الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: {وعلى أبصارهم غشاوة} ابتداء كلام، والغشاوة في كلام العرب الغطاء، قال الحارث بن خالد بن العاص:
هَوِيتُكَ إِذ عَينِي عليها غِشاوةٌ
…
فلمّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُها (1)
والمعنى: أن أبصارهم، لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة، ودلائله المنصوبة كما تجتليه أعين المعتبرين المستبصرين، كأنما غطي عليها، وحجبت وحيل بينها وبين الإدراك.
والعذاب مثل "النَّكال" وزنًا ومعنى، لأنك تقول: أعذبت عن الشيء إذا أمسكت عنه، كما تقول: نَكَل عنه، ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابًا، وإن لم يكن نكالًا، أي: عقابًا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
و
الفرق بين {العظيم} والكبير
، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكان العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، ومعنى التنكير، أن على أبصارهم غشاوة، هي نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.
ولما وصف الله سبحانه في مفتتح السورة، الذين أخلصوا دينهم لله، ووافقت فيه قلوبهم ألسنتهم، وواطأ سرهم علنهم، وفعلهم قولهم، وثنَّى بالذين محضوا الكفر ظاهرًا وباطنًا، قلوبًا وألسنة، ثلَّث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، وهم الذين قال فيهم {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]، وسماهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة، وأبغضهم إليه، وأمقتهم عنده، لأنهم خلطوا بالكفر تمويهًا وتدليسًا، وبالشرك استهزاءً وخداعًا، فوصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة
(1) لسان العرب، 2/ 991 وفيه:(صَحِبتكَ بدلًا من (هويتك).
وهو في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 31 تبعتك، والطبري (306) تبعتك وقبل 14384 صحبتك، والأغاني (1163) دار الشعب في ترجمته (صحبتك).
آية، نعى عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وفضحهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل بطغيانهم وعمههم، ودعاهم صمًا بكمًا عميًا وضرب لهم الأمثال الشنيعة فقال:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} .
أجمع أهل التأويل، على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه صفتهم، وقد مرت الإشارة إلى هذا في مفتتح تفسير هذه السورة، ومما ذكر إجمالًا هناك، ما يليق بنا هنا أن نشير إلى شيء من تفصيله، وهو أن الله تعالى لما جمع لرسوله أمره في المدينة التي هي دار هجرته، وجعل كلمته هي العليا وكلمة مخالفيه هي السفلى، فأعز الله المسلمين، فقهروا من كان بها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وأذلوا من كان بها من أهل الكتاب الذين لم يذعنوا لما جاء به صلى الله عليه وسلم، أظهر أحبار يهود المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن؛ وأبدوا له العداوة حسدًا وبغيًا، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلموا، ووافقهم سرًا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم، [قوم من المنافقين](1) كانوا قد عتوا في شركهم وجاهليتهم، وظاهروهم على ذلك خفاء غير جهار، حذرًا من القتل على أنفسهم، والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك، وسوء البصيرة بالإسلام، فكان منهم ما قص الله علينا من قصصهم في هذه الآيات، تبكيتًا لهم ولمن كان على شاكلتهم، معاديًا لهذا الدين القويم باطنًا، ومدعيًا للتمسك به ظاهرًا.
وجوّز أهل المعاني في {من} أن تكون موصوفة، فيكون المعنى: ومن الناس ناس يقولون آمنا، وعليه فاللام في الناس للجنس، أتى بها للتنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية، فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من الناس، ويتعجب منه، وأن تكون موصولة، واللام للعهد، كقوله:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61]، ولكن هذا يعترض بأن يقال: كيف يجعلون بعضًا من الذين كفروا
(1) كان في العبارة اضطراب، وسبق قلم من المؤلف- رحمه الله بتعريف المنافقين أوجزناه بهذه الجملة.
