الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقاصده، فنذكر أولًا ما يفهم من تركيب ألفاظها، ثم نتبعه باستنباط الأحكام منها.
فنقول:
أصل النسخ في اللغة:
إزالة الشيء بغير بدل يعقبه، نحو نسخت الشمسُ الظِّل، ونسختِ الريحُ الأثرَ. أو نقل الشيء من غير إزالة، نحو نسختُ الكتابَ، إذا نقلته ما فيه إلى مكان آخر. والنسيئة التأخير. والمعنى {ما ننسخ من آية} أي: نُزِلْها بإبدال أخرى مكانها، "أو نَنْسَأها" على قراءة الهمز، أي: نؤخرها ونذهبها لا إلى بدل، {أو ننسها} نذهب بحفظها عن القلوب.
والمعنى: أن كل آية يُذهب بها على ما توجبه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معًا، أو من إزالة أحدهما إلى بدله، أو غير بدل. {نأت بـ} آية {خير منها} للعباد، أي: بآية العمل بها أكثر للثواب، {أو مثلها} في ذلك، فـ {من} في قوله تعالى:{من آية} للتبعيض، والمعنى: أي شيء من الآيات، وهذا النسخ عام، لما كان من شرع ما قبلنا، كنسخ استقبال بيت المقدس أو غيره، أو لم يكن. وصيغة "ننسخ" التي بوزن نفعل، تشعر بأن من تقدم ربما نسخ عنهم ما لم يعوضوا به مثلًا، ولا خيرًا، ففي طيه ترغيب للذين آمنوا بكتابهم الخاص بهم، وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول، فرحًا بجديد أول اغتباطًا بما هو خير من المنسوخ، ليكون حالهم عند تناسخ مقابل لحال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق، المتقاصرين عن خير لاحق وجدَّتِهِ.
والأصحّ في تفسير قوله تعالى: {أو ننسها} : أن المعنى على قراءة "أو ننسأها" بالهمز، نؤخر نسخها، وعلى قراءة "أو ننسها" نتركها زمنًا ثم ننسخها، كالقبلة، {نأت بخير منها أو مثلها} ، ولما كانت الآية في بيان أغلاط اليهود، وأنهم هم الذين أنكروا النسخ عنادًا، أعرض تعالى عن خطابهم تعريضًا بغباوتهم، إلى خطاب نبيه الَّذي هو أعلم الخلق، بقوله:{ألم تعلم أن الله} الحائز لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} فأتى بالكلام على وجه الاستفهام المتضمن، لأجل قصد اليهودية للإنكار، والتقرير المشار فيه للتوعد والتهديد،
فيخلق بقدرته من الأسباب ما يصير الشيء في وقتٍ مصلحةً، وفي وقت مفسدة، لحكم ومصالح دبرها لتصرم هذا العالم وتقضي هذا الكون بشمول علمه بكل ما تقدم وما تأخر، ولو أراد لجعل الأمر على سنن واحدة، والناس على قلب رجل واحد، ولكنه مالك الملك يتصرف فيه على حسب ما يريد لا رادّ لأمره، ولا مُعقب لحكمه، ولا يسوغ الاعتراض عليه بوجه.
ثم أتبع ذلك بما هو كالدليل على شمول القدرة، فقال:
أي: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} ، يفعل في ذواتهما وأحوالهما ما يشاء، فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ، فقوله:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) إشارة إلى تفصيل الآيات، وهو بما {له ملك السماوات والأرض} يدبر الأمر.
ولما أتم سبحانه ما أراد من إظهار قدرته وسعة ملكه، تهيأت قلوب السامعين وصفت، فلفت الخطاب إليهم ترهيبًا في إشارة إلى ترغيب، فقال:{وما لكم من دون الله من ولي} يتولى أموركم {ولا نصير} فأقبلوا بجميع قلوبكم إليه، ولا تلتفتوا عنه، وفي ذلك تعريض بالتحذير للذين آمنوا ولم يبلغوا درجة المؤمنين، من مخالفة أمره إذا حكم عليهم بما أراد كائنًا ما كان، لئلا تلقن بواطنهم عن اليهود، نحوًا مما لقنت ظواهر ألسنتهم بأن تستمسك بسابق فرقانها، فتتثاقل عن قبول لاحقه ومكمله، فيكون ذلك تبعًا لكثرة أهل الكتاب في إبائها نسخ ما لحقه التغيير من أحكام في كتابها، وهو في الحقيقة خطاب جامع لتفصيل ما يرد من النسخ في تفاصيل الأحكام والأحوال.
(1) سورة المائدة: الآية 120، وعبارة البقاعي: فهو بما هو {على كل شيء قدير} يفصل الآيات. وهو المناسب لسياق الآيات؛ لعودها على الآية السابقة.
وفي هذه الآية تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى، وأنكروا محمدًا صلى الله عليه وسلم، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله، بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم تعالى: بأنه الفعال المطلق يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد.
وهذا ولما كانت الآية في معرض ذم اليهود والنداء على غباوتهم بإنكارهم النسخ، وكان الله تعالى قد جعل إلى إفحامهم طريقًا مما يتداولونه في أيديهم من نص تنزيلهم، وأعماهم الله عنه عند تبديلهم، ليكون حجة عليهم موجودة في أيديهم؛ اقتضى المقام أن نبين غلطهم وخطأهم من نص كتابهم، فيقال لهم: هل كان قبل نزول التوراة شرع أم لا؟ فإن قالوا: لا؟ كذبهم السفر الأول من التوراة، حيث فيه ما تعريبه من اللغة العبرانية في الكلام على شرع نوح: سافك دم الإنسان يحكم عليه بسفك دمه، لأن الله خلق الآدمي بصورة شريفة. وكذبهم أيضًا الجزء الثالث من السفر من التوراة، الناطق: بأنه كان في شرع إبراهيم ختان المولود في اليوم الثامن من ميلاده. وهذا وأمثاله شرع، لأن الشرع لم يخرج عن كونه أمرًا ونهيًا من الله، سواء أنزل على لسان رسول، أو كتب في أسفار، أو ألواح، أو غير ذلك.
وإن أقروا بأنه قد كان شرع قلنا لهم: فما تقولون في التوراة، هل أتت بزيادة على تلك الشرائع أم لا؟ فإن قالوا: لا، قلنا: قد صارت عبثًا إذ لا زيادة فيها على ما تقدم، ولم تغن شيئًا، فلا يجوز أن تكون صادرة عن الله تعالى، فيلزمكم أن التوراة ليست من عند الله، وذلك كفر على مذهبكم، وإن كانت التوراة أتت بزيادة، فهل في تلك الزيادة تحريم ما كان مباحًا أم لا؟ فإن أنكروا ذلك، بطل قولهم من وجهين:
أحدهما: أن التوراة حرمت الصناعة يوم السبت بعد أن كانت مباحة به، وهذا هو النسخ بعينه.
والثاني: أنه لا معنى للزيادة في الشرع إلا تحريم ما تقدمت إباحته، أو إباحة ما تقدم تحريمه.
فإن قالوا: إن الحكيم لا يحظر، أي: لا يحرم شيئًا ثم يبيحه، قلنا: إن من أمر بشيء وضده في زمانين مختلفين، كان غير مناقض بين أوامره، وإنما يكون كذلك لو كان الأمران في وقت واحد.
فإن قالوا: إن التوراة حظرت أمورًا كانت مباحة من قبل ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ المكروه هو إباحة المحظور، لأن من أبيح له شيء، فامتنع عنه وحظره على نفسه فليس بمخالف، وإنما المخالف من منع من شيء فأتاه لاستباحته المحظور.
فالجواب: إن من أحل ما حظره الشرع في طبقة المحرم لما أحله الشرع، إذ كل منهما قد خالف المشروع، ولم يقرأ الكلمة على معاهدها، فإذا جاز أن يأتي شرع التوراة بتحريم ما كان إبراهيم عليه السلام، ومن تبعه على استباحته، فجائز أن يؤتى بشريعة أخرى، بتحليل ما كان في التوراة محظورًا، وأيضًا فلا تخلو المحظورات من أن يكون تحريمها مفترضًا في كل الأزمنة، أم لا؟ فإن كان الثاني، فقد لزمتكم الحجة، وإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكره الله ذلك المحظور لعينه، وإما أن لا يكرهه لعينه بل نهى عنه في بعض الأزمنة، فإذا كان الله نهى عن عمل الصناعات في يوم السبت لعين السبت، فينبغي أن يكون هذا التحريم على نوح وإبراهيم وآدم، لأن عين السبت كانت أيضًا موجودة في زمانهم، وهي على التحريم، وإذا كان ذلك غير محرم على إبراهيم ومن قبله، فليس النهي عنه لعينه، أعني في جميع أوقات وجود عينه.
فإذا لزمكم أن تحريم الأعمال الصناعية يوم السبت ليس بمحرم في جميع وجود أوقات السبت، فليس بممتنع أن ينسخ هذا التحريم في زمن آخر، وإذا ظهر قائم بمعجزات الرسالة وأعلام النبوة في زمن آخر بعد فترة طويلة، فجائز أن تأتي بنسخ كثير من أحكام الشريعة التي قبله، سواء حظر مباحاتها أو أباح محظوراتها.
وكيف يجوز أن يحاج بالبينة باعتراض فيما ورد به من أمر أو نهي، سواء وافق العقول البشرية، أو باينها، ولاسيما أن الخصوم قد طالما تعبدوا بِفَرائضَ مباينة للعقول، كطهارة نجاستهم برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها قبيل أوان الحج، ونجاسة ظاهرهم بذلك الرماد بعينه.
على أن الذي يروم تنزيله منزلة هذا أقرب كثيرًا إلى العقل فإن الأفعال والأوامر الإلهية منزهة عن الوقوف عند مقتضى العقول البشرية، وإذا كانت التعبدات الشرعية غير عائدة بنفع لله عز وجل، ولا دافعة عنه ضررًا لتنزيه الله سبحانه عن الانتفاع والتأذي بشيء، فما الذي يحيل أو يمنع كونه تعالى يأمرُ أُمةً بشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنها، أو يحرم محظورًا على قوم ثم يحله لأولادهم، ثم يحظره ثانيًا على من يجيء بعد؟ وكيف يجوز للمتعبد أن يعارض الرسول في تحليله ما كان حرامًا على قوم، ويستدل بذلك على كذبه بعد أن جاءهم بالبينة وأوعب العقلاء تصديقه وتحكيمه؟ أليس هذا تحكمًا وضلالًا وعدولًا عن الحق؟ ! وإلى هذا يشير قوله تعالى:{ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} الآية، فرد الأمر إلى ذاته تعالى، ولم يرد على اليهود تبكيتًا لهم ونكاية بهم.
وثم وجه آخر للرد عليهم على مقتضى أصولهم، وهو أن يقال لهم: هل أنتم اليوم على ملة موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم، قلنا لهم: أليس في التوراة أن من مس عظمًا، أو وطئ قبرًا أو حضر ميتًا، عند موته صار من النجاسة في حال لا مخرج له منها، إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها؟ فلا تمكنهم المخالفة في ذلك، لأنه نص ما يتداولونه.
فنقول لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟ فيقولون: لا نقدر على ذلك، فنقول لهم: كيف جعلتم لمس العظم والقبر بعد ذلك طاهرًا يصلح للصلاة وحمل التوراة، والذي في كتابكم خلافه؟ فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة، وهي رماد البقرة والإمام المطهِّر المُسْتَغفِر، قلنا: فهل ترون هذا الأمر مع عجزكم عنه، مما تستغنون عنه في الطهارة أم لا؟ فإن قالوا: نعم، فقد أقروا بالنسخ لتلك الفريضة، لحال اقتضاها هذا الزمان، وإن قالوا: لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور، فقد أقروا بأنهم هم الأنجاس أبدًا، ما داموا لا يقدرون على سبب الطهارة، فنقول لهم: فإذا كنتم أنجاسًا على رأيكم وأصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض سبعة أيام، اعتزالًا تفرطون فيه إلى حدِّ أن أحدكم لو مس ثوبه ثوب المرأة لاستنجستموه مع ثوبه؟ فإن قالوا: لأن ذلك من أحكام
التوراة، قلنا: أليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة؟ فإن كانت الطهارة قد فاتتكم، والنجاسة التي أنتم فيها على معتقدكم لا ترتفع بالغسل، كنجاسة الحيض لما أنكم ترون أن الحائض طاهرة إذا كان من غير ملتكم، ولا تستنجسون لامسها ولا الثوب الذي تلمسه، وتخصيص هذا الأمر أعني نجاسة الحيض بطائفتكم مما ليس في التوراة، فهذا كله منكم نسخ أو تبديل، فإن قالوا: إن هذا وإن كان النص غير ناطق به فقد جاء في الفقه، قلنا لهم: فما تقولون في فقهائكم؟ هل الذين اختلفوا فيه من مسائل الخلاف والمذاهب، على كثرتها لديكم، كان ثمرة اجتهاد واستدلال [أو] (1) منقولًا بعينه؟ فهم يقولون: إن جميع ما في كتب فقهائنا نقله الفقهاء، عن الأحبار، عن الثقاة، عن السلف، عن "يهوشع بن نون"، عن "موسى الكليم"، عن الله عز وجل، فيلزمكم في هذه المسألة الواحدة التي اختلف فيها اثنان من فقهائكم، أن يكون كل واحد منهما ناقلًا مذهبه فيها نقلًا مسندًا إلى الله، وفي ذلك من الشناعة اللازمة أن يجعلوا الله قد أمر في تلك الساعة في شيء وخلافه، وهو النسخ الذي يدفعونه بعينه.
فإن قالوا: إن الخلاف غير مستبعد، لأن الأولين كانوا بعد اختلافهم في المسألة، يرجعون إلى أصل واحد، وهو المقطوع به، قلنا: إن رجوعهم بعد الاختلاف إلى الاتفاق على مذهب، إما لأن أحدهم رجع عما نقل أو طعن في نقله فيلزمه السقوط عن العدالة، ولا يجوز لكم أن تعاودوا الالتفات إلى نقله، وإما أن يكون الفقهاء اجتمعوا على نسخ أحد المذهبين أو تكون رواية أحدهما ناسخة لرواية الآخر، وما أحد من الفقهاء، إلا وقد ألغي مذهبه في مسائل كثيرة، وهذا جنون ممن لا يقر بالنسخ، ولا يرى كلام أصحاب الخلاف اجتهادًا ونظرًا، بل نقلًا محضًا.
وثم وجه آخر للرد عليهم، نقول لهم: ما تقولون في صلاتكم وصومكم، هل التي فارقكم عليها موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم قلنا: فهل كان موسى وأمته يقولون في صلاتهم كما تقولون: اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا، واقبضنا جميعًا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع تشتيت بني إسرائيل؟
(1) زيادة من "إفحام اليهود" ص 95.
أم كانوا على عهد موسى يقولون: كما تقولون كل يوم: اردد حكامنا كالأولين ومسراتنا كالابتداء وابن "يَروشليم" قرية قدسك في أيامنا، وعزنا ببنائها يا باني يروشليم؟ أم هذه فصول شاهدة بأنكم لفقتموها بعد زوال دولتكم، أما صوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصاره، وصوم كذلينا (1) التي جعلتموها فرضًا هل كان موسى يصوم ذلك؟ أو أمر به هو أو خليفته يوشع بن نون؟ أو صوم صلب هامان؟ هل هذه الأمور مفترضة بالتوراة أم زيدت لأسباب اقتضت زيادتها في هذه الأعصار؟
فإن قالوا: وكيف يلزمنا النسخ بهذه الآي، قلنا: لأن التوراة بهذه الآية نطقت، وهي ما تفسيره بالعربية: لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئًا، ولا تنقصوا منه شيئًا، فإن زدتم أشياء من الفرائض فقد نسختم تلك الآية.
وثم وجه آخر وهو أن يقال لهم: أليس عندكم: أن الله اختار من بني إسرائيل الأبكار ليكونوا خواص للخدمة في الأقداس؟ فيقولون: بلى، فنقول لهم: أليس عندكم أيضًا: أن موسى لما نزل من الجبل وعنده الألواح فوجد القوم عاكفين على عبادة العجل، وقف بطرف العسكر ونادى: من كان لله تعالى فليحضرني. فانضم إليه بنو ليوي، ولم ينضم إليه البكور، على أن مناداته وإن كان لفظها يقتضي العموم، فإنه لم يكن أشار بها إلا إلى البكور، إذ هم خاصة الله يومئذ دون أولاد ليوي، فقال الله لموسى: ما تفسيره بالعربية: وقد أخذت الليويين عوضًا عن كل بكر في بني إسرائيل. أفليس الله قد عزل الأبكار عن ولاية الاختصاص وأخذ أولاد ليوي عوضًا عنهم؟ ! فهم لا يقدرون على إنكار ذلك، وهذا يلزمهم منه القول بالبداء والنسخ اللذين هم ينكرانهما.
هذا وفي قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} فيه رد على القائلين بأن النسخ يلزم منه البداء، وهو ظهور الشيء بعد أن كان خفيًا، لأن
(1) في "إفحام اليهود" ص 98 بتحقيق د. محمد عبد الله الشرقاوي: "كدليا". وفي المطبوعة باسم "بذل المجهود" بتعليق عبد الوهاب طويلة ص 40: "كداليا". ولم يشرحا ما معناها مع تعليقهما على الكثير غيرها! !
البداء ينافي كمال العلم، لأنه يستلزم الجهل المحض، وهو مستحيل على الله تعالى، فالبداء مستحيل على من له ملك السماوات والأرض.
وما النسخ إلا أن الله تعالى علم المصلحة في الحكم تارة فأثبته بالشرع، وعلم المفسدة فيه تارة فنفاه بالنسخ، وذلك لفوائد منها رعاية الأصلح للمكلفين تفضلًا منه تعالى، لا وجوبًا. ومنها امتحانهم بامتثالهم الأوامر والنواهي، خصوصًا في أمرهم بما كانوا منهيين عنه، ونهيهم عما كانوا مأمورين به، فإن الانقياد له أدل على الإيمان والطاعة، وقد تكلمنا على تفسير هذه الآية بأطول من هذا، وأبدينا منها حكمًا غريبة في كتابنا الموسوم بـ "الأجوبة عن المسائل القازانية"(1)، مما إيراده هنا يجعل الكلام مطولًا، فليراجعه من أحب.
بقي هنا أن يقال: إن قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] على هذه القراءة يشير إلى صدور النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب عنه "ابن عطية" في تفسيره بقوله: والصحيح في هذا: أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله أن ينساه، ولم يرد أن يثبته قرآنًا - جائز. وأما النسيان الذي هو آفة في البشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعده، ما لم يحفظه أحد من الصحابة، وأما بعد أن يُحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية فلما فرغ من الصلاة قال:"أفي القوم أُبي" قال: نعم يا رسول الله، قال:"فلم لم تذكرْني" قال: خشيت أنها رفعت، فقال:"لم ترفع ولكني نسيتها"(2).
ولما كان رسخ ما ذكره سبحانه من تمام قدرته، وعظيم مملكته، وما أظهر لذاته المقدسة من العظم بتكرار اسمه العَلَم! وإثبات أن ما سواه عَدَم، فتأهلت القلوب للوعظ، صدعها بالتأديب بالإنكار الشديد، فقال:
(1) هي فتاوى للمؤلف رحمه الله وقد أطبعها قريبًا إن شاء الله.
(2)
هو بنحوه في "المسنده" 3/ 407 طبعتنا المرقمة (15343)، قال في "المجمع" 2/ 69: رجاله رجال الصحيح.
أي: أتريدون أن تردوا أمر خالقكم في النسخ، أم تريدون أن تتخذوا من دونه إلهًا لا يقدر على شيء، بأن تسألوا رسولكم أن يجعل لكم إلهًا غيره، كما سُئل موسى ذلك، فقال له قومه:{أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] و {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]؟ !
وعلى كل، فقد أدب الله المؤمنين وزجرهم عن أن يتعنتوا على نبيهم في زمنه، أو على شرعه من بعده، كما تعنت اليهود على نبيهم، فقد روي أن بعض المشركين حذا حذو اليهود في التعنت، فقال رهط من قريش: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهبًا، ووسع لنا أرض مكة، وفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، ونؤمن لك. وكان بعضهم يقول: ائتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة. وكان الآخر يقول: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلًا. وسأله قوم أن يجعل لهم "ذات أنواط" كما كانت للمشركين، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها الثمرة وغيرها من المأكولات، وأسلحتهم.
[و {أم} هنا منقطعة، وتتقدر المنقطعة بـ "بل والهمزة"، فالمعنى: بل أتريدون، ](1) ولفظة: "بل"، تفيد الإضراب عما قبله، ومعنى الإضراب هنا هو الانتقال من جملة إلى جملة، لا على سبيل إبطال الأولى.
واختلف في المخاطب في هذه الآية، فقال الأصم والجبائي وأبو مسلم: هو للمؤمنين، وهو الذي قدمناه كما رأيت، وعليه فالضمير في {رسولكم} جاء على ما في نفس الأمر، وعلى ما أقروا به من رسالته. وقال فخر الدين الرازي في تفسيره: المراد بها، اليهود، وهذا القول أصح، لأن هذه السورة من أول قوله:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} حكاية عنهم، ومحاجة معهم، ولأن الآية مدنية، ولأنه
(1) زيادة لازمة من "البحر".
جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله، فإذا سأل كان متبدلًا كفرًا بالإيمان، انتهى.
وعلى هذا فتكون إضافة الرسول على حسب الأمر في نفسه، لا على إقرارهم به، وفيه إشارة إلى تأكيد النسخ، فكأن الإضافة تشير إلى أنه قد نسخ شرع موسى وعدد من الأنبياء، بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والآن هو رسولكم، فلا تتعنتوا عليه كما تعنت أسلافهم على موسى من قبل، {ومن يتبدل الكفر} منكم {بالإيمان} ، بأن يبقى على متمسكه الأول المنسوخ {فقد ضل سواء السبيل} .
وعندي أن الآية في حق اليهود وكما اختاره الفخر، وأن المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه مرسل إليهم قطعًا، وأنها في حق المؤمنين على سبيل الوعظ، والصدع، أن لا يسلكوا مسلك اليهود في التعنت وكثرة السؤال، كما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط. وقال ابن جرير: هذه الآيات من قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} خطاب من الله للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم مما سر به اليهود، وكرهه رسول الله لهم، فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم، وحسد وبغي، وأنهم يتمنون لهم المكاره، ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرًا فقد أخطأ قصد السبيل، انتهى.
وظاهر الآية يدل على أن السؤال لم يقع منهم، ألا ترى أنه قال:{أم تريدون أن تسألوا} فوبخهم على تعلق إرادتهم بالسؤال، إذ لو كان السؤال قد وقع، لكان التوبيخ عليه لا على إرادته، وكان يكون للفظ:"أتسألون رسولكم" وما أشبه ذلك، مما يؤدي معنى وقوع السؤال، لكن تظافرت النقول من المفسرين في سبب نزول هذه الآية، وإن اختلفت في التعيين، على أن هذا السؤال قد وقع.
ثم بين تعالى: أن من سأل الرسول ما سأل، مع ظهور المعجزات، ووضوح الدلائل على صدقه، كان سؤاله تعنتًا وإنكارًا، وذلك كفر، فقال:{ومن يتبدل} أي: ومن يأخذ الكفر بدل الإيمان، وهذا كناية عن الإعراض عن الإيمان، والإقبال على الكفر، كما في قوله تعالى:{اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} ، أو: المعنى
ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة، وشك فيها، واقترح غيرها، {فقد ضل سواء السبيل} ، أي: وسطه، أو قصده، ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى كنى عنها بـ {السبيل} ، وجعل من حاد عنها كالضال عن الطريق، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بـ {يتبدل الكفر بالإيمان} وأخرج ذلك في سورة شرطية، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيرًا عن ذلك، وتبعيدًا منه، فوبخهم أولًا على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله، وخاطبهم بذلك ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية، وأن مثل هذا ينبغي أن لا يقع، لأنه ضلال عن المنهج القويم، فصار صدر الآية إنكارًا وتوبيخًا، وعَجُزُها تكفيرًا أو ضلالًا، وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض، ولا طلب ولا إرادة.
تنبيه: أورد الرازي هنا سؤالًا فقال: اعلم أن السؤال الذي ذكروه، إن كان طلبًا للمعجزات فمن أين أنه كفر؟ ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرًا، وإن كان طلبًا لوجه الحكمة المفصلة في نسخ الأحكام، فهذا أيضًا لا يكون كفرًا، لأن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلقه البشر، ولم يكن ذلك كفرًا. ثم أجاب بقوله: فلعل الأولى حمل الآية على أنهم طلبوا منه أن يجعل لهم إلهًا كما لهم آلهة، وإن كانوا طلبوا المعجزات، فإنهم كانوا يطلبونها على سبيل التعنت واللجاج، فلهذا كفروا بسبب هذا السؤال، انتهى.
أقول: من المعلوم أن القرآن يفسر بعضه بعضًا، وأن السؤال هنا إنما وقع سؤالًا مقيدًا بأن يكون مثل ما سُئل موسى من قبل، وما سئل موسى قد نطق به القرآن وفصله في آيات، فكانوا تارة يقولون:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] وتارة يقولون تعنتًا ولجاجًا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} [البقرة: 61] إلى غير ذلك مما هو معلوم من لجاجهم وعنادهم الذي ضلوا به سواء السبيل، فنهى الله المؤمنين عن أن يكونوا ذلك، وهذا تصريح بهذا المعنى لا حمل للآية عليه وتأويل لها.
ولما كان أكثر المثيرين لهذه الشكوك في صور أهل الإسلام، قال تعالى
مخاطبًا للمؤمنين وهم في غمارهم، تنفيرًا لهم عن الضلال الذي هو في نفسه أهل لأن ينفر عنه، فكيف وهو شماتة العدو، وبتخييله ودادتهم، وتحذيرًا لهم من مخالطته فقال:
فقوله: {ود كثيرٌ} هو تعليل لمعنى الكلام، وهو: فلا تتبدلوا الكفر بالإيمان بعد تعليله بالضلال، وذكر المفسرون أن المراد بذلك الكثير "كعب بن الأشرف"، وقيل:"حيي بن أخطب" وقيل غيرهما، والقرآن لم يعين أحدًا، وإنما أخبر بودادة كثير من أهل الكتاب، فينبغي أن يبقى المعنى على العموم في ذلك الكثير من غير تعيين، ولما كان المشركون عربًا عالمين بأن طبع العرب الثبات، لم يدخلهم في هذا الود، وقال:{من أهل الكتاب} إنباءً بأن المصافي منهم قليل، وبشر سبحانه بأن ما يودّونه من قسم المحال، بسوقه سوق المتمنى، فقال:{لو يردونكم} أي: بأجمعكم، ثم حقق أمر التمني في كونه محالًا مشيرًا بالإثبات الجارِّ إلى قناعتهم به، ولو في زمن يسير، فقال:{من بعد إيمانكم} أي: الراسخ {كفارًا} ، أي: لتكونوا مثلهم فتخلدوا معهم في النار، {حسدًا} على ما آتاكم الله من الخير الهادي إلى الجنة.
والحسد: قلق النفس من رؤية النعمة على الغير، وعبر عن بلوغ الحسد إلى غاية لا حيلة معها في تركه، بقوله:{من عند أنفسهم} أي: أنه راسخ في طبائعهم، فلا تطمعوا في صرفه بشيء، فإن أنفسهم غالبة على عقولهم، ثم زاده تأكيدًا بقوله مشيرًا بإثبات الجار إلى ذمهم: بأنهم استمروا على الضلال بعد الدعوة، لا يطلبون الحق مع القدرة على تعرفه، حتى هجم عليهم بيانه، وقهرهم عرفانه ثم لم يرجعوا إليه، وما كفاهم ضلالهم في أنفسهم حتى تمنوا إضلال غيرهم بالرجوع عنه، {من بعد ما تبين لهم} ، أي: بيانًا عظيمًا بوضوحه في نفسه
{الحق} ، أي: من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم النبيين، أُرسل إلى الناس كافة، بشهادة ما طابقه من التوراة، ثم أرشد إلى الدواء بقوله مسببًا عن الإخبار بأن ودّهم محال، وبعدم رجوعهم:{فاعفوا} أي: عاملوهم معاملة العافي، بأن لا تذكروا لهم شيئًا مما تظهره تلك الودادة الناشئة عن هذا الحسد من الأقوال والأفعال، ولا تأخذوا في مؤاخذتهم به، فإنهم لا يضرونكم ولا يرجعون إليكم {واصفحوا} أي: أظهروا لهم أنكم لم تطلعوا على شيء من ذلك، ثم حثهم على أن يكون فعلهم ذلك اعتمادًا على تفريجه سبحانه بقوله:{حتى يأتي الله بأمره} الذي لا أمر لأحد معه بأمره، فبشرهم بذلك بظهورهم على من أمروا بالعفو عنه، والصفح عنهم، ولما كان النصر- وهم في القلة والضعف بحال عظيم، وقوةُ عدوِّهم وكثرتُهم أعظمُ- مُسْتَبْعَدًا قال:{إن الله على كل شيء قدير} ففي هذا الختم بشرى للمؤمنين بتقديرهم، كما أن في الختم بالعلم بشرى بتعليمهم، وفي إفهامه نذارة للكافرين بمقابل ذلك.
ودل قوله تعالى: {من بعد ما تبين لهم الحق} على أن تلك الودادة ابتدأت من زمن وضوح الحق وتبيينه لهم، فليسوا من أهل الغباوة، الذين قد يغرب عنهم وضوح الحق، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد، وهكذا دأبهم وشأنهم إلى الآن، فإن أحبارهم ورهبانهم يرسلون المبشرين إلى البلاد، وينفقون عليهم الأموال العظيمة لاستغواء بسطاء المؤمنين، وردهم عن دينهم، ويؤلفون الكتب في الرد على القرآن، وفي تزييفه بزعمهم، ويختلقون الأقوال فيرجعون بغير طائل، ولا يفيدهم سعيهم شيئًا يذكر، ولم تزدد حججهم إلا ضعفًا وتزييفًا.
وقوله: {حتى يأتي} أمر يدل على الأمر بالعفو والصفح عنهم، كان معنيًا بالإتيان بأمر الله، أي: فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد، فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، لنبيه والمؤمنين به:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فنسخ الله تعالى العفو عنهم والصفح، بفرض قتالهم على المؤمنين، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا الجزية عن يدٍ صَغَارًا، وبذلك قال: ابن
عباس وقتادة والربيع والسدي، ولقد أطال الرازي هنا بشرح الحسد وتقبيحه، ونقل قول الغزالي في "إحياء علوم الدين" فيه، وذكر أحاديث لم ينسبها إلى مخرجها، ولما كان محل ذلك كتب "الترغيب والترهيب" وكتب الوعظ كـ "الإحياء" وغيره أضربنا عنه.
ولما أمر تعالى بالعفو والصفح عن اليهود، عقبه بقوله:
تنبيهًا على أنه كما ألزمهم العفو والصفح لحظ الغير وصلاحه، فكذلك لحظ أنفسهم وصلاحها، القيام بالصلاة والزكاة الواجبتين، ونبه بهما على ما عداهما من الواجبات، ثم قال بعده:{وما تقدموا لأنفسكم من خير} والمراد به التطوعات من الصلوات والزكوات، وقوله تعالى:{تجدوه عند الله} معناه: تجدوا ثوابه وجزاءه عند الله، ثم قال:{إن الله بما تعملون بصير} أي: أنه لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال، وهو ترغيب من حيث يدل على أنه تعالى يجازي على القليل كما يجازي على الكثير، وتحذير من خلافه الذي هو الشر، وأما الخير فهو النفع الحسن وما يؤدي إليه، فلما كان ما يأتيه المرء من الطاعة، يؤدي به إلى المنافع العظيمة، وجب أن يوصف بذلك، وعلى هذا الوجه قال تعالى:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
ثم إنه تعالى ذكر النوع الرابع من تخليط اليهود، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين، فقال:
{وقالوا} أي: أهل الكتاب من اليهود والنصارى حسدًا منهم على المسبب
الذي هو الجنة، كما حسدوا على السبب، وهو إنزال ما اقتضى الإيمان الموصل إلى الرضوان، الذي به تستباح الجنة، {[لن يدخل الجنة] (1) إلا من كان هودًا أو نصارى} ، أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله، وأمْنًا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين، وتضليل كل منهما لصاحبه، ومثل هذا قوله تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] ولما كانوا أبعد الناس عن هذه الأماني التي تمنوا لأنفسهم، قال تعالى مشيرًا إلى بعدهم عن ذلك:{تلك أمانيهم} تهكمًا بهم، وجمع الأماني مع أن قولهم {لن يدخل الجنة} أمنية واحدة، إشارة إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارًا، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي: تلك الأماني الباطلة أمانيهم.
ولما كان كل مدع لغيب مفتقرًا في تصحيح دعواه إلى دليل، وكان مثل هذا لا يقنع فيه إلا بقاطع أَمَرَ أعلم الخلق، لأنه لا ينهض بإخراسهم في علمهم ولَدَدهم غيرُه، بمطالبتهم بذلك، ناقضًا لدعواهم، فقال:{قل هاتوا برهانكم} أي: هلموا حجتكم، على اختصاصكم بدخول الجنة، {إن كنتم صادقين} في دعواكم، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وإن كل قول لا دليل فهو باطل غير ثابت، و"هات" صوت بمنزلة هاء بمعنى: أحضر، و "البرهان" هو البيان والحجة والبينة- ويقال له: الشاهد- قال:
من ادعى شيئًا بلا شاهد
…
لا بد أن تبطل دعواه
ولما نادى عليهم بالكذب في قوله: {إن كنتم صادقين} أثبت لغيرهم بقوله: {بلى} ما ادعوا الاختصاص به، فـ {بلى} إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة، وأفادت أيضًا أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان، أثبت لمن
(1) زيادة من البقاعي.
أسلم وجهه لله برهانًا، وأفادت أيضًا ترغيبهم في الإسلام، وبيانًا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه، ويعدلوا إلى هذه الطريقة، فكأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم لا تفوزون بالجنة، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله، وأحسنتم فلكم الجنة.
ثم بين أهل الجنة بقوله: {من أسلم وجهه لله} أي: من أخلص نفسه لله لا يشرك به غيره، وأتى بـ "الوجه" هنا عبارة عن الذات، لأنه أشرف ما ظهر من الإنسان، فمن أسلمه أسلم كله، كما أن الإيمان إذعان القلب الذي هو أشرف ما بطن، وإذعان جميع الأعضاء، وأيضًا قد يكنى بالوجه عن النفس، قال تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل: 20]؛ وأيضًا فإن أعظم العبادات السجود، وهو إنما يحصل بالوجه.
وأما قوله: {وهو محسن} فمعناه: لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بوجه قبيح، فإن كثيرًا من الكفار يتواضعون لله، لكن بأفعال قبيحة، ويصح أن تقول: وهو محسن في جانب الحق، بإذعان القلب، وفي جانب الخلق بإرضاء الرب، فصار يعبد الله كأنه يراه، فطابق سرّه علنه.
ولما نفوا الأجر عن غيرهم، وأثبته سبحانه للمتصف بالإسلام منهم وممن سواهم، وكان ربما قيل: إنه أعطى غيرهم لكونه الملك المطلق بغير سبب، ربط الأجر بالفاء دليلًا على أن إسلامهم هو السبب، فقال:{فله} خاصة {أجره عند ربه} إحسانًا إليه بإثبات نفعه، على حسب مأربه به في كل شريعة، ولما كان ربما ادعى أنه ما أفرد الضمير في قوله:{فله أجره عند ربه} إلا لأن المراد واحد بعينه، فلا يقدح ذلك في دعوى أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود، أو النصارى، جمع فقال:{ولا خوف عليهم} من آتٍ، {ولا هم يحزنون} على شيء فات، دفعًا لضرهم.
ولما أبطل دعوى اختصاصهم بالرحمة قدحًا منهم في غيرهم، وأثبتها للمحسنين، أتبع ذلك قدح كل فريق منهم في الآخر وبيان انتفائها عنهم بإساءتهم،
بإبطال كل فرقة منهم دعوى الأخرى مع ما يشهد به كتاب كل من بطلان قوله، فقال:
قيل: المراد عامة اليهود وعامة النصارى، فهذا من الأخبار عن الأمم السالفة، وتكون "الـ" للجنس، ويكون ذلك تقريع لمن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولمن بعده من الفريقين، وتسلية له إذ كذبوا بالرسل وبالكتب قبله. وقيل: المراد يهود المدينة، ونصارى نجران، حيث تماروا عند الرسول وتسابوا، وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى، وأنكرت النصارى التوراة ونبوة موسى، فتكون حكايةَ حالٍ و"الـ" للعهد، وإني أميل إلى صحة القول الأول، لأن الله جمعهم في الخبر الأول على العموم، ثم فصلهم في هذه الآية، وبين قول كل فريق منهم في الآخر، وكيف تُنكر كل طائفة دين الأخرى، وأنّث فعلهم في قوله:{وقالت} لضعف قولهم وجمع أمرهم.
فقوله: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} أي: على شيء يصح ويعتد به، وهذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليه اسم الشيء، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه، فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده، وهذا كقولهم: أقل من لا شيء، ومعنى "ليس" مطلق النفي لمتقدم إثبات أو مقدرة.
{وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} ونظير هذا قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ} [المائدة: 68] فإن قيل: كيف قالوا ذلك، مع أن الفريقين كانا يثبتان الصانع وصفاته وذلك قول فيه فائدة؟ ، قيل في الجواب: إنهم لما ضموا إلى ذلك القول الحسن قولًا باطلًا يحبط ثواب الأول، فكأنهم ما أتوا بذلك الحق، أو أنه يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيها،
وهي ما يتصل بباب النبوات، هكذا أجاب الفخر الرازي.
وعندي أن قولهم هذا كان على سبيل المبالغة، في أن كل فريق لم يعتد بما الآخر عليه، وأن نفي كل فريق ما عليه الآخر، ليس كما قاله الرازي، بل إن النصارى كانت تعتقد التثليث، وإلى الآن هم على ذلك، فقال لهم اليهود: لستم على شيء من الدين، واليهود تعتقد التجسيم، وفريق منهم يقول:"عزير" ابن الله، فنفى النصارى قولهم وطعنوا فيه.
ثم إنه تعالى عجب منهم في هذه الدعوى لما قبل التبديل والنسخ، ولما بعده، بقوله:{وهم} أي: والحال أنهم {يتلون الكتاب} ، أي: مع أن في كتاب كل منهم حقيقة أصل دين الآخر، ثم شبه بهم في نحو هذا القول الجهلة، الذين ليس لهم كتاب، الذين هم عندهم ضلال، وفي هذا غاية العيب لهم، لتسوية حالهم مع علمهم بحال الجهلة، في القطع في الدين بالباطل، كما سوى حالهم بهم في الحرص على الحياة في الدنيا، ومنهم عبدة الأصنام الذين منهم العرب الذين أخرجوا الرسول من بلده ومنعوه مسجد أبيه، إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، الذي هو الحقيق بهم دونهم، وساق ذلك مساق جواب سائل، كأنه قال: هذا قول العلماء بالكتاب، فما حال من لا علم له فقال:{كذلك} أي: مثل هذا القول البعيد عن القصد، {قال الذين لا يعلمون} أي: وقال الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب، كعبدة الأصنام والمعطلة وغيرهم، {مثل قولهم} ، فعاندوا وضللوا المؤمنين أهل العلم بالكتاب الخاتم، الذي لا كتاب مثله، وضللوا أهل كل دين.
ولما وقع الخلاف بين هذه الفرق تسبب عنه حكم الملك الذي لم يخلقهم سدى بينهم، فقال:{فالله يحكم بينهم} و "الحكم": قصر المصرف على بعض ما يتصرف فيه، وعن بعض ما تشوف إليه، وحقق أمر البعث بقوله:{يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} و "الاختلاف" افتعال من الخلاف، وهو: تقابل بين رأيين فيما ينبغي انفراد الرأي فيه، وهذه الآية تشير إلى نهي هذه الأمة أن يسلكوا مسالك أهل الكتاب، ومسالك الذين لا يعلمون، فيختلفوا في هذا القرآن المجيد،
ويتفرقوا شيعًا، ويتحزبوا أحزابًا و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32]، يطعن كل حزب في الآخر، ويؤول القرآن على مقتضى رأيه انتصارًا لمقالته، فتكفر كل طائفة منهم الأخرى، أو تفسقها، أو تبدعها، وما الحق، إلا ما جاء به صريح القرآن الكريم، ونطق به الصادق الأمين، وقد ورد افتراق هذه الأمة إلى اثنتين وسبعين فرقة، كما افترق أهل الكتاب على ذلك من قبل، وبين أن الفرقة الناجية، هي فرقة الجماعة الناجية، هي على ما كان عليه السلف، وإن كانت رجلًا واحدًا كما روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه (1)، وقد أوضحنا ذلك في كتاب "الأجوبة النجدية"، وسيمر بك كثير من هذا في هذا الكتاب.
ولما اشترك جميع هذه الفرق في الظلم، وزاد الجهلة منع حزب الله من عمارة المسجد الحرام، بما يرضيه من القول والفعل، فازدادوا بذلك ظلمًا آخر، وكان من منع مسجدًا واحدًا- لكونه مسجدًا- مانعًا لجميع المساجد، قال:
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فقيل: إنها نزلت في "نطوس ابن إسبسيانوس" الرومي الذي خرب بيت المقدس، ولم يزل خرابًا إلى أن عُمّر في زمن عمر بن الخطاب، وقيل: نزلت في الروم الذين أعانوا "بخنتصر" على تخريب بيت المقدس، حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكريا، وقيل: نزلت في بختنصر ذاته، واختار ابن جرير أنها نزلت في النصارى، وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس.
(1) رواه ابن عساكر بسند صحيح كما في التعليق على "مشكاة المصابيح" عند الرقم (173). طبع المكتب الإسلامي.
وعندي: أن هذه الأقوال كلها سرت من اليهود، أما كونها نزلت في النصارى أو بختنصر، فذلك غلط كما صرح به أبو بكر الرازي في كتابه "أحكام القرآن"، لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل، والنصارى كانوا بعد المسيح، فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس، وأيضًا فإن النصارى يعتقدون تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود وأكثر، فكيف أعانوا على تخريبه، ومن هذا يعلم الخطأ في بقية الأقوال.
وأقول: الأولى في تفسير هذه الآية والله أعلم: أنه لما غير اليهود والنصارى الذين ذكرهم الله تعالى في الآية السابقة، وبدلوا دينهم، سعوا في منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، على سبيل التوحيد الحقيقي، الذي هو إفراد الحق بالوحدانية، وأبدلتها النصارى بجعلها مواضع للصور والصلبان. وأخرجتها اليهود عن حقيقتها التي وضعت لها أيام سيدنا موسى والأنبياء من بعده عليهم السلام. وشاركهم المشركون فجعلوا الكعبة البيت الحرام محلًا لأصنامهم، وصدوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ومنعوه في مبدأ الأمر عن إظهار دينه به. أنزل تعالى هذه الآية مبينًا قبيح أفعالهم وأفعال من كان على شاكلتهم.
والذي يقوي هذا التفسير أن ظاهر الآية العموم في كل مانع، وفي كل مسجد، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصًا، فالعبرة به لا بخصوص السبب، وذلك بناء على صحة السبب والقطع به، كيف وأسباب النزول لم يصح منها إلا النزر اليسير، وسنوضح هذا بعد الكلام على تفسير الآية.
فقوله تعالى: {ومن أظلم} مورد الاستفهام ومعناه: النفي، أي: لا أحد أظلم ممن منع، وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن، وهذا أول موارده، وقوله:{ممن منع مساجد الله} "من" في [قوله {ممن منع}](1) في موصولة بمعنى: الذي، وجوز أبو البقاء. أن تكون نكرة موصوفة، و {أن يذكر} ثاني مفعولي
(1) زيادة من "البحر".
{منع} أو مفعولًا لأجله، بمعنى منعها كراهية أن يذكر فيها اسم الله، وهو حكم عام لجنس مساجد الله، وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم، وكنى بذكر الله عما يقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى، بالأفعال القلبية والقالبية، من تلاوة كتبه، وحركات الجسم من القيام والركوع، والسجود والقعود، الذي تعبد به، وإنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله، تنبيهًا على أنهم منعوا من أيسر الأشياء، وهو التلفظ باسم الله، فمنعهم لما سواه أولى.
قال ابن عطية: وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة، أو خرب مدينة إسلام، لأنها مساجد وإن لم تكن موقوفة، إذ الأرض كلها مسجد لما في الصحيح، "وجعلت في الأرض مسجدًا وطهورًا"(1).
وقوله: {وسعى في خرابها} معناه إما حقيقة بأن خربها واستبدل بها الدور والمساكن والخانات، كما جرى ذلك في زمننا وفي الأزمنة السابقة عليه، من أن المتولين على المساجد والمدارس تحيلوا لاختلاس أوقافها، بحيل أسندوها إلى الشرع، وسموها بالمرصد والكدك والحكر، وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، ثم لما ذهبت الأوقاف وضعوا أيديهم على المساجد، وعلى المدارس ومساجدها فخربوها، وابتنوا مكانها دورًا للسكنى، وحوانيت وخانات، ومنازل للأجرة، فهل الخراب إلَّا مثل هذا؟
وإما مجازًا بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها، إذ ذاك يؤول بها إلى الخراب، فجعل المنع خرابًا، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة، وذلك مجاز.
وقال: {ومن أظلم} ليعلم أن قبح الاعتقاد يورث تخريب المساجد، كما أن حسن الاعتقاد يورث عمارة المساجد، ومن هذا النوع ما اصطلح عليه حكام زمننا والذي قبله، من منع الإمام إذا كان أهلًا للإمامة، وتولية الجاهل بدلًا منه، وتوجيه التدريس المشروط في مسجد ومدرسة للجاهل، ومنع العالم، فإذا تولى
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"(1056)، و "إرواء الغليل"(285).
الجاهل أو من هو قريب منه التدريس، حفظ كلمات فألقاها في درسه، وساعده من كان من شيعته أيامًا، ثم يترك التدريس، فالمولي لأمثال هؤلاء، يصدق عليه أنه ساع في خراب المساجد.
ثم ذكر تعالى ما رتبه عليه فعلهم من الخوف في المسجد الذي سعوا في خرابه، والخزي في الدنيا والآخرة، ضد ما رتبه لمن أحسن، فقال:{أولئك} المانعون {ما كان لهم أن يدخلوها} ، أي: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله {إلا خائفين} ، على حال التهيب وارتعاد الفرائص، أي: ما كان الحق والواجب إلا ذلك، وما كان أمنهم فيها إلا بسبب كثرة المساعد على ما ارتكبوه من الظلم والتمالؤ على الباطل، وسنزيل ذلك، ففيه بشارة المؤمنين وأهل الحق بعلو كلمة الإسلام والحق، وقهر من عاداه.
ويجوز أن يكون المعنى: {أولئك ما كان} ينبغي {لهم أن} يدخلوا مساجد الله، {إلا} وهم خائفون من الله، وَجِلون من عقابه، فكيف لهم أن يتلبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها، إذ هي {بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36، 37] وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم ذكر الله فيه، ويسعى في عمارته، ولا يدخله الإنسان إلا وجلًا خائفًا، إذ هو بيت الله، أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة، ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه، إذ كان ينبغي أن يقع ضده، وهو التبجيل والتعظيم. ومما يؤيد هذا المعنى وقوع {كان} في قوله:{ما كان لهم} ولو كان المعنى أنهم يدخلونها خائفين، لقيل: أولئك ما يدخلونها إلا خائفين، وإلى هذا جنح أبو حيان في تفسيره "البحر".
ثم بين تعالى الجزاء المناسب لهم، في قوله:{لهم في الدنيا خزي} الآية، أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال لهم، وهو مناسب للوصف الأول لأن فيه إهمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك، فَجُوْزوا على ذلك بالإذلال والهوان، وأما العذاب العظيم في الآخرة فهو العذاب بالنار، وهو إتلاف لهياكلهم
وصورهم، وتخريب لها بعد تخريب {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]، وهو مناسب للوصف الثاني، وهو سعيهم في تخريب المساجد، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم، وتمزيقها بالعذاب.
ومن غريب التفسير هنا، ما رواه ابن جرير عن السدي بأن خزيهم في الدنيا: أنه إذا قام "المهدي" وفتحت القسطنطينية، قتلهم. وغرابته أن القسطنطينية فتحها المرحوم السلطان "محمد الفاتح" المشهور من بني عثمان، فإن كان هو المهدي فلا إشكال، وإن لم يكن هو فأين ما زعمه السدي؟ وقد كشفنا حقيقة هذا المنتظر في كتابنا "الأجوبة النجدية"، وكتابنا الثاني "الأجوبة القازانية".
ومن غريبه أيضًا ما ذكره القشيري: من أن الإشارة في هذه الآية إلى ظلم من خرب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة، بالشهوات وهي نفوس العباد، وأوطان المحبة بالحظوظ، والمساكنات وهي أرواح الواجدين، وأوطان المشاهدات، بالالتفات إلى القربات وهي أسرار الموحدين، لهم في الدنيا خزي، ذل الحجاب، وفي الآخرة عذاب لاقتناعهم بالدرجات انتهى.
قال أبو حيان: وهو تفسير عجيب، ينبو عنه لفظ القرآن، وكذا أكثر ما يقوله هؤلاء القوم، انتهى.
ولقد رأينا تفاسير عدة على هذا النمط، وأكثرها أخرج القرآن عن موضوعه، وعندي أن هذا سرى لأهلها من الباطنية، ومن تأمل كتبهم، علم أن المورد متشابه، ولم يقصد الباطنية بذلك إلا هدم القرآن والشرع، وكثيرًا ما ينحو هذا المنحى "الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري" في كتابه "غرائب القرآن، ورغائب الفرقان" الذي اختصر به تفسير فخر الدين الرازي، ونحن لا نظن به إلا خيرًا، ولكن الواجب عدم التقليد والاستضاءة بمصباح علام الغيوب، واجتناب دسائس الباطنية غاية الاجتناب، ولا يقدر على ذلك إلا من عرف مسالكهم، وطالع الكثير من كتبهم، وفرق بين التصوف الحقيقي وبين الممزوج بكلام أهل الإلحاد.
ومن الغريب أيضًا: ما ذكره في "الدر المنثور" وغيره عن قتادة والسدي أنهما قالًا: ليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفًا، وهذا مردود، لأن بيت المقدس بقي أكثر من مئة سنة في أيدي النصارى بحيث لم يتمكن أحد من المسلمين من الدخول فيه إلا خائفًا، إلى أن استخلصه الملك "صلاح الدين يوسف بن أيوب" كما هو مذكور في تاريخه وغيره.
وقال بعض المعاصرين لنا من المصريين في تفسير له {أولئك ما كان لهم} الآية، خبر بمعنى الأمر أي: أذلوهم بالجهاد، فلا يدخلها منهم أحد إلا خائفًا، انتهى.
وهو معنى حسن، وأشار إليه "الرازي"، وعليه يؤخذ من الآية النهي عن تمكين الكفار، والتخلية بينهم وبين المساجد.
وتدل الآية على تحريم ما يفعله بعض الناس من الحيل لاختلاس أوقاف المساجد والمدارس، وجعلها دورًا وحوانيت وخانات، ويدعون أنهم فعلوا ذلك بوجه شرعي، وينسبون جواز ذلك لمذهب إمام المحدثين والفقهاء أحمد بن محمد ابن حنبل، رضي الله عنه، ومذهبه بريء من تلك الضلالات، وإنما ذلك افتراء عليه من المفتين والقضاة على مذهبه، وهذه كتب مذهبه الصحيحة، فمن ادعى صحة ذلك فليحاكمنا إليها ولكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40].
ويدل قوله تعالى: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} أن الكافر لا يحل له دخول المسجد، لكن عندي في هذه الدلالة نظر، لأن أول الآية يخص من {منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها} فيجب أن يخص تحريم الدخول بمن كانت هذه صفته مطلقًا، سواء كان كافرًا أو غير كافر، وعليه فمن اغتصب مسجدًا أو مسجد مدرسة، وجعله دارًا أو غيرها، أو تحيل لاغتصاب وقف مسجد بأي حيلة كانت، لا يجوز له دخول ذلك، ويمنع منه وإن نزع الحاكم ذلك من يده وأعاده لأصله كان قد فعل قربة إلى الله تعالى.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى أجرى سنته، أن من لم يقم حرمة مساجده، شرده منها وأحوجه لدخولها تحت رقبة وذمة من أعدائه، كما قد شهدت مشاهدة بصائر أهل التبصرة، فكل طائفة ساء عملها في مسجدها شردت منه، ودخلت في بضع الأخرى خائفة، كذلك حتى تكون العاقبة للمتقين.
ولما أفهمت الآية أنه حصل لأولي الإيمان منع من عمارة بيت الله بذكره، وكان الله تعالى قد من على هذه الأمة بأن جعل الأرض كلها لها مسجدًا، سلى المؤمنين بأنهم أينما صلوا بقصد عبادتهم لقيهم ثوابه، لأنه لا تختص به جهة دون جهة لأن ملكه للكل على حد سواء، فكان كأنه قيل: فأقيموا الصلاة التي هي أعظم ذكر الله حيثما كنتم، فإنها لله، كما أن المسجد الذي منعتموه لله، عَطَفَ عليه قوله:
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية اختلافًا كثيرًا على عادتهم في هذه الآية وغيرها، وأكثر ما يذكرونه في أسباب النزول متعارض، وضعيف الإسناد، فلا ينبغي أن يقبل منه إلا ما صح، وقد صنف الواحدي وغيره في ذلك كتبًا لا يعول على ما ذكروه فيها إلا على الصحيح منه.
وقال أبو حيان في "البحر"، وعن عامر بن ربيعة: أن ذلك جرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في السفر، ولو صح ذلك لم يعدل إلى سواه، انتهى.
أقول هذا السبب مروي بسند صحيح، فقد أخرج البخاري والبيهقي وابن أبي شيبة عن جابر بن عبدالله، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي على راحلته قِبَل المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى".
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة، والطبراني والبيهقي وعبد ابن حميد، عن ابن عمر، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعًا أينما توجهت به" ثم قرأ ابن عمر {فأينما تولوا فثم وجه الله} ، وقال ابن عمر: في هذا أنزلت هذه الآية.
وأخرج الدارقطني، والحاكم وصححه، وابن أبي حاتم وابن جرير، عن ابن عمر، قال:"أنزلت {أينما تولوا فثم وجه الله}، أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في التطوع".
وأخرج البخاري والبيهقي عن جابر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أنمار يصلي على راحلته متوجهًا قبل المشرق تطوعًا"، وفي الباب عن أبي داود الطيالسي وابن ماجه، وكذا روى الإمام أحمد نحو ما تقدم.
وروى الترمذي وابن أبي شيبة في جامعه عن عامر بن ربيعة، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{فأينما تولوا فثم وجه الله} ، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي سنده أشعث السمان وهو يضعف في الحديث، انتهى.
فالأحاديث الأولى هي الصحيحة بما هو بمعنى ما تقدم، ومنه يعلم أن الآية مخصوصة بصلاة النافلة، وليست بمنسوخة، وفي معنى النافلة ما إذا جهلت القبلة ولم يعلم مكانها وصلى المصلي بالاجتهاد، فالآية جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص، وذلك أن قوله:{فأينما تولوا فثم وجه الله} ، يحتمل: أينما {تولوا} في حال سيركم في أسفاركم في صلاة التطوع، وفي حال محاربتكم عدوكم في تطوعكم ومكتوبتكم، {فثم وجه الله} ، ويحتمل:{فأينما تولوا} من أرض الله، فتكونوا بها، {فثم} قبلة {الله} التي توجهون وجوهكم إليها، لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها، ويحتمل:{فأينما تولوا} وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي استجيب لكم دعاءكم، لكن هذا الاحتمال الأخير بعيد عن معنى الآية، إذ لا إشارة إلى الدعاء هنا.
فقوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب} معناه: بلاد المشرق والمغرب، والأرض كلها لله هو مالكها ومتوليها، وذلك لما كان المشرق موضع الشروق وهو مطلع الأنوار، والمغرب هو موضع أُفولها، وكان هذان الأفقان مدارًا لجميع الكواكب، عبر بهما عن جميع الجهات لتحول الأفلاك حال الدوران إلى كل منها،
فلذلك تسبب عن ذكرهما قوله: {فأينما تولوا فثم وجه الله} أي: فأي مكان أوقعتم فيه التولية للصلاة إلى القبلة التي أمرتم بالتولية إليها، {فثم} ، أي: فذلك الموضع {وجه الله} ، أي: جهته التي وجهكم إليها، أو مكان استقباله والتوجه إليه، وما يستقبلكم من جلاله وجماله، ويتوجه إليكم من بره وأفضاله، فإن نسبة جميع الأماكن والجهات في القرب والبعد إليه سواء.
وقال بعض المفسرين كما نقله أبو حيان: هذه الآية ليست في الصلاة، بل هي خطاب للذين يخربون المساجد، أي: أينما تَوَلَّوا هاربين عني فإني ألحظهم، ويقوي هذا التفسير قراءة الحسن، "فأينما يُولوا" بياء الغائب، انتهى.
قلت: وهو تفسير غير بعيد، وذكره الفخر الرازي في تفسيره، ولم يعزه لأحد، وقال: وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها.
وقوله: {إن الله واسع عليم} نظير قوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)} [الرحمن: 33] فعلى هذا يكون المراد منه سعة العلم، وهو نظير:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].
ولمّا أخبر عن سعة فضله مبثوثًا في واسع ملكه، بما وقفت العقول عن منتهى علمه، علله بما صغر ذلك في جنبه، فقال:{إن الله واسع} ، أي: محيط بما لا تدركه الأوهام، فلا يقع شيء إلا في ملكه، {عليم} فلا يخفى عليه فعل فاعل أينما كان، وكيفما كان، فهو يعطي المتوجه إليه على قدر نيته بحسب بلوغ إحاطته، وشمول علمه وقدرته.
ولما أفاد ما تقدم وصفه تعالى بتمام القدرة، واتساع الملك والفضل، وشمول العلم، كان من المحال افتقاره إلى شيء، ولد أو غيره، فذم أهل الأديان الباطلة كلهم بافترائهم في الولد: اليهود في عزير، والنصارى في "المسيح"، وعبدة الأوثان في "الملائكة".
فقال مُعَجِّبًا ممن اجترأ على نسبة ذلك إليه مع معرفة ما تقدم، عاطفًا على ما سبق من دعاويهم:
أي: ومن دعاويهم الباطلة، أنهم {وقالوا اتخذ الله} الذي له الكمال كله {ولدًا} ، وقال {ولدًا}: الصالح للذكر والأنثى لينظم بذلك مقالات الجميع، ولما كان العطف على مقالات أهل الكتاب، ربما أوهم اختصاص الذم بهم، حذفت واو العطف في قراءة ابن عامر على طريق الاستئناف في جواب "من" كأنه قال: هل انقطع حبل افترائهم؟ إشارة إلى ذم كل من قال بذلك، وذلك إشارة إلى شدة التباسها بما قبلها، كما قال أبو علي الفارسي. وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام، انتهى.
لأن جميع المتحزبين على أهل الإسلام مانعون لهم من إحياء المساجد بالذكر، لشغلهم لهم بالعدواة عن لزومها، والحاصل: أنه إن عطف كان انصباب الكلام إلى أهل الكتاب، وكان غيرهم تبعًا لهم للمساواة في المقالة، وإذا حذفت الواو انصب إلى الكل انصبابًا واحدًا.
ثم اعلم: أن ادعاء الولد لله كان شائعًا في جميع الأمم، ولم تزل له آثار إلى يومنا هذا، وأقدم القائلين بذلك هم الوثنيون، فإنهم قائلون بالأب والابن وروح القدس، وعنهم أخذ النصارى التثليث، ويسمي الوثنيون ذلك "ثري مورتي" أي: ثلاث هيئات، وادعى الأقدمون النبوة في "أورقية" ملك نزاس، وفي "أفلاطون" في القرن الحادي عشر قبل الهجرة، وفي "الإسكندر" وفي "هيركول" في القرن الثاني عشر قبل الهجرة.
وأما من ادعوا فيهم الألوهية والتجسد فكثيرون أيضًا، منهم "بوذا" المصلح الشهير لديانة البراهمة، ولد في القرن الحادي عشر قبل الهجرة، وزعم أتباعه فيه
ذلك قبلًا، وإلى الآن وهم مما يزيد على خمسمئة ألف ألف (1)، وكل عام يسلم منهم الخلق الكثير والجم الغفير، ومنهم "برهما" فإن أتباعه يدَّعون أن الخالق حل فيه، ثم في "فيشنو" ثم في "سيفا" ويصورونهم ملتصقين إشارة إلى هذا التجسد الثلاثي، ولهم من الأتباع نحو من ثلاثمئة ألف ألف، يسلم منهم الخلق الكثير في كل سنة، وتأسست هذه الديانة من قبل زمننا بأكثر من ألفي سنة، ويعتقد البوذيون أن الإله فيشنو، وهو أحد أركان التثليث عند الوثنيين من أهل الهند، تجسد مرارًا عديدة لينجي العالم من الهلاك، وفي المرة التاسعة تجسد في بوذا، وسبب هذه المزاعم الفاسدة غلو الأمم في تقديس أنبيائهم.
والصينيون يقولون: إن أصل كل شيء واحد، وهذا الواحد الذي هو أصل الوجود، اضطر إلى إيجاد ثان، والأول والثاني، انبثق منهما ثالث، ومن هذه الثلاثة صدر كل شيء.
والمصريون القدماء كانوا يعبدون إلهًا مثلث الأقانيم، على نمط أهل الصين، وكذلك الكلدانيون.
وكان الآشوريون يقولون عن "مردوخ": أنه ابن الله البكر.
وقدماء اليونان كانوا يقولون بالتثليث، ويقال إن "فيثاغورث" و "هيركليتوس" و "بلاتوا": أخذوا فلسفتهم في التثليث عن "أورفيوس"، ثم نشروها في بلادهم.
فقول اليهود: عزير ابن الله، قلدوا فيه قدماء المصريين، وقول النصارى المسيح ابن الله، قلدوا فيه الوثنيين، والرومانيين القدماء، والفرس الأقدمون، كالهنود في التثليث، والثلاثة عندهم "أورمزد، ومترات، وأهرمان"، فالأول الخلاق، والثاني ابن الله المخلّص والوسيط، والثالث المهلك. والفنيقيون كانوا على هذا النمط.
ومثلهم الفلنديون والإسكندنافيون والدرديون، وسكان سيبيريا القدماء،
(1) إن مثل هذه الأعداد من المؤلف رحمه الله غير مبنية على أصول صحيحة في الإحصائيات. والآن وقد مضت أكثر من ستين سنة فقد تغيرت الأحوال والأعداد.
المعبر عنهم بيأجوج ومأجوج (1)، والتتر الوثنيون، وسكان جزائر الأوقيانوس، وأهل المكسيك الهندوس، والهندوس الكنديون، وكل أولئك يدّعون في الابن أنه صلب كما تدعي النصارى، والكلام على استيفاء هذه المباحث طويل، وله مَحَالّ يؤخذ منها.
والحاصل أن قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولدًا} ، شامل لجميع الأمم الوثنية، ومنهم النصارى واليهود، ولمّا ضل كثير من الأمم بهذا الاعتقاد نزه تعالى نفسه، بقوله:{سبحانه} أي: تنزيهًا له عمّا نسبه إليه الكفار من اتخاذ الولد، والتجسد، والحلول، علوًا وارتفاعًا عن ذلك، وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي، عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن تفسير سبحان الله، فقال:"هو تنزيه الله من كل سوء" ورواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والديلمي.
ثم إنه تعالى أخذ في إبطال تلك المقالة، فقال:{بل له ما في السماوات والأرض} أي: جميع ذلك مملوك له. ومن جملتهم من ادعوا أنّه ولد لله، والولادة تنافي الملكية، لأن الوالد لا يملك ولده، ولمّا ذكر أن الكل مملوك لله تعالى، ذكر أنَّهم كلهم {قانتون} له، أي: مطيعون خاضعون له، وهذه عادة المملوك أن يكون طائعًا لمالكه، ممتثلًا لما يريده منه، واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الولد، إذ الولد يكون من جنس الوالد، وأتى بـ {ما} الموضوعة لما لا يعقل، تحقيرًا لهم وتصغيرًا لشأنهم.
والمقصود من القنوت هنا، الذي بمعنى الطاعة، أنهم خاضعون لتصرفه فيهم، ويفعل بهم ما يشاء ويختار، فله الحكم المطلق كما أخبر تعالى عن السماوات، والأرض، بأنهما قالتا:{أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] والمعنى: أنهم مخلصون خاشعون متواضعون، لاستسلامهم لقضائه من غير قدرة على دفاع، ولا
(1) وهذا من الأمور التي لا يحكم فيها بالعقل بل بالنقل. وما ذكره المؤلف رحمه الله لا يثبت.
تطلع إلى نوع امتناع العاقل وغيره، كأنهم يسعون في ذلك ويبادرون إليه مبادرة اللبيب الحازم، وما أحسن قول ابن ميلق في ذلك:
والعبد فهو فقير رب راوية
…
بالدهر غُرَّ وبالأحوال غيرُ دَرِي
قد ساقه قدر نحو القضاء ومَنْ
…
يستطع رد قضاءٍ جاء عن قَدَرِ؟
ولما ذكر أنه مالك لجميع من في السماوات والأرض، ذكر الطرفين وخصهما بالبداعة، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات، فقال:{بديع السماوات والأرض} أي: خالقهما على غير مثال سبق، والمعنى: أنه تعالى بارئ السماوات ومبدعها، على غير مثال سابق، وهو الذي ابتدع من ينسبونه إليه بأنه ولده بقدرته، فكيف يجوز عليه أن يكون له ولد.
ولما ذكر ما دل على الاختراع، ذكر ما يدل على طواعية المخترع، وسرعة تكوينه، فقال:{وإذا قضى} أي: أراد {أمرًا} منهما أو من غيرهما، تكون ذلك الأمر، ودخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف، ولا يمتنع، ولا يكون منه الإباء، أكد بهذا الاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة، كانت حاله مباينة لحال الأجسام في توالدها.
وقد اختلف المفسرون هنا اختلافًا كبيرًا في مخاطبة المعدوم، وقالوا: إن الشيء قبل وجوده يكون معدومًا، فكيف يخاطبه تعالى بـ:{كن} وأطالوا في ذلك، ومحصل ما قاله ابن جرير: أن قوله تعالى: {وإذا قضى أمرًا} عام، في كل ما قضاه الله وبرأه، وإذا كان ذلك كذلك، فأمر الله لشيء إذا أراد تكوينه موجودًا بقوله {كن} في حال إرادته إياه مكونًا، لا يتقدم وجوده الذي أراد إيجاده وتكوينه، إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه، فغير جائز أن يكون الشيء مأمورًا بالوجود، مرادًا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودًا، إلا وهو مأمور بالوجود، مرادًا كذلك، ونظير هذه الآية:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم: 25] فإن خروج القوم من قبورهم، لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه، انتهى.
وهذا كما تراه بسط لما أجمل فيما تقدم، وعندي: أن السؤال غير وارد من أصله، لأن ما أراد الله وجوده إنما هو موجود في علمه تعالى، وإن كان معدومًا في الخارج، فإذا أراد الله تعالى إبراز ذلك الموجود إلى الخارج، أمره بالتكوين فتكون، وأفعاله تعالى لا تقاس على أفعال المخلوقين {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، وقال الرازي: إن المراد من كلمة {كن} سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة، وجعل هذا مثال قول السماوات والأرض:{أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقد مر بك هذا.
ولما تقرر بما أنبأ من بديع آياته في منبث مصنوعاته، أن عظمته تقصر عنها الأوهام، وتنكص خاسئة دونها نوافذ الأفهام، عجب من الجرأة عليه بما استوى فيه حالة الجهلة من العرب بالعلماء من أهل الكتاب، تبكيتًا لهم وتنفيرًا منهم، بأنه لا حامل لهم على الرضا لأنفسهم، بالنزول من أوج العلم إلى حضيض أهل الجهل، إلا اتباع الهوى، فقال:
أي: {وقال} الجهلة من المشركين، ومن أهل الكتاب، ونفى عنهم العلم، لأنهم لم يعملوا به:{لولا} أي: هلَّا {يكلمنا الله} ، أي: يوجه كلامه لنا، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو، {أو تأتينا آية} ، أي: هلا يكون أحد هذين: إما التكلم، وإما إتيان آية، أي: علامة على حسب اقتراحنا، عادين ما أتاهم من الآيات على ما فيها من آية القرآن التي لا توازيها آية أصلًا عدمًا، ولما كان قولهم هذا جَدِيرًا بأن لا يصدق، نبه عليه بقوله:{كذلك} أي: الأمر كما ذكرنا عنهم، ولما كان كأنه قيل: هل وقع مثل هذا قط؟ ! قيل: نعم وقع ما هو أعجب منه، وهو أنه {قال الذين من قبلهم مثل قولهم} ثم علله بقوله:{تشابهت قلوبهم} أي: قلوب هؤلاء، ومن قبلهم في
العمى، وهذا نظير قوله تعالى:{أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات: 53] وإن كانت مختلفة باعتبار العلم، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، بأنه كما تعنت عليه، تعنت على من قبله.
وحاصل المعنى: أنا قد أيدنا قول محمد صلى الله عليه وسلم، بالمعجزات، وبينا صحة قوله بالآيات، وهي القرآن وسائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت، ولما كان ذلك توقع السامع الإخبار عن البيان، فكان كأنه قيل: هل قالوا ذلك جهلًا أو عنادًا؟ ! فقيل؛ بل عنادًا لأنا قد بينا الآيات في كل آية في الكتاب المبين المسموع، والكتاب الحكيم المرئي، ولما كان يقع البيان خاصًا بأهل الإيقان، قال:{لقوم يوقنون} وفيه بعث للشاك على تعاطي أسباب الإيقان، وهو صفاء العلم عن كدر تطرق الريب، لاجتماع شاهدي السمع والعين.
ولما تضمن هذا السياق شهادة بصحة رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس عليه إلا البيان، صرح بالأمرين بقوله مؤكدًا لكثرة المنكرين، فقال:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)} .
أي: {إنا أرسلناك} لأن تبشر وتنذر، لا لتجبر على الإيمان، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسرية عنه لأنه كان يغتم ويضيق صدره، لإصرارهم وتصميمهم على الكفر، {ولا} نسألك {عن أصحاب الجحيم} ، ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بذلت جهدك في دعوتهم، وهذا نظير قوله تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40] فأقبل على أمرك ولا تبال بهم، واحتقرهم، فإنهم أقل من أن يلتفت إليهم، وقيل: إن معنى {ولا نسأل عن أصحاب الجحيم} تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه، وهذا على قراءة "ولا تَسأل" بفتح التاء، ووجه التعظيم أن المسؤول يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره، لإيحائية السامع وإضجاره، فلا تسأل.
ولما جرت العادة بأن المبشر يسر بالبشير، أخبر تعالى أن أهل الكتاب من قسم المنذرين، فهم لا يزالون عليه غضابًا، فقال عطفًا على ما اقتضاه ما قبله:
الرضا هو: إقرار ما ظهر عن إرادة، والمعنى:{لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى} لشيء من الأشياء، {حتى تتبع ملتهم} أي؛ تكون بشيرًا لهم، ولن تكون بشيرًا لهم حتى توافقهم فيما أحدثوه من أهوائهم، بأن تتبع كتابهم على ما بدلوا فيه وحرفوا، وأخفوا. كما يشير إلى هذا إضافة الملة إليهم، لا إلى صاحبها المعصوم، وهو إبراهيم عليه السلام، ويكون ذلك برغبة منك تامة، كما أفهمته صيغة الافتعال، لأن "اتبع""افتعل"، ومصدره الاتباع، وهو افتعال، وتترك كتابك الناسخ لفروع كتابهم، ومفادهم أنه تعالى علق رضائهم عنه بأمر مستحيل الوقوع منه صلى الله عليه وسلم، وهو اتباع ملتهم، والمعلق بالمستحيل مستحيل.
وهذا الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه في ضمنه التأديب لأمته، فإنهم يعلمون قدره عند ربه، وإنما ذلك ليتأدب به المؤمنون، فلا يوالون الكافرين، فإنهم لا يرضيهم منهم إلا اتباع دينهم، والملة هي: الدين، وإذا كان لا يرضيهم إلا ذلك، كان مستحيلًا، لأن اليهود لا يرضون إلا باتباع دينهم، والنصارى لا يرضون إلا باتباع دينهم، والوثنيون لا يرضون إلا باتباع دينهم، وكلها أديان متنافرة، ولا يمكن للشخص الواحد أن يجتمع فيه دينان متخالفان، فضلًا عن أديان.
ولما كان الحال كأنهم قالوا: لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا، حتى تتبع ملتنا، إقناطًا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عن دخولهم، فحكى الله عز وجل كلامهم، ولذلك قال:{قل} أي: على طريق إجابتهم عن قولهم: {إن هدى الله هو الهدى} أي: {إن هدى الله} الذي هو الإسلام {هو الهدى} بالحق، والذي يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى، ألا ترى إلى قوله:{ولئن اتبعت أهواءهم} يعني:
أقوالهم التي هي أهواء وباع، {بعد الذي جاءك من العلم} أي: من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة، {ما لك من الله من ولي ولا نصير} ، أي: معين يعصمك ويذب عنك، بل الله يعصمك من الناس، إذا أقمت على الطاعة والاعتصام بحبله.
ولما أفصح بمن يستحق النذارة منهم بتغيير الدين بأهوائهم، فأفهم من يستحق البشارة، تلاه بالإفصاح بالقسمين من يستحق البشارة منهم، ومن يستحق النذارة فقال:
المعنى: أن مؤمني أهل الكتاب يتلون كتابهم بغير تحريف ولا تبديل، فيؤديهم إلى الإيمان بجميع رسل الله وبالقرآن، {أولئك يؤمنون به} حقًا، {ومن يكفر به} بالتحريف والتبديل، {فأولئك هم الخاسرون} ، أي: الهالكون، حيث اشتروا الضلالة بالهدى.
وبعض المفسرين جعله شاملًا للمؤمنين أيضًا، وهو عندي حسن، ويكون المعنى على ما تقدم:{الذين آتيناهم الكتاب} يعني: القرآن، {يتلونه حق تلاوته} ، فيبينون ما أنزل الله فيه من الأحكام والآداب والمواعظ، {أولئك يؤمنون به} إيمانًا حقيقيًا، {ومن يكفر به} فيؤوِّله على مقتضى هواه ليروج به نحلته وبدعته، كما فسره الباطنية فأخرجوه عن معناه، وحرفوه وغيروه، وبدلوه كما هو مشاهد في تفاسيرهم له، واختراع معانٍ له لا يدل عليها منطوق، ولا مفهوم، ولا كناية، ولا يمكن أن تفهم منه بدلالة من الدلالات، {فأولئك هم الخاسرون} .
ولم يصل اليهود في تحريف كتابهم إلى درجة أولئك الباطنية، فإن اليهود حرفوا بعضًا من كتابهم، وهؤلاء حرفوا القرآن من أوله إلى آخره، وأسندوا بعضًا من ذلك التحريف إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وإلى أكابر أهل البيت،
وهم براء من ذلك، وسيمر بك إن شاء الله تعالى، كثير من تحريفهم في هذا الكتاب، لتتبصّر وتتأمّل مفترياتهم.
ويشهد لهذا الوجه من التفسير ما أخرجه عبد ابن حميد، عن قتادة قال في هذه الآية: منهم أصحاب محمد الذين آمنوا بآيات الله وصدقوا بها. وعن ابن مسعود: والله إن {حق تلاوته} : أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرفه عن مواضعه. وقال عمر بن الخطاب: لقد مضى بنو إسرائيل، وما يعني بما تسمعون غيركم.
ولما طال المدى في استقصائه كفرهم بالنعم، ثم في بيان عوارهم، وهتك أستارهم، وختم ذلك بالترهيب بخسارهم، لتضييع أديانهم بأعمالهم، وأحوالهم وأقوالهم، أعاد ما صدر به قصتهم من التذكير بالنعم، والتحذير من حلول النقم، فقال:
تقدم لبني إسرائيل تذكير بهذا المعنى، والتكرار هنا مبالغة في نصحهم، وإيقاظ لحميتهم، وقوله تعالى:{ولا يقبل منها عدل} أي: فداء يبذل في فكاكها من غير الأعمال الصالحة، وقوله:{ولا تنفعها شفاعة} أي: غير مأذون فيها، {ولا هم ينصرون} وإن كثرت جموعهم.
ولما وصل الحق تعالى بالدعوة العامة الأولى في قوله: {يآَأَيُهَا اَلنَّاسُ} ذكر أمر آدم، وافتتاح استخلافه، ليقع بذلك الناس كافة في طرفين، في اجتماعهم، في أب واحد، ولدين واحد، نظم بذلك وصل خطاب أهل الكتب، بذكر إبراهيم ليقع بذلك اجتماعهم أيضًا في أب واحد، وملة واحدة، اختصاصًا بتبعية الإمامة الإبراهيمية، من عموم تبعية الخلافة الآدمية، تنزيلًا للكتاب، وترفيعًا للخلق إلى علو اختصاص الحق.
وأيضًا لما علي سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه، ومنهم العرب وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم، وأعظم مآثرهم، ذكّر الجميع ما أنعم به عليه، تذكيرًا يؤدي إلى ثبوت هذا الدين، باطلاع هذا النبي الأمي الذي لم يخالط عالمًا قط، على ما لا يعلمه، إلا خواص العلماء، وذكر البيت الذي بناه فجعله عمادًا لصلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلى، تعظيمًا لأمره وتفخيمًا لعلي قدره.
وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر، حث على الاقتداء به، وكذا في تذكير الإسلام والتوحيد هز لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك، فقال:
يعني تعالى جل ثناؤه بقوله: {وإذ ابتلى} وإذ اختبر قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] يعني: اختبروهم، وكان اختبار الله تعالى إبراهيم، اختبارًا بفرائض فرضَها عليه، وأمرًا أمره به، وذلك هو الكلمات التي أوحاهنَّ إليه، وكلفه العمل بهنَّ، امتحانًا منه له، واختبارًا، وفي قوله:{ربه} إشعار بأن تكليف العباد هو غاية الإحسان إليهم.
وأما الكلمات فقد أطال المفسرون في تعيينها، وفي مقدمتهم "جلال الدين السيوطي" في كتابه "الدر المنثور" فإنه فيه حاطب ليل. والصواب: أنه غير جائز لأحد أن يقول عن الله بالكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم شيئًا بعينه دون شيء، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر عن الرسول، أو إجماع من الحجة، ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول، بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته، وأقرب ما قيل في ذلك قول من قال: أراد بقوله بكلمات قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} وقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125]
وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم.
وفي "الكشاف": أن ابن عباس قرأ: "وإذا ابتلى إبراهيمُ ربَّه"، على جعل "إبراهيم" فاعلًا، و "رب" مفعولًا به، ونسب هذه القراءة إلى أبي حنيفة، قال: والمعنى: أنه دعاه بكلمات من الدعاء، فعل المختبر، هل يجيبه إليهن أو لا، انتهى.
وقوله {فأتمهن} معناه: فقام بهن حق القيام، وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان، كما قال تعالى:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37] وفَّى الأخرى لله تعالى، بمعنى: فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئًا، وفي قوله:{فأتمهن} بيان لأن أسنى أحوال العباد الإذعان والتسليم، لمن قامت الأدلة على صدقه، والمبادرة لأمره، دون اعتراض ولا توقف، ولا بحث عن علة، ثم لما كان كأنه قيل: فما جوزي على شكره بالإتمام؟ قيل {قال} له ربه، ويجوز أن يكون "قال" بيانًا لـ {ابتلى} كما ذكرناه آنفًا {إني جاعلك للناس} أي: مصيرك للناس إمامًا يؤتم به ويقتدى به، وكثير من المفسرين فسر الإمامة هنا بالنبوة وهو الصواب، وهذا الجعل يقتضي العصمة، لأن الإمام هو الذي يؤتم به، فلو صدرت المعصية منه لوجب الاقتداء به في ذلك، فيلزم أن يجب على المؤتمين به فعل المعصية، ، وذلك محال لأن كونه معصية، عبارة عن كونه ممنوعًا من فعله، وكونه واجبًا عبارة عن كونه ممنوعًا من تركه، والجمع بينهما محال.
وقوله: {ومن ذريتي} متعلق بمحذوف، التقدير:{و} اجعل {من ذريتي} إمامًا، لأن إبراهيم فهم من قوله تعالى:{إني جاعلك للناس إمامًا} الاختصاص، فسأل الله أن يجعل من ذريته إمامًا، فأجابه تعالى بقوله:{لا ينال عهدي الظالمين} أي: قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك، لكن {لاينال عهدي} الذي عهدته إليك بالإمامة {الظالمين} ، منهم لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين، وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه، لاسيما للذين دعوا قبلها
إلى الوفاء بالعهد، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم، كما أدام رفعته، كان ظلموا لم تنلهم دعوته، فضربت عليهم الذلة وما معها، ولا يجزي أحد عنهم شيئًا، ولا هم ينصرون.
واختلف المفسرون في معنى العهد، فقيل: النبوة، وقيل: الإمامة، وقيل: الأمان، والصواب أنه: النبوة والإمامة في الدين. وقوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} هو من الجواب الذي يزيد على السؤال، لأن إبراهيم طلب من الله وسأل: أن يجعل من ذريته إمامًا، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين، ودل بمفهوم الصفة على أنه ينال عهده من ليس بظالم، وكان ذلك دليلًا على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم، وحيث فسرنا الإمامة بالنبوة، استغنينا عن تقليد المفسرين هنا بما أطالوه به من شروط الإمامة، التي هي الإمارة، وإطالتهم في ذلك حتى كادوا يذكرون شروط الإمام في الصلاة.
ولما كان من إمامة إبراهيم عليه السلام، اتباع الناس له في حج البيت الذي شرفه الله، ببنائه قال إثر ذلك ناعيًا على أهل الكتاب مخالفته، وترك دينه، وموطئًا لأمر القبلة:
بيّن تعالى في الآية التي قبل هذه، كيفية حال إبراهيم حين كلفه بالإمامة، ثم شرح هنا التكليف الثاني، وهو التكليف بتطهير البيت، والبيت هنا التكليف الثاني، وهو التكليف بتطهير البيت، و {البيت} هنا الكعبة والحرم كله، ولكن لما كانت حرمة الحرم كله معلقة بالبيت، جاز أن يعبر عنه باسم البيت، ونظيره:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فإن المراد الحرم كله لا الكعبة نفسها، لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام.
والمعنى: {وإذ جعلنا البيت} ، أي: الحرم {مثابة للناس} ، و "جعل"
بمعنى "صير" فـ {مثابة} مفعول ثانٍ، وقيل: هي بمعنى خلق أو وضع، و "المثابة" المرجع، وتاؤها للمبالغة، لكثرة من يثوب إليه، أو لتأنيث المصدر، أو لتأنيث البقعة، ويجوز أن تكون "المثابة" بمعنى الجمع، أي:{وإذ جعلنا البيت} مجمعًا للناس، أي: جعلناه مجمعًا للحجاج، وقال ابن عباس: معاذًا وملجأ. والأقرب قول من قال: مرجعًا، ومعناه: يرجعون إليه بكلياتهم، كما تفرقوا عنه اشتاقوا إليه، هم أو غيرهم، آيةً على رجوعهم من الدنيا إلى ربهم، {وأمنًا} مصدر، جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع فيه من الأمن، وكان في الجاهلية معاذًا لمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقي قاتل أبيه أو أخيه فيه لم يهجه، ولم يعرض له بشيء حتى يخرج منه، وكان كما قال الله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] قال الأصفهاني: وهذا شيء توارثه العرب من دين إسماعيل عليه السلام، فبقوا عليه إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فاليوم من أصاب في الحرم جريرة أقيم عليه الحد بالإجماع، انتهى.
ويصح أن يكون على سبيل الأمر، والمعنى: أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع آمنًا من الغارة والقتل، فيكون محترمًا بحكم الله، وإنما جعل الله البيت مثابة للناس وأمنًا لما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الدنيا، فلأن أهل الشرق والغرب يجتمعون هناك، فيحصل هناك من التجارات وضروب المكاسب ما يعظم به النفع، وأيضًا فيحصل بسبب السفر إلى الحج عمارة الطرق والبلاد، كما جرى في زمننا من إنشاء السفن البرية من دمشق حتى المدينة، وسيتصل سيرها إلى مكة (1)، وإعمار ما كان قابلًا للعمران من تلك البقاع، وفيه أيضًا مشاهدة الأحوال المختلفة في الدنيا، واجتماع المسلمين الذي لولا الحج لم يجتمعوا، وتعارف بعضهم ببعض، وشكاية بعضهم لبعض ما أهمهم، فيقوم أولو الحمية بنصرة بعضهم بعضًا، ويقوم العارفون بتلك الحكمة بضم الشمل وجمع
(1) يقصد بالسفن البرية خط سكة حديد الحجاز وهو وقف إسلامي. ولكن عطل أثناء الحرب العالمية الأولى. وحتى اليوم لم ينجز إصلاحه ويا للأسف.
الكلمة، لتخلص البلاد التي يستولي عليها الأعداء من أيديهم، بمعونة أهل الإيمان بعضهم لبعض، فيكون البيت هو سبب أمنهم، لأنهم ما داموا بيد الأعداء كانوا في خوف، فإذا خلصوا كانوا في أمن.
فانظر إلى هذه الحكمة التي أشار إليها تعالى في هذه الآية، وقل: هنيئًا لمن يفقهها ويسلك مسالكها، ويؤدي ذلك الواجب الذي أوجبه تعالى عليه.
وأما منافع الدين، فلأن من قصد البيت رغبة منه في النسك والتقرب إلى الله، وإظهار العبودية، استحق بذلك ثوابًا عظيمًا، وهو المثوبة على فعله.
ولما كان التقدير: فثاب الناس إليه ائتمامًا ببانيه، وآمنوا بدعوته فيه، عطف عليه قوله:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارقطني والدارمي، عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: "وافقت ربي في ثلاثة" أو: وافقني ربي في ثلاث: قلت؛ يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت:{واتخدوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن فنزلت كذلك.
وروى الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، عن أنس أن عمر قال: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فنزلت:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} . فقوله تعالى: {واتخذوا} على إرادة القول، أي وقلنا: اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه، وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب، وهذا على قراءة كسر الخاء، وهي قراءة ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور. وقرأ نافع وابن عامر بفتحها، جعلوه فعلًا ماضيًا فيكون المعنى كما ذكرناه آنفًا، فثاب الناس إليه فاتخذوا، ومقام إبراهيم هو المقام المعروف بهذا
الاسم الذي هو في المسجد الحرام، و "المصلى" موضع الصلاة، أمروا أن يصلوا عنده.
وقوله تعالى: {وعهدنا} معناه أمرنا، أو وصينا، أو أوحينا، أو قلنا إلى إبراهيم وإسماعيل:{أن طهرا بيتي} عن كل رجس حسي، ومعنوي، فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع، وإضافة البيت إليه تعالى إضافة تشريف لا مكان محل لله تعالى، والمراد بـ {الطائفين} من يقصد البيت حاجًا أو معتمرًا فيطوف به، وبـ {العاكفين} من يقيم هناك ويجاور، وبـ {الركع السجود} من يصلي هناك.
ولما ذكر الله تعالى أمر البيت على ما تضمنته الآية الشريفة ذكر باهتمامه بأهله، ودعائه لهم مبكتًا لمن عق إبراهيم من ذريته، فقال:
{رب} منادى مضاف إلى الياء، ونادى إبراهيم بلفظ الرب مضافًا إليه، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء، بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وأسقط ياء النداء الدالة على البعد من اللفظ إنباءً بقربه، كما هو حال أهل الصفوة، {اجعل} بمعنى صيِّر، و {هذا البلد} أي الموضع الذي جعلت فيه بيتك، وأمرتني بأن أسكنه من ذريتي، أي صيره بلدًا يأنس من يحل به أمنًا، إفصاحًا بما أفهمه، {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} ، وقوله:{آمنًا} أي ذا أمن كقولهم عيشة راضية، أي ذات رضا أو على الاتساع، لما كان يقع فيه الأمن جعله {آمنًا} ، كقولهم نهارك صائم، وليلك قائم، وأطلق تعالى قوله:{آمنًا} ولم يقيده بشيء، واختلف كلام المفسرين في تقييده على عادتهم، فقيل:{آمنًا} من الجبابرة والمتسلطين، أو من أن يعود تحريمه حلالًا، أو من أن يخلو من أهله، أو {آمنًا} من القتل، أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من أصحاب الفيل، أو معناه مأمونًا فيه
…
إلى غير ذلك مما لا يخلو
أكثره من اعتراض عليه، فإن "عمرًا بن لحي" و "الحجاج بن يوسف" والقرامطة، دخلوا الحرم وأكثروا القتل في أهله، وكذلك إن تلك البقعة أكثر بلاد الله قحطًا وجدبًا، كما قال {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37].
وحيث اختلفت الأقوال فالمرجع إلى ما صح سنده من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من كلام أصحابه رضوان الله عليهم، فقد أخرج الإمام أحمد ومسلم والنسائي، عن جابر مرفوعًا "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها، ولا يقلع عضاهها"، وفي رواية لمسلم عن رافع بن خديج مرفوعًا:"إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها" يعني: المدينة، وقد ورد في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:
"إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض" بغير تحريم منه على لسان أحد من أنبيائه ورسله، فالله تعالى جعل مكة حرمًا حين خلقها وأنشأها، ولكن بمنع من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها ما أحل بغيرها من النقمات، فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل، فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك سنَّة لمن بعده من خلقه، يستنُّون به فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلًا، وأخبره أنه جاعله للناس إمامًا يقتدى به، فأجابه ربه إلى ما مسألة، وألزم عباده حينئذٍ فرض تحريمه على لسانه، فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب الله فرضَ الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله- فرضٌ تحريمها على خلقه على لسان خليله، وواجبٌ على عباده الامتناع من استحلالها واستحلال صيدها وعضاهها بإيجابه الامتناعَ عن ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه، بذلك إليهم. فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم مكة"، لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده
على وجه العبادة له به- دون التحريم الذي لم يزل متعبَّدًا (1) لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك- كان عن مسألة إبراهيمَ ربَّه إيجاب فرض ذلك على لسانه، [وهو الذي](2) لزم العباد فرضه دون غيره، وإلى هذا مال ابن جرير، وأقره، وبه يندفع عن الأحاديث الواردة ما يظن أنه متناقض من قوله:"إن إبراهيم حرم مكة"، "وإن الله حرم مكة".
ولما ذكر تعالى الأمن أتبعه الرزق فقال {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} وذلك أن إبراهيم لما بنى البيت في أرض مقفرة، وكان حال من يتمدن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري، ومزرعة يمكن فيها القطان بالمدينة، دعا الله للبلد بالأمن، وبأن تجبى له الأرزاق، فإنه إذا كان البلد ذا أمن، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح، ولما سمع في الإمامة قوله تعالى:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قيد هنا من سأل له الرزق، فقال:{من آمن منهم بالله واليوم الآخر} والضمير في {منهم} عائد إلى {أهله} ، دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب، لأن الكافر لا يدعى له بذلك، ألا ترى أن قريشًا لما طغت دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف"(3) وكانت مكة إذ ذاك قفرًا لا ماء فيها ولا نبات، كما قال:{بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره، وأنبت الله فيها أنواعًا من الثمر، قال البرهان البقاعي في تفسيره: قال: {من الثمرات} ولم يقل: من الحبوب، لما في تعاطيها من الذل المنافي للأمن، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى سكة حرث فقال:"ما دخلت هذه بيتًا إلا ذل"(4) انتهى.
أقول: الدليل لا يفيد المدعى، لأن الحبوب كما تحتاج إلى السكة للحرث
(1) الأصل: (متعودًا) والتصحيح من الطبري.
(2)
قال الأستاذ شاكر في تحقيقه للطبري: ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(3)
أخرجه البخاري (804)، ومسلم (675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
لم أجده، والمؤلف نقله عن البقاعي، وهو عن الحرالّي.
كذلك الأشجار تحتاج إليها، بين الاحتياج القليل أو الكثير، فمن أين جاءه التخصيص، وأيضًا فإن الثمرات مفردة ثمرة، وحكى صاحب "البصائر" عن ابن عباس: أن الثمر أنواع المال، وقال في "القاموس": الثَمَر محركة حمل الشجر، وأنواع المال. وقرأ أبو عمرو بن العلاء:"وكان له ثُمْرٌ" وفسره بأنواع المال كذا في "الصحاح"، وقال: الأزهري في "التهذيب"، قال مجاهد في قوله تعالى:{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34] ما كان في القرآن من ثمر فهو المال، فدل كلام أهل اللغة، على أن الثمر يكون في بعض الاستعمالات عامًا في ثمر الأشجار والحبوب، وصنوف المال، وساعدهم على هذا النقلُ عن سلف المفسرين، والمقام هنا مقام دعاء بالغذاء، والحبوب أهم من الثمار في الغذاء، فينبغي أن يفسر دعاء إبراهيم هنا بما هو أعم من ثمر الأشجار، ليكون شاملًا للحبوب ولأصناف المال الذي تحتاج إليه المدنية، ولا تقوم إلا به.
وقوله: {ومن كفر} عطف على {من آمن} ، والمعنى وأَرزق من كفر، فأمتعه قليلًا، لأني أرزق البر والفاجر، قال أُبيُّ بن كعب: هو قول الرب جل ذكره، وروي عن ابن عباس: أنه من قول إبراهيم عليه السلام، والصواب من التأويل قول أُبيِّ رضي الله عنه.
والمعنى: قال الله: يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني هذا البلد وكفارهم، متاعًا لهم إلى بلوغ آجالهم، ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار، أي: فأجعل ما أرزقه الكافر من ذلك، في حياته متاعًا يتمتع به إلى وقت مماته، ودليل صحة هذا القول أن الله تعالى إنما قال ذلك لإبراهيم، جوابًا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة، فكان معلومًا بذلك أن الجواب، إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره، وقوله:{ثم أضطره} أي: أسوقه {إلى عذاب النار} ، والاضطرار الإكراه والإلجاء، أي: أدفعه إلى العذاب، وأسوقه سحبًا وجرًا على وجهه، {و} ساء {المصير} ، عذاب النار بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها، و {المصير} هو: الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله في عذاب النار، وفي الآية بيان أن نعمة المؤمن في الدنيا موصولة بالنعمة في الآخرة،
بخلاف الكافر فإن نعمته في الدنيا تنقطع عند الموت، وتتخلص منه إلى الآخرة.
ولما ذكر الله تعالى بما مهده من أمر البيت دينًا ودنيًا، أتبعه ببنائه مشيرًا إلى ما حباهم به من النعم وما قابلوه به من كفرها، باختيارهم لأن يكونوا من غير الأمة المسلمة فقال تعديدًا لوجوه النعم على العرب (1)، بأبيهم الأعظم استعطافًا إلى التوحيد:
جملة {وإذ يرفع} معطوفة على ما قبلها، و {يرفع} حكاية حال ماضية، و {القواعد} جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها: الثابتة، ورفع الأساس: البناء عليها، لأنها إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، وتطاولت بعد التقاصر، ويجوز أن يكون المراد بالقواعد سافات البناء، لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه، ويوضع فوقه، ومعنى: رفع القواعد، رفعها بالبناء، لأنه إذا وضع سافًا فوق ساف فقد رفع السافات، ويجوز أن يكون المعنى:{وإذ يرفع إبراهيم} ما قعد {من البيت} ، أي: استوطأ، يعني: جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء.
وقد أطال المفسرون هنا، فذكروا ماهية هذا البيت، وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان بابه، وكم مرة حجه آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على البناء، وذكروا قصصًا كثيرةً واستطردوا من ذلك للكلام في البيت المعمور، وفي طول آدم والصلع الذي عرض له ولولده، وفي الحجر الأسود، وطولوا في
(1) الأصل: (الأب) والتصحيح من "نظم الدرر" 2/ 157.
ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن ولا الحديث الصحيح، وبعضها يناقض بعضًا، وذلك على جري عاداتهم في نقل ما دب وما درج، ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب الله وسنة رسوله.
والصواب: أن {إسماعيل} عليه السلام كان مشاركًا لإبراهيم في البناء، كما أخبر الله تعالى بذلك، فلا عبرة يقول من نفى مشاركة إسماعيل له.
ثم وصل بهذا العمل الشريف قوله: {ربنا} مرادًا فيه القول، محذوفًا منه ياء النداء الدالة على البعد، أي: يقولون: {ربنا تقبل منا} عملنا بفضلك، ولا ترده علينا، إشعارًا بالاعتراف بالتقصير لحقارة العبد، وان اجتهد في جنب عظمة مولاه، ولما تضمن سؤال القبول المشعر، بخوف الرد، علم الناقد البصير بالتقصير علله بقوله:{إنك أنت السميع} لدعائنا، {العليم} بنياتنا وضمائرنا، وفي هذا الدعاء دليل واضح على أن بنائهما ذلك لم يكن مسكنًا يسكنانه، ولا منزلًا ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده، لكل من أراد أن يعبد الله، تقربًا منهما إلى الله بذلك، ولذلك قال:{ربنا تقبل منا} ولو كانا بنياه مسكنًا لأنفسهما، لم يكن لقولهما {تقبل منا} وجه مفهوم، لأنه كان يكون لو كان الأمر كذلك سائلين أن يتقبل منهما، ما لا قربة فيه إليه، وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه.
ولما سألا القبول، سألا الزيادة عليه بقولهما:{ربنا واجعلنا مسلمين لك} مخلصين لك أوجهنا، من قوله تعالى:{أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112، والنساء: 125] أو مستسلمين، أي خاضعين مذعنين، والمعنى: زدنا إخلاصًا أو إذعانًا لك، ولم يريدا بقولهما:{واجعلنا مسلمين لك} ، حقيقة الإسلام بل أرادا والله أعلم: الدعاء بالدوام، كما في {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6] واشارة إلى أن الإسلام لما كان ظاهر الدين كان سريع الانثلام، لأجل مضايقة أمر الدنيا، وإنما يتم الإسلام بسلامة الخُلُق من يد العبد ولسانه، والإلقاء بكل ما بيده لربه، وذلك مما ينازع فيه وجوه النفس، ومتضايق الدنيا، كان هو مطلبًا لأهل
الصفوة في خاتمة العمر، ليكون الخروج من الدنيا عن اللقاء للحق وسلام للخلق، كما قال يوسف عليه السلام:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101].
وقوله: {ومن ذريتنا} معناه: واجعل بعض {ذريتنا أمة مسلمة لك} ، وإنما خصا بذلك بعض الذرية، لأن الله قد كان أعلم إبراهيم قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره، فلذلك خصا بالدعوة بعض ذريتهما، وقال السدي: المراد من ذلك البعض: العرب، وهو قول باطل، لأن ذرية إبراهيم العرب وغيرهم، وأيضًا فإنه ليس كل العرب من ولد إبراهيم، ولو كان قوله صحيحًا لكان يلزم لذلك التخصيص تعميم، ليعم كل العرب، ولا عموم هنا.
وقوله تعالى: {أمة مسلمة لك} معناه: جماعة، وخص ذريته بالدعاء، للشفقة وللحنو عليهم، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعًا كثيرًا لمتبعهم، إذ يكونون سببًا لصلاح من ورائهم، ودل صدر هذا الدعاء، على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلمًا لأحكام الله وقضائه وقدره، وأن لا يكون ملتفت المخاطر إلى شيء سواه، ولما كان المسلم مضطرًا إلى العلم، قال:{وأرنا مناسكنا} أي: وبصرنا متعبداتنا في الحج، وعرفناها {وتب علينا} أي: أدم توبتنا {إنك أنت التواب} صيغة مبالغة، أي: الرجاع بعباده إلى مواطن النجاة من حضرته، بعدما سلط عليهم عدوهم بغوايته، ليعرفوا فضله عليهم، وعظيم قدرته، ثم أتبعه وصفًا هو كالتعليل له، فقال:{الرحيم} .
وقال فخر الدين الرازي، من جملة أوجه ذكرها: لمّا أُعلِم إبراهيم أن في ذريته من يكون ظالمًا عاصيًا لا جرم، سأل ههنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة، فقال:{وتب علينا} أي: على المذنبين من ذريتنا، والأب المشفق على ولده، إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه، فقد يقول: أجرمت وعصيت، وأذنبت فأقبل عذري، ويكون مراده أن ولدي أذنب فأقبل عذره، لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، ثم إن الرازي قوى هذا التأويل، واستدل له، وإنما جنح إلى
هذا التأويل، لأن الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر، ولما جوز المعتزلة وقوع الصغائر من الأنبياء، قال الزمخشري مشيًا على قاعدتهم: وتب علينا ما فرط منا من الصغائر، واستيفاء هذا البحث محله كتب الكلام، فلا نطيل به ههنا.
ولما دعى ربه بالأمن لمكة، وبالرزق لأهلها، وبأن يجعل من ذريته أمة مسلمة، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة فقال:{ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم} فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية، فقوله:{ربنا وابعث فيهم} ، أي: في الأمة المسلمة التي من ذريتي وذرية ابني إسماعيل، {رسولًا منهم} ليكون أرفق بهم، وأشفق عليهم، ويكونوا هم أجدر باتباعه، والترامي في نصره، وذلك الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يبعث من ذريتهما بالكتاب غيره، فهو دعوة إبراهيم أبي العرب، وأكرم ذريته، ففي ذلك أعظم ذم لهم بعداوته، مع كونه مرسلًا لتطهيرهم بالكتاب الذي هو الهدى، وإليه الإشارة بقوله:{يتلو عليهم آياتك} ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى"(1) ولمّا طلب بعثة رسول منهم، ذكر لذلك الرسول صفات فقال:{يتلو} أي: يقرأ عليهم آياتك، ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل وحدانيتك، وصدق أنبيائك {ويعلمهم الكتاب} ، أي يفهمهم، ويلقي إليهم معانيه، {و} يعلمهم {الحكمة} ، أي: الشريعة وبيان الأحكام، وكل أمر يشرعه لهم، فيحفظهم في سبيل معاشهم ومعادهم، من الزيغ المؤدي إلى الضلال الموجب للهلاك، وقوله {ويزكيهم} أي يطهر قلوبهم بما أوتيه من دقائق الحكمة، فيرتقي بصفائها ولطفها من ذروة الدين إلى محل يؤمن عليها فيه أن ترتد على أدبارها، وتحرف كتابها كما فعل من تقدمها، والتزكية: إكساب الزكاة، وهي نماء النفس بما هو لها بمنزلة الغذاء للجسم، ثم علل بقوله:{إنك أنت العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغالبه شيء، {الحكيم} الذي يتقن ما أراد، فلا يتأتى نقضه، ولا متصف بشيء من ذلك غيرك، وفي ذلك إظهار عظيم لشرف العلم، وطهارة الأخلاق، وأن ذلك لا
(1) هو في "السلسلة الصحيحة"(1545).
ينال إلا بمجاهدات لا يطيقها البشر، ولا تدرك أصلا إلا بجد تطهره العزة، وترتيب أبرمته الحكمة، هذا لمطلق ذلك، فكيف بما يصلح منه للرسالة، وفيه إشارة إلى أنه يكبت أعداء الرسل، وإن زاد عددهم، وعظم جدهم، ويحكم أمورهم، فلا يستطيع أحد نقض شيء منها.
ودلت الآية على أنه سيكون في تلك الذرية الإبراهيمية الإسماعيلية جهال لا حكمة فيهم، ولا كتاب، وأن الشرك ينجسهم، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وأنه تعالى يبعث فيهم رسولًا منهم يطهرهم، ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم.
ولما ذكر إبراهيم عليه السلام ما ذكر في الآيات السابقة، عجب الناس فقال:
هذه الآية توبيخ لليهود وللنصارى، ولمشركي العرب، وإنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم، وذلك لأن اليهود إنما يفتخرون به ويتوصلون بالوصلة التي بينهم وبينه، من نسب إسرائيل، والنصارى ليس افتخارهم إلا بعيسى، وهو منتسب من جانب الأم إلى إسرائيل، وأما قريش، فإنهم إنما نالوا كل خير في الجاهلية بالبيت الذي بناه، فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله وسائر العرب وهم العدنانيون، مرجعهم إلى إسماعيل، وهم يفتخرون على القحطانيين بإسماعيل بما أعطاه الله من النبوة، فرجح عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام.
ولما ثبت أن إبراهيم هو الذي طلب من الله بعثة هذا الرسول، وهو الذي تضرع إلى الله في تحصيل هذا المقصود، فالعجب ممن أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم، ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوته، ومطلوبه
بالتضرع، لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه، فـ {من} من قوله تعالى:{ومن يرغب} اسم استفهام إنكاري، ولذلك دخلت إلا بعد، والمعنى: لا أحد {يرغب عن مِلة إبراهيم} ، التي هي دعاؤه وتضرعه إلى الله، وطلبه منه بعثة هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته.
ولما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم محقًا بمقاله، وجب عليهم الاعتراف بنبوة هذا الشخص، وذلك لأن هذا الخبر المخبر عن دعاء إبراهيم بإرسال ذلك الرسول، شاع بين تلك الأمم، ولم ينكره منكر منهم، فدل على أنهم سلموه، وليس المراد بالـ {ملة} هذه عين ما جاء به الرسول، لأنه يرد عليه حينئذٍ أن يقال: إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلو، إما أن يكون عين ملة إبراهيم في الأصول، أعني: التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق، وفي الفروع أيضًا، أو أنها عينها في الأصول فقط؟ وأيًا ما كان فهما يختلفان في فروع الشرائع، وكيفية الأحكام.
والمختار: أن الملة هنا هي الأصول التي لا تختلف بمر الأعصار، وكر الدهور، وهي الدعاء إلى توحيد الله وحده، وترك عبادة الأوثان والأصنام، ونفي التجسيم الذي تدعيه اليهود، والحلول والتثليث الذي تدعيه النصارى، وعبادة الأصنام والأوثان التي عكف عليها العرب، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
وقوله تعالى: {إلا من سفه نفسه} معناه: امتهنها واحتقرها، واستخف بها، أي: فعل بها ما أدى إلى ذلك، وقال الشيخ عبد العزيز الديريني في كتابه "التيسير":
سَفِة أي: ضَيَّع، قَدر جنسه
…
والنفس (1) قل: تقديره في نفسه
وقيل: [أي](2) أهلكها، وقل: جَهل
…
فهو على المفعول منصوبًا حُمِلْ
(1) في "التيسير" ص 20 طبع مطبعة التقدم بمصر- بدلها: والنصب.
(2)
زيادة من "التيسير".
يريد أن قوله: {نَفْسَهُ} ، اختلف في إعرابه، فقيل: مفعول به، وقال الكوفيون: منصوب على التمييز، لأنه جار مجرى الإضافة فلا تؤثر فيه الإضافة، على حد: وطبت النفس، وهذا الوجه اختاره ابن جرير في تفسيره، وهو كوفي المذهب، والأول هو الذي اختاره أبو حيان في البحر.
ولما حكم تعالى بسفاهة من رغب {عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} ، بين السبب فقال:{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أي: اخترناه للرسالة من دون سائر الخليقة، وعرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع، والإمامة الباقية إلى قيام الساعة، فليحقق كل ذي لب وعقل أن الراغب عن ملته سفيه، وأن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيم مخالف، ومن خالف إبراهيم خالف الله تعالى.
ولما بين عظم منزلته في الدنيا، بين عظمها في الأخرى فقال:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} قال ابن عباس: {لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: الأنبياء، وقال غيره: أي: الواردين في موارد قدسه، والحالِّين مواطن أنسه.
ولما حكم تعالى بسفاهة من رغب عن ملة إبراهيم بين السبب فقال: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]. أي: {قَالَ لَهُ رَبُّهُ} أخلص لي العبادة واخضع لي بالطاعة، قال مجيبًا لربه: خضعت بالطاعة، وأخلصت العبادة لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره، وكان ذلك من بعد ما امتحنه بالكواكب (1)، والشمس، والقمر، ثم قال:{يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 78 - 79] وفي الآية التفات، إذ لو جرى على الكلام السابق لكان: إذ قلنا له أسلم.
ثم ذكر تعالى نوعًا آخر من الأمور المستحسنة التي حكاها عن إبراهيم، فقال:
(1) استعمال لفظ (امتحنه) لعل المقصود الصحيح آتاه الحجة.
أي: {وَوَصَّى بِهَا} أي: بهذه الكلمة، أعني بقوله:{أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، {بَنِيهِ} عهد إليهم بذلك، وأمرهم به، {وَ} وصى بها من بعده {يَعْقُوبُ} بنيه أيضًا، وقال المهدوي: ضمير {بِهَا} عائد على ال {مِلَّةِ} ، وهذا القول أجمع من عوده على الكلمة، إذ الكلمة بعض الملة، ومعلوم أنه لا يوصي إلَّا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة، والأول مختار ابن جرير. والوصية هي: المتقدم في الشيء النافع المحمود عاقبته.
وقوله: {يَابَنِي} على إضمار القول عند البصريين، أي: قالا: {يَابَنِي} ، فيكون القول محذوفًا. وعند الكوفيين، يتعلق بـ {وَصَّى} لما فيه من معنى القول:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي: أعطاكم الدين الذي هو صفوة الإيمان، وهو دين الإِسلام، ووفقكم للأخذ به، {فَلَا تَمُوتُنَّ} أي: فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإِسلام، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإِسلام، إذا ماتوا، فإن موتهم على غير حال الإِسلام موت لا خير فيه، وليس هو موت السعداء، وأدخل الألف واللام في {الدِّينَ} ، لأن الذين خوطبوا بتلك الوصية كانوا عارفين له ومتدينين به، ومعنى:{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لا تفارقون هذا الدين أيام حياتكم لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم حتى تموتوا عليه.
وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف منها الوصية، ولا تكون إلا عند خوف الموت، ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين حتى {وَصَّى بِهِ. . بَنِيهِ} ، ومنها اختصاصه بنيه، ولا يختصهم إلَّا بما فيه سلامة عاقبتهم، ومنها أنه عمم بنيه ولم يخص أحدًا منهم، ومنها إطلاق الوصية، ولم يقيدها بزمان ولا مكان، ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله هو الذي اختار لكم دين الإِسلام.
ولما حكى تعالى عن إبراهيم أنه بالغ في وصيته بنيه بالدين والإِسلام، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك، تأكيدًا للحجة على اليهود والنصارى، ومبالغة في البيان، فقال:
{أَمْ} هنا منقطعة متضمنة معنى "بل"، ومعنى الهمزة فيها الإنكار، أي: بل ما {كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} ، والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أي: ما {كُنْتُمْ} حاضرين يعقوب {إِذْ} حضره {الْمَوْتُ} ، أي: حين احتضر، والخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقيل: الخطاب لليهود، وهو قول السدي، واختاره ابن جرير وغيره، وهو الأولى عندي، وذلك لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوا وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإِسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية، فالآية منافية لقولهم، فكيف يقال لهم:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} ؟ ولكن الوجه أن {أَمْ} متصلة على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أَتَدَّعون على الأنبياء اليهودية، {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} ، يعني: أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإِسلام، وقد علمتم ذلك، فما لكم تَدَّعون على الأنبياء ما هم منه برءاء، هذا ما قاله الزمخشري هنا، وحاصله: أنه جعل {أَمْ} متصلة، وأنه حذف قبلها ما يعادلها، واعترض عليه، وهذا بأنه لم يُجِزْ أَحَدٌ حَذْفَ هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك لا في شعر ولا في غيره.
وهذا الاعتراض قاله أبو حيان في "البحر"، والقاضي عماد الدين الكندي في تفسيره المسمى بـ:"الكفيل" وزاد: أن "أم" المتصلة لا بد أن تقدر بـ "أيهما" أو "أيهم"، لأن المستفهم بها يجهل أحد الشيئين، فيريد تعيينه، وهذا مستحيل في
حق البارئ؛ ورده الدماميني في "شرح المغني" بأنه ما ادعاه من أن حذف المعطوف عليه هنا شاذ غير مقيس، لم أقف عليه إلا من جهته. وقد خرج جماعة على ذلك قوله تعالى:{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60] أي فضرب فانفجرت، ولم يتعقبه أحد من الأئمة فيما علمت، وقال ابن مالك في "التسهيل": ويغني عن المعطوف عليه المعطوف بالواو كثيرًا وبالفاء قليلًا، ولم يذكر وقوع ذلك مع "أم"، وقد نقل ابن هشام في "المغني" كلام الزمخشري، ولم يناقشه فيه بل أقره.
وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ} أي: أي شيء {تَعْبُدُونَ} ، ولفظ {مَا} عام في كل شيء، ولو قيل:"من تعبدون" لم يعن إلا أولي العلم وحدهم، ويجوز أن يقال:{مَا تَعْبُدُونَ} سؤال عن صفة المعبود، وهذه الوصية وهذا السؤال يدلان على أن شفقة الأنبياء على أولادهم كانت في باب الدين، وهمتهم مصروفة إليه دون غيره.
وقوله: {مِنْ بَعْدِي} يريد من بعد موتي، {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} عطف بيان لـ {آبَائِكَ} ، وجعل إسماعيل، وهو عمه من جملة آبائه لأن العم أب، والخالة أم، لانخراطهما في سلك واحد، وهو والإخوة لا تفاوت بينهما.
وقوله: {إِلَهًا وَاحِدًا} : بدل من {إِلَهَ آبَائِكَ} ، أو هو منصوب على الاختصاص، ومعناه: نريد بـ {إِلَهَ آبَائِكَ} إلهًا واحدًا، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، أي: منقادون خاضعون بالعبودية والطاعة.
تنبيه: حكى الرازي صاحب "المنتخب" أن هذه الآية تمسك بها فريقان:
إحداهما: المقلدون، قالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، وهو لم ينكره عليهم، فدل أن التقليد كافٍ.
وثانيهما: التعلمية: قالوا: لا طريق إلى معرِفَة الله إلا بتعليم الرسول
والإمام، فإنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل عليه العقل، بل قالوا: لا نعبد إلا الذي أنت تعبده، وآباؤك تعبده، وهذا يدل على أن طريق المعرفة التعلم.
وما ذهبوا إليه لا دليل عليه، لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الله، وهو لا يدل على أن ذلك ناشئ عن تقليد ولا تعليم، ولا أنه أيضًا ناشئ عن استدلال بالعقل، فبطل تمسكهم بالآية، وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي لأنها لم تجئ في معرض ذلك، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته؟ فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه، وهو الله تعالى، فكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب، فكأنهم قالوا: لسنا نجري إلا على طريقتك.
وقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ} إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم، وما عطف عليه، وبنوهم الموحدون والمعنى: أن أحدًا لا ينفعه كسب غيره متقدمًا كان أو متأخرًا، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلَّا ما اكتسبتم، وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم، وقد شايعهم في هذه الأمة أناس اتكلوا على الأنساب، وعملوا بأكثر ما حرمه الكتاب، وأبناء العلماء تركوا العلم وادعوا أن ولد العالم لا يكون إلا عالمًا، كأنهم يقولون بالتناسخ، ويزعم بعضهم أن أرواح آبائهم تمدهم وتلهمهم العلم إلهامًا بدون تعلم، وما أقبح هذه الدعوى وما أفظعها.
وقوله تعالى: {مَا كَسَبَتْ} يدل على أن كسب كل واحد مختص به، ولا ينتفع به غيره، وهذا يدل على بطلان التقليد، كما قاله الرازي، إذ لو كان التقليد جائزًا لكان كسب المتبوع نافعًا للتابع، فكأنه قال: إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طالبًا منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم، فتستدلوا وتعلموا أن ما كان عليه إبراهيم، وما عطف عليه من الملة هو الحق، وفي الآية رد على اليهود لأنهم يقولون: بأن صلاح آبائهم ينفعهم، ويقولون: إنهم يعذبون في النار لكفر آبائهم باتخاذ العجل.
ولما بين تعالى بالدلائل التي تقدمت صحة دين الإِسلام، حكى بعدها أنواعًا من شبه المخالفين الطاعنين في الإِسلام فقال:
أي: أن اليهود {وَقَالُوا} لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه من المؤمنين:{كُونُوا} يهودًا. . {تَهْتَدُوا} . وقالت النصارى: {كُونُوا. . نَصَارَى تَهْتَدُوا} ، أي: تصيبوا طريق الحق، وهذا معنى قول ابن عباس، فيما رواه عنه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، أن عبد الله بن صوريا الأعور قال لرسول الله ولأصحابه: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى: مثل ذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآية، فاحتج الله تعالى لنبيه بأبلغ حجة وأوجزها، وأكملها، وعلمها نبيه فقال: يا محمد قل للقائلين لك ولأصحابك هذا القول: تعالوا نتبع {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} التي أجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به، فإن دينه كان الحنيفية المسلمة، وندع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا ويقر بها بعضنا، فإن ذلك - على اختلافه - لا سبيل لنا إلى الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم.
وهذه الدعوى التي ادعاها أولئك لم تزل دعواهم إلى يومنا هذا، وإلى ما بعده، ولكن اليهود لما لم يكن لهم شوكة، وكانت عادتهم البخل والشح لم يظهروها، وأما النصارى فإنهم يجاهرون بها، ويرسلون المبشرين لأجلها إلى الأقطار ويصحبونهم بالأموال الطائلة، ويفتحون المدارس في بلاد المسلمين لاتساع تلك الدعوى وبثها، ويؤلفون الكتب في الرد على القرآن وتزييفه على زعمهم، وفي الرد على الدين الإِسلامي، ويأخذون الخرافات التي حشاها جهلة المؤلفين في كتبهم، وينسبونها إلى الدين الإِسلامي طعنًا فيه، ويأتون من حشو أدمغتهم بالخرافات التي ليست من دين الإِسلام في شيء، فيقولون لهم: إن النصارى لم ترتق إلا بدينها، فلذلك عظمت دولهم، واهتدوا إلى الاختراعات العجيبة، وأما أنتم معاشر المسلمين، فإن دينكم هو الذي أخركم وجعلكم أحط الأمم قدرًا، وأعظمها فقرًا، فيروج ذلك على عباد الأوهام.
وأما من يدخل مدارسهم فيكون على ثلاثة أقسام:
قسم منهم وهو القليل يتمسك بدينه الإِسلامى، لكنه يكون متهاونًا بالعبادات وبالتكاليف.
وقسم منهم ينسلخ من الأديان كلها ويأخذ بالزندقة والإلحاد، ويعتقد أن الطبيعة هي الفعال المطلق، وأن لا إله في الوجود.
وقسم يميل إلى النصرانية ميلًا لا اتباعًا، فيكون مذبذبًا بين النطق بكلمة التوحيد، وبين الزندقة والنصرانية.
والذي نشهد الله عليه: أنه ما أضل مَنْ ضل إلا جهلةُ المؤلفين والمدرسين، وبعض أهل العلم الذين يلقون إلى العامة الخرافات التي لم يأت بها قرآن، ولا صح منها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين لهم بإحسان، وإنما هي دسائس من الوثنين والنصارى واليهود، والزنادقة، وأهل التناسخ من القرامطة، ومن كان على شاكلتهم وخصوصًا القرامطة، فإنهم كانت لهم دولة، وكان لهم دعاة يلبسون دعوتهم لباس الفلسفة، ويبرزونها في صورة التصوف، ومن دعاتهم من كان واسع التخيل إما بطبعه، وإما باستعمال ما يعين على ذلك، كالحشيشة وأمثالها، فتجرؤوا على تفسير كتاب الله تعالى حتى أخرجوه عن موضوعه، وظهروا بمظهر الفقر والإرشاد، فراج مظهرهم على العوام، وعلى المغفلين من أهل العلم، فقلدوهم في ذلك وشرحوا أقوالهم، وزينوا بها مؤلفاتهم على زعمهم، وراموا اللحاق بمقامات زينها لهم الداعون، فماتوا ولم يصلوا إليها، لأنها خيال في خيال، لا حقيقة لها، حتى جرهم ذلك إلى القول بالاتحاد وطرح التكاليف الشرعية، وقالوا: إن العارف إذا وصل إلى مقام المعرفة سقط عنه التكليف، وما التكليف إلا حجاب بين العبد وبين ربه، وأن الله سبحانه حالٌّ في الأشخاص كلها وفي جميع الموجدات، فأنت هو، وهو أنت، فمن المكلف؟ ، هل تكلف ذاتُه ذاتَه؟ وهذا هو مقام المعرفة عندهم، لهذا المذهب في زمننا رواج عظيم، حتى عند المغفلين من أعاظم العلماء، فإذا كان النصارى كفروا بالتثليث فهؤلاء جعلوا آلهة لا يحصيها إلا الله تعالى، هؤلاء أولى بأن يقال لهم:{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، قال الديريني الشهير بالدميري في "التيسير":
وقل حنيفًا مائلًا منعدلًا
…
عن كل غي لم يزل معتدلا
أخذ ما قاله الزمخشري في "الكشاف": الحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. وقال القفال: الحنيف لقب لمن دان بالإِسلام كسائر ألقاب الديانات، وأصله من إبراهيم عليه السلام.
وتضمنت هذه الآية معنى لطيفًا، وذلك كأنه سبحانه قال: إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المعول على التقليد، فالرجوع إلى دين إبراهيم وترك اليهودية والنصرانية أولى، وقوله {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعريض بهم وإيذان ببطل دعواهم اتباع إبراهيم، مع إشراكهم بقولهم: عزير ابن الله والمسيح ابن الله.
وقرأ الجمهور {مِلَّةَ} بالنصب، بإضمار فعل إما على المفعول، أي، بل نتبع {مِلَّةَ} ، وإما على الإغراء، أي: الزموا {مِلَّةَ} ، وقُرئ "مِلّةُ" بالرفع، على معنى أي: بل الهدى ملة، فتكون "ملة" خبرًا لمبتدأ محذوف، و {حَنِيفًا} حال من المضاف إليه، أو من المضاف، على جعل الـ {مِلَّةَ} بمعنى الدين، وعلى التقديرين فالحال لازمة.
ولما أجابهم تعالى بالجواب الجدلي أولًا، ذكر بعده جوابًا برهانيًا، فقال:
وبيانه: أن الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجزة عليهم، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وجب الاعتراف بنبوته، والإيمان برسالته، فإن تخصيص البعض بالقبول، وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل، وأنه ممتنع عقلًا، فهذا هو الرد من قوله:{قُولُوا آمَنَّا} الآية، ومعنى الإيمان المذكور هنا: هو أن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع، كان حقًا في زمن أتى به، لا أننا نؤمن بكل واحدة منها إذ هي منسوخة، واختلف في المخاطب بتلك
الآية، فقيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، وهذا قول الحسن، وجوز الزمخشري أن يكون خطابًا للكافرين، أي: قولوا لتكونوا على الحق، وإلا فأنتم على الباطل.
وفي قوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} تعميم بعد تخصيص، وقوله:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} معناه: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، أو المعنى: لا نقول: إنهم يتفرقون في أصول الديانات، و {أَحَدٍ} في معنى الجماعة، ولذلك صح دخول {بَيْنَ} عليه، إذ هو اسم عام تحته أفراد، وأما الأسباط فقال الخليل: السِّبْط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، انتهى.
و{الْأَسْبَاطِ} الحفدة، وهم حفدة يعقوب عليه السلام، وذراري أبنائه الاثني عشر.
وأنت إذا تأملت هذه الآية والتي قبلها، وجدتهما يشيران إشارة من ألطف الإشارات، ويلفتان إلى معنى من أدق المعاني، ويلوحان إلى أن النصارى واليهود وأمثالهما يدعون إلى دينهما، فلا تطعهما في دعواهما، واتبع دين الفطرة والاستدلال الذي هو دين إبراهيم عليه السلام، حيث استدل بالمصنوعات على الصانع، وذلك مما فطر كل كامل العقل عليه، فأفرد الحق تعالى بالوحدانية، وذلك دين لا يتغير بتغير الأزمان، ولا يختلف بتبدل الأمم واختلاف ألسنتها، ومجيء أمة بعد أمة، وهو الإيمان بالله تعالى إيمانًا خاليًا مما دسه المبتدعون، وتقوله المتقولون، والإيمان لما أنزله من الكتب إجمالًا، وبسائر أنبيائه ورسله الذين أوحى إليهم وأرسلهم إلى الأمم كلهم فإن الإيمان ببعضهم دون البعض، يوقع العالم في الشقاق المؤدي إلى انفراط المدنية الحقة، ويجر من آمن بالبعض إلى التعصب لمن آمن به، حتى يزعم أنه ليس على وجه البسيطة ناس غيره يستحق من الله الوحي إليه.
ولما كانت هذه الأمة أكمل الأمم دينًا بشهادة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وأن الدين الذي هذا شأنه ينهض بصاحبه إلى الارتقاء في الفكر
والعمل، لا جرم أمر الله المؤمنين بقوله:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية، يدعوهم بها إلى أن يكونوا في مقدمة الأمم في إصلاح النوع الإنساني كله، الذي لم تبعث به أمة من الأمم قبلهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة"(1). فكل نبي من الأنبياء كان يبعث إلى إصلاح أمته، ونبينا بعث لإصلاح جميع الأمم، ولا يمكن ذلك الإصلاح إلا بالدين الفطري الأصلي، والتسليم لنبوة سائر أنبياء الله تعالى، من أي أمة كانوا، وفي أي زمان وجدوا.
وهذا المعنى كان نصب أعين الصحابة رضوان الله عليهم، فلذلك جدوا بما كانوا يجدون فيه، ولأجله كان انتهاء سائر الأديان إلى هذا الدين، كما ورد في الحديث:"لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا اتباعي"(2)، وهذا سر ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم، صلى بالأنبياء إمامًا ليلة المعراج، ولذلك كان هذا الدين هو النقطة الجامعة لكل الأمم على السواء، لأن مبناه الإيمان بالله، وهو بلا شك إله السماوات والأرض وما بينهما، والإيمان بسائر رسله الذين أرسلهم إلى الأمم، وعدم التعصب لنبي دون نبي، فأي عذر بعد هذا لهندي أو لصيني أو لإفريقي أو لأوربي، وغيرهم في عدم اتباعهم هذا الحق المبين، والبرهان الطاهر الظاهر، وأي حجة لهم في تعصب كل منهم لتصديق نبي دون نبي.
واعلم: أن من يلاحظ حالة الحياة الاجتماعية العمومية اليوم، ويحصل له إلمام باشتباك المصالح التجارية ببعضها، ويعلم مقدار تأثير الروابط الاقتصادية بين الأمم في وجود الاتفاق، والاتحاد بينها، يعلم تبعًا لذلك: أن ذلك التقرب سيكسر من شَرَه التعصبات الدينية الذميمة، ويمحو من بينهم تلك الأحقاد الاعتقادية الموروثة، ولا يمكن للإنسان أن يتخيل نقطة جامعة يرضى بها الكل على السواء، إلا بتصديق كل أمة بأنبياء جاراتها وبكتابها المنزل عليها، فما أبدع الإشارة بقوله تعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية.
(1) أخرجه البخاري (438) من حديث جابر.
(2)
هو حديث حسن كما في "المشكاة"(177 - طبعة المكتب الإِسلامي).
ولو أن العقلاء رجعوا إلى كتب الله المنزلة قبل القرآن، وجردوا وحيها الإلهي مما افتراه عليه أكثر الأمم من الخرافات وخلطوه به من أفكارهم مما لا ينطبق عليه، لوصلوا إلى الدين الفطري، النقي من الشوائب ولمّا كان الدين الإِسلامي الخالي من الخرافات، ومن تقولات الملحدين والمخدوعين بهذه المثابة صَحَّ أن يكون هو الناسخ لجميع الأديان قبله، وأنه لا ناسخ له على ممر الزمان، وأنه لا يأتي زمان إلا ويغرس الله تعالى فيه غرسًا ينفون عنه تقول الضالين، وإلحاد الملحدين، ولن تزال طائفة من أهله قائمة على الحق لا يضرها من خذلها، ولا من افترى عليها، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ولما بين تعالى الطريق الواضح في الدين، وهو أن يعترف الإنسان بنبوة من قامت الدلالة على نبوته، وأن يحترز في ذلك عن المناقضة، رغّبهم بمثل هذا الإيمان، فقال:
هذا من باب التبكيت لأن دين الحق واحد لا مثل له، وهو دين الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، فلا يوجد إذن دين آخر يماثل دين الإِسلام في كونه حقًا، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين، فقيل:{فَإِنْ آمَنُوا} فأتى بـ (إن) التي هي للشك على سبيل الفرض والتقدير، أي:{فَإِنْ} حصلوا دينًا آخر مثل دينكم، مساويًا له في الصحة والسداد، {فَقَدِ اهْتَدَوْا} ، وفيه أن دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير لدين الإِسلام، غير مماثل له، لأنه حق وهدى، وما سواه باطل وضلال، {وَإِنْ تَوَلَّوْا} عما يقولون لهم، ولم ينصفوا فما {هُمْ} إلا {فِي شِقَاقٍ} أي: في مناوأة ومعاندة لا غير، وليسوا من طلب الحق في شيء، {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ، ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم، وقد أنجز تعالى له الوعد في المواطن كلها، وأتى بالسين إشعارًا بأن ذلك كائن لا محالة، وإن تأخر إلى حين.
وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وعيد لهم، أي: يسمع ما ينطقون به، ويعلم ما يضمرون من الحسد والغل، وهو معاقبهم عليه، ويصح أنه وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك، وما تريده من إظهار دين الحق، وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك.
ولما ذكر تعالى الجواب الثاني، وهو أن ذكر ما يدل على صحة هذا الدين، ذكر بعده ما يدل على أن دلائل ذلك الدين واضحة، فقال:
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138].
الصبغة: الدين. وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فإنها حِلية الإنسان، كما أن الصبغة حلية المصبوغ، والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء واتصافه به: صبغة، قال بعض شعراء ملوكهم (1):
وكل أناس لهم صبغة
…
وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك (2) أبناءنا
…
فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقال الراغب: الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق، هو المشار إليه بالفطرة، وسمي ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان إذا اعتبرت جرت مجرى الصبغة في المصبوغ، فكأنه تعالى قال: إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به، فالنفع به سيظهر دينًا ودنيا، كظهور حسن الصبغة.
والمعنى: أن الله يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أوساخ الكفر، فلا صبغة أحسن من صبغته، و {صِبْغَةَ} منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} وقيل: عن قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ
(1) لقد زعم أحد المؤلفين أن ليس بين الخلفاء والملوك من له شعر وأدب سوى الخلفاء الأربعة. والصحيح الذي لا ريب فيه أن الخلفاء والملوك والأمراء فيهم الشعر الكثير. . وعندنا كتاب في ذلك أرجو الله أن أتمكن من إصداره.
(2)
الأصل: (ذلك) والتصحيح من "البحر".
{عَابِدُونَ} أي: خاضعون مستكينون له، غير مستكبرين عن اتباع أمره، والإقرار برسالة رسله، كما استكبرت الأمم غيرنا.
ولما كان ما تقدم مقام احتجاج بين المسلمين وأهل الكتاب، قال تعالى:
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139].
أي: {قُلْ} يا محمد لمعاشر اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك:{كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} ، وزعموا أن دينهم خير من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم، لأنه كان قبل كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم:{أَتُحَاجُّونَنَا} ؟ أتجادلوننا وتخاصموننا {فِي} شأن {اللَّهِ} ؟ وترون أنكم أولى بالله منا {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقاب، والجزاء على الأعمال: الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم أولى بالله منّا من أجل أن نبيكم كان وجوده قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربكم وربنا واحد، وإن لكل فريق منا عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها ويجازى فيثاب أو يعاقب، لا على الأنساب، وقِدَمِ الدين والكتاب، وما جدالكم هذا إلا تعصب للقومية والجنسية.
ثمَّ قال: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي: موحدون، نخلصه بالإيمان، فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوة.
ولما ذكر سبحانه وتعالى، الاستفهام بقوله:{أَتُحَاجُّونَنَا} معاشر اليهود والنصارى؟ أردفه باستفهام آخر فقال:
كأنه قال: {أَتُحَاجُّونَنَا. . أَمْ تَقُولُونَ} ؟ وهذا على قراءة {تَقُولُونَ} بالتاء، وهي قراءة ابن عامر وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وقرأ الباقون بالياء
على أنه إخبار عن اليهود والنصارى، فعلى الأول يحتمل أن تكون {أَمْ} متصلة، وتقديره: بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا؟ أبالتوحيد؟ فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء؟ فنحن متبعون، وأن تكون منقطعة بمعنى بل أتقولون؟ ! والهمزة للإنكار أيضًا، وعلى الثاني تكون منقطعة لانقطاع معناه، بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول، كأنه قيل: أ {تَقُولُونَ إِنَّ} الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة {هُودًا أَوْ نَصَارَى} ؟ ولما كان قولهم هذا باطلًا، أورد الله هذا الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار، والغرض منه الزجر والتوبيخ، وأن يقرر الله في نفوسهم، أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون.
وقوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} معناه: إن الله أعلم، وخبره أصدق، وقد أخبر في التوراة والإنجيل، وفي الفرقان على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية، فأخبر تعالى بنقيض ما ادعوه، فإن قالوا ذلك عن ظن، فقد بان لهم خطؤهم، وإن قالوا ذلك عن جحود وعناد، فما أجهلهم وأشقاهم، فإن فائدة الكلام: إما التنبيه، وإما التجهيل.
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} إما أن يتعلق {مِنَ اللَّهِ} بـ {أَظْلَمَ} ، فالمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه، هودًا أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة، لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه، لأن الظلم من الأعدل أشنع، وإما أن يتعلق بـ {كَتَمَ} ، فالمعنى: لا أحد أظلم ممن عنده شهادة ثم لم يقمها عند الله، وكتمها وأخفاها منه، وإما أن يتعلق بـ {شَهَادَةً} ، كقولك: عندي شهادة من فلان، ومثله {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]، فالمعنى: ليس أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده جاءته من الله، وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لا يكتمون ما عندهم من الحق، وشهدوا لإبراهيم بالحنيفية، وتعريض بأن أهل الكتاب قد كتموا شهادات الله، فأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وحنيفية إبراهيم، وغير ذلك من تحريفهم.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} كلام جامع لكل وعيد، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ولا تخفى عليه خافية، وأنه من وراء مجازاته، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، لا تمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس، لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول؟
ولما حاج تعالى اليهود والنصارى في هؤلاء الأنبياء عقب ذلك الحجاج بقوله:
لتكون هذه الآية وعظًا لهم وزجرًا، حتى لا يتكلوا على فضل الآباء، فكل واحد يؤخذ بعمله، وإعلامًا لهم، بأنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم، لاختلاف المصالح، لم يستنكر أن تختلف المصالح، فينقلكم محمد صلى الله عليه وسلم، من ملة إلى ملة.
وتدل الآية على أن كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق، إن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم، لأنهم أصابوا أو أخطؤوا، لا يضر هؤلاء ولا ينفعهم، لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد.
وفي الآية زجر عظيم لمن جعل التقليد مذهبه، وسار مع قول مقلده كيفما كان، ثم إن أتاه الحق وظهر له الدليل أعرض عنه جانبًا، وراغ عنه، وأخذ يؤوله حسبما يريد، ويختار له هواه، ويسلك مسالك أولئك المعاندين، الذين قلدوا أحبارهم ورهبانهم فيما ابتدعوه لهم من الدين، ورتبوه لهم من المفتريات، ولما جاءهم الحق الذي لا مرية فيه وهو القرآن الكريم، أعرضوا عنه اتباعًا لقول أحبارهم ورهبانهم، كما أضل هؤلاء من سار سيرهم واتبع طريقتهم، فأعرض عن كتاب الله وسنة نبيه، وحرفه وبدله وساقه نحو هواه،
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وتكرير هذه الآية يدل، والله أعلم، على أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن، لم يكن التكرار عبثًا فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا شر، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين، لا يسوغ التقليد في هذا الجنس، فعليكم بترك الكلام على إبراهيم وما عطف عليه من تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم بكل خير، ولا تسألون إلا عن عملكم، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
يقول الفقير عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بدران:
إلى هنا انتهى بنا المجال على سبيل الاختصار، في تفسير الجزء الأول من كتاب الله تعالى، مع العجز والتقصير، وكنت ابتدأت به من قبل بسنين تعد بالسبع أو الثمان، فكتبت منه قطعة ثم منعتني عنه موانع، وصرفتني عنه أمور، منها اشتغالي بتهذيب تأريخ الإمام أبي القاسم علي ابن عساكر، الذي يربو تهذيبه عن الثلاثة عشر مجلدًا، ومنها بعض مؤلفات اقتضت الضرورة تقديمها، ومنها أشغال تشغل القلب وتعلّه، ليس هنا مواضع ذكرها، ثم لما فرغت من "تهذيب تأريخ ابن عساكر"، صرفت العناية نحو إتمامه حتى وقع الفراغ منه يوم الجمعة الحادي عشر من شهر شوال سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة بعد الألف، أيام كانت نار الحرب مشتعلة في جميع أقطار المعمور، وغلاء ما يحتاجه الإنسان يفوق التصور، والأكدار تصب صبًا، وريح التقلبات يعلو على النكباء، فالله حسبنا ونعم الوكيل، وقد خطر لي أن أسمي الكتاب كله "جواهر الأفكار، ومعادن الأسرار، المستخرجة من كلام العزيز الجبار" أسأله تعالى الإعانة على إتمامه بفضله وكرمه.
يتلوه تفسير الجزء الثاني: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} الآية.
تفسير بدران الجزء الثاني من جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار
تأليف العبد الفقير لمولاه المنان عبد القادر بن أحمد بن مصطفى المدعو بابن بدران عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد:
فأقول: لما بيّن سبحانه وتعالى الشبهة الأولى، التي ذكرها اليهود والنصارى طعنًا في دين الإِسلام، بيّن الشبهة الثانية، وذلك أنه لما كان ادعاؤهم أن أسلافهم على دينهم، لئلا تنتقض دعواهم، أن الجنة خاصة بهم، مع كونه فضولًا (1) لا سند له يثبت به شيء، محاولة لعدم جواز النسخ، وكان إبطال الله لقولهم، وعيبهم بما أحدثوا في دينهم، وتقريعهم به، ملزومًا لأن يكونوا أباحوا لأنفسهم منه ما منعوا خالقهم، وهو لا يُسأل عما يفعل، كانوا أسفه الناس. فعقبه بالتصريح بعيبهم، والتعجيب منهم في إنكارهم لنسخ القِبلة، وخفتهم بالاعتراض على ربهم، فقال واصلًا له بما قبله على وجه أعم:
لأنهم إذا لم يكونوا يعلمون حقيقة ذلك، فلم يتبعوهم، فلا أقل من أن يكفوا عن غيّهم، فكيف وهم عالمون بأنه الحق؟
وسبب نزول هذه الآية، ما أخرجه البخاري في الصحيح، عن البراء بن عازب، قال:
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله:
(1) الفضول من القول: الكلام الذي لا معنى له.
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]. فقال السفهاء من الناس - وهم اليهود -: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال في "الكشاف": فإن قلت: أيُّ فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتضمنه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأردّ لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم، انتهى.
وعلى هذا المنوال جرى علماء الجدل في مناظرة الخصم، حيث يقولون له: فإن قلت كذا، أو: إن الذي تعارضه بكذا، سيقول كذا، فجوابه كيت وكيت. وهي نكته بديعة أحسن ما يستدل على صحتها بهذه الآية.
و{السُّفَهَاءُ} : جمع سفيه، وهو الذي يعمل لغير دليل، إما بأن لا يلتفت إلى دليل، فلا يتوقف إلى أن يلوح له، بل يتبع هواه، أو يرى غير الدليل دليلًا، ويطلقُ لفظ السفيه على من لا يميز بين ما له وما عليه، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره، ولفظ {السُّفَهَاءُ} هنا عام شامل لأهل الكتاب ولغيرهم، كما يدل عليه قوله:{مِنَ النَّاسِ} فيعم كل من قال ذلك، لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالًا لم يتركوا مقالًا البتة.
وقولهم: {مَا وَلَّاهُمْ} أي: ما صرفهم {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أكثر المفسرين على أن القبلة المذكورة هي: بيت المقدس، أي: ما صرفهم إلى الكعبة عن بيت المقدس، والقبلة ما يجعل قبالة الوجه، وقيل: إنهم قالوا: حينما ترك التوجه إلى الكعبة في الصلاة، وتحول إلى بيت المقدس، وفي ذلك إشارة، إلى أنه لما انقطعت حججهم، ألقوا هذه الشبهة إلى من اختدعوه من المنافقين، ولم يقدروا أن يواجهوا بها أحدًا ممن خالط الإيمان بشاشة قلبه، كما قالوا فيما تقدم:{كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} ونحوه، علمًا منهم بأن المحاج لهم عن المؤمنين من له الحجة البالغة، ولذلك جاء جوابهم استئنافًا لجواب من يقول: فما نقول لهم إذا
قالوا ذلك؟ فكأنه قال: الجواب: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ، أي: بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها، {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} من أهلها {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس، وأخرى إلى الكعبة.
قال صاحب "البحر": قد أكثر المفسرون وغيرهم الكلام، في الحكمة التي كان لأجلها تحويل القبلة، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع، قال: ومن طلب للوصفيات تعاليل، فأحرى بأن يقلَّ صوابه، ويكثر خطؤه.
وأما ما نص الشرع على حكمته، أو أشار، أو قاد إليه النظر الصحيح، فهو الذي لا معدل عنه، ولا استفادة إلا منه، انتهى.
وقد لاح لي احتمال في حكمة استقبال الكعبة على وجه الخطور بالبال، وهو أنه: لما كان مطلع شمس النبوة المحمدية من مكة، وكان هناك مبدأ الشريعة الأحمدية، ومشرق أنوارها، لا جرم أمر الله المؤمنين بالتوجه إلى تلك الجهة في أعظم عباداتهم، وهي الصلاة، ليكونوا متذكرين تلك النعمة فلا ينسونها، ويحمدون الله عليها بقولهم في افتتاحها:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وليظلوا متذكرين أن هذا الدين المبين، من هناك نشأته، ومن تلك البقاع مبدؤه، فيزدادون حبًا لمن أتى به، على وجه يقتدون به في أفعاله وأقواله، والله أعلم.
ولما بين استقامة القبلة التي وجههم إليها، عرف أنها وسط لا جور فيها، فأتبع ذلك قوله:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
الكاف للتشبيه، و"ذا" اسم إشارة، والمشار إليه ما تضمنه قوله:{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . أي: ومثل ذلك الجعل العجيب {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} شبه جعلهم أمة وسطًا، بجعلهم على الصراط المستقيم؛ أي:{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، مثل ذلك
الجعل العجيب الذي فيه اختصاصكم بالهداية، لأنه قال:{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء الله.
ويصح أن يكون المعنى: كما خصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته، بذلك على من سواكم من أهل الملل، وكذلك خصصانكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، والـ {أُمَّةً} هي القرن من الناس، والصنف منهم ومن غيرهم، و "الوسط" العدل.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي والحاكم، وصححه عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} : {عَدْلًا} (1). ورواه ابن جرير عن أبي هريرة؛ ورواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي، عن أبي سعيد مرفوعًا في حديث طويل، ورواه سعيد بن منصور، وابن ماجه والبيهقي في كتابه "البعث والنشور". وحيث صح هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل عنه إلى غيره.
واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية، على أن إجماع الأمة حجة، قالوا: أخبر الله عن عدالة هذه الأمة وعن خيرتهم، فلو أقدموا على شيء وجب أن يكون قولهم حجة، والكلام على هذه المسألة مستوفى في فن أصول الفقه، وسمي العدل وسطًا لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين؛ والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين.
وقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية، معناه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً} عدولًا {شُهَدَاءَ} لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ، أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، {وَيَكُونَ} رسولي محمدًا {شَهِيدًا} عليكم بإيمانكم به، وبما جاءكم به من عندي، ويدل لهذا ما أخرجه الإمام أحمد،
(1) كان في الأصل - وكذا مطبوعة الطبري القديمة -: "عدولًا" قال الشيخ شاكر: لعله تحريف؛ لأن الأجود صيغة الإفراد. على الوصف بالمصدر، يستوي فيه المذكر والمؤنث والمثنى والجمع.
وعبد بن حميد، والبخاري والترمذي والنسائي والبيهقي في "الأسماء والصفات" وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد. فيقال لنوح: هل من يشهد لك؟ - وفي لفظ الترمذي - فيقال: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ. فذلك قول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ". قال: "والوسط، العدل". وفي رواية: "فتشهدون له بالبلاغ، وأشهد عليكم" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي، عن أبي سعيد بلفظ:"يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال له: من يشهد لك. فيقول: محمد وأمته. فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاء نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا"(1). فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} الآية.
وقد ورد أن الشهادة تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة، فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وأبو داود الطيالسي، عن أنس قال: مروا بجنازة فأثني عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجبت" كررها ثلاثًا، ومروا بجنازة فأثني عليها بِشَرّ، فقال:"وجبت" وكررها ثلاثًا؛ فسأله عمر، فقال:"من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"(2) قالها ثلاثًا. ورواه الحاكم وصححه، وزاد في آخره، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية.
أخرج أحمد وابن ماجه والطبراني والحاكم في "الكنى"، والدارقطني في
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير" 8033، للألباني، بترتيب زهير الشاويش، طبع المكتب الإِسلامي.
(2)
هو في "مختصر صحيح مسلم" 484، للإمام المنذري تحقيق الألباني، طبع المكتب الإِسلامي.
"الأفراد"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "سننه"، عن أبي زهير الثقفي مرفوعًا:"يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم" قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن، والثناء السيئ، أنتم شهداء الله في الأرض"(1).
وأخرج مسلم وأبو داود، عن أبي الدرداء مرفوعًا:"لا يكون اللعانون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" والأحاديث في هذا المعنى ليس هنا محل استيعابها.
وحاصل ما أشار إليه قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أنهم يتحملون الشهادة في الدنيا، لأنهم أثبتوا الحق، عرفوا عنده من القابل ومن الرادّ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة، كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذين لم يتم، ثم يشهد به، ثم يشهد بذلك عند الحاكم، وأنهم يشهدون في الدنيا على نحو ما تقدم في حديث أنس. ومن ذلك أن شهادة المتميزين منهم بالعلم، الواصلين إلى رتبة الاجتهاد للحكم، تجعله حكمًا مجمعًا عليه، مبينًا الحق للناس، ويؤكد ذلك قوله تعالى:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} لأن الإجماع لا ينعقد إلا بمستند من الكتاب والسنة، فيكون الرسول الجائي بهما شهيدًا عليهم، يعني: مؤديًا ومبينًا لمواقع الإجماع.
وقوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} أي عدولًا، يشير إلى أن إجماع الفاسقين والمبتدعين لا يعد إجماعًا، ولا يعتبر في الإجماع إلا العدل العارف بما جاء به الرسول.
ولما أعلم تعالى بما سيقول السفهاء، وأوحى إلى نبيه ما يكون الجواب لهم، وبيّن سر تحويل القبلة، بيّن علة التوجه إلى قبلتين، فقال:
(1) هو في "صحيح سنن ابن ماجه - باختصار السند"(3400) للألباني - توزيع المكتب الإِسلامي.
فقوله: {وَمَا جَعَلْنَا} معناه: ما شرعنا وما حكمنا القبلة التي كنت عليها، أي: كنت معتقدًا لاستقبالها؛ فقوله: {الَّتِي} وما بعده، ليس صفة للقبلة، وإنما هو ثاني مفعولي "جعل"، يريد {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} الجهة {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} ، الآية. وإلى هذا جنح "الزمخشري"، وتبعه "الرازي"، ولم يرضه صاحب "البحر". فجعل {الْقِبْلَةَ} المفعول الثاني، و {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} المفعول الأول؛ و {جَعَلْ} بمعنى صيّر، وعلل ذلك بأن التصيير هو الانتقال من حال إلى حال، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني؛ والمعنى على هذا التقدير:
{وَمَا جَعَلْنَا} الكعبة {الَّتِي} كانت قبلة لك أولًا، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس قبلتك الآن، {إِلَّا لِنَعْلَمَ} .
وهنا إعرابات مختلفة، يختلف التفسير باختلافها، فلا محل للإطالة بها، وأيًّا ما كان فالكلام يقتضي وجهين:
أولهما: أن يكون بيانًا للحكمة في جعل الكعبة قبلة؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة، تأليفًا لليهود، ثم حول إلى الكعبة فيكون المعنى: وما رددناك إلى الكعبة إلا امتحانًا للناس وابتلاءً.
وثانيهما: أن يكون بيانًا (1) للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة، فيكون المعنى: أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرًا عارضًا لغرض، وهو امتحان الناس، ليظهر {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} ، ومن لا يتبعه وينفر عنه.
ولذلك قال: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي: يرتد، فيدبر بعد إقباله منتكسًا {عَلَى عَقِبَيْهِ} ، علمًا متعلقًا بموجود تقوم به الحجة في مجاري عاداتكم، وقال الحرالّي: لنجعل عَلَمًا ظاهرًا على الصادق وغيره،
(1) الأصل: (لسانًا).
ليشمل العلم به من علم الغيب قبل كونه، وبعد كونه، ومن لا يعلم الغيب إلا عن علم بما ينبئ عنه نون الاستتباع، فهذا وجهه ووجه ما يرد من نحوه في القرآن والسنة، انتهى.
وأراد بنون الاستتباع: نون "نعلم" لأنها للمتكلم، و "من يستتبعه"، أي: من يكون معه، وقوله:"ووجه ما يرد إلخ"، أي: من مثل قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق: 16، الواقعة 85] وكل ما أتى فيه بالنون الدالة على المتكلم وعلى غيره، وهذا جواب عما يقال: كيف؟ يقال: لنعلم، ولم يزل عالمًا بذلك؟
وحاصل الجواب: أن معنى {لِنَعْلَمَ} ، لنجعل علامة، مجاراة لكم على عادتكم، لأنكم لا تعلمون الشيء إلَّا بعلامة تدل عليه، وهو معنى حسن؛ وأجاب الزمخشري عنه بقوله: معناه لنعلمه علمًا يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجودًا حاصلًا. انتهى.
ومعناه: أن الفعل قبل وجوده يستحيل أن يعلمه الله موجودًا، فقوله:{إِلَّا لِنَعْلَمَ} ، معناه: إلا لنعلمه موجودًا: وهذا التأويل مبني على أن علم الله بأن الشيء سيوجد، هل هو علم بوجوده إذا وجد؟ فيه خلاف مشهور عند المتكلمين محله كتب الكلام.
وهنا قول آخر، وهو: إنما قيل: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} ، وهو بذلك عالم قبل كونه، وفي كل حال، على وجه الترفيق بعباده، واستمالتهم إلى طاعته، على حد قوله:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وقد علم أنه "على هدى" وأنهم على {ضَلَالٍ مُبِينٍ} ؛ ولكنه رفق بهم في الخطاب، فلم يقل: أنا على {هَدَى} ، وأنتم على {ضَلَالٍ} ، وكذلك قوله:{إِلَّا لِنَعْلَمَ} والمعنى: إلا لتعلموا أنتم إذ كنتم جهالًا به، قبل كونه، فأضاف العلم إلى نفسه رفقًا بخطابهم، وهو معنى حسن.
هذا وقد تظاهرت الأخبار بأنه لما حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى
الكعبة، ارتد فيما ذكر رجال ممن كان قد أسلم، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم، وقالوا: ما بال محمد، يحولنا مرة إلى ها هنا ومرة إلى ها هنا؟ وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين، وهم يصلون إلى بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت. وقال المشركون: تحير محمد في دينه، وقال قائلون: لقد اشتاق الرجل إلى بلد أبيه ومولده، فكان ذلك فتنة للناس، وتمحيصًا للمؤمنين.
وعندي أن من جملة الحكمة في ذلك التحويل، تعليمنا قاعدة عظيمة من قواعد السياسة؛ وهي أن الأمير إذا أراد أن يختبر رعيته، أمرهم اليوم بأمر هو أمرهم قبل بخلافه، ولا سيما إذا كان الثاني مخالفًا لعادتهم ومألوفهم، يمتحنهم بذلك، ليعلم المطيع منهم، ومن كان مضمرًا للمخالفة. فقوله تعالى:{لِنَعْلَمَ} لم يرد حقيقة العلم لنفسه، وإنما أراد به التنزل في الخطاب، ليعلمنا أن السياسة في مبدئها تكون بالمساواة، فنزل سبحانه - تعليمًا لنا - نفسه منزلة المخاطبين، في كونهم لا يعلمون الأشياء إلا بعد كونها، لا أن المقصود أن هذا الشيء كان غائبًا عنه، ثم فعل ذلك ليعلمه، تعالى الله عن ذلك. وهذا يشير إلى المساواة تنزيلًا لا حقيقة، وفي هذا من الحكمة والنفع لنا، ما لا يعلمه إلا من أوتي فهمًا في كتاب الله تعالى، وفقهًا فيه، ألا ترى أنه تعالى لما أشار إلى هذا، انتقل إلى بيان شدة التحويل، على من أخلد إلى العادة بغلبة القوة الحيوانية البهيمية، ولم يتمرن في الانقياد للأوامر الإلهية على خلع وذل النفس، فقال:{وَإِنْ كَانَتْ} أي: الجعلة المشار إليها بقولنا: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} {لَكَبِيرَةً} أي: ثقيلة شاقة جدًا، لأن مفارقة الإلف بعد طمأنينة النفس إليه، أمر شاق جدًا.
ثم استنثى من أيده بروح منه وسكينة فقال: {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي: جعل الهداية في قلوبهم، فانقادوا لما هداهم إليه بنصب الأدلة؛ أي: إلا الثابتين الصادقين في اتباع الرسول، الذين لطف الله بهم، وكانوا أهلًا للطفه، ولما كان قبولهم لهذا الأمر، وثباتهم عند تغير الأحكام، إنما كان عن إيمان وعلم محيط، جعل الله أعمالهم وتوجههم إلى القبلة الأولى من الإيمان، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: المصرح به في قولكم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} المشار إلى صدق الدعوى فيه، بقولكم:{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139]، في شيء من الأشياء، لا في صلاتكم إلى القبلة الأولى، ولا في تمييز الصادق منكم من المنافق، بالامتحان بتغيير الأحكام من القبلة وغيرها، ولا في اختصاصكم به سبحانه، دون أهل الكتاب الجاحدين لآياته، الناكبين عن مرضاته، الناكثين لعهوده.
ولما نزه تعالى نفسه المقدسة عن هذه الإضاعة، علل ذلك بما هو أعم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ} كلهم {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: راحم لمن يشاء ممن توصل إليه بعمل صالح، رأفة منه به.
وفرق القفال بين الرأفة والرحمة، فجعل الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي: دفع المكروه وإزالة الضرر، والرحمة: اسم جامع يدخل فيه هذا المعنى، ويدخل فيه الإفضال والإنعام، ولذلك فرق تعالى بينهما فقال:{لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . فالرحيم أعمّ وأشمل من الرؤوف؛ والمعنى: إن الذين آمنتم به رؤوف رحيم، فكيف يضيع إيمانكم، وهو أيضًا باتصافه بهاتين الصفتين، لا ينقلكم من شرع إلى آخر، إلا والثاني أصلح لكم، وأنفع لكم في الدين والدنيا.
وقيل: عنى بالإيمان في هذا الموضع الصلاة، وذلك أنه لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المسلمون: ليت شعري عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، هل تقبل الله منا ومنهم أو لا؟ فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم، فسمى الصلاة إيمانًا؛ وهو قول: ابن عباس، والبراء بن عازب، وجماعة من التابعين. واعتمده البخاري في صحيحه، والترمذي في سننه.
ولما أشعر الكلام السابق أهل البلاغة بإحداث أمر في القبلة، فتوقعوا الخبر عن ذلك، وبين رأفته ورحمته بالناس عمومًا، بيّن ذلك برسوله، بأن تحويله إلى الكعبة رأفة منه به، ورحمة له، مع ما تقدم من فوائده فقال تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}.
في هذه الآية المصدرة بـ {قَدْ نَرَى} نبأ إسماع لمن يرتقب أمرًا أو خبرًا، يفيد ذلك النبأ مع المستقبل ندرة الوقوع، ففيه إعلام بأن النبي صلى الله عليه وسلم، لما انطوى ضميره على إرادة التوجه للكعبة، التي هي قيام للناس، حين كان هو رسولًا لكافة الناس، وكان على ملة أبيه إبراهيم، يكتفي بعلم الله به عن مسألته، لأن الدعاء للطالبين قضاء حاجة، وللمكتفين بعلم الله عبادة، أجاب الله:{تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} على قلة وقوع ذلك منه، على ما تشعر به {قَدْ} بالتقليل، للتقلب وللرؤية للسماء، فيه إعلام بما جعله من اختصاص السماء بوجه الداعي، كما اختص غيب القلوب بوجهة المصلي، فالمصلي يرجع إلى غيب قلبه، ولا يرفع طرفه إلى السماء:"لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لتخطفن أبصارهم"(1) والداعي يتوجه إلى السماء، انتهى ملخصًا من كلام الحرالّي.
وفي الحديث عن البراء بن عازب، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية. وكان يحب ذلك. . الحديث، رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه سفيان الثوري، انتهى.
ورواه ابن ماجه أيضًا عن البراء، ولفظه: قال البراء: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرًا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله المدينة بشهرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقلب وجهه في السماء، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة، فصعد جبريل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره، وهو يصعد بين السماء والأرض، ينظر ما يأتيه به، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية. . الحديث.
(1) ينظر "مختصر صحيح مسلم"336.
وهذا الحديث رواه الترمذي وإسحاق وابن ماجه، عن أبي إسحاق، عن البراء. وأبو إسحاق معدود في المدلسين، لكن قال الحافظ ابن حجر العسقلاني، في كتاب "الإيمان" من شرحه على البخاري، قد جاء سماع أبي إسحاق عن البراء في غير هذا الحديث، فلا ضعف فيه من تدليس أبي إسحاق. انتهى.
قلت: وإلى هذه النكتة أشار الترمذي إلى حسن هذا الحديث وصحته، ورواية ابن ماجه حكم عليها الحافظ بالشذوذ، وبيانه أن قوله: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، إلى آخره. يدل على أنه صرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله المدينة بثمانية عشر شهرًا؛ وقوله: وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين، يدل على خلاف ما أفادته الجملة الأولى، وذلك لأن صلاة البراء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كانت بعد دخول رسول الله المدينة، إلا أن يقال: أراد بقوله: صلينا، الإشارة إلى صلاة الصحابة مطلقًا، ولو بمكة، وهذا مبني على أنه صلى الله عليه وسلم، وجه إلى بيت المقدس وهو بمكة، وكان على ذلك بعد دخوله المدينة بشهرين، ثم صرفت القبلة إلى الكعبة، وهذا خلاف المشهور بين الجمهور، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: كان قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور.
وبالجملة فهذه رواية شاذة مخالفة للروايات المشهورة في حديث البراء، فليس منها الجملة الثانية أصلًا. وقد حكم الحافظ على هذه الجملة بالشذوذ، وقال: هما من طريق أبي بكر بن عياش، وهو سيئ الحفظ، وقد اضطرب فيه، والجملة الأولى جاءت في بعضها على الشك بين ستة عشر أو سبعة عشر، وفي بعضها الجزم بسبعة عشر، وحديث الترمذي أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
فقوله تعالى: {قَدْ نَرَى} مضارع بمعنى الماضي. وقد ذكر بعض النحاة: أنا {قَدْ} مما يصرف المضارع إلى الماضي في بعض المواضع، والتقلب: التحول والتصرف.
ويعني بقوله: {فِي السَّمَاءِ} نحو السماء وقبلها، والمعنى: قد رأينا تحول
وجهك، وتصرف نظرك في جهة السماء، ترغب نزول الوحي آمرًا لك بالتوجه في صلاتك إلى الكعبة، فقد أجبناك إلى ما ترغب فيه، وإنما كان يرغب ذلك لأن الكعبة قبلة إبراهيم أبيه، والتوجه إليها في الصلاة أدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود، وأيضًا فإنه أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه، لا في مسجد آخر، ليعلم أمته كيف تكون محبة الوطن، وأن كل فرد منهم ينبغي أن يفكر فيما يعود على محل تربيته ومنشئه بالخير والعمران، ويرغب في ذلك، كما يشير إلى هذا الآيات الحاثة على حسن الجوار، والأحاديث المرغبة فيه، وفي حسن المعاملة للأصحاب والخلان، وغالبًا يكونون من موضع المنشأ.
وفي قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} إذن في ذلك، ودرجه في جملة محاسن هذه الشريعة الغراء، فمن يرغب في ضرر وطنه، فهو من المخدوعين الذين لم يعلموا أسرار ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} معناه: فلنعطينك ولنمكننك من استقبال {قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ، تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته، فلذلك قال تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: الكعبة، قال الماوردي: كل موضع ذكر فيه المسجد الحرام، فالمراد الحرم، إلا هذا فالمراد به الكعبة. انتهى.
و{شَطْرَ الْمَسْجِدِ} ، منصوب على الظرفية، أي: اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد، أي: في جهته وسمته، لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد، وذكر {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} دون الكعبة، دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين؛ قال أبو العالية:{شَطْرَ الْمَسْجِدِ} تلقاءه؛ وبه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والبراء، كما رواه عنهم ابن جرير وأبو داود في ناسخه، والبيهقي وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم وغيرهم، وقال ابن جرير: الشطر النحو والقصد والتلقاء، كما قال الهذلي:
إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها
…
فَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ (1)
يعني بقوله: شطرها، نحوها. وكما قال الراجز:
تَعْدُو بنا شَطْرَ جَمْعٍ وهيَ عَاقِدَةٌ
…
قد كاربَ العَقْدُ من إيفادها الحَقَبا (2)
وقال الشاعر أيضًا:
ألا من مبلغ عنا رسولًا
…
وما تغني الرسالة شطر عمرو (3)
أي: نحوه. وتقول العرب: هؤلاء القوم يشاطروننا، إذا كانت بيوتهم تقابل بيوتهم، وقال على شطره قبله.
ومن هنا نشأ اختلاف العلماء في المسألة؛ فذهب الحنفية والحنابلة والشافعي في أحد قوليه: إلى أن المصلي إن كان معاينًا للكعبة، ففرضه الصلاة إلى عينها، وهذا مما لا خلاف فيه؛ حتى قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل البغدادي من الحنابلة: إن خرج بعضه عن مسامتة الكعبة لم تصح صلاته، وإن كان بعيدًا عنها، ففرضه التوجه إلى الجهة، واستدل مالك في "الموطأ": على أن الفرض للبعيد الجهة، بما رواه عن نافع، أن ابن عمر قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا تُوجّه قِبَلَ البيت، وروي هذا عن عثمان وعلي وابن عباس، وما رواه مالك موقوفًا، رواه ابن ماجه عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة"، ورواه الترمذي وصححه. وقال ابن عبد البر: إنما تضيق القبلة على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع، ثم لأهل الحرم أوسع ثم لأهل الآفاق أوسع. انتهى (4).
وبنوا على هذا أنه إن انحرف عن القبلة يسيرًا لم يُعد، ولكن يتحرى الوسط، وقال الشافعي في الرواية الثانية: الفرض إصابة العين.
وأجاب الأولون بأن الحديث: "ما بين المشرق والمغرب قبلة"، وبأنه لو
(1) هو في "لسان العرب" 2/ 315.
(2)
هو في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ص 60.
(3)
هو من شواهد "البحر".
(4)
هو في "إرواء الغليل"291.
كان الفرض إصابة العين، لما صحت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو، ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع طول الصف إلا بقدرها، فإن قيل: مع البعد يتسع المحاذي، قلنا: إنما يتسع مع تقوس الصف، أما مع استوائه فلا (1).
وشطر البيت نحوه وقبله، وأيضًا فشطر الشيء ما يقسمه نصفين؛ فكان المسجد الحرام إذا أخذ منه خط مستقيم إلى آخر نصف الكرة، وخط آخر إلى آخر نصفها الآخر فقد قسمها نصفين، كما يقسم الدائرة قطرها نصفين، ولا يلزم منه تساوي المقسومين في المقدار، ولا يفهم من كلام العرب الشطر بمعنى العين.
هذا وذهب ابن جرير الطبري إلى [أنْ] من ولّى وجهه شطر المسجد الحرام، هو المصيب القبلة، وإنما على من توجه إليه النيةُ بقلبه أنه إليه متوجه. انتهى، فكأنه جمع بين الأقوال، وهو جمع حسن.
قال أبو حيان في "البحر": واستدل مالك من قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، خلافًا للثوري والشافعي والحسن بن حي: في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده، وخلافًا لشريك القاضي: في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى موضع حجره. انتهى.
قلت: والنظر إلى موضع سجوده هو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، خلافًا لمالك كما علمته سابقًا، وما ذكره مالك حسن ظاهر من الآية.
ولما بشر تعالى نبيه بالتحويل أولًا، بقوله:{قَدْ نَرَى} الآية، وأوقع المبشر به ثانيًا بقوله:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أشار إلى بشارة ثالثة بتكثير
(1) ويؤيد هذا: أن الجماعة كانت تقام في حرم مكة المكرمة صفًا واحدًا من جهة واحدة من جهات الكعبة وراء الإمام، وأما صلاة الجماعة حول الكعبة، بصفوف حول استدارة الكعبة فكانت متأخرة عن ذلك، لما كثر الناس في عهد خلفاء بني أمية.