المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الكلام على البسملة - تفسير ابن بدران = جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار

[ابن بدران]

الفصل: ‌ الكلام على البسملة

تَفسْير‌

‌ سُوَرة الفَاتِحَة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} آمين.

لا يخفى على أحد ممن له أدنى إلمام بعلم العربية، أن "الباء" من {بسم} حرف جر، متعلقة بمحذوف، وأن‌

‌ الكلام على البسملة

امتلأت به بطون المؤلفات، فلا نشتغل بنقله، لكننا نقول: قدر علماء البلاغة هذا المحذوف متأخرًا، وهو مما يعول عليه، ويناسب ما لأجله كان نزول القرآن، لأنه نزل لدحض حجج المخالفين، وإبطال عبادة ما سوى الله تعالى، وكان المشركون يبتدئون في جميع أفعالهم باسم آلهتهم، فيقولون حينما يشرعون في أمر: باسم اللات، وباسم العزى، وكان كل عابدِ شيء مما سوى الله تعالى، يبتدئ باسم إلهه الذي يعبده بزعمه، وكان التقديم منهم لمجرد الاهتمام الناشئ من قصد التبرك والتعظيم.

ولم يكن قصدهم به الاختصاص، لأنهم لم يكونوا ينفون التبرك به تعالي، لأنهم كانوا يقرون به بدليل:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].

وأخبر تعالى عنهم بأنهم يقولون عن أصنامهم:

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

بل كانوا يتبركون به أيضًا، فأرشد سبحانه وتعالى بالبسملة الموحَّدَة، إلى أنَّه يجب عليه أن يقصد بعبارته قطع شركة الأصنام، بل قطع شركة كل ما سوى الله

ص: 31

تعالى، كيلا يتوهم منه تجويز الابتداء باسم سوى اسم الله تعالى.

وعلى هذا فيكون في الكلام قصر إفراد، والمقصود من الابتداء، الفعل الذي يبدأ به، فإن المشرك لمَّا كان يبتدئ في أفعاله المخصوصة باسم آلهته، وجب على الموحد أن يبتدئ في أفعاله المخصوصة باسم الله تعالى، ردًا على المشرك، وإظهارًا للتوحيد الذي هو المقصود من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وإنزال الكتب، وليس هذا المعنى مقصودًا على ما تقدم من الرد على المشركين، ولكنَّه عام لغيرهم أيضًا، ممن استند إلى الأسباب.

وذلك أن الله لمَّا أظهر حكمة التسبيب، وأرى الخلق أن بعض الأشياء مستفادة من أشياء أخر، مرتبة عليها ومتقدمة عليها، حتى صارت كأنها أسبابها، كما يُرَى أن النبات لا يكون إلا بالمطر، وأن البذار مثلًا لا ينبت إلا بالماء، إذا كانت الأرض التي هو فيها مساعدة على إنباته، وقف بعض الناس عند أول سبب فلم ير ما قبله، ومنهم من وقف عند سبب السبب، كالذي يعتقد: أن منشأ الأشياء الكونية من الأثير، وأنه هو السبب الفاعل لما نشاهده، ومنهم من وقف عند أسباب بحسب ما انتهى إليه عقله.

فلا جرم، طوى الحق تعالى تلك الأسباب، وأظهر بتقديم الجار والمجرور من البسملة، أن كل شيء ظهر في الوجود، إنما كان باسمه سبحانه وتعالى

(1) إن أمثال هذه المعاني نلحظها ولا نلقي لها بالًا، وربما يغرب عن خاطرنا المقصود منها، فلا بد لنا من تقريرها بما يقرب من معنى ما تقدم، لترسخ في النفس فنقول:

إن كثيرًا منا من يقول: عملت هذا العمل باسم فلان، يقصد بذلك التباعد عنه والانسلاخ من عمله، ويقول: بنيت هذه الدار باسم الأمير فلان، أو باسم كذا وكذا، فإذا كان العمل خالصًا لله تعالى، وجب على العامل أن يقول عند الابتداء به: بسم الله، فكأنه يقول: إنما عملي هذا هو بأمر الله، وهو خالص له، وليس

(1) هنا عبارة غير واضحة لذلك حذفناها، والكلام لا يتضرر بحذفها، ولعل تتمة العبارة:(لا بسبب سواه) كما ني "نظم الدرر" للبقاعي 1/ 25.

ص: 32

لي منه شيء، طارحًا الرياء والافتخار به، لأنني عبد مملوك له تعالى، فلا أعمل شيئًا لنفسي، وهل أنا ونفسي إلا ملك له تعالى، وليست القدرة التي أنشات بها هذا العمل، إلا منه تعالى، ولولا أنه تفضل عليّ بها، لما كنت قادرًا على فعل شيء، ولا على صدوره، ولست أستمد القوَّة إلا منه، ولا أرجو الإحسان إلا منه، فلفظ "الاسم" مراد هنا.

و"الاسم" من السمو، لأن التسمية تنويه بالمسمَّى، أي الارتفاع، ورفع الصوت به، ومعناه: رفع المسمَّى عن حضيض الخفاء إلى منصة الظهور، ليتجلى لأعين البصائر، وإعلاء قدره حيث جُعل معتدًا به، ونصب علامة بإزائه أي: بجانبه.

فالتسمية: وضع اللفظ بإزاء المعنى، ويليق بقول من قال: إن الاسم مأخوذ من السمة، وهي العلامة، أي: ينطبق على هذا المعنى، ولسنا الآن بصدد بيان الاشتقاق.

ولفظ الجلالة مختص بالمعبود بحق، لم يطلق على غيره، قالوا: هو مشتق من "أَله إلهة"، بمعنى: عبد عبادة، أو: من "أَله" إذا تحير، لأن العقول تتحير في معرفته، أو: من "ألهت إلى فلان" إذا سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته، وقال بعضهم: هو علم لذاته المخصوصة، لأنه يوصف ولا يوصف به، ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته، ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه، وترجيح أحد القولين على الآخر محل مناقشات تكفل بها من كتب على البيضاوي و"الكشاف"(1) فلا نطيل بها، لعلمنا أن كل أحد يعلم من لفظ "الله" أنه علم على الذات، التي لا يسع العقل إنكار وجودها، المستحقة لجميع المحامد، المتصفة بالأسماء الحسنى والصفات العليا.

و{الرحمن الرحيم} اسمان بنيا للمبالغة، فوزن الأول فعلان: كغضبان وعطشان، وهذا الباب يأتي للصفات العارضة، ألا ترى أن الغضب والعطش صفات تعرض وتزول، ووزن الثاني فعيل: كعليم وجميل وحليم، وهو يدل على المعاني الثابتة؛ ألا ترى أن الحلم صفة ثابتة، وكذا العليم، وهما من جملة

(1) أي أصحاب الحواشي عليهما.

ص: 33

الأخلاق والسجايا: فلفظ {الرحمن} ، لما كان يدل على من تصدر منه آثار الرحمة بالفعل، التي هي إفاضة النعم والإحسان، اختلج في قلب السامع، أن هذا الوزن للصفات العارضة التي ربما لا تدوم، أردفه بقوله:{الرحيم} ، الدال على الصفات الثابتة، إشارة إلى أنه تعالى مفيض لجميع النعم، سواء كانت عارضة، أو ثابتة، فالوصف الثاني دال على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أن هذه الصفة ثابتة واجبة، فليس الثاني تأكيدًا للأول، بل هو كذكر الدليل بعد المدلول؛ والرحمة معناها في اللغة: العطف والحنو، وليس هذا المعنى مقصودًا هنا، وإنما المقصود غايته، فالرحمة مجاز عن إنعام الله على عباده، لأن الملك إذا عطف على رعيته ورَّق لهم، أصابهم بمعروفه وإنعامه كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة، عنف بهم ومنعهم خيره ومعروفه.

و{الحمد} هو القول الدال على كون المحمود مختصًا بفضيلة معينة، وهي فضيلة الإنعام والإحسان، ويقال في حده: هو النعت بالجميل على الجميل، اختياريًا كان، أو مبدأ له على وجه يشعر ذلك، بتوجيهه إلى المنعوت، فالحمد أخص من المدح، وهو أعم منه، لأنه عبارة عن القول الدال على كون الممدوح مختصًا بنوع من أنواع الفضائل، ولأن المدح قد يكون قبل الإحسان، وقد يكون بعده، والحمد لا يكون إلا بعد الإحسان، ويفرَّق بين الشكر والحمد، بأن الحمد يعم ما إذا وصل الإنعام إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك، ومن هنا تعلم وجه اختيار الحمد هنا، لأنه يدل على أن المحمود فاعل مختار، وعلى أن القائل، مقر بأنَّ إلَه العالم، ليس موجبًا بالذات كما يقوله قدماء الفلاسفة، بل هو فاعل مختار، وهذا المعنى لا يدل عليه لفظ المدح، لأنه يكون للفاعل المختار ولغيره، وأما الشكر؛ فكما علمت من أنه مختص بالإنعام الواصل إليك، والحمد ثناء عليه تعالى، بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره، ولا شك أنّه أفضل، لأن التقدير كان العبد يقول: يا الله أنت مستحق للحمد العظيم، سواء أعطيتني أم لم تعطني، فإنعامك واصل إلى كل العالمين.

و"الـ" في الحمد، يجوز أن يكون للاختصاص اللائق، لأن الحمد لا يليق إلا به تعالى؛ لغاية جلاله؛ وكثرة فضله وإحسانه، وأنْ يكون للملك لأنه تعالى

ص: 34

مالك للكل، فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده، وأن تكون للقدرة، والاستيلاء، على حد قولك:"البلد للسلطان"، والله سبحانه وتعالى له القدرة، لأنه واجب لذاته، وما سواه ممكن لذاته، والواجب لذاته مستول على الممكن لذاته، فالحمد بمعنى: أن الحمد لا يليق إلا به، وبمعنى: أنه هو المستولي على الكل، والمستعلي على الكل.

ثم لما أثبت له الحمد، لاستحقاقه لجميع المحامد، لاتصاف ذاته بجميع الكمالات، أشار إلى أنه يستحقه أيضًا من جهة كونه ربًا مالكًا، فقال:{رب العالمين} ، مشيرًا به إلى ابتداء الخلق تنبيهًا على الاستدلال، بالمصنوع على الصانع، وبالبداءة على الإعادة، فالرب بمعنى: المالك، كما يقال: رب الدار لمالكها، ويكون بمعنى التربية، ويصح إرادة المعنيين هنا؛ فيكون معناه: المالك الذي يسوس من يملكه، ويربيه، ويدبره، والمربي، إما أن يربي شيئًا ليربح عليه بسبب تربيته، وإما أن يربيه ليربح المربي، وتربية جميع الخلق من القسم الأول، فهم يربون غيرهم ليربحوا عليه، إما ثوابًا أو ثناءً، والله تعالى يربي العالمين، ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، فهو تعالى يربي، ويحسن، يربي العالمين لا لغرض نفسه، بل لغرضهم، يربيهم ولا تنقص تربيتهم شيئًا من خزائنه، وإذا ألحوا عليه في الطلب أحبهم، يعطي قبل السؤال ولا ينقطع إحسانه.

و{العالمين} جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله، سواء كان متحيزًا قابلًا للقسمة، كالجسم، سواء كان علويًا، كالأفلاك والكواكب، وغيرها من العلويات، كالعرش والكرسي. أو سفليًا كالهواء والأرض والماء والنبات والمعادن والحيوانات، على كثرة أقسامها، وتباين أنواعها. أو غير قابل للقسمة، كالجزء الذي لا يتجز، وهو الجوهر الفرد.

وسواء كان ممكنًا صفة للمتحيزات، كالأعراض من الألوان والطعوم والروائح، أو ممكنًا ليس متحيزًا ولا صفة لمتحيز، كالأرواح، وهي إما سفلية خيرة كصالحي الجن، أو شريرة كالمردة والشياطين، وإما علوية، كالملائكة، ولا يحقق بعض هذا المقام إلا من برع في فن طبقات الأرض، وفي فنون أحوال الجو والفلك والنبات، فإن هذه الفنون يضطر المفسر إليها، وكل من كان أكثر إحاطة بها كان أكثر إحاطة ووقوفًا

ص: 35

على تفسير رب العالمين، وإذا تأملت في أحوال عجائب النبات والمعادن والحيوان، وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان، قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من معنى الحمد لله رب العالمين، وأن المراد بالعالمين ما سوى الله، ولكنه جُمِعَ جمْع مذكر سالمًا على سبيل التغليب، لأن العرب لا يطلقون هذا اللفظ، إلا على الجمل التي تتمايز أفرادها، ويكون لها صفات تقرّبها من العاقل الذي جعلت له هذا الجمع، وقد نبه تعالى الحامد بقوله:{رب العالمين} ، على أنه يملك عبادًا غيره.

ولما كانت مرتبة الربوبية، لا تُستجمع الصلاحَ إلَّا بالرحمة، أتبع ذلك بصفتي: الرحمن الرحيم، ترغيبًا في لزوم حمده، وذلك لأنه ربما يختلج في خاطر البعض أن لفظ "الرب"، يفهم منه الجبروت والقهر، فأراد تعالى أن يذكرهم برحمته وإحسانه، فذكر هذين الاسمين الشريفين، ليبين له أن ربوبيته تعالى لهم، ربوبية رحمة وإحسان، وليعرفهم أن هذه الصفة، هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات، وما ذلك إلا لتتعلق القلوب به، وتقبل على ما فيه اكتساب مرضاته بانشراح واطمئنان.

فإن قال قائل: كيف يتأتى الوصف بصفة {الرحمن الرحيم} مع ما شرعه الله من العقوبات في الدنيا، ومع ما أعده لخلقه من العذاب في الآخرة لمن يتعدى حدوده، وينتهك محارمه، أجيب بأن هذا وإن سمي قهرًا ظاهرًا، فإنه في الحقيقة تربية للناس، وزجرٌ لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية، وفي الانحراف عنها شقاؤهم وبلاؤهم، وفي الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم، فهو في حقيقته وغايته، رحمة لمن تأمله ببصيرته، فهو تعالى مُرَبٍّ رؤوف، يربي عبده بالترغيب فيما ينفعه، والإحسان إليه إذا قام به، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة، إذا اقتضت ذلك الحال، وهذا من تمام معنى {الرحمن الرحيم} .

ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكًا، وكانت الربوبية لا تتم إلا بالملك المفيد للعزة، المقرون بالهيبة، المشعر بالبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر أتبع ذلك بقوله:{مالك يوم الدين} ترهيبًا من سطوة مجده، و "اليوم" ما يتم فيه مقدار أمر ظاهر، ومنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فإن المراد

ص: 36

بالأيام ليس ما يفهم من أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، كما نصت عليه التوراة التي بأيدي اليهود اليوم، لأنه قبل خلق السماوات لم تكن شمس ولا نهار ولا ليل، ولكن المراد بها الأطوار التي تقلبت على السماوات والأرض، واليوم الذي يتم به أمر ظاهر، من أنها كانت موجًا مكفوفًا، ثم صار الكل رتقًا، ثم فتق كل منها عن الأخرى، فانفصلت الأرض، ثم بردت بعد أن كانت ملتهبة، ثم تكونت فيها الجبال والوهاد والسهول والأبحر، ثم صارت صالحة لسكنى الحيوان، فانتهاء كل طور من هذه الأطوار يسمى: يومًا، و {يوم الدين} هو: مقدار ما يتم به جزاء العباد وحسابهم، و {الدين} يطلق على الجزاء والمكافأة، وعلى الطاعة وعلى الإخضاع وعلى السياسة، ومعناها هنا: مالك يوم البعث والجزاء، يوم يخضع الخلق خضوعًا كاملًا لعزته وعظمته، يوم يفرق بين المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، والموافق والمخالف، وذلك لا يظهر إلا يوم الجزاء.

واعلم أن من سلّط الظالم على المظلوم، ثم لا ينتقم منه، فإن ذلك لا يكون إلا لعجز أو لجهل، أو لرضاء منه بذلك الظلم، وهذه الصفات الثلاث محال على الله تعالى، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا، علم أنه لا بد من حصوله في الآخرة، وهذا هو المراد بقوله:{مالك يوم الدين} وخص بالذكر لامتيازه عن غيره من سائر الأيام، لأن الجزاء على الأعمال، وإن كان يقع في الدنيا، لكنه ربما لم يظهر لأربابه إلا للبعض دون الآخر، وأما يوم الجزاء فإنه يظهر ظهورًا تامًا لعموم الخلق، فمن ثم سمي ذلك اليوم يوم الجزاء دون غيره، والأولى أن يجعل الجزاء عامًا لما في الدنيا والآخرة، بمعنى أنه تعالى مالك ليوم الجزاء المطلق، فلا جزاء في الدنيا ولا في الآخرة، إلا وهو مالك له، إن شاء صرفه عن المجازى، وإن شاء أوصله إليه.

وهذه الأوصاف التي أجريت على الله (1) تعالى من كونه ربًا مالكًا للعالمين، لا يخرج منهم شيء من ملكوته وربوبيته، ومن كونه منعمًا بالنعم كلها، الظاهرة

(1) كذا الأصل، ولو قلنا:"التي وصف بها الله" لعله يكون أولى.

ص: 37

والباطنة، والجلائل والدقائق، ومن كونه مالكًا للأمر كله في العاقبة يوم الثواب والعقاب، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به، وأنه به حقيق في قوله:{الحمد لله} ، دليل على أن من كانت هذه صفاته، لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله.

ولما استجمع الأمر استحقاقًا بالحمد، وتحبيبًا بصفة الرحمة، والترغيب بها، وترهيبًا بمالكيته يوم الدين، قال عادلًا عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب، مقدمًا للوسيلة على طلب الحاجة، لأنه أجدر بالإجابة:{إياك نعبد واياك نستعين} وذلك أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء، وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل: إياك يا من هذه صفاته، نخص بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك، ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له، لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به، فهذه نكتة أرباب المعاني، وأشار إليها في "الكشاف".

وللعدول عن الغيبة إلى الخطاب، نكتة تدق عن فهم أرباب المعاني، وهي: أنه أتى بالكاف إشارة إلى مقام الإحسان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، لما سئل عن الإحسان:"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم [تكن] تراه فإنه يراك" رواه البخاري عن أبي هريرة، ومسلم عن عمر بن الخطاب، ومعناه: أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فإذا تحقق هذا المقام صح له أن يخاطبه بخطاب الحضور، فيقول:{إياك نعبد واياك نستعين} ، ويكون جزاؤه وراء ذلك، النظر إلى وجه الله تعالى عيانًا في الآخرة.

وأما الذين اتخذوا دونه حجب الوسائط، ورأوا سواه حين العبادة، وتمسكوا بأناس بجعلونهم أربابًا من دون الله، فيقولون: إن فلانًا يتصرف في ربع المعمور، وفلانًا يتصرف في بلدة، وفلانًا أُعطي قوة التصرف حيًا وميتًا، إلى غير ذلك من أحوالهم، فإن الران (1) يتراكم على قلوبهم حتى يحجبهم عن

(1) الزان والرين سواء: هو الطَّبَعُ والدّنس، كالصَّدَاء يغشى القلب.

ص: 38

معرفة الله، ومراقبته في الدنيا، وأنى تصح المعرفة والمراقبة لمن يعتقد التصرف في الكون لغير الله تعالى؟ أم كيف يحصل التجلي، لمن يعتقد أن ثَمَّةَ ضارًا ونافعًا، ورازقًا ومتصفًا بصفات الكمال غير الله تعالى؟ أم كيف يتجاسر بالكذب على الله تعالى فيقول:{إياك نعبد وإياك نستعين} من جعل من دونه أولياء اغتصب صفات الله فجعلها لهم، إن هؤلاء قد خاطبهم تعالى بقوله:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14].

إن العبد إذا عبد الله كأنه يراه ولا يرى سواه، بأن استحضر قربه، وأنه بين يديه، أوجب ذلك له الخشية والخوف، والهيبة والتعظيم، والنصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها، وإتمامها، وإكمالها، فإذا لم يتيