الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى بيانه وإيضاحه، وتوجهت رغبات السالكين في ذلك إليه تعالى، فبين لهم تعالى في أوائل السورة التي تليها، أن الهدى المسؤول عنه هو {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ، ثم وصفه بأوصافه اللائقة به وبأنه {لَا رَيْبَ فِيهِ} ، ثم ندد بالمرتابين، وبأنه {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ، فكأنه قال: ذلك الصراط المستقيم الذي تطلبونه، هو هذا الكتاب.
وثانيهما: أن اسم الإشارة، راجع إلى ما نزل من القرآن، قبل نزول هذه السورة، وقد يسمَّى بعض القرآن قرآنًا مجازًا، قال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] وقال تعالى حاكيًا عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)} [الجن: 1] وهم لم يسمعوا إلا بعضه، والأقرب في إعراب هذه الجملة، أن يجعل {ذا} مبتدأ خبره {الْكِتَابُ} ، أي: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو "الكتاب" صفته، والخبر ما بعده.
و
حقيقة الريبة:
قلق النفس واضطرابها، ومنه حديث الحسن بن علي مرفوعًا:"دع ما يريبك إلى ما لا يُريبك"(1)، ثم أطلق الريب على الشك لأنه يقلق النفس، ويزيل الطمأنينة، والمعنى: أن العاقل إذا تأمل براهينه السّاطعة، وآياته الواضحة، لا يبقى عنده ريب في أنه من عند الله تعالى، وأنه بالغ حد الإعجاز، وليس الأمر ههنا على سبيل الفرض، بل هو على سبيل القطع واليقين، فإن العرب مع بلوغهم النهاية في الفصاحة، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور، إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه، فالمقصود نفي الريب عنه في حد ذاته، لا نفي أن أحدًا لا يرتاب فيه، وهذا كقولك: إن العسل لا ريب في أنه حلو، فهو في حد ذاته حلو بلا ريب، ولكن قد يأتي صاحب فم مريض فيجده مرًّا، فتكون الآفة من الفم لا من العسل.
ثم إن قراءة نصب ريب التي هي المشهورة، توجب ارتفاع الريب بالكلية، لأن هذا التركيب يدل على نفي الماهية، ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفرادها، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، والدليل
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير" للألباني، ترتيب زهير الشاويش. رقم (3388).
على أن المقصود نفي الريب في حد ذاته، لا على أن المقصود نفي أن أحدًا لا يرتاب فيه، ما سيأتي من قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} (1) الآية، فإنه ما أبعد بها الريب عنهم، بل عرفهم الطريق الذي إذا سلكوه انزاح عنهم الريب، وهو أن يجتهدوا في معارضة أقصر سورة منه، ويبذلوا فيها غاية جهدهم، حتى إذا عجزوا عن المعارضة، تحقق لهم أن ليس ثم مجال للشبهة، ولا مدخل للريبة.
والوقف الصحيح على {فيه} ، فهي خبر لا النافية للجنس، و {هدى} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو هدى، أي: أن الكتاب نفسه هدى، كما وصفه تعالى بذلك في مواضع من أنه نور وهدى، على طريقة التشبيه البليغ، ووضع المصدر الذي هو {هدى} موضع الوصف الذي هو هادٍ، وأتى به منكرًا، إشارة إلى أنه هديً عظيم لا يُكتنه كنهه، ولا تحيط العبارة به، والهدى هو: الدلالة مطلقًا سواء أوصلت إلى المطلوب أم لم تصل إليه، قال تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، ومعناه: دللناهم على طريق النجاة، فلم يتبعوه.
والتقوى: الخشية، وقد فسر الله المتقين بأوصافهم التي وصفهم بها في هذه الآية، فلا حاجة لذكر أوصاف لهم غيرها، لأنه ليس بعد بيان الله بيان.
وبهذه الآية أيضًا يفرق بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، قال تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62] ثم بيَّن مجمل وصفهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 63] وأجمل وصفهم أيضًا مع الحصر، بقوله:{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] ومن المعلوم أن النفي إذا جاء بعده الاستثناء أفاد الحصر، فيكون المعنى: ليس أولياؤه إلا المتقين، ثم بيّن ذلك المجمل هنا بقوله:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فدل أنه لا يكون العبد وليًا حتى يتصف بهذه الصفات، فإن حاد عنها، كان من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن.
وجازف بعض المدعين للولاية في زمننا، فقال: هذا وصف للولاية العامة، وفقها ولاية أعلى خاصة. فقلنا له: إن أردت التفاوت في درجات الإيمان
(1) سورة البقرة: 23 وتمام الآية {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
بالغيب، وبما بعده، وبعبارة أخصر، إن أردت التفاوت في درجات التقوى، فهذا صحيح، لأن التقوى لها درجات بعضها أعلى من بعض، قال تعالى:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وإن أردت غير ذلك من أنواع الزندقة، ككون الولي هو من يتصرف في الكون كيف شاء، وأنه أعلى مقامًا من الأنبياء والرسل، وأنه يشارك الله في أفعاله المنفرد بها، فقد خالفت صريح الكتاب العزيز، وافتريت على الله وعلى رسله وأنبيائه، وأتيت بصفة لا يوجد أحد في الكون متصف بها، فأنكرت الولاية من حيث هي، لأن وجود شخص بأوصاف مستحيلة مستحيل، وسجلت على نفسك بالكذب لأنك تدعي الولاية، ولم تتصف بشروطها التي وصفت، وكذلك ادعيت الولاية لبعض من تعتقدها فيهم عندك، ثم إنك نفيتها عنهم بشروطك التي اشترطتها، فما أشد انسلاخك عن العلم، وغرقك في بحر الجهل، فارتد مبهوتًا.
وفي قوله: {هدى للمتقين} إشارة إلى أنهم المهتدون به، والمنتفعون بنصبه، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر فيه من أفراد البشر، كما قال تعالى:{هُدًى لِلنَّاسِ} (1)، فالناظرون فيه، منهم من يكون على قلبه غطاء التعامي المورث عن الآباء والأجداد، أو يكون منطمس البصيرة، لا يفقه الحق ولا يمكنه أن يرجع إليه، فهؤلاء لا يهتدون به، وإن كان هو في الحقيقة هدىً، ومنهم من منّ الله عليه بصقال العقل، فاستعمله في تدبر الآيات، والدلائل، والنظر في المعجزات، وتعرف النبوات، فجعل هذا الكتاب إمامًا له، وهاديًا في كل طريق يريد سلوكه، وكلما أشكل عليه أمر في سيره رجع إليه، فاقتبس من أنواره، فكان له كالغذاء الصالح لحفظ الصحة.
فالدواء المذكور، كما أنه يحفظ صحة الجسم، كذلك الهداية والعرفان المستفادان من القرآن، كل منهما صالح لحفظ صحة الروح، وكما أن الدواء المذكور لا يجلب نفعًا إلا إذا كانت الصحة حاصلة، كذلك هدى القرآن، لا ينفع إلا إذا كانت العقول سليمة، وأما العقول المريضة، فإن دواء الصحة لا ينفعها، وإلى هذا السر أشار تعالى بقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ
(1) سورة البقرة: الآية 185، وسورة آل عمران: الآية 4، وسورة الأنعام: الآية 91.
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
ولما كان المراد بالمتقين هم الذين جبلوا على التقوى من أصل الخلقة، وأنهم هم الذين يهتدون به ولا يرتابون بيّن أوصافهم، بقوله:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} .
أي يصدقون بالأمر الغائب الذي لا ينفع في الإيمان غيره، وهو قسمان:
قسم لا دليل عليه، وهو المعني بقوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وقسم نصب عليه دليل، كالصانع وصفاته، واليوم الآخر وأحواله، فيصدقون بكلا القسمين مما لا يدركه الحس، ولا تقتضيه بديهة العقل، لأن الله ورسوله أخبرا بذلك، تصديقًا حقيقيًا ليس كتصديق المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس بقلوبهم. وقوله:
{ويقيمون الصلاة} يديمون فعلها من غير خلل في أركانها وشروطها، وهذا كقولهم فلان قيم بأرزاق الجند، ولا يوصف بذلك إلا إذا أعطى الحقوق من غير بخس، وفيه إشارة إلى أن الحقيق بالمدح، من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال على الله تعالى، لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولذلك ذكر في سياق المدح:{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]، وفي معرض الذم:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5].
ولما ذكر وصلة الخلق بالخالق، وكانت النفقة مع أنها أعظم دعائم الدين صلة بين الخلائق، أَتبَعَها بها تنبيهًا بـ {مِن} التي للتبعيض، على النهي عن الإسراف، وعلى طيب النفقة، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وآمرًا بالورع وزاجرًا عما فيه شبهة فقال:
{ومما رزقناهم ينفقون} أي: ومما مكناهم من الانتفاع به على عظمة
خزائننا، وهو لنا دونهم، ينفقون في مرضاتنا، مما هو لازم لهم، من الزكاة، والحج، والجهاد، والنفقات الواجبة، ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها؛ والمراد من هذه الأفعال، إيجاد حقائقها على الدوام، لأن المضارع، وهو قوله:{ينفقون} هنا، قد لا يلاحظ به زمان معين، من حال أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار، قاله:"أبو حيان" في تفسيره في سورة الحج. وعمم بعض المفسرين في قوله: {ومما رزقناهم} فجعله شاملًا لجميع النعم الظاهرة، كالمال، والباطنة كالعلم، والجاه وحسن الأخلاق، فقال: ومما خصصناهم به من أنواع المعرفة، يفيضون على غيرهم. وهو معنى حسن وتعميم لطيف.
ولما وصفهم بإيمان جملة، أشار إلى بعض تفصيله على وجه يدخل فيه أهل الكتاب دخولًا أوليًا فقال:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .
الإيمان إذا عدي بالباء كان معناه التصديق، وهنا يراد به التصديق مع المعرفة، لأنه خرج مخرج المدح، والمصدق مع الشك، ولا يؤمَنُ أن يكون كاذبًا، فهو إلى الذم أقرب، والآية متصلة بما قبلها اتصال الصفات بعضها ببعض، والصفات إذا تكررت جاز توسط العاطف بينها، قال الشاعر:
إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهمام
…
وليثِ الكتيبة في المزدَحَمْ (1)
فعطف الصفات بالواو، والمعنى: أن المتقين هم الجامعون بين تلك الصفات، وعلى هذا، فهذه الآية بيان للإجمال الواقع في قوله تعالى:{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، لأن الايمان بالكتب المنزلة، يندرج تحت الإيمان بالغيب، وأيضًا فإن الإيمان بما أُنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل من قبله، مشترك بين المؤمنين قاطبة، فلا وجه لقول بعض المفسرين: أراد بالذين يؤمنون مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومما يُبْعِدُ، أَنَّا لا نعلم أن هذه الآية
(1) هو في "تفسير الكشاف" 1/ 102.
نزلت قبل إيمان ابن سلَّام، أو بعده، لأن غاية ما نعلمه أن نزول الآية، وإسلام ابن سلام، كل منهما مدني، ولكن لا نعلم السابق منهما حتى يصح لنا ذلك القول، على أن ألفاظ القرآن في مثل هذا تحمل على العموم.
والمعنى: أن هؤلاء هم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة، والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية؛ وبين الإيمان بما لا طريق إليه غير السمع.
والضمير في {إليك} للنبي صلى الله عليه وسلم، وعنى به القرآن بأسره، والشريعة عن آخرها، وعبر عنه بلفظ الماضي، وإن كان بعضه يومئذ مترقبًا نزوله، تغليبًا للموجود على ما لم يوجد، فجعله كله كأنه قد نزل وانتهى نزوله، لتحقق وقوعه، وأراد بـ {ما أنزل من قبلك} ، التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب السالفة، فإن الاعتقاد بأنها منزلة من عند الله تعالى فرض عين، والإيمان بها إجمالًا كذلك، وأما الإيمان بما أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يفترض علينا الإيمان به تفصيلًا لا إجمالًا، وفي هذه الآية الإشارة إلى معنى لطيف، وهو الإشارة إلى أن اليهود، لم يؤمنوا بنزول التوراة من عِند الله، نزولًا حقيقيًا، لأن أكثرهم يقول: إن الله ألهم البشر الذين هم أنبياء بني إسرائيل، بما تكلموا به، وجعلهم واسطة لإنفاذ مقاصده، من غير أن يجردهم من صفاتهم الذاتية، ومن غير أن يخرجوا عن النفوذ الإلهي، وأنهم لم يزالوا حين ذلك الإلهام، في حالة حسنة من الشعور والوجدان، فجمعت أقوالهم من بعدهم في أسفار.
وبهذا الاعتبار قيل: إن الله أوحى بهذه الأسفار، وقال بعضهم: إن للوحي بالتوراة ثلاثة طرق.
أولها: بتبليغ الأنبياء لأفكار الله بصفة نواب عنه نيابة مطلقة.
الثاني: بالتخاطب المتبادل بين الله والإنسان.
الثالث: بأن ينطق الكاتب بما عنده مهما رأى ذلك بالروح الإلهي.
وأما النصارى فإنهم يقولون: إن كلمة "إنجيل" مأخوذة عن اللغة اليونانية، ومعناها: بشارة مفرحة، ويدعون أن طريقة وصول هذه البشارة للبشر ما استنتجوه من اعتقادهم، من أن الله الآب، وكلمته الأزلية، وروح القدس، هم ثلاثة في واحد، وواحد في ثلاثة، ذات واحدة في ثلاثة أقانيم، وهذا الإله ليس منفصلًا عن
كائناته، بل إنه أعلن ذاته للبشر بطرق مختلفة، بواسطة كلمته التي كون بها العالم، ثم إن تلك الكلمة عندهم صارت جسدًا، وحلت في العالم، وذلك الجسد هو ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء، قالوا: وهذه هي كلمته المنزلة، وهي ليست كتابًا أو غيره من الجماد، بل كيان حي، ذو وجدان وحياة تجسد وتأنس، وحل بينهم مدة قصيرة، ثم إن أفعاله وأقواله دونت في الأناجيل، التي هي بين أيدي النصارى اليوم، وهذا الاعتبار لما كان المسيح كلمة الله على زعمهم، كانت جميع أقواله وأفعاله موحى بها، حتى نفس أقواله غير المنطوق بها، فليس الإنجيل على رأيهم كتاب منزل من الله تعالى، وإنما هو نفس كلام عيسى، ونفس حكاية أحواله، فهو منزل عندهم منزلة الأحاديث، فينكرون أن يكون الإنجيل، أو أي كتاب آخر، نزل على عيسى، لأنه هو نفسه كان الكلمة، فلم تكن الكلمة عنده، وهو كان نفسه إعلان الله، فكيف يصح القول بأن كتابًا ما، أو غيره من وسائط الإعلان، أُنزل عليه؟
وخلاصة القول عندهم، أن هذه الكلمة لم تنقطع بعد صعوده إلى السماء، بل هي باقية مستمرة تؤخذ بواسطة الروح القدس وإلهامه، فأعمال بولس وبطرس ويعقوب ويوحنا، وغيرهم، وأقوالهم، هي جزء من إعلان الله بالمسيح.
هذا ما علمناه من رأي الفريقين مما هم عليه الآن، ولكن ويا للأسف إن هذه الكلمة نزلت إلى الأرض، فتسلط عليها أناس ضعاف فصلبوها بزعمهم، ولم تقدر على خلاص نفسها، واستجارت فلم تجد مجيرًا، بل بقيت تحت قهر قوم، لو عادَوا مثل عنترة لأبادهم عن آخرهم، فوا رحمتاه كيف رأى الآب ابنه مصلوبًا وهو ساكت لا يتحرك، وقلبه يتفطر على ولده، حيث لم يكن له حيلة في خلاصه، فما أفظع هذه المقولة، وما أجمد ذهن معتقدها (1).
وأنت علمت مما تقدم أن أهل الكتابين، لم يعتقدوا نزولهما من عند الله
(1) إن مثل هذا القول يتبرأ منه النصارى في زماننا هذا، لأنهم يقولون: إنّ الأب أنزل ابنه - أحد الأقانيم الثلاثة - إلى الأرض ليكون فداءً للناس، ولو أراد منعه من الصلب لاستطاع، ولكن الفداء عندهم أمر أساسي رئيسي وعلى كل حال فإن هذه الأمور لا تخص المسلم في شيء.
نزولًا حقيقيًا، فلذلك اشترط الله علينا في كتابه، : أن نؤمن بأن الله تعالى أنزل على الأنبياء كتبًا فيها شرائعه وأحكامه، وأن ذلك التنزيل صحيح، وأنه أنزل هذا الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم، نزولًا حقيقيًا، والمؤمن من صدق بجميع ما فيه، تصديقًا تفصيليًا، لأنه هو الذي يجب علينا العمل بما أمر به، والتباعد عما نهى عنه فيه.
ولما كان الإيمان بالبعث من الدين بمكان عظيم، بينه بالتقديم، إظهارًا لمزيد الاهتمام، فقال:{وبالآخرة} التي هي دار الجزاء، ومحل التجلي وكشف الغطاء، ونتيجة الأمر، {هم يوقنون} ، أي: يعلمون ذلك علمًا صافيًا من شوائب الشك والشبهة، مقترنًا بالاستدلال.
ولما كان الإيقان لا يكون إلا بعد الشك، لم يوصف به الباري تعالى، وكذلك لم توصف به العلوم الضرورية، وفي الآية تعريض بكل من لم يؤمن بالمعاد، الذي وصفه تعالى بقوله:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، وإشارة إلى أن كل من لم يوقن به لا يكون مؤمنًا.
ولما أخبر تعالى عن أفعال المتقين الظاهرة، من أنهم هم الذين يقيمون الصلاة، ويحافظون على خشوعها، ومعانيها، فيتحلون لأجلها بكل خير، ويتخلون عن كل شر، حتى تصير صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، والأعمال الباطنة من الإيمان بالغيب وبما أنزل على الأنبياء، وباليوم الآخر، وبما يكون فيه من ثواب وعقاب وحساب، أخبر بثمرة تلك الأعمال فقال:
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} .
أي: أن الموصوفين بتلك الصفات، يستحقون الوصف بأنهم متمكنون من الهدى، ومستقرون عليه، ومستمسكون به، فشبهت حالهم بحال من اعتلى على الشيء وتمكن منه، تمكنًا جعله في قبضته، فهم متمكنون من هدى عظيم، مُنحوه وأُعطوه من ربهم الذي هو خالقهم، ومثله لا يحصل إلا باستفراغ الفكر، وإدامة النظر في حجج القرآن وبراهينه، والمواظبة على محاسبة النفس في العمل، وأتى بـ {هدى} منكرًا، ليفيد نوعًا مبهمًا لا يقدر قدره، قال "عون بن عبد الله": "الهدى
من الله كثير، ولا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدي بها إلا العلماء؟ ".
ولما لم يكن الهدى دالًا على الفلاح بدلالة الالتزام، عطف عليه قوله:{وأولئك هم المفلحون} ، أي: أن أصحاب تلك الرتبة هم أهل الظفر بالمطلوب، كأنهم هم الذين انفتحت لهم وجوه الظفر، ولم تستغلق عليهم، وفي تكرير {أولئك} ، إشارة إلى أنه كما يثبت لهم الأثرة، وهي التقدم بالهدى، فهي ثابتة لهم بالفلاح، فجعلت كل واحدة من الأثرتين في تميزهم بها عن غيرهم، بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حياتها، وأنت خبير بأن أرباب تلك المرتبة، الموصوفين بالصفات المتقدمة اتصافًا كاملًا، هم المخصوصون بالفلاح، ولا يختص بذلك، إلا أولو النباهة والذكاء، الذين ينفون عن كتاب الله انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الضالين، وهؤلاء لا يخلو منهم زمان، ولا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، كما أخبرت بذلك الأحاديث الصحيحة، وأتباعهم هم المفلحون أيضًا، لأن السائر بسير المفلح مفلح، وهؤلاء هم الأبدال.
وقد روى ابن ماجه عن أبي عنبة الخولاني- بالنون بعد العين-، وكان قد صلى إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته"(1) ومعناه: لا يزال الله يوجد في أهل هذا الدين ولدًا ينبته إنباتًا كما قال: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]، وهذا الولد يستعمل أهل الدين في طاعته، أي: في طاعة الدين، والدّين إنما هو الإيمان بالغيب، وفعل ما عطف عليه في هذه الآية، وحكى "ابن مفلح" في كتابه "الآداب الشرعية الكبرى" عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أنه قال في شرح "لا يزال الله يغرس" إلى آخره، هم: أصحاب الحديث. ونص أحمد على أن لله أبدالًا في الأرض، وقال أيضًا عنهم: إن لم يكونوا، يعني: الأبدال، هؤلاء
(1) هو في "صحيح سنن ابن ماجه - باختصار السند" رقم (8) للألباني- إشراف زهير الشاويش. طبع مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض.
الناس، يعني: أصحاب الحديث، فلا أدري مَنْ من الناس. انتهى.
وأنت إذا نصرت الحق، علمت أن هؤلاء الأبدال حقيقة، لا كما يقوله المبطلون، من أن الأبدال هم الذين يتصرفون في الكون أحياء وأمواتًا، وأن لهم رئيسًا يقال له: القطب، وأنهم يجتمعون كل سنة في غار حراء أو غيره، فيكون القطب في الصدر، وقدامه الأوتاد، ووراءه الأبدال والنجباء، وتأتي الأموات لذلك الديوان، ثم إن القطب يتلقى الأمر مباشرة عن الله تعالى، ثم يلقيه إلى الأوتاد، فتلقيه الأوتاد إلى الأبدال، ثم يصدعون بما أمروا به، فهم يديرون رحى الكون، ويبصرون ما كان وما سيكون، ويرون كل شيء في مشارق الأرض ومغاربها، حتى إنهم يعلمون بزعمهم ما تخفي الصدور، وما تضمره الأنفس، وليت شعري، أي عاقل يتجاسر على أن يجعل القطب، أعلى مقامًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يكتفي بذلك، حتى يجعل أولئك القوم الذين لا وجود لهم متصفين بهذه الصفات، إلا في مخيلة هذا المبطل، شركاء لله تعالى في الألوهية.
ثم هو يعترض على النصارى بالتثليث، فكأن لسان حاله يقول: لا يجوز أن يكون الله ثالث ثلاثة فقط، بل هو على زعمه ثاني اثنين، وخامس أربعة الذين هم الأوتاد، والواحد بعد الأربعين الذين هم الأبدال، والواحد بعد الستين والثلاثمئة الذين هم الأنجاب، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وأيضًا فقد أخبر القرآن أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وأن الوحي انقطع من بعده، وهؤلاء يقولون: إن القطب يوحى إليه مباشرة، ومشافهة عن الله تعالى، وأنه ثاني اثنين لواجب الوجود، وأن قومه شركاء مع الله تعالى، فاليهود والنصارى أسعد حالًا من هؤلاء، فأي فرق بين قولهم هذا وبين قول اليهود: إن كاتبهم ينطق بما عنده مهما رأى ذلك بالروح الإلهي، وبين قول النصارى: إن عيسى هو الكلمة، وأنها لم تنقطع بعد صعوده إلى السماء، بل هي باقية مستمرة تؤخذ بواسطة الروح القدس، وإن أفعال بولس وجماعته وأقوالهم، هي جزء من إعلان الله بالمسيح، وهؤلاء جعلوا مقالتهم هذه تمهيدأ لمعتقدات اليهود والنصارى، فوصفوا القطب بما وصفت النصارى به عيسى، ووصفوا قومه بما وصفت به اليهود أحبارهم، وبما وصفت به النصارى بولس وجماعته، وزادوا عليهم بالتمهيد لمذهب عبادة الأوثان، وإذا طالبتهم بالدليل قالوا:
إن علومنا لدنية ذوقية، وكذلك النصارى إذا طالبتهم بالدليل العقلي قالوا: إن معرفة اللاهوت ذوقية، لا يعرفها إلا من ذاقها، فمصيبة الفريقين واحدة.
وإلى بيان حال هذه الفرق أشار تعالى بقوله:
أي: إن الذين ثبتوا قلبًا ولسانًا على معتقداتهم الباطلة، فكفروا بالله تعالى، وحكم بكفرهم حكمًا مؤبدًا، إنذارك إياهم في هذا الكتاب، وفي هذا الوقت وعدمه فيه، وفيما بعده سواء، وكذلك إنذار هذا الكتاب لهم، في كل وقت، وعدمه سواء، لأنهم إما لا يصدقون بأنه كتاب منزل من الله تعالى، وما أنهم يحرفونه عن مواضعه، ويتلاعبون به، حتى يجعلوه تابعًا لما ذهبوا إليه، ولا يجعلونه متبوعًا كما هو شأن الممقوتين، وإذا ناداهم إلى التمسك به، قالوا: لا نترك ما ألفينا عليه آباءنا لندائك، وهل أنت إلا تابع لنحلتنا، وخادم لمقالاتنا، وما ذلك إلا لأن الله تعالى ختم بجلاله ختمًا مستعليًا على قلوبهم، وعلى سمعهم، فهي لا تعي حق الوعي، ولا تسمع حق السمع، لأن الختم على الشيء يمنع الدخول إليه، والخروج منه.
وأفرد السمع، لأن التفاوت فيه نادر، وشركه في الختم مع القلب لأن أحدًا لا يسمع إلا ما عقل، وجعل على أبصارهم غشاوة عظيمة، فهم لا ينظرون بالتأمل، ولما وصفهم بذلك أخبر عن عاقبتهم بقوله:{ولهم عذاب عظيم} ، ومن هنا تعلم أن التعريف بالذي، والذين، من بين سائر الموصولات، كتعريف ذي باللام، في كونه للعهد تارة، وللجنس أخرى، سواء جعلت من المعرف باللام كما ذهب إليه شرذمة من النحاة، أو لا، كما عليه المحققون، وعليه فإن التعريف هنا للجنس، فهو متناول كل من صمم على كفره تصميمًا لا يرعوي بعده، سواء كان المتصف بذلك في زمن نزول القرآن، أو كان بعده، حتى آخر الأمر، لأن القرآن يبقى حكمه إلى آخر الدوران، ودل على تناوله للمُصِرّين قوله:{سواء عليهم} الآية، ومعناها: أن الذين كفروا مستو عندهم الإنذار وعدمه، فالقائل بأن التعريف
للعهد، وأن المراد به ناس بأعيانهم، كأبي جهل وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، وأضرابهم، قول لا حظ له في شيء من التحقيق، بل هو قول من لا يرى أن القرآن عام لجميع الأزمان.
والكفر في اللغة الستر، وأصله الفتح، ومنه قيل للزارع: كافر، لأنه يستر الحب في الأرض، قال تعالى:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] وسمي الليل كافرًا لأنه يستر المبصرات بظلمته، قال الشاعر (1):
"في ليلة كَفَرَ النجومَ غَمَامُها"
أي: ستر النجومَ غمامُها، والمتكلمون استصعبوا حد الكفر، والذي انتهى إليه كلامهم: أن جميع ما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذهب إليه، أو قال به، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة، والا بالاستدلال، أو بخبر الواحد.
فإن كان الأول: فإن من صدق الرسول في جميع ما جاء به، فهو مؤمن، ومن لم يصدقه في ذلك، فإما أن لا يصدقه في جميع ما أتى به، وإما أن لا يصدقه في البعض دون البعض، وعلى كل فهو كافر؛ إذ الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيؤه به، كمن أنكر وجود الصانع أو أنكر كونه واحدًا في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، أو جعل له شريكًا في أفعاله، أو ادعى حلوله في الأجسام، أو أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه خاتم الأنبياء، أو أنكر صحة القرآن الكريم.
وإن كان الثاني: وهو الذي عرف بالاستدلال بأنه من دين النبي صلى الله عليه وسلم، مثل كونه تعالى خالقًا لأفعال العباد أم لا، وكونه مرئيًا أو لا، وكونه عالمًا للعلم أو لذاته وغير ذلك مما لم ينقل فيه النص على أحد القولين عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان ترجيح أحدهما على الآخر بالاستدلال (2) فإن مثل هذا لمّا لم يكن إنكاره، ولا الإقرار به داخلًا في ماهية الإيمان، لم يكن موجبًا للكفر، لأنه لو كان داخلًا في
(1) هو الشطر الثاني من البيت 42 من معلقة لبيد:
يَعلُو طريقةَ مَتْنِها متواترٌ
(2)
في الأصل اضطراب ولعل العبارة هي: "بالاستنتاج لأن مثل هذا مما
…
".
ماهية الإيمان، لكان الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم، أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك، لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمة، ولنقل ذلك على سبيل التواتر، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يوقف الإيمان عليها، وإذا كان لم يوقف الإيمان عليها، وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجبًا للكفر.
وإن كان الثالث: وهو الذي لا سبيل إلى معرفته إلا بأخبار الآحاد وروايتهم، فظاهر أنه لا يمكن توقف الكفر والإيمان عليه، وهذا هو الذي اطمأن إليه الفخر الرازي، وقال:"إنه هو القول الحق"، وأنت خبير بأن ما جاء به الرسول: اعتقاد، وقول، وعمل، وأن كل فرد من أفراد ما علم أنه من الدين بالضرورة، لا يتم إلا إذا أقرّ به المكلف إقرارًا شاملًا للثلاثة؛ فالإيمان بوجود الله تعالى، لا بد من أن يعتقده المكلف بقلبه، وإلا كان منافقًا، ولا بد أن تكون أقواله وأفعاله، أقوال وأفعال من يصدق بوجود الله تعالى، وإلا كان مستهزئًا، وكذلك الصلاة، إذا لم يعتقد المكلف بها وجوبها، كان ممن أخبر تعالى عنهم بقوله:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7] وإذا اعتقد وجوبها، ولم يصرح به، ولم يفعلها، اختل شطران من الإيمان بها، وحينئذ لا محيص عن قول السلف: الإيمان قول وفعل، ويزيد وينقص، قال الله:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] إلى غير ذلكم من الآيات، الدالة نصًا وتصريحًا على أن الإيمان يزيد وينقص.
وقال "ابن أبي مليكة": أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل، وميكائيل.
و{سواء} اسم بمعنى: الاستواء، جرت على ما اتصف بها، كما تجري المصادر على ما اتصف بها، كأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه، وهذا بناء على أن {سواء} خبر {إن} ، وقوله:{أأنذرتهم أم لم تنذرهم} ، في
موضع رفع على الفاعلية، ويصح أن يكون {أأنذرتهم} في موضع رفع على الابتداء، و {سواء} خبرًا مقدمًا، بمعنى: سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر لـ {إن} ، وصح جعل الفعل هنا مبتدأ، لأن الفعل أريد به الحدث المدلول عليه ضمنًا على الاتساع، فصار كالاسم في الإضافة والإسناد إليه كقوله تعالى:{يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] وقول بعض العرب: "تسمع بالمُعَيدي خير من أن تراه"(1)، والهمزة هنا للتسوية، وضابطها: أنها الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها، والإنذار هو: التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، وجعل الرازي هذه الآية دليلًا على صحة تكليف ما لا يطاق، وقرر وجه الدليل بقوله: إنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، بالإيمان ألبتة والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط، وهذا تكليف بين النفي والإثبات.
وقال أيضًا: إنه تعالى عاب على الكفار، أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15]، فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم تكوينه، قصد لتبديل كلام الله، وذلك منهي عنه، ثم ههنا أخبر الله عنهم بأنهم لا يؤمنون ألبتة، فمحاولة الإيمان منهم، تكون قصدًا إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه، وترك محاولة الإيمان يكون أيضًا مخالفة لأمر الله فيكون الذم حاصلًا، على الترك والفعل، قال: وهذا الكلام هو الهادم لأصول الاعتزال.
والحق: أن التكليف بالممتنع لذاته، وإن جاز عقلًا من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضًا غير الامتثال، لكنه غير واقع للاستقراء، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه، لا ينفي القدرة عليه، كإخباره سبحانه وتعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره.
وفائدة الإنذار، بعد العلم بأنه لا ينجع، إنما هو إلزام الحَجة، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ، ولهذا قال {سواء عليهم} ، ولم يقل: سواء عليك، كما
(1) هو من أمثال العرب.
قال لعبدة الأصنام: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193].
ثم إنه تعالى، لما بين شأن الذين كفروا، أردف البيان ببيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا، وهو الختم، وأصله الطبع، والخاتم هو الطابع، يقال منه: ختمت الكتاب إذا طبعته، واستعماله في الأوعية، والظروف، والغلف، ولما كانت القلوب بمعنى الأوعية لما أودعت من العلوم، وبمعنى الظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور، كان الختم عليها وعلى الأسماع التي بها تدرك المسموعات، ومن قبلها يتوصل إلى معرفة حقائق الأشياء من المغيبات، نظير الختم على الأوعية والظروف.
واختلف المفسرون في صفة ذلك الختم على أقوال كثيرة، الحق فيها ما صح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا، كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، صُقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه، فذلك الران الذي قال جل ثناؤه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] ورواه الترمذي (1) وقال: حديث حسن صحيح، ولفظه: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة، نُكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل، والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تعالى، نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها، ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فض الخاتم، وحل الرباط عنها، وإلى هذا المعنى ركن أبو جعفر الطبري في تفسيره وقال: إنه الحق في ذلك.
(1)"صحيح سنن الترمذي- باختصار السند"2654.