الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بخلقهم، وخلق الذين من قبلهم؛ المشركين معه في عبادته الأنداد والآلهة، وهو المنفرد لهم بالإنشاء، والمتوحد بالأقوات والأرزاق.
ولما تكلم سبحانه في التوحيد والنبوة، تكلم بعدهما في المعاد، ولما كان من عادته سبحانه وتعالى في كتابه، أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط لاكتساب ما يقرب من رضائه تعالى، والتثبيط عن اقتراف ما يبعد عنه، فلما ذكر الكفار وأعمالهم، وأوعدهم بالعقاب، ذكر بعد ذلك بشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة، من فعل الطاعات وترك المعاصي، قال:
لم يأمر تعالى بقوله: {وَبَشِّرِ} واحدًا بعينه، وإنما كل أحد مأمور به، والبشارة أصلها: الخبر بما يسر المخبر به، إذا كان سابقًا به كل مخبر سوى مخبره الأول. و {الصَّالِحَاتِ}: كل ما استقام من الأعمال، فصلح لترتب الثواب عليه، بدليل العقل والكتاب والسنة، و
معنى {الْجَنَّةَ}
في اللغة: البستان من النخل والشجر المتكاثف، المظلل بالتفاف أغصانه، كأنه يستر ما تحته سترة واحدة، قال "زهير" (1):
كأنَّ عَينَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ
…
مِنَ النَّواضحِ تَسْقي جَنَّةً سُحُقَا
شبه عينيه في تذارف الدموع بالغرب، وهي: الدلو العظيمة، والمقتل من الدواب: الذي ذل ومرن على العمل، والناضح: الجمل الذي يسقى عليه، وقوله:"تسقي جنة سحقًا"، معناه: نخل طوال.
ثم وصف الجنات بكونها تجري من تحتها الأنهار، إشارة إلى أن المراد بالجنة أشجارها وثمارها وغروسها، وأن الماء يجري تحت هذه المذكورات، ولم
(1) شرح ديوان زهير بن أبي سلمى لثعلب - مصر. الصفحة 37.
يرد أرضها، وأن الماء يجري تحتها، لأنه إذا كان جاريًا تحتها، لم يكن للعيون حظ منه إلا بكشف الساتر بينها وبينه، وقد تكرر وصف أنهار الجنة في القرآن المجيد، فقال تعالى في هذه الآية:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، وقال في موضع آخر:{تَجْرِي تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 100] وفي موضع آخر: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43، ويونس: 9، والكهف: 31]. وهذا يدل بظاهره على أمور:
أحدها: وجود الأنهار فيها حقيقة.
الثاني: أنها جارية لا واقفة.
الثالث: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم، كما هو المعهود في أنهار الدنيا.
وقد ظن بعض المفسرين، أن معنى ذلك جريان الأنهار بأمر أهل الجنة، وتصريفهم لها كيف شاؤوا، وكأن الذي حمل ذلك القائل على ذلك، أنه لما سمع أن أنهارها تجري بغير أخدود، فهي جارية على وجه الأرض، حمل قوله:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} على أنها تجري بأمرهم، إذ لا يكون فوق المكان تحته، وهؤلاء أتوا من ضعف الفهم، فإن أنهار الجنة، وإن قيل: إنها تجري في غير أخدود، فهي تحت القصور والمنازل والغرف، وتحت الأشجار، والله تعالى لم يقل: من تحت أرضها، وقد أخبر سبحانه عن جريان الأنهار تحت الناس في الدنيا، فقال:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام: 6] فهذا على ما هو المعهود المتعارف، وكذا ما حكاه من قول فرعون:{وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51].
هذا، ومما ينبغي أن يتنبه له العاقل أمران:
أحدهما: ما أخرجه "أبو نعيم الفضل بن دكين" أن "عائشة" قالت - في
تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكوثر]-: "هو نهر في الجنة، ليس أحد يدخل إصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر" وهذه الرواية على فرض صحتها، متنافية الظاهر، وليس معناها إلا أن خرير ذلك النهر يشبه الخرير الذي يسمعه حين يدخل إصبعيه في أذنيه، وإلا فكل من طالع شيئًا من فن خواص الأعضاء، يعلم سبب الدويّ الذي يحصل في الأذن عند سدها بالأصبع ونحوها.
وثانيهما: أن بعض البسطاء يروون قوله صلى الله عليه وسلم:
"النيل والفرات وسيحان وجيحان من أنهار الجنة" ثم هم لا يوفونه حقه من الشرح والبيان، فيجعلون للطاعن مكانًا، ويفتحون له بابًا للطعن، كما أنهم يفتحون كثيرًا من هذه الأبواب بالجهل، وهم غافلون عن النتائج، فيقول الطاعن حينئذٍ: إن هذه الأنهار الأربعة قد علم مخرجها، وعرف من أين تجيء مياهها، فكيف يمكن أن يقال: إنها من الجنة؟ وبيان حق الحديث من الشرح، أن يقال: إن معناه على ظاهره، بلا تكلف تأويل أصلًا، وهو: أن هذه الأربعة أسماء لأنهار في الجنة، كالكوثر والسلسبيل، وليس في الحديث ما يدل على أن الفرات والنيل، وسيحان وجيحان الموجودين في الدنيا هم من أنهر الجنة حتى يكون للطاعن مجال للطعن، فإن تمسك الطاعن بما رواه عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا سعيد بن سابق، حدثنا مسلمة بن علي، عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
"أنزل الله من الجنة خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات، وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة، من أسفل درجة من درجاتها على جناح جبريل، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم فذلك قوله:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} [المؤمنون] فإذا كان عند خروج يأجوج أرسل جبريل، فرفع من الأرض القرآن والعلم كله، والحجر الأسود
من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فرفع ذلك كله إلى السماء، فذلك قوله:{وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض، فقد حرم أهلها خيري الدنيا والآخرة".
ويجاب بأن هذا الحديث موضوع لا أصل له، ولا تحل روايته إلا على سبيل بيان وضعه، والعقل يشهد بأنه لا صحة له، ورواه "ابن عدي" في ترجمة مسلمة، وقال: عامة أحاديثه غير محفوظة، وبالجملة فهو من الضعفاء، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال أبو حاتم: لا نشتغل به، وأما عكرمة فمجهول هنا، فإن كان هو مولى ابن عباس، وهو الأقرب، فقد تكلم فيه علماء الجرح والتعديل لقوله بالرأي (1).
ولما ذكر تعالى، أن جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، وكان لا يخلو قلب السامع أن يقع فيه، هل ثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا، أم هي أجناس أخر، لا تشابه هذه الأجناس، بين تعالى أنها نوع آخر مغاير لثمرات الدنيا بقوله:
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ} أي: كلما رزقوا من الجنات من أي ثمرة، كانت من تفاحها أو رمانها أو عنبها، قالوا ذلك، فمن الأولى والثانية لابتداء الغاية، لأن الرزق قد ابتدئ من الجنات، قد ابتدئ من ثمره، فـ "من" الأولى متعلقة بالرزق، مطلقًا عن أي قيد كان، و {مِنْ} الثانية متعلقة به مقيدًا بكونه من الجنات، والمراد من الـ {ثَمَرَةٍ} هنا، النوع من أنواع الثمار، والضمير في قوله {مِنْهَا} يرجع إلى الجنات، وإنما المعنى لأشجارها، وقولهم:{هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ، معناه: شبيهه ونظيره لا عينه.
وذهب المفسرون في تفسير قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} مذهبين:
(1) عجيب من المؤلف رحمه الله أن يقول مثل هذا في إمام عظيم في التفسير روى حديثه الأئمة، واحتج به البخاري في صحيحه، ولم يثبت عن أحد تكذيبه. وأما تكلمه بالرأي فإنه إن صح فليس من الرأي المؤاخذ به.
أولهما: أن المعنى: رزقنا من قبل من ثمار الجنة، لأن المرزوق ثانيًا لشدة مشابهته للأول في اللون والطعم، جعلوه كأنه هو، ومما تمسك به أرباب هذا القول، ما رواه ابن جرير وغيره، عن أبي عبيدة أنه قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها مثل القلال، كلما نزعت منها ثمرة عادت مكانها أخرى، قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة، لأن التي عادت نظيرة التي نزعت فأكلت، بكل معانيها، قالوا: ولذلك قال تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} لاشتباه جميعه في كل معانيه.
وثانيهما: أن معنى الآية، هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، ورجح هذا القول ابن جرير الطبري وقال: إنه قول ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وعمدة المرجح أن الله تعالى لم يخصص بقوله: {مِنْ قَبْلُ} ، بأن ذلك من قِيلهم في بعض دون بعض، فإذا كان قد أخبر عنهم، أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها، فلا شك أن ذلك من قيلهم في أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الجنة، واستقرارهم فيها، الذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة، فإذا كان لا شك أن ذلك من قيلهم في أوله، كما هو من قيلهم في وسطه، وما يتلوه، فمعلوم أنّه محال أن يقولوا لأول رزق رزقوه من ثمار الجنة:{هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ، هذا من ثمار الجنَّة، وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رزقوه من ثمارها هذا هو الذي رزقناه من قبل، ولما يتقدمه عندهم مثال؟ إلا أن ينسبهم ذو غرة وضلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه؛ أو يدفع دافع أن يكون ذلك من قيلهم لأول رزق يرزقونه من ثمارها، فيدفع صحة ما أوجب الله صحته بقوله:{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} من غير نصب دلالة على أنه معنيٌّ به حال من أحوالهم دون حال.
فقد تبين بما بينا أن معنى الآية: كلما رزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات، من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا، وأنت خبير بأن ما قاله ابن جرير لا يلزم أصحاب القول الأول، لأنهم يخصون هذا العام، بما عدا الرزق الأول، لدلالة العقل والسياق عليه، وليس هذا
ببدع من طريقة القرآن، وأنت مضطر إلى تخصيصه ولا بد، بأنواع من التخصيصات:
أحدها: أن كثيرًا من ثمار الجنة، وهي التي لا نظير لها في الدنيا، لا يقال فيها ذلك.
الثاني: أن كثيرًا من أهلها، لم يرزقوا جميع ثمرات الدنيا التي لها نظير في الجنة.
الثالث: أنه من المعلوم أنهم لا يستمرون على هذا القول أبد الآباد، كلما أكلوا ثمرة واحدة قالوا: هذا الذي رزقنا في الدنيا، ويستمرون على هذا الكلام دائمًا إلى غير نهاية، والقرآن العظيم لم يقصد إلى هذا المعنى، ولا هو مما يعتني بهم من نعيمهم ولذتهم، وإنما هو كلام مبين خارج عن المعتاد المفهوم من الطيب، ومعناه: أنه يشبه بعضه بعضًا، ليس أوله خيرًا من آخره، ولا هو مما يفرض له ما يفرض لثمار الدنيا عند تقادم الشجر وكبرها، من نقصان حملها وصغر ثمرها، وغير ذلك. بل أوله مثل آخره وآخره مثل أوله، وهو خيار كله، يشبه بعضه بعضًا، فهذا وجه قولهم، ولا يلزم مخالفة ما نصه الله سبحانه وتعالى، ولا نسبة أهل الجنة إلى الكذب بوجه، والذي يلزمهم من التخصيص، يلزم على ما قاله ابن جرير نظيره وأكثر منه.
وأما قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} ، فالضمير عائد إلى الرزق المفهوم من {رُزِقُوا} ، وقال الحسن البصري في معنى التشابه: خيار كلها لا رذل (1) فيها، وقال أيضًا: ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه، وإن ذلك ليس فيه رذل، وقال قتادة:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} ، أي: خيارًا لا رذل فيه، وإن ثمار الدنيا ينقّى منها ويرذل منها، وثمار الجنة خيار كله لا يرذل منها شيء. وعلى هذا فالمراد بالتشابه، التوافق والتماثل.
(1) الرذل: هو الرديء من كل شيء.
وقالت طائفة أخرى: التشابه إنما هو في اللون، والطعم مختلف، وهو مروي عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبه قال مجاهد، والربيع بن أنس.
وقال بعضهم: تشابهه في اللون والطعم، وهو مروي عن مجاهد ويحيى بن سعيد.
وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا، في اللون، وإن اختلف طعومهما، وهو قول قتادة وعكرمة.
وقال بعضهم: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء، وهو قول لابن عباس، ومحمد بن بشار (1)، وعبد الرحمن بن زيد، واختار ابن جرير الطبري هذا القول، وإليه جنح المتأخرون من علماء اللغة والبيان، فقال العلامة في "الكشاف":
إنما تشابه كل من ثمر الدنيا وثمر الآخرة، لأن الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، واذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه، وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد، وتقدم له معه إلف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتًا بليغًا بينه وبين ما عهد، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به، ولو كان جنسًا لم يعهده، وإن كان فائقًا، حسب أن ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين، فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا، ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حد البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمانة الجنة تشبع السكن، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجؤوا بذلك الرمان من غير عهد سابق بجنسه، هذا كلامه.
ونحن قد سردنا هنا الأقوال، وتكلمنا بحسب ما تقتضيه اللغة، مع علمنا بأن الأمر غيب، وأنه لا شيء مما في الدنيا يشبه شيئًا مما في الآخرة شبهًا تامًا،
(1) محمد بن بشار إنما روى تفسير ابن عباس فقط.
كما يرشد إليه قوله تعالى: {مُتَشَابِهًا} ، فإن المتشابهين لا تكون حقيقتهما واحدة، وإلا لعدّا متماثلين، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وأما قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . فالضمير في {لَهُمْ} لـ {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، والمعنى: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بأن لهم في الجنة أزواجًا مطهرة مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة، وما لا يختص بهن من الأقذار والأدناس، ومطهرة أيضًا من دنس الطباع، وطبع الأخلاق التي عليه نساء الدنيا، مما يكتسبن بأنفسهن ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناشئ المفسدة، ومن سائر عيوبهن ومثالبهن، وخبثهن وكيدهن، والعموم مستفاد من حذف المتعلق، حيث لم يقل: مطهرة من كذا وكذا، فقد جمع الله تعالى في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات، وما فيها من الأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ثم ختم بنعيم القلب، وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه، فقال:{وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وخلودهم في الجنات دوام بقائهم فيها، على ما أعطاهم الله فيها من الخيرة والنعيم المقيم، واعلم أن أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، مما نادى به الكتاب المنزل، وصرحت به أحاديث النبي المرسل.
فإن قال قائل: إن الله تعالى استثنى في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود] أي: مقطوع، فما وجه الاستثناء هنا؟ !
قلنا: "إن الذين سعدوا" مراد به العموم، وهم في الجنة خالدون فيها، إلا مدة كونهم يوم القيامة في الموقف، وعلى هذا فليس في الآية تخصيص، لأنه من المعلوم: أن إحيائهم هو أول يوم من أيام قيامهم، وهم لا يدخلون الجنة من أول الأمر، بل لا بد لهم من الوقوف في الموقف.
وأما أهل العربية، فقال سيبويه والفراء: إن {إِلَّا} هنا بمعنى "لكن"، نظير قولك: لي عليك ألف إلا الألفين اللذين قبلها، والمعنى على هذا: سوى ما
شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض، وحينئذ تتضح المناسبة بين أول الآية وبين قوله تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} . واختار ابن قتيبة: أن {إِلَّا} بمعنى سوى، وقال: المعنى خالدين فيها مدة العالم، سوى أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم، وقيل: إن {مَا} في {مَا دَامَتِ} بمعنى "مَن"، والمعنى نظير قوله:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3]، والمعنى: إلا من شاء ربك أن يدخله النار بذنوبه من السعداء، وهذه الأقوال متقاربة.
والقول الحق: أن الله سبحانه أخبر عن خلودهم في الجنة كل وقت، إلا وقتًا يشاء أن لا يكونوا فيها، وهذا يتناول وقت كونهم في الدنيا وفي البرزخ، وفي موقف القيامة، وعلى الصراط، وكون بعضهم في النار مدة.
ثم إنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزًا، أورد هنا شبهة أوردها الكفار قدحًا في ذلك، وأجاب عنها فقال:
وتقرير الشبهة: أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب، والعنكبوت والنمل، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء، فاشتمال القرآن عليها قدح في فصاحته، فضلًا عن كونه معجزًا.
فأجاب الله تعالى بأن صغر هذا الأشياء، لا يقدح في الفصاحة، إذا كان ذكرها مشتملًا على حِكَم بالغة.
فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها، وسبب نزولها أن اليهود لما نزل قوله تعالى:{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41]
قالوا: أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما، وكذلك طعن المنافقون في ضرب الأمثال بالنار والظلمات، والرعد والبرق، في قوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وطعن المشركون أيضًا كما طعن المنافقون، فأنزل الله هذه الآية، نداء على جهلهم بأساليب البلاغة وبيانًا، لأن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار، واستغربوه من أن تكون المحتقرات من الأشياء مضروبًا بها المثل، ليس هو مما يستنكر ويستغرب، من جهة أن التمثيل، إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وجعل المتوهم قريبًا من المشاهد، فإذا كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرًا كان المتمثل به كذلك، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل، إذًا إلا أمرًا (1) تستدعيه حالة المتمثل له، وتستجره إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية، وعلى هذا درج البلغاء في محاوراتهم ومخاطباتهم، وهذه أمثال العرب قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء، فقالوا:"أجمع من ذَرَّة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد". ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزؤان والنخالة، وحبة الخردل، والدود والزنابير. ولكن سجية المحجوج المبهوت الذي لم يبق له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة ولا إقناع، أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح، وإنكار المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة، إذا لم يجد سوى ذلك معولًا.
وأنت إذا تأملت سوابق هذه الآية ولواحقها، وجدت أن هذه الآية تشير إلى أنها وردت جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال، في هذه السورة، وليست جوابًا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور، أمثال موافقة للمعنى لما أخبر عنه
(1) في الأصل: (إذًا الأمر) والتصويب من "الكشاف".
أنه لا يستحيي أن يضرب مثلًا إذ كان بعضها تمثيلًا لآلهتهم بالعنكبوت وبعضها تشبيهًا لها بالضعف والمهانة بالذباب، وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوز أن يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما فإن هذا بخلاف ما ظن، وذلك أن قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} ، إنما هو خبر منه تعالى أنه لا يستحي أن يضرب في الحق من الأمثال صغيرها وكبيرها، ابتلاء بذلك لعباده واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به، من أهل الضلال والكفر به، إضلالًا منه لقوم وهداية منه لآخرين.
وقد روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: إن الله لما ضرب هذين المثلين للمنافقين يعني قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فإنزل الله تعالى هذه الآية.
فإن قال قائل: أين الإشارة إلى ما زعمت من أن الآية وردت جوابًا لنكير الكفار؟ وأين ما يدل على ذلك النكير؟
قلنا: أشار إلى ذلك قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
…
} إلى آخر الآية.
والاستحياء هنا: الخشية، والمعنى: أن الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبه به، و {مَا} بمعنى: الذي، أي: الذي هو بعوضة في الصغر والقلة، فما فوقها مثلًا، وهذا على قراءة من قرأ {بَعُوضَةً} بالرفع، وأما على قراءة النصب فـ {مَا} هذه إبهامية، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهامًا، وزادته شيوعًا وعمومًا، كقولك: أعطني كتابًا ما تريد: أيَّ كتاب كان، و {بَعُوضَةً} عطف بيان لـ {مَثَلًا} ، أو مفعول لـ {يَضْرِبَ} ، و {مَثَلًا} حال من النكرة مقدمة عليه، وقوله:{فَمَا فَوْقَهَا} معناه: ما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلًا، وهو القلة والحقارة، ونظيره قولك لمن يقول فلان أسفل الناس وأنذلهم: هو فوق ذاك، تريد هو أبلغ وأعرق فيما وصف به من السفالة والنذالة، ولك أن
تقول: معناه فما فوقها بالحجم، أي: ما زاد عليها في الجسم، ويكون القصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل، وهذا الوجه هو الذي تتراءى من خلال التنزيل صحته، وتنادي بلاغته بالتعويل، وبيان بعض أسراره: أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به علمًا إلا علّام الغيوب، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير، ولا يتنبه إلى الحقائق إلا من خلع ربقة التقليد من عنقه، وأطاع البراهين والحجج الدامغة فكان مع الحق يدور معه حيثما دار، وهناك يتبين العاقل من الجاهل، وتختبر العقول {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ، أي: نظروا فيما نصبه الله تعالى من البراهين في أنفسهم وفي الآفاق، فصدقوا الله ورسوله، {فَيَعْلَمُونَ} ، أي: فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله تعالى لما ضربه، هو الحق من ربهم، ويذعنون للحقيقة، وينكشف به الغطاء عن بصائرهم. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: جحدوا آيات الله كفرًا وعنادًا كالمنافقين، أو تقليدًا لسلفهم كالمشركين، أو غلطًا في تأويل كتابهم وتقليدًا لمن سلف منهم، كأهل الكتاب، فأولئك حجبهم ما هم فيه، عن اتباع الحق، وحملهم على أن يقولوا:{مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} ، أي: ما الذي أراده الله بهذا المثل، لأن ما هم عليه من التقليد المحض، والاستكبار عن اتباع الحق، أقفل أبواب أذهانهم، وأجمدها، وحصر عقولهم ضمن دائرة صغيرة، فلا يتعدونها ولا يفهمون الإشارات، ولا يدركون مرامي الأدلة والبراهين. والله تعالى {يُضِلُّ بِهِ} ، أي: بذكر المثل {كَثِيرًا} من أهل النفاق والكفر، فيزيدهم ضلالًا إلى ضلالهم، وتكذيبًا إلى تكذيبهم، {وَيَهْدِي بِهِ}: أي: بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان، والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم، وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق لما ضربه الله له مثلًا، وإقرارهم به، وذلك هداية الله لهم به، ألا ترى أن طالب الحق كلما قدمت له البراهين نظر بها، فعزل غثّها عن سمينها، وازداد بها معرفة وعرفانًا، وكلما ازدادت عنده البراهين، ازداد عرفانًا، وأما المقلد والمستكبر عن اتباع الحق حسدًا، فإن البراهين القاطعة لا تزيده إلا نفورًا، ولا تفيده إلا زيادة في الضلال، ونفورًا عن طريق الهدى.
ثم إنه تعالى استأنف الكلام، فقال:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء، والمنافقون والكفار أطلق عليهم الفسق لخروجهم عن طاعة ربهم، ولذلك قال تعالى في صفة إبليس:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] يعني به: خرج عن طاعته واتباع أمره.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} الآية، صفة للفاسقين، وكشف عن معناهم، وفي الآية بحث طويل ومقام طالما رددته أفهام الفحول، فأصبحت العقول به حيرى، وسيرد عليك أثناء الكتاب حججه ودلائله في مواضعها إن شاء الله تعالى، ولكننا نكتب هنا حاصله، وما ذاك إلا في قوله تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} ، فإنه بظاهره يفهم منه بطلان ما أجمعت عليه الأمة (1) بأسرها، من أنه تعالى لم يدع إلى الكفر، ولم يرغب فيه، بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه، وإذا أمعنت النظر في الآية، وجدتها لا تفيد هذا المعنى أصلًا لوجوه:
أولها: أن القرآن إنما نزل بلغة العرب، فيجب تأويله على مقتضى كلامهم، وقد استعمل الضلال في كلامهم بمعنى: الضلال في العلوم التي تستفاد من جهة النظر والاستدلال، ولما كان ضرب الأمثال يحتاج المراد منه إلى النظر نزلت منزلة العلوم النظرية، وأطلق على عدم معرفتهم ما يراد منها أضلال، ثم نسب إلى من ضرب المثل لصدوره منه، ألا تَراكَ أنك إذا ناظرت ضالًا عن طريق الهدى فأوردت له البراهين على الحق، وأوضحت له الأدلة الناطقة به، فلم يصغ إليها، ولامَك لائم على صنيعك معه، قلت له: أنا أبرهن على الهدى، وبرهاني إما أن يهدي الذي أناظره واما أن يضله، بمعنى: أنه إما أن يوقعه في الشك فيضله عن طريق قصده، وإما أن يزيده بعدًا ونفورًا واستكبارًا، فلا يذعن لناصح، ولا يصغي لمحق، وعلى كلا التقديرين فلا إشارة في الآية للجبر أصلًا، ومن هذا المعنى قوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].
(1) في الأصل (اللغة) ولعله سبق قلم من المؤلف- رحمه الله.
وثانيهما: قال ابن السكيت: يقال للشيء الثابت في موضعه إلا أنك لم تهتد إليه: ضللته؛ قال "الفرزدق"(1):
وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دارِمًا
…
كَضلالِ مُلتَمِسٍ طَرِيقَ وَبَارِ
وعليه فمعنى الآية: أن الله أورد لهم من الأمثال، ما علم كثير منهم ما هو المراد منها فاهتدى، وخفي على كثير منهم فَضَلَّ، ولم يهتد إلى ما هو الواجب عليه أن يعرفه، فيحكم الله بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار، في الآخرة.
ثالثها: أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء، من غير أن يكون لذلك الشيء أثر في إضلاله، يقال لذلك الشيء: إنه أضله، قال تعالى في حق الأصنام:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] ومعناه: ضلوا بهن، وقال في حقهم أيضًا:{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24] أي: ضل كثير من الناس بهم.
وفي هذه الآية، لما قال الكفار: ما الحاجة إلى هذه الأمثال؟ وما الفائدة منها؟ واشتد عليهم هذا الامتحان، حسن أن يقول تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} ويجوز أن يكون الإضلال من التخلية، وترك المنع بالقهر والجبر، فيقال: أضله إذا خلاه وضلله، ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدئ: أفسدت سيفك وأصدأته.
وهذه المعاني واضحة لمن تأملها، ولا يخفى على من له معرفة بمعاني كلامه تعالى، أنه سبحانه يبين لعباده طريق الهدى وطريق الضلال، ويبرهن على حسن الأول وقبح الثاني، فإن تبع العبد طريق الهدى، نسب هداه إلى الله تعالى من حيث إنه بينه له، وإذا تبع طريق الضلالة نسب إضلاله إلى الله تعالى، باعتبار أنه بين له أن هذه طريق الضلالة وحذره منه فاتبعه، وهذا على حد ما لو بينت
(1) هي في لسان العرب كما هنا وفي شرح ديوان الفرزدق، للصاوي: 2/ 450، بلفظ (تَطْلُبُ) بدلًا من (يَدْعُو).
وبار: قرية من وراء يبرين في أعالي بلاد بني سعد مما يلي الشحر. زعموا أنها مساكن الجن فلا تسلك، وما أكثر ما زعموا للجن.
لسالكٍ طريقين: أحدهما فيه فلاحه ونجاحه، والثاني فيه خساره، ثم تقول له قد هديتك وأضللتك، ومن ثم ذهب إمام الحرمين إلى أن الأفعال واقعة بقدرة يخلقها الله في العبد، إذا قارنت حصول الشرائط وارتفاع الموانع، انتهى.
ولما كان البيان يزيد المهتدي هدى، والضال ضلالًا، قال:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} ، والفاسق: الخارج عن الطاعة، مأخوذ من قولهم فسقت الرطبة من قشرها، أي: خرجت، وهذا بعينه معنى قوله تعالى:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} أي: يخرجون عنه بعدما دخلوا فيه، فهو تفسير للفاسقين، وإذا تحققت هذه المسالك، وهو أن القرآن يفسر بعضه بعضًا، وأنه يجب تفسير مفرداته على مقتضى ما كان مصطلحًا عليه أيام نزوله من كلام العرب، علمت ما يغلط به كثير من الناس من أنهم قد تعودوا ما اعتادوه، إما من خطاب عامتهم، وإما من خطاب علمائهم، باستعمال اللفظ في معنى، فإذا سمعوه في القرآن والحديث، ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى، فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النبطية (1)، وعادتهم الحادثة، وهذا مما دخل به الغلط على طوائف، بل الواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل به القرآن والسنة، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ، فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله، لا بما حدث بعد ذلك، وهذه قاعدة كبيرة من قواعد التفسير.
وقو له تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الآية، يلوح بأنوار أسرار البلاغة، وذلك أن أصل النقض، إنما هو: الفسخ وفك التركيب، ثم إن العرب لما كانوا يسمون العهد بالحبل، لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين، جاز استعمال النقض، الذي يوصف به الحبل، في إبطال العهد جريًا على عادتهم من سكوتهم عن ذكر الشيء المستعار، والرمز إليه بشيء من روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه، و {الْعَهْدُ} المَوْثق، يقال: عهد إليه في كذا، إذا وصاه به ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه واستوثق منه.
(1) لا يقصد المؤلف- رحمه الله اللغة المعروفة بهذا الاسم، بل كل لغة، أو استعمال شائع في هذا الزمن أو زمن آخر. وهذا ليس في تفسير القرآن فقط بل مطرد في الأحاديث والأحكام الفقهية، فضلًا عن القصص والأخبار والآداب.
والمراد من هؤلاء الناقضين، هم الذين نزلت فيهم، وهم كفار أحبار اليهود، الذين كانوا بين ظهراني مُهاجَر رسول الله، وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل، ومن كان على شرْكه من أهل النفاق المبين قصصهم فيما مضى، غير أنه وإن كانت الآية نزلت فيهم فإنها لا تختص بهم، بل هي شاملة لهم، ولكل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال، وقد عنى أيضًا بما وافق منها صفة المنافقين، ولما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميع من كان نظيرًا لهم في كفرهم، وذلك أن الله جل جلاله يعم أحيانًا جميعهم بالصفة لتقديمه، ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرت قصصهم، ويخص أحيانًا بالصفة بعضهم، لتفصيله في أول الآيات بين فريق المنافقين من عبدة الأوثان، وأهل الشرك بالله، وفريق كفار أحبار اليهود، والعهد الذي نسب تعالى نقضهم إليهم، هو: تركهم ما عهد إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، وكتمهم بيان ذلك بعد علمهم به، وبما قد أخذ الله عليهم من الميثاق في ذلك، كما قال:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]، ونبذهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضهم العهد الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه، وتركهم العمل به. والذي يدل على هذا المنحى من التفسير أنه من ابتداء الخمس أو الست الآيات من أول هذه السورة، إنما نزل فيهم إلى تمام قصصهم، ثم جاءت الآية التي بعدها مخبرة عن خلق آدم وأبنائه، ثم أعاد الكلام عليهم في قوله:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وفي خطابه إياهم بالوفاء في ذلك خاصة دون سائر البشر، ما يدل على أن قوله:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} ، مقصود به كفارهم ومنافقوهم، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم.
غير أن الخطاب، وإن كان لهؤلاء، لكنه يدخل في أحكامهم، وفيما أوجب الله عليهم لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كل من كان على سبيلهم ومنهاجهم، من جميع الخلق وأصناف الأمم، المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية حينئذٍ: وما يضل به إلا التاركين عهود الله التي عهدها إليهم في الكتب التي أنزلها إلى رسله، وعلى ألسن أنبيائه باتباع أمر رسوله وما جاء به، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم، أنه رسول من عند الله، مفترضة طاعته وترك كتمان ذلك لهم، ونكثهم ذلك.
ونقضهم إياه هو: مخالفتهم الله في عهده إليهم، فيما وصف أنه عهد إليهم، بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك، كما وصفهم به تعالى بقوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]، وإلى ما ذكر جنح ابن جرير الطبري.
وأما قوله: {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} ، فهو اسم من التوثق، ومعناه: من بعد توثق الله منه، بأخذ عهوده بالوفاء له بما عهد إليه في ذلك، فالضمير في ميثاقه يعود إلى اسمه تعالى.
وقد يدخل في حكم هذه الآية، كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين، من الكفار والمنافقين في نقض العهد، وقطع الرحم والإفساد في الأرض، ولهذا قال قتادة: إياكم ونقض هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضه، وأوعد فيه، وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما، ما أوعد في نقض الميثاق، فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه، فليفِ به لله.
وقال الربيع في تفسير هذه الآية، أشارت الآية إلى ست خصال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظهرة أظهروا هذه الخلال الست: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله أن يوصل، وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظهرة أظهروا الخلال الثلاث الأول.
وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} خصه بعض المفسرين بقطع الرحم، وليس الأمر على التخصيص، وإنما معناه العموم، فيشمل قطع الرحم التي منع الله من الظلم في ترك أداء ما ألزم من حقوقها، وأوجب من برها ووصلها أداء الواجب لها إليها من الحقوق التي أوجب لها، والتعطف عليها بما يحق التعطف به عليها، ويشمل الذم أيضًا لكل قاطع قطع ما أمر الله بوصله، فإن الله تعالى أمر بوصل حبل المؤمنين فيما بينهم، فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فكل من سعى في بتّ هذا الحبل، ونقض هذا الميثاق بين المؤمنين يشمله الذم، بحكم هذه الآية. ولكل من سعى بالتفريق بين اثنين، أو بين جماعة، بغيبة أو نميمة أو احتيال وغير ذلك من طرق التفريق، ولكل من احتال على أكل أموال الناس بالباطل، لأن الله تعالى أمر بالوصلة بين ما يملكه الإنسان وبينه، فلا يفرق بين المالك وملكه إلا بحق، والمتحيل كل أموال الناس بالباطل والمتسلط على ذلك، قاطع ما أمر الله به أن يوصل، ولكل من سعى في قطع طريق خير، لأنه لا فرق بين من يقطع السابلة على المارة، وبين من يعرقل المساعي في الأعمال الخيرية، ولكل من اختلس المدارس والمساجد وأوقافها، لأن المدارس ونحوها سبب لإِيصال العلم إلى المتعلمين، وقد أمر الله بها بتلك الوصلة، فالساعي في اختلاسها قاطع لما أمر الله أن يوصل، إلى غير ذلك مما يعلمه من أمعن النظر في هذه الآية، وهي شاملة أيضًا لما يفعله أهل الكتاب من قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق، في إيمانهم ببعض، وكفرهم ببعض.
وما ذكرناه آنفًا داخل في عموم قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} ، لأنه ما من خصلة ذميمة، إلا ويصدق عليها أنها فساد في الأرض.
{أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الإشارة فيه ترجع إلى المتصفين بالأوصاف المذكورة في الآية ومعناه: أن الذين اتصفوا بذلك هم الخاسرون، لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والصلاح بالفساد، وعقابها بثوابها، فخسروا دنيا وأخرى، فكانوا كمن خسر في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، فكذلك
أصحاب الأوصاف المتقدمة، خسروا بحرمان الله إياهم رحمته التي خلقها لعباده في القيامة، وهم يومئذ أحوج ما يكون إلى رحمته، ويخسرون في الدنيا حظهم من الشرف والكرم، لأنه ما من عامل إلا ويظهر عمله، وهو وإن خفي في المبدأ، لا بد وأن يظهر في المآل كما هو مشاهد ومعلوم، وكتب التاريخ من أقوى الأدلة على ذلك.
ولما تكلم تعالى في دلائل: التوحيد والنبوة، والمعاد إلى هذا الموضع، شرح النعم التي عمت جميع المكلفين من هنا إلى قوله:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] فقال:
ذكرهم في هذه الآية بنعمة الإحياء، مبرزًا الكلام بصورة الاستفهام والاستخبار، لكن المراد به التبكيت والتعنيف، لأن عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم، ألا ترى أن الوالد كلّما عظمت نعمته على الولد، بأن رباه وعلمه، وخرجه وموّله، وعرضه للأمور الحسان، كانت معصيته لأبيه أعظم، فبين سبحانه وتعالى بذلك عظم ما أقدموا عليه من الكفريات، فذكرهم بنعمه العظيمة عليهم، ليزجرهم بذلك عما أقدموا عليه من التمسك بالكفر، ويبعثهم على اكتساب الإيمان، فذكر تعالى من نعمه ما هو الأصل في النعم، وهو الإحياء، فهذا هو المقصود الكلي.
فإن قيل: ما الحكمة في تصديره تعالى هذه الآية: بـ {كَيْفَ} التي معناها الاستفهام في غالب أحوالها؟ والاستفهام لا يكون إلا ممن خفي عنه حال المستفهم عنه، وهو محال عليه تعالى لأنه علام الغيوب.
قلنا: ليس الاستفهام هنا على حقيقته كما أشرنا إليه سابقًا، لكنه لما كان الحال حال العلم بالصانع، الموجبة للصرف عن الكفر، وكان صدور الكفر ممن لهم صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب، وإنكار
وتوبيخ، صار كأنه قيل لهم: ما أعجب كفركم، والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي أنكم {كُنْتُمْ أَمْوَاتًا} ، أي: نطفًا في أصلاب آبائكم، فجعلكم أحياء، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بعد هذه الحياة، وهذه مما لا يشك فيها، لأنها من المشاهدات، ثم أردفها بالقضايا التي لا يشك فيها أيضًا لنصب الأدلة عليها وإزاحة العلة عنها، والدليل على أن المراد من قوله تعالى:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} ، أي: غير موجودين، الإتيان بـ {كُنْتُمْ} الدالة على المضي، والعرب تقول للشي الدارس، والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميت، وهذا أمر ميت، يراد بوصفه بالموت خمول ذكره، ودروس أثره من الناس، وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حي، يراد بوصفه بذلك: أنه نابه متعالم في الناس.
وقوله: {فَأَحْيَاكُمْ} أي: بإنشائكم بشرًا سويًا، حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتًا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة، وصيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك فتردون موقف الحساب، وتأتون ديوان الجزاء، فمردكم إليه أولًا وآخرًا.
والحاصل: أنه تعالى بين في هذه الآية، أن المبدأ والمعاد إنما هو بأمره سبحانه وتعالى، ليجمل في الرد على المشركين، ثم فصله في آيات كثيرة في القرآن العظيم، وذلك أن العرب الذين كانوا حين نزل القرآن، وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، أصنافًا شتى، فمنهم معطلة، ومنهم محصلة، نوع تحصيل، فأما المعطلة فهم أصناف، فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي، والدهر المفني، وهم الذين رد الله عليهم في هذه الآية، وأخبر عنهم في آية أخرى أنهم قالوا:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] إشارة إلى الطبائع المحسوسة، وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها، فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر، {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} [الجاثية]، فاستدل عليهم
بضرورات فكرية، وآيات قرآنية فطرية في كم آية وكم سورة، وسيمر بك بيانها أثناء هذا الكتاب، فثبتت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق، بأنه قادر على الكمال إبداء وإعادة، وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع، وأنكروا البعث والإعادة وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد بقوله:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس] فاستدل عليهم بالنشأة الأولى لأنهم يعترفون بها، فقال:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]. وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة، وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام، وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى في الآخرة، وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا، وقربوا القرابين، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر، وحللوا وحرموا، وهم الدهماء من العرب، إلا شرذمة منهم وهم الذين أخبر التنزيل عنهم:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان] فاستدل عليهم بأن المرسلين كانوا كذلك، وشبهات العرب مقصورة على هاتين الشبهتين: إحداهما: إنكار البعث، بعث الأجساد، والثانية: جحد البعث، بعث الرسل، وعبروا عن ذلك في أشعارهم، فقال بعضهم (1):
حياة ثم موت ثم نشر
…
حديث خرافة يا أم عمرو
ولبعضهم في رثاء من قتل يوم بدر:
وماذا بالقَلِيب قليب بدر
…
من الشِّيزَى تُكَلَّل بالسَّنام
يُخبِّرنا الرسولُ بأن سَنَحْيا
…
وكيف حياةُ أصداءٍ وَهامٍ؟
والكتاب العزيز تضمن الرد على هذه الفرق كلها، كما أنه تضمن الرد
(1) من شعر شداد بن الأسود في بكاء قتلى بدر. انظر "سيرة ابن هشام" 3/ 30، 31 ما قيل من الشعر في يوم بدر.
على غيرها، ولنتكلم الآن على الصنف الأول من أصناف المعطلة، لأن عقيدة هذا الصنف قد شاعت في زمننا شيوعًا عظيمًا، ولا سيما في البلاد الهندية، وأصل هذه النحلة الشنعاء، أن حكماء اليونان في القرن الرابع والثالث قبل المسيح عليه السلام، ذهب فريق منهم إلى نفي كل موجود سوى المادة والماديات، وإلى أن صنف الوجود مختص بما يدرك بالحواس الخمس، لا يتناول شيئًا وراءه، وعرفت هذه الطائفة: بالماديين، ولما سئلوا عما ينشأ من الاختلاف في صور المواد وخواصها، وعن التنوع الواقع في آثارها، نسبه الأقدمون منهم إلى الطبيعة، ولهذا اشتهرت هذه الطائفة: بالطبيعيين عند أهل اللغة العربية.
وذهب فريق منهم إلى وجود ذات مجردة عن المادة والمدة، مخالفة للمحسوسات في لوازمها، منزهة عن لواحق الجسمانية وعوارضها، وأثبت أن سلسلة الموجودات مادية ومجردة، تنتهي إلى موجود مجرد واحد من جميع الوجوه، مبرأ الذات عن التأليف والتركيب، ومحال عند العقل تصور التركيب فيه، وجوده عين حقيقته، وحقيقته عين وجوده، وهو المصدر الأول، والموجد الحقيقي، والمبدع لجميع الكائنات، مجردة كانت أو مادية، واشتهرت هذه الطائفة: بالمتأهلين، يعني: الخاضعين لله تعالى، ومنهم "أرسططاليس"(1) الذي ترجمت كتبه في الملة الإسلامية، واشتهر مذهبه فيما بين فلاسفتهم. وهو ما ينتحله "فيثاغورث وسقراط (2) وأفلاطون"(3) ثم اختلف هؤلاء بعد أن أصّلوا
(1) أرسطو (384 - 322 ق. م) مؤدب الإسكندر، فيلسوف يوناني، مؤسس مذهب "فلسفة المشائين" مؤلفاته كثيرة في المنطق والطبيعات والإلهيات والأخلاق أهمها: المقولات الجدل، العبارة أو التفسير، الخطابة، السماء والعالم، الكون والفساد، كتاب ما بعد الطبيعة. وبنقل مؤلفاته إلى العربية، أخذتها أوروبة عن العرب.
(2)
سقراط (468 - 399 ق. م) ولد في أثينا، فيلسوف يوناني كان يلقي دروسه في الأزقة وبين الجماعات بأسلوب عامي ينتابه السؤال والجواب.
(3)
أفلاطون (430 - 347 ق. م) من مشاهير فلاسفة اليونان. تلميذ سقراط ومعلم أرسطو. من مؤلفاته: الجمهورية أو السياسة، المحاورات، الشرائع.
أصلهم، واعتمدوه في تكوين الكواكب، وانشاء الحيوانات والنباتات. فذهب "ديمقراطيس"(1) إلى أن العالم أجمع، سواء كان من الأرضيات، أو من السماويات، مؤلف من أجزاء صغار صلبة متحركة بالطبع، ومن تلك الحركة الطبيعية التي هي لها، ظهرت أشكال الأجسام وهيآتها بقضاء العماية المطلقة، يعني بالصدفة التي لا تعلم حقيقتها، فأدتهم سخافة عقلهم إلى تجويز الترجيح بلا مرجح الذي لا يسلم به العقل السليم، ويعده مستحيلًا.
وذهب فريق آخر: إلى أن العلويات والسفليات من الأجرام السماوية، والكرة الأرضية كانت على هيئتها هذه من الأزل، ولا تزال على هذه الهيئة، فلا ابتداء لسلسلة النباتات والحيوانات، وزعم هؤلاء أن في كل بذرة نباتًا مندمجًا فيها، وفي كل نبات بذرة كامنة، ثم في هذه البذرة الكامنة نبات فيه بذرة، وهكذا إلى غير النهاية، وأداهم مسلكهم هذا إلى القول بأن في كل جرثومة من جراثيم الحيوانات حيوانًا تام التركيب، وفي كل حيوان كامن في الجرثومة جرثومة أخرى، وهكذا يذهب كذلك إلى غير النهاية، كما في النباتات، وفات هؤلاء: أن قولهم هذا أداهم إلى القول بوجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه، وهذا مما ينادي العقل السليم بأنه من المحالات الأولية التي لا يمكن إنكار كونها محالًا.
وذهب فريق ثالث، إلى أن سلسلة النباتات والحيوانات قديمة بالنوع، كما أن الأجرام العلوية قديمة بالشخص، ولكن لا شيء من جزئيات الجراثيم الحيوانية، والبذور النباتية بقديم، بل كل جرثومة وبذرة بمنزلة قالب يتكون فيه ما يشاكله من جرثومة وبذرة أخرى، ولم يفطن هؤلاء إلى أن قولهم هذا، أداهم إلى ما يبطل مذهبهم من أصله، وهو أن كثيرًا من الحيوانات الناقصة الخلقة قد يتولد عنها حيوان تام الخلقة، وأن كثيرًا من الحيوان التام الخلقة قد يتولد عنه ناقصها أو زائدها.
ثم جاء "أبيقور" المتوفى سنة مئتين وسبعين قبل ميلاد المسيح، فمال هو وأتباعه إلى الإبهام في البيان، وقالوا:
(1) ديمقراطيس فيلسوف يوناني مات في القرن الخامس قبل الميلاد.
إن أنواع النباتات والحيوانات انقلبت في أطوار، وتبدلت عليها صور مختلفة بمرور الزمان، وكرور الدهور، حتى وصلت إلى هيآتها وصورها الموجودة المشهورة لنا، وذلك على زعمه: أن الجواهر متحركة حركة أزلية في فراغ هذا الخلاء الذي لا نهاية له بانحراف فيه، لا بعضها عن موازاة بعض بحيث يصطدم بعضها ببعض، وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع، وهذه الحركة تؤدي إلى تراكيب وصور عديدة متنوعة ومتغيرة، ومن مزاعمه هذه استنتج بعض من اعتنى بكلامه، أن جميع ظواهر الطبيعة عنده، ليست إلا فعل الصدفة العمياء، ومن مزاعم أبيقورس: أن الإنسان في بعض أطواره كان مثل الخنزير، مستور البشرة بالشعر الكثيف، ثم أنه لم يزل ينتقل من طور إلى طور حتى وصل بالتدريج إلى ما نراه من الصور الحسنة والخلق القويم، ثم أنه لم يقم دليلًا على ما ادعاه، ولم يستند إلى برهان فيما زعمه، من أن مرور الزمان علة لتبدل الصور وترقي الأنواع، وعند أبيقورس: أن جميع الآلهة ليست إلا بشرًا أكمل من البشر، ومكانها في مكان سعيد خال من الوجع، وأنها كوائن أزلية لا يعتريها موت ولا عمل لها، وهي مقيمة في الفسحات الكائنة بين العوالم لا يهمها من الأرض شيء، ولا من مجرى الطبيعة، وعنده أن احترامها لا يجب إلا بالنظر لكمالها.
ولم يزل مثل هذا الاختباط سائدًا إلى أن ظهر فن طبقات الأرض، المسمى:"بالجيولوجيا"، فكشف لهم بطلان القول بقدم الأنواع، فرجع المتأخرون من الماديين عن ذلك القول إلى القول بالحدوث، ولكنهم صاروا بعد ذلك فريقين في كيفية كون الجراثيم النباتية والحيوانية، فذهب فريق: إلى أن جميع الجراثيم على اختلاف أنواعها، تكونت عندما أخذ التهاب الأرض في التناقص، ثم انقطع التكون بانقضاء ذلك الطور الأرضي. وذهب الفريق الثاني: إلى أن الجراثيم لم تزل تتكون حتى اليوم، خصوصًا في خط الاستواء حيث تشتد الحرارة، وليس عند الفريقين برهان يعولون عليه، أو برهان يستندون إليه، إلا مجرد المزاعم والدعوى، الذي لأجله على زعمهم بقيت تلك الجراثيم حية لا يعتريها فناء، خصوصًا بعدما أسسوه من قواعدهم، بأن الحياة فاعل في بسائط الأجرام، موجب لالتئامها، حافظ لكونها، وأن قوتها الغازية هي التي تجعل غير
الحي من الأجزاء حيًا بالتغذية، فإذا ضعفت الحياة ضعف تماسك البسائط وتجاذبها، ثم صارت إلى الانحلال، إلى غير ذلك من المزاعم التي لا يقبلها العقل، ولا يقدر منتحلوها على تأييدها بالبرهان، كقول من قال: إن تلك الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن كرة الشمس، وما درى ذلك القائل بأنه هو وأشياعه يقولون: بأن الأرض كانت يومئذٍ جذوة نار ملتهبة، فكيف هذه النيران المستعرة لم تحرق تلك الجراثيم، ولم تمح صورها.
هذا وما زال الرأي المادي ينمو تارة، ويخبو ناره تارة، وتنقلب عليه آراء جماعة "كداروين" وغيره. وهو في الحقيقة لا ينسب إلى رأي معلوم، ولا إلى مذهب خاص، لاختلاف آراء جماعته وناصريه إلى أن صار الرأي المادي اليوم: أن المادة وحدها ليست هي التي تفعل الأفاعيل، وليست هي المتكلفة بالتركيب والتحليل، وأنها فوق كل شيء، بل إنما أفاعيلها بانضمام القوة والإدراك إليها، حيث قال: وهذه الفلسفة لا تقتضي لقضاياها العصمة المطلقة، ولا تستنزل من سوابح الأفكار في ذرى سماء الخيال نواميس الكون، بل بالضد من ذلك، تقف عند حد أبحاث العلوم الصحيحة، وهذا الحد غير ثابت، بل يزداد بعدًا سنة عن سنة كلما تقدمت هذه العلوم، وقد يقع الخطأ فيها أكثر من مرة، إلا أن هذا الخطأ لا يضر، بل يفيد لاكتشاف الحقيقة على حد المثل القائل: لا ينتقل من الخطأ إلى الصواب إلا العاقل، ولا يقف إلا المجنون، انتهى.
وقد استهزأ الطبيب المظفر بن معرف (1) بهذه الطائفة فقال:
وقالوا: الطبيعة مبدأ الكون
…
فيا ليت شعري ما هي الطبيعة؟
أقادرة طبعت نفسها
…
على ذاك أم ليست بالمستطيعة؟
وقال أيضًا:
(1) هو مظفر بن عبد الرحمن البعلبكي، طبيب، كان أبوه قاضيًا ببعلبك فنسب إليها. نشأ وتعلم بدمشق، وخدم في بيمارستان الرقة، ثم عاد إلى دمشق وتولى رئاسة جميع الأطباء والكحالين والجراحين سنة 637 هـ، وتوفي بدمشق سنة 675.
وقالوا الطبيعة معلومنا
…
ونحن نبين ما حدها
ولم يعرفوا الآن ما قبلها
…
فكيف يرومون ما بعدها
ونحن ننتظرهم حتى ينتقلوا من الخطأ إلى الصواب، وقد صار لهم ألوف من السنين وهم في اختباط حتى قرنوا المادة بالقوة، وعساهم أن يهتدوا إلى الحق، فيجعلوا تلك القوة هي قدرة خالق الأكوان المبدع للمادة، ولما يتآلف منها، فتكون فلسفتهم قد نجحت، واهتدوا بعد أن حاروا ألوفًا من السنين.
وكأنك بالقرآن يعجب من حيرتهم وخبطهم في دياجير الظلام، ويناديهم:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} الذي هو الخالق للمادة، والمفيض عليها القدرة التي تدعونها، والخصائص، التي تكتشفونها، {وَكُنْتُمْ} أي: كانت الذرات التي تبحثون عنها أمواتًا عدمًا لا وجود لها مع الشمس، ولا مع انفصال الأرض عنها، ولا وجود لها أيضًا مطوي، بل هو الذي أحياكم بإحياء تلك الذرات، وأمره لها بالانضمام والنمو، وبيده النشأة الأولى، ثم هو الذي يميتكم بسلب السر الذي كانت به تلك الذرات متماسكة تدب فيها الحياة، ويعاون بعضها بعضًا فتنحل وتتبدد، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} إذا شاء للمعاد، وليريكم حقائق ما أنتم مختلفون فيه الآن، فيقول المقلدون لكم:{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} [الأحزاب]، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فتعلمون أنه لا فاعل سواه، وأن المادة مخلوقة له، وأن هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، فرجوعكم إليه في الدنيا بعد أن تفنى مزاعمكم، وتقفون عندما يتجلى لكم العلم الصحيح، قائلين:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]، لأنكم لا يأتي زمان إلا ويتغير ما انتحله أهل الزمان الأول، وهذا طريق الرجوع إليه تعالى، ورجوعكم في الآخرة ليبدل لكم الشك باليقين، والظن بالحقائق، ولو أنكم تبعتم الرسل فيما جاؤوا به، لكفيتم عناء التعب، ولوقفتم على اليقين من أول الأمر، فهذا من بعض ما ترمي إليه هذه الآية الكريمة، وتنادي بإبطال القول بالصدفة، والقول بأن البشر كان حيوانًا ثم ترقى بالتدريج، كما ذهب إليه أستاذكم داروين، الذي
يلزم منه إمكان أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون، وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثًا كذلك.
ثم إنه تعالى بين، أنه ليس هو الخالق للذرات المتركب منها الإنسان فقط، بل أن جميع الأكوان علويها، وسفليها، مخلوق له تعالى، ومكون بإرادته ومشيئته، فأبرز الكلام في معرض تذكر النعم، بأسلوب لطيف لئلا ينفر المخاطبون، فقال:
فقوله: {هُوَ} يعود إلى لفظ الجلالة في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} ، وهي كلمة مراد بها هنا غيب الإلهية القائم بكل شيء، الذي لا يظهر لشيء، فذاته تعالى غيب، وظاهره الأسماء المظهرة من علو إحاطة اسم الله، إلى تنزيل عالم الملك، فكأنه يقول: هو، أي ما غاب عنكم، ولم يوقفكم علمكم وأفكاركم وعقولكم عليه، ولم يهدوكم إليه، وزعمتم أنه الطبيعة أو المادة والقوة، والإدراك أو الكواكب، أو غيرها مما تدعيه الفرق، مما هو في السماوات والأرض، إنما هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا، من المادة والقوة والإدراك، ومن جميع ما يوجد على ظاهر الأرض وباطنها، ومن القوى الموجودة فيها، مما يظهر شيئًا فشيئًا على يدي الاختراع، وخلق ذلك إنما هو لكم تتصرفون به، فإذا كان لكم وأنتم تصرفونه كيف شئتم، فكيف يكون خالقًا، فقوله:{لَكُمْ} ، معناه: لأجلكم، ولانتفاعكم به في دنياكم، كما هو ظاهر لكم، وفي دينكم لتنظروا عجائب الصنع، فتستدلوا به على وجود الخالق، وقوله:{جَمِيعًا} ، إنما هو إعلام بأن حاجة الإنسان لا تقوم بشيء دون شيء، وإنما تقوم بكلية ما في الأرض، حتى لو بطل منها شيء تداعى سائرها، وأن تلك الكلية هي مباحة لكم، فقد خلق الكل للكل، ومقابلة الكل في قوله:{لَكُمْ} ، الدالة على الجمع بالكل، الذي يدل عليه، ما في لفظ {مَا} من العموم، يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، وتعيين المالكية لهذا ولهذا، إنما يستفاد من دليل آخر.