد 4") .

1 رواه الطبراني والترمذي من حديث أبي أمامة، وأخرجه الترمذي أيضا من حديث أبي سعيد. وراجع تقريرا موسعا عن تخريجه في (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) للمفسر المحدث الشيح إسماعيل ابن محمد العجلوني (ت 1162 هـ) جـ 1 ص 40-41.

2سورة البقرة آية: 38.

3 الحديث متفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه ابن حبان بدون (إنما) ، ولم يصح روايته إلا عن عمر، ولكنه اشتهر بعد ذلك، وقد سبق تخريجه في ص 44.

4 سبق تخريجه في ص 44.

ص: 98

وقال أيضا: وقوله عز وجل: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} إلى قوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 1. هذه الآية ذكرها الله سبحانه بعدما رد على الكفار عبادات يتقربون بها إليه ولم يشرعها، منها أنهم إذا حجوا طافوا بالبيت عراة يقولون: الثياب التي عصينا الله فيها لا نطوف فيها، فقال الله ردا عليهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2. والفاحشة في هذا الموضع إخراج العورة للعبادة، مثل ما يفعل كثير من الناس يكشف عورته للاستنجاء، وغيره ينظره، يريد بالاستنجاء في هذه الحالة التقرب إلى الله، فلما رد عليهم الباطل أخبرهم بالحق الذي شرعه فقال:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} 3 وهو العدل، {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 4 وهو إقامة الصلاة بحقوقها، {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 5 يقول: ادعوه بهذا الشرط {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 6.

يقول: الأمور التي تعبدونني بها لم آمركم بها، والأمور التي أمرتكم بها لا تفعلونها; فالظلم والبغي

1قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) سورة الأعراف: الآيات: 28-30.

2 سورة الأعراف آية: 28.

3 سورة الأعراف آية: 29.

4 سورة الأعراف آية: 29.

5 سورة الأعراف آية: 29.

6 سورة الجن آية: 18.

ص: 99

ضد القسط وهو جاهكم وسمتكم الذي تبذلون فيه الأعمار والأموال، وإقامة الوجه عند كل مسجد لا تفعلونها; إن فعلتم صليتم صلاة لا تجزئ، والإخلاص منكر عندكم، ودينكم الذي ترجون به الثواب هو الشرك.

إذا فهمت هذا فتأمل أحوال من تعرف، ونزل هذه الآية على أحوالهم ترى العجب. ثم قال:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 1 أي لا بد أن يخلقكم للبعث كما بدأ خلقكم من نطفة.

ثم قال: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} 2 فهذا القدر يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فجمع في هذه الآية الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالشرع والإيمان بالقدر; وذكر فيها تفصيل الشرع الذي أمر به، وذكر حال من عكس الأمر فجعل المنكر معروفا والمعروف منكرا. ثم ختم الآية بهذه المسألة العظيمة، وهي:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3 فلا أجهل ممن هرب عن طاعة الله واختار طاعة الشيطان، ومع هذا يحسب أنه مهتد مع هذا الضلال الذي لا ضلال فوقه، والله أعلم.

1 سورة الأعراف آية: 29.

2 سورة الأعراف آية: 30.

3 سورة الأعراف آية: 30.

ص: 100

وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} 1 الآية، فيه مسائل:

الأولى: شيء من تفصيل قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} 2.

الثانية: معنى قوله: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة 3") .

الثالثة: الملاطفة في الدعوة إلى الله لقوله: {يَا قَوْمِ} ، أضافهم إلى نفسه.

الرابعة: التي أرسلت الرسل وخلقت الخلق لأجلها.

الخامسة: تفسير الآية.

السادسة: دعاؤهم بالرغبة.

السابعة: دعاؤهم بالتخويف.

1قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ) سورة الأعراف: الآيات 59-64.

2 سورة النحل آية: 36.

3 رواه البخاري (كتاب التيمم وكتاب الصلاة) ، كما رواه النسائي (في كتاب الغسل) والدارمي (في كتاب الصلاة) .

ص: 101

الثامنة: جواب الملأ لهذا الكلام بهذه الجهالة.

التاسعة: كون أهل الباطل ينسبون أهل الحق إلى الجهالة; بل إلى السفاهة بل إلى السحر بل إلى الجنون.

العاشرة: حسن جوابه لهم، ومقابلة الإساءة بالتي هي أحسن.

الحادية عشرة: تعريفهم بأنهم إنما ردوا وعصوا رب العالمين.

الثانية عشرة: تعريفهم بما فيه من الخصال التي لا غناء لهم عنها.

الثالثة عشرة: تعريفهم أن تلك الخصال لا تقتضي الحسد، بل تقتضي المحبة والانقياد.

الرابعة عشرة: لما عرفهم أن الرسالة التي أتتهم منه، وعظهم بأنه رب العالمين.

الخامسة عشرة: تعريفهم أن هذا الذي استغربوا ونسبوا من قاله إلى الجهالة والجنون هو الواجب في العقل; وهو أيضا حظهم ونصيبهم من الله، لأنه سبب الرحمة. ففي هذا الكلام من أوله إلى آخره من تحقيق الحق، وذكر أدلته العقلية على تحقيقه، وإبطال الباطل، وذكر الأدلة العقلية على بطلانه، ما لا يخفى على من له بصيرة.

السادسة عشرة: ذكر أنهم كذبوه مع هذا البيان، ففصل الله الخصومة بما ذكر أنه فعل بالفريقين.

السابعة عشرة: ذكر أن ذلك السبب التكذيب بآياته، فدل على أنه أتاهم بآيات الله.

الثامنة عشرة: أن السبب في ذلك التكذيب هو العمى والجهالة، فهي وصفهم لا وصف خصومهم.

ص: 102

وأما قصة 1 عاد فنذكر ما فيها من الزوائد خاصة:

الأولى: تبيين أن أعظم التقوى اتقاء الشرك.

الثانية: وصفه الملأ منهم بالكفر.

الثالثة: وصفهم نبيهم بالسفاهة التي هي أبلغ من الجهل.

الرابعة: وصفهم إياه بالكذب.

الخامسة: استعطافه إياهم بأمانته.

السادسة: وعظه إياهم بتلك الآية الواضحة العظيمة.

السابعة: فيه ما يدل على أنهم يعلمون ذلك لقوله: {وَاذْكُرُوا} .

1قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) سورة الأعراف الآيات: 65-72.

ص: 103

الثامنة: وعظه إياهم بتذكيرهم نعمة الله باستخلافهم في الأرض بعد قوم نوح.

التاسعة: وعظه بزيادة النعمة على أهل زمانهم بزيادتهم في الخلق بسطة.

العاشرة: ذكر أن ذلك لا يدل على الكرامة، بل قد يكون السبب للإهانة.

الحادية عشرة: ذكر أن هذا الذي كرهوه هذه الكراهة هو سبب فلاحهم.

الثانية عشرة: ذكر ما أجابوه به عن هذا الكلام الذي هو في غاية الحسن.

الثالثة عشرة: ذكر أن هذا الخلاف بينه وبينهم في توحيد العبادة لا في أصل العبادة.

الرابعة عشرة: ذكر عمدتهم اتباع السواد الأعظم.

الخامسة عشرة: زيادة العتو بقوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} 1.

السادسة عشرة: ذكر أن الصدق ممدوح عندهم، وكذلك الكذب مذموم عندهم.

السابعة عشرة. ذكر المسألة المهمة، وهي إنكاره عليهم الاعتماد على ذلك دليل مع كونه لم ينزل فيه نص من الله.

1 سورة الأعراف آية: 70.

ص: 104

الثامنة عشرة: كونه بين لهم كبر جهالتهم كيف تجاسروا على الجدال بذلك.

التاسعة عشرة: معرفة الأشياء التي لا حقيقة لها من الحقائق.

العشرون: كون الشيء معمولا به قرنا بعد قرن من غير نكير لا يدل على صحته.

الحادية والعشرون. أمره إياهم بانتظار الوعيد.

الثانية والعشرون: إخباره بانتظارهم الوعد.

ص: 105

وأما قصة ثمود 1 فنذكر ما فيها من الزوائد على القصتين أيضا:

الأولى: وعظه إياهم بالآية العظيمة.

الثانية: استعطافهم بذكر ربوبية من جاءت منه لهم.

الثالثة: ذكر إضافة الناقة إلى الله.

الرابعة: تفسير البينة بهذا.

الخامسة: تخصيص الله إياهم بناقته.

السادسة: العجب العجاب من كراهتهم الأمر المطلوب منهم وهو كف

1قوله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) سورة الأعراف: الآيات 73-79.

ص: 106

الأذى عن ناقة الله التي فيها من نعم الدين والدنيا لمن قبلها ما لا يظنه الظانون.

السابعة: أنه مع هذا توعدهم بالوعيد الشديد إن لم يكفوا عنها الأذى.

الثامنة: تذكيرهم بنعمة الله عليهم بالقصور في السهل.

التاسعة: نعمة الله عليهم في هذه القوة العظيمة، وهي قدرتهم على نحت الجبال بيوتا.

العاشرة: تذكيرهم بنعم الله، فدل على أنهم يعرفون ذلك.

الحادية عشرة: وعظه إياهم أن الذي ينهاهم عنه هو الفساد في الأرض وهو قبيح بإجماع العقلاء.

الثانية عشرة. ذكر قبح جوابهم لهذه الموعظة البليغة التي جمعت لهم خير الدنيا والآخرة، وحذرتهم من عقوبة الدنيا والآخرة.

الثالثة عشرة: نعته الملأ منهم بالكبر.

الرابعة عشرة: إن الذين استجابوا للحق هم الضعفاء; وأما الملأ المستكبرون فهذا جوابهم وفعلهم.

الخامسة عشرة: جمعهم بين هذه الثلاث: عقر الناقة، والعتو عن أمر ربهم، وقولهم لرسولهم هذا.

السادسة عشرة: ذكر قولهم: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 1، فلم يذكر إنكارهم الرسل من حيث الجملة.

1 سورة الأعراف آية: 77.

ص: 107

السابعة عشرة. ذكر توليه عنهم لما وقع عليهم ما استعجلوا به.

الثامنة عشرة: ذكره أنه لم يبق من الحرص على دنياهم وعلى آخرتهم ممكنا.

التاسعة عشرة: ذكر أن العلة في علم القبول علم المحبة للناصح، لا عدم البيان.

ص: 108

وأما قصة لوط 1 فنذكر أيضا ما فيها من الزيادة على القصص الثلاث:

الأولى: التصريح أن هذا الفعل لم يفعل قبلهم.

الثانية: موعظة نبيهم بذلك; فدل على أنه متقرر عندهم أن أول من ابتدع القبيح ليس كغيره.

الثالثة: تعظيم هذه الفاحشة بمخاطبتهم بالاستفهام.

الرابعة: تغليظها بالألف واللام، فدل على الفرق بينها وبين الزنى لقوله:{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} 2.

الخامسة: تنبيههم على مخالفة القول والشهوات لقوله: {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} 3 فتتركون موضع الشهوة مع حسنه عقلا ونقلا، وتستبدلون به غير المشتهى مع قبحه عقلا ونقلا.

السادسة: تنبيههم على العلة أنها ليست للشهوة بل للسرف.

1قوله تعالى: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) سورة الأعراف: الآيات 80-84.

2 سورة الإسراء آية: 32.

3 سورة الأعراف آية: 81.

ص: 109

السابعة: هذا الجواب العجاب تلك النصيحة، والبيان بأدلة العقل والنقل.

الثامنة: إقرارهم أن آل لوط الطيبون، وأنهم الأخابث.

التاسعة: تصريحهم أن هذا هو الذي نقموا عليه، وجعلوه سببا لإخراجهم من البلد.

العاشرة: ما في إهلاك امرأته من الدلالة على التوحيد; والدلالة على أن من أحب قوما حشر معهم، وإن لم يعمل عملهم.

الحادية عشرة: ذكر الأمر بالنظر في عاقبة المجرمين.

ص: 110

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:

وقوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} 1، فيه مسائل:

الأولى: معرفة أن لا إله إلا الله، كما في قصة آدم وإبليس، ويعرف ذلك من عرف أسباب الشرك، وهو الغلو في الصالحين، والجهل بعظمة الله.

الثانية: معرفة أن محمدا رسول الله، يعرفه من عرف عداوة علماء أهل الكتاب له.

الثالثة: معرفة الدين الصحيح، والدين الباطل، لأنها نزلت في إبطال دينهم الذي نصروا، وتأييد دينه الذي أنكروا.

الرابعة: معرفة عداوة الشيطان ومعرفة حيله.

الخامسة: أن من انسلخ من الآيات أدركه الشيطان، ومن لم ينسلخ منها حمته منه، ثم صار أكثر من ينتسب إلى العلم يظن العكس.

السادسة: خوف الخاتمة كما في حديث ابن مسعود.

السابعة: عدم الاغترار بغزارة العلم.

الثامنة: عدم الاغترار بصلاح العمل.

التاسعة: عدم الاغترار بالكرامات وإجابة الدعاء.

1 سورة الأعراف آية: 175.

ص: 111

العاشرة: أن الانسلاخ لا يشترط فيه الجهل بالحق أو بغضه.

الحادية عشرة: أن من أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلو عرف الحق وأحبه وعرف الباطل وأبغضه.

الثانية عشرة: معرفة الفتنة وأنه لا بد منها، فليتأهب، وليسأل الله العافية لقوله:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} 1 الآيتين.

الثالثة عشرة: عدم أمن مكر الله.

الرابعة عشرة: عقوبة العاصي في دينه ودنياه.

الخامسة عشرة: ذكر مشيئة الله وذكر السبب من العبد.

السادسة عشرة: أن محبة الدنيا تكون سببا لردة العالم عن الإسلام.

السابعة عشرة: تمثيل هذا العالم بالكلب في اللهث على كل حال.

الثامنة عشرة: أن هذا مثل لكل من كذب بآيات الله فليس مختصا.

التاسعة عشرة: ذكر كونه سبحانه أمر بقص القصص على عباده.

العشرون: ذكر الحكمة في الأمر به.

الحادية والعشرون: قوله: {سَاءَ مَثَلاً} 2 كقوله {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} 3. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

ص: 112