المحدث عنهم بالختم على قلوبهم، والمنافقون غير من أخبر عنهم فيما تقدم بالختم، ويجاب بأن الكفر جمع الماحضين المصرّين، والمنافقين المصممين معًا، وجعلهم جنسًا واحدًا، وكون المنافقين نوعًا من نوعي هذا الجنس، مغايرًا للنوع الآخر، بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء، لا يخرجهم من أن يكونوا بعضًا من الجنس، كما أشار إلى هذه المعاني صاحب الكشاف، فإن الأجناس، إنما تنوعت لمغايرات وقعت بين بعضها البعض، وتلك المغايرات إنما تأتي بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية، وقوله تعالى حكاية عنهم:{آمنا} أي: صدقنا {بالله وباليوم الآخر} ، أي: بالبعث يوم القيامة الذي هو يوم لا يوم بعده سواه، فادعوا أنهم حازوا الإيمان من جانبيه، وأحاطوا بقطريه، فقال تعالى تكذيبًا لهم:{وما هم بمؤمنين} لأنهم يبدون بأفواههم خلافًا لما في ضمائر قلوبهم، وضد ما في عزائم نفوسهم، فهم غير مصدقين فيما يزعمون أنهم به مصدقون.
وقد يلوح لفكر المتامل لهذه الآية إشكال، وهو: أن الأخبار عن المنافقين، وكانوا مشركين ويهود، فأما المشركون فهم غير مؤمنين بالله واليوم الآخر، فقوله:{وما هم بمؤمنين} منطبق عليهم، وأما اليهود فقد كانوا يؤمنون بالله، وهم أهل كتاب، فكيف نفى عنهم الإيمان، وعند الاطلاع على نحلة اليهود، يتلاشى هذا الإشكال، لأن الإيمان بالله يجب أن يكون على حقيقته، وعلى وفق ما جاء عن رسله، واليهود ليسوا كذلك، لأن فرقة منهم تزعم أن العُزَير ابن الله، وجميعهم يعتقد أن الله جسم، وكذلك اعتقادهم باليوم الآخر، ليس على ما جاءت به الرسل، وكل من كان إيمانه على غير ما جاءت به الرسل فليس بمؤمن، ومَن راجع التوراة التي بأيديهم اليوم، ورأى هذياناتهم ومفترياتهم جزم بذلك، وسيمر بك في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ما يتبين به حقيقة ما هم عليه من الكفر، وعدم الإيمان بالله تعالى، كقولهم كل يوم في صلاتهم ما معنَاه بالعربية: أنّه لا يظهر أن الملك لله، إلا إذا صارت الدولة لليهود، الذين هم أمته وصفوته، فأما ما دامت الدولة لغير اليهود، فإن الله خامل الذكر عند الأمم، وأنه مطعون في ملكه، مشكوك في قدرته. وكقولهم بالعبرانية ما معناه بالعربية: انتبه لِمَ تنام يا رب؟ استيقظ من رقدتك، ومنه
أيضًا: أن الله ندم على خلق البشر في الأرض، وشق عليه، إلى غير ذلك مما هو مصرح به في توراتهم، فأي إيمان لهم بالله وباليوم الآخر، مع وجود هذه الكفريات.
ويندرج في هذا القسم من يقول بأنه مؤمن بالله ثم ينتحل الزندقة والإلحاد، ويدعي الحلول، وأنه تعالى حال في جميع الأشياء، أو في بعضها، أو أن له مشاركًا في أفعاله من جماد أو حي، أو ميت. كما هو زعم كثير من الفرق المنتمية إلى الإسلام في زمننا هذا، بل ضرر هؤلاء على الدين أشد من ضرر غيرهم عليه، لأنهم يتلبسون به، ويدعون الزهد والتقى والصلاح، ثم يبثون مقاصدهم لأولي العقول السقيمة، فيأخذونها على أنها من الأسرار الربانية المفاضة عليهم من عالم القدس، فهؤلاء أعظم ضررًا من المنافقين.
ثم إنه تعالى بيَّن علة عقول أولئك الذين نعتهم وخفة حلومهم، بأنهم يخادعون من لا يخادَعُ، ولو كان عندهم نوع من الشعور، أو شيء من الإدراك لما فعلوا ذلك، فقال:
والخديعة: إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير، والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر، والرياء في الأفعال الحسنة، ولما كان هؤلاء لا يعرفون الله تعالى حق معرفته، ولا يعلمون بأنه عالم بخائنة الأعين، وما تخفي الصدور، قادهم الجهل إلى تشبيهه تعالى بخلقه، فظنوا أن الخداع يروج عليه كما يروج على المخلوقين، فكذب ظنهم تعالى بقوله:{وما يخدعون إلا أنفسهم} ، وفضحهم وأبان ما استكن في نفوسهم، بأن ما يظهرونه بألسنتهم من القول والتصديق، خلاف الذي في قلوبهم من الشك والتكذيب ليدرؤوا عن أنفسهم، بما أظهروا بلسانهم حكم الله عز وجل، اللازم من كان بمثل حالهم من التكذيب، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء، فذلك معنى خداع المنافق ربه، وأهل الإيمان بالله تعالى، وهذا أولى من قول من قال: إن الله ذكر نفسه في قوله: {يخادعون الله} ، وأراد به رسوله على عادته في تفخيم أمره، وتعظيم شأنه، قال:
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، وهذا المعنى ليس بكثير البعد عن معنى الآية، لأنهم لما خادعوا النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا كالمخادعين لله تعالى، ولكن ما ذكرناه أقرب إلى المرام، ومن قول من قال أيضًا: إن صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان، وهم كافرون، صورة من يخادع، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع المخادع، وكذلك صورة صنيع المؤمنين معهم، حيث امتثلوا أمر الله فيهم، فأجروا أحكامه عليهم.
وقد أبدى أبو جعفر الطبري سؤالًا فقال: إن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ وأجاب بما حاصله: أن العرب لا تمتنع من أن تسمي مثل هذا خداعًا، ولما كان المنافقون يظهرون ذلك، ليتخلصوا من القتل والسباء في العاجل، وطمعوا في أموال الغنائم، وهم لغير ما أظهروا مستبطنون، كان فعلهم هذا خداعأ لأنفسهم في الحقيقة، لأنهم يظهرون لما يفعلون من ذلك بها، أنه يعطيها أمنيتها، ويسقيها كأس سرورها، وهم يوردونها به حياض عطبها، ويجرعونها به كؤوس عذابها، ويزيدونها من غضب الله، وأليم عقابه ما لا قبل لها به، فذلك خديعتهم أنفسهم، ظنًا منهم مع إساءتهم إليها في أمر معادها، أنهم إليها محسنون، كما قال تعالى:
{وما يخدعون إلا أنفسهم ولا يشعرون} إعلامًا منه عباده المؤمنين، أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم، وإسخاطهم ربهم بكفرهم، وشركهم وتكذيبهم، غير شاعرين، ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون، ومن هنا تعلم أن المفاعلة أتت على بابها، من كونها بين اثنين، والمعنى: أن المنافق يخادع الله، ويكذبه بلسانه، على ما قد تقدم وصفه، والله تعالى يجري عليه أحكام الدنيا فيوصله إلى مقصده من النجاة، من القتل والسباء، ولكنه يخذله عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه، في أجل معاده، وهذا نظير قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} (1) الآية.
وقوله: {وما يخدعون إلا أنفسهم} ، معناه: أن المنافقين خادعوا الله والمؤمنين فلم يخدعوهم، بل كان الخداع لأنفسهم دون غيرها، لأن من خادع العالم بخداعه، لا يكون خداعه إلا لنفسه، وهذا كقولك: فلان يضار فلانًا، وما يضار إلا نفسه، أي: دائرة الضرار راجعة إليه، وغير متخطية إياه، ويصح أن يكون المعنى: وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل، ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كانت تمنيهم وتحدثهم بالأماني، ونفس الشيء ذاته، والشعور: علم الشيء على حس، والمعنى: أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر، كون آلة إدراكهم شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها، فهي لا تجنح إلا لما يؤذيها، فقال:
أي: إن في قلوبهم مرضًا من أصل الخلقة، يوهن قوى الإيمان التي فيها، كذا حكاه "البقاعي" في كتابه "نظم الدرر"، والذي لاح لي، أن ذلك المرض وإن كان مرضًا حقيقيًا متصلًا بهم من أصل الخلقة، وهو الذي سبَّب لهم سوء الاعتقاد والكفر، إلا أنه لما كان ذلك متأصلًا في نفوسهم، وجاءهم الكتاب العزيز بالبينات والهدى، ودين الحق، وقفوا حائرين بين أحد أمرين، إما أن يتبعوا ذلك الهدى ويطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيسلموا من عذابي الدنيا والآخرة، وإما أن يجاهروا بالعصيان والامتناع، فيحصل لهم المقت دنيا وأُخرى، فمنعهم مرض قلوبهم من اتباع الخطة الأولى، ولضعفهم لم يستطيعوا المجاهرة بالثانية، فمزجوا بينهما، ولبسوا ثوب الخداع، فأظهروا الإيمان بالله وبرسوله، وأبطنوا الكفر، وارتقبوا حلول السوء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأوا أنه هو الغالب، وأن أمره لا يزال في ازدياد، وشأنه لم يزل في اعتلاء، امتلأت صدورهم حسدًا وحقدًا، وغلت صدورهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1) سورة الحديد: الآية 13، وتمامها:{بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} .
والمؤمنين، غلًا وحنقًا، و {بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]، فأثر ذلك في أوهامهم فامتلكها، وسرى إلى قلوبهم فأثر فيها، والحسود المبغض، كلما ازدادت نعمة المحسود ازداد حسرة، وقلقًا ومرضًا، فازداد مرض قلوبهم الطبيعي لذلك، زيادة ترتقي كلما علا شأن الإسلام، وسرى نوره في الأقطار، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى:{فزادهم الله مرضًا} بإظهار الله هذا الدين على جميع الأديان، وتفضل الله على نبيه حتى أظهره على الدين كله.
كانوا يعللون أنفسهم، ويداوون مرض قلوبهم، بما يتحدثون به في نواديهم، بأن ريح الإسلام تهب حينًا، ثم تسكن، ولواءه يخفق أيامًا ثم يقر، فأكذب الله أمانيهم، فرجعوا بصفقة المغبون، وقطع آمالهم، فضعفت قلوبهم حين ملكها اليأس، عندما أنزل الله على رسوله النصر، وأظهر دين الحق، واعتراها مرض لا يزال في ازدياد وعذاب أليم، من الحسرة، واتقاد نيران الحسد في الدنيا، وعذاب أليم يوم تجد كل نفس ما أحضرت، يوم ينكشف الغطاء، وتزدلف الجنة للمتقين، غير بعيد، ولشبه هذا المعنى، يرمي قول "ابن عباس":{في قلوبهم مرض} ، المرض: النفاق، وقول جمع من الصحابة: في قلوبهم شك، وقد لاح لك مما قدمناه، أنا حملنا المرض في الآية على حقيقته، وهو الموافق لبلاغة القرآن الكريم، ولا مانع من أن يحمل المرض على معناه المجازي، فتجعله استعارة لبعض أعراض القلب، كسوء الاعتقاد والغل والحسد، والميل إلى المعاصي، والعزم عليها، واستشعار الجبن، والضعف، وغير ذلك مما هو فساد وآفة، شبهه بالمرض، كما استعيرت الصحة والسلامة في ضد هذه المذكورات.
والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر، أو من الغل والحسد والبغضاء، وإذا تأملت هذا المعنى وجدته مندرجًا في المعنى الذي قبله، لأن ذلك نتيجة هذا، أو تقول: إن في هذا بيان السبب، وفي ذاك بيان ما تسبب عنه.
وقوله جل شأنه: {فزادهم الله مرضًا} ، معناه: على مرضهم، وزادهم من الأسباب التي أنتجت له ذلك المرض، فزادهم غمًا على غمهم، وزادهم من نظير ما في قلوبهم من الشك والحيرة.
و{الأليم} الموجع، على حد قول الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيلٍ
…
تحيةُ بينهم ضَرْبٌ وَجيعُ (1)
ومعناه: ولهم عذاب مؤلم، فصرف مؤلم إلى أليم.
قال الضحاك: وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع.
وقوله: {بما كانوا يكذبون} ، رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخيل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم، في قولهم:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، وهذا المعنى يناسب قراءة "يَكْذبون" بفتح المثناة التحتية، وسكون الكاف، وهي قراءة معظم أهل الكوفة، وقرأ معظم أهل المدينة والحجاز والبصرة "يُكَذبون" بضم المثناة التحتية، وفتح الكاف، وكأنهم رأوا أن الله تعالى أوجب للمنافقين العذاب الأليم، بتكذيبهم نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وليس هذا المعنى بجيد لما جرت سنة الله به في كتابه، أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم، ثم يختم ذلك بالوعد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم، ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم، وهنا أخبر الله عن المنافقين في أول الخبر عنهم في هذه السورة، بأنهم يقولون:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة: 8]، وما كان قولهم هذا إلا خداعًا وكذبًا، فالواجب إعادة قوله:{بما كانوا يكذبون} إلى هذا،
(1)"الكتاب" لسيبويه 1/ 365، 429، و "الخزانة" 4/ 53 قال البغدادي: وهذا البيت نسبه شراح أبيات الكتاب وغيرهم إلى عمرو بن معد يكرب الصحابي ولم أره في شعره. انتهى. ونسبه لعمرو أبو زيد الأنصاري في "نوادره" ص 149 - 150، وفي "العمدة" لابن رشيق: 2/ 292 ومما يعد سرقًا وليس بسرَقٍ اشتراك اللفظ المتعارف، كقول عنترة:
وخيلٍ قد دلفت لها بخيلٍ
…
عليها الأُسْدُ تهتصر اهتصارًا
وقول عمرو بن معد يكرب:
وخيل قد دلفت لها بخيلٍ
…
تحية بينهم ضربٌ وجيع
والخيل: اسم جمع الفرس لا واحد له من لفظه، والمراد به الفرسان، وأراد بالخيل الأول: خيل الأعداء، وبالثاني: خيله، والضمير في "بينهم" للخيلين ودلفت: دنوت وزحفت. ووجيع: بمعنى موجع، يقول: إذا تلاقوا جعلوا بدلًا من تحية بعضهم لبعض الضرب الوجيع. وهذا على سبيل التهكم.
وينظر "زاد المسير في علم التفسير" 2/ 226، طبع المكتب الإسلامي.
وأن يقرأ "يَكذبون" بفتح الياء، ليكون الوعيد منه لهم، على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أعمالهم، وذميم أخلاقهم، دون ما لم يجر له ذكر من أفعالهم، ولك أن تأخذ هذه القاعدة وتسير بها في تفسير كل ما رأيته من هذا النمط، ليتضح لك دقائق الختام من ملاءمته للبدء، كان جعل "يُكذبون" بضم الياء، من "كَذَّب" بتشديد الذال المعجمة، على معنى الدلالة على قوة الكذب، وعظمه، كما يدل بين المشدد والياء، على كمال ظهور الشيء واتضاحه كأنه قيل: يكذبون كذبًا عظيمًا، أو جعل "يكذبون" بمعنى الكثرة، في الفاعل، كقولهم:"مَوَّت الإبل"، بتشديد الواو، استقام المعنى، وعاد التكذيب إلى كذبهم الذي كذبوه في أول الخبر.
ولما أخبر تعالى عن بواطنهم، أتبعه من وصف الظاهر ما يدل على الباطن، فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادعوا الصلاح العام فقال:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} .
والمعطوف بالواو هنا، يصح أن يكون معطوفًا على "يكذبون"، ويكون المعنى:{ولهم عداب أليم بما كانوا يكذبون} ، وبالذي {إذا قيل لهم لا تفسدوا} ، ومعناه: أن العذاب الأليم الذي وُعدوا به، مسبب عن كذبهم، وعن فسادهم في الأرض، لما في تينك الخصلتين من القبح الواجب على كل عاقل أن يحترز عنه، والصناعة النحوية لا تمنعك من عطفه على {آمنا} ، ويكون المعنى: ومن الناس ناس إذا قيل لهم لا تفسدوا، وعلى هذا الوجه تكون الآيات على نمط تعديد قبائحهم، وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالًا، وقصدًا، ودلالتها على أن لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم، فما ظنك بسائرها، ولطافة هذا المعنى لم ترتق إلى درجة حسن المعنى الأول، ولا إلى لطافته، حيث إنه لم يجعل المفسدين في الأرض مشاركين لمن قبلهم في العذاب الأليم، بخلاف المعنى الثاني، فإنه جعلهم مشتركين فيه.
والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته، وعن كونه منتفعًا به، ونقيضه الصلاح، وهو: الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، كما قال الله تعالى
حكاية عن الملائكة أنهم قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] كأنهم يقولون: أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك، ألا ترى أن الكاذب ينتج كذبه غش الناس وخداعهم، والذي لم يقف عند حدود الله كيف يغتصب مال هذا، ويتوصل بالزور والبهتان إلى ضرر هذا، والحاكم بغير ما أنزل الله، كيف يوقع الناس في تضييع الحقوق، وإعطاء المال لغير مالكه، يتصرف فيه مع حرمان المالك عنه، إلى غير ذلك من الموبقات التي من جملتها إثارة الحروب والفتن، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، فكذلك صفة أهل النفاق بمعصيتهم في الأرض ربهم، وركوبهم فيها ما نهى الله عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل عملًا من أحد إلا بالتصديق به، والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم، غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله، على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فلم يسقط الله عنهم عقوبته، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته، بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون، بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره، والأليم من عذابه.
وردّ عليهم إفكهم بقوله:
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} .
فأتى بـ {ألا} الدالة على التنبيه، على أن ما بعدها محقق، وهي مركبة. من الهمزة التي للاستفهام، و "لا" النافية، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، ومن أجل ذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها، إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، فرد الله ما ادعوه من الانتظام في سلك المصلحين أبلغ رد، وأدلّه على سخط عظيم، و {ألا} ملغيّة جاءت من جهة الاستئناف، ومن جهة ما في {ألا} ، و "إنّ"، من معنى التأكيد، ومن جانب تعريف الخبر، وتوسيط ضمير الفصل بين اسم إن وخبرها.
ثم ختم الرد بقوله: {ولكن لا يشعرون} أي: لم يحصل لهم شعور بأنهم كذلك، لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح، فالشعور ذاهب عنهم، والتفريق بين الرشاد والغي ليس من شأنهم، ولا من شأن من كان على شاكلتهم، في كل زمان ومكان.
والآية وإن كان ظاهرها التنديد بأفعال المنافقين، الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها شاملة لكل من حذا حذوهم وسلك طريقهم، وقد أشار "سلمان الفارسي" إلى هذا المعنى فيما روي عنه من قوله:"لم يجيء هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات بعد" ومعناه: أن أصحاب هذه الصفة لم ينقرضوا، بل كلما ذهب فوج منهم خلفه فوج آخر، وإذا تأملت سبيل الوجود، وسنة الله في خلقه، وجدت هؤلاء في كل زمان، ولم تتأخر الأمم ويأتيها الفساد إلا من جهتهم، ثم إن المصلحين إذا فاتحوهم بالنصيحة قالوا: إنما نحن مصلحون، وهم لعدم شعورهم يعتقدون الفساد إصلاحًا، والغيّ نجاحًا، فإذا قبّح لهم أحد ما كانوا عليه لبعده من الصواب، وجره إلى الفساد والفتنة، أو بضرهم بالطريق المستقيم، وأنه في اتباع ذوي العقول، وفي الدخول في عدادهم، قابلوا النصيحة بالتسفيه والتجهيل، فما أشد ضررهم على الأمة، وما أعظم ما يجرونه إليهم من الضرر وتخريب البلاد.
ولما بيّن سبحانه وتعالى حالهم إذا أمروا بالصلاح العام، بين أنهم إذا دُعوا إلى الصلاح الخاص، الذي هو قبل كل صلاح، حملتهم الجلافة على النفور وعدم الانقياد، فسموا سفهاء فقال:
والمعنى: أنه إذا قيل لهم: {آمنوا} ظاهرًا وباطنًا، {كما آمن الناس، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء} الذين استدرجهم إلى ما دخلوا فيه، بعد ترك ما كان عليه آباؤهم، كان ذلك منهم لخفة نشات عن ضعف عقولهم، فحصر سبحانه السفه فيهم، حيث قال:{ألا إنهم هم السفهاء} لا غيرهم، لجمودهم على
رأيهم، مع أن بطلانه أظهر من الشمس ليس فيه لبس، ولكن ليس لهم علم أصلًا بذلك، ولا بغيره، ولا يمكن أن يكون لهم علم، لأن جهلهم مركب، وهو أسوأ الجهل، والعلم: ما أُخذ بعلامة أو أمارة نصبت عليه، ولما كان الفساد يكفي في معرفته، والصد عنه، أدنى تأمل، والسفه لا يكفي في إدراكه والنهي عنه إلا رزانة العلم، ختمت كل آية بما يناسب ذلك من الشعور والعلم، ولما كان العام جزءًا من الخاص، قدم عليه.
فقوله: {كما آمن الناس} ، "ما" مصدرية، والمراد بـ {الناس} الكاملون في الإنسانية، وهم الجامعون لما يعد من خواص الإنسان وفضائله، فهم لذلك يستحقون أن يحصر فيهم الجنس كأنهم الجنس كله، فهذا الحصر بالنظر إلى كمالهم، وإذا لوحظ أن غير المؤمنين كالبهائم، في فقد التمييز بين الحق والباطل، بل أدنى مرتبة منها، فلا يندرجون في الناس، بل كان منحصرًا في المؤمنين إيمانًا حقيقيًا، الآخذين بأساليب الإصلاح وطرقه الحقيقية، الناجحين في جميع مساعيهم بمساعدة العناية الربانية، كان هذا حصرًا بالنظر إلى نقصان من عداهم، وقصورهم عن رتبة الإنسانية، ومعنى الإنكار في {أنؤمن} ، أن ذلك لا يكون أصلًا.
و{السفهاء} : جمع سفيه، وهو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار، وإنما نسبوا المؤمنين إلى السفه، وإلى ركاكة العقل وخفته، لأنهم بجهلهم وإخلالهم بالنظر، وبإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهًا، ولأن المنافقين كانوا في رياسة وبسطة في قومهم، وكانوا في يسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء، وفيهم الموالي، فدعوهم سفهاء تحقيرًا لشأنهم.
لقد قص الله علينا نبأ المنافقين في هاته الآيات ليعلّمنا العلم الاجتماعي، ويرشدنا إلى مسالك البشر، ويرشدنا إلى أن الاعتماد على النفس من السبل الناجحة الموصلة إلى المطلوب، وأن الركون إلى العادة التي كان عليها الآباء هي العثرة العظيمة في سبيل السير، وأن المصلح لا بد له من أن يخلع لباس اتباع العادات، ولا يبالي باستهزاء أعداء الإصلاح، ولا بما يوقعونه في سبيله من
العقبات، معتمدًا في ذلك على الله، سائلًا منه أن يوفقه لمقاصده، لئلا يزيغ كما زاغ أولئك الذين إذ قيل لهم:{لا تفسدوا} ، جعل العادة هاديًا لهم، فاختلط عليهم الحق بالباطل، فقالوا:{إنما نحن مصلحون} ، ومثل هؤلاء موجود في كل زمان، وفي كل مكان، وإذا نصحهم الناصح بأن يتبعوا طريق الحق، ويجعلوا النور المبين ضياء لهم في سيرهم، بدلًا من ظلام اتباع العوائد، أخذتهم الأنفة، وقادهم الكبر إلى الغرور، فقالوا: أنتخذ من الكتاب المنزل مأمنًا كما اتخذه السفهاء، لاعتقادهم أن عقولهم أوفى العقول وأشرفها، وأن ما كان عليه أسلافهم لا ينبغي العدول عنه بوجه من الوجوه، وأن من عدل عنه كان ضعيف الرأي سفيهًا، ولم يدروا أن ما هم عليه هو السفه بذاته، فعلى العاقل أن يتدبر أسرار هذا الموضع، وما فيه من الإرشاد إلى علم الاجتماع، ولا يقرأه قراءة من يقرأ القصص، ولا يعلم ما ترمي إليه، كما هو شأن المقلدين لأسلافهم، المغترين بما عندهم من نقطة ماء يحسبونها بحرًا، واتخذوا التلون شرعةً ومنهاجًا، وعدم الثبات ديدنًا لهم، كما أخبر عنهم تعالى بقوله:
يقال: لقيته ولاقيته، إذا استقبلته قريبًا منه، والمعنى: أنه إذا حصل منهم استقبال للذين آمنوا، {قالوا} لهم:{آمنا} بمحمد، وبما جاء به من عند الله، ولم يكن قولهم ذلك، إلا خداعًا عن دمائهم وأموالهم، وذراريهم، {واذا خلوا إلى شياطينهم} أي: انفردوا مع مودتهم وأهل العتوّ والشر، والخبث منهم، ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله، وبكتابه، ورسوله، وهم شياطينهم، {قالوا} لهم:{إنا معكم} على دينكم وظهراؤكم على من خالفكم فيه، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، و {إنما نحن مستهزؤون} بالله وبكتابه، وبرسوله، وساخرون بذلك وبالمؤمنين، ولاعبون بهم، وأنت خبير بأن مثل هؤلاء لا يكيدون عدوًا، ولا يعينون في أمرٍ مهم ولا يحصل منهم إلا الضرر.
ولما كان فعلهم ليس على مقتضى أفعال الإنسانية أجابهم تعالى بقوله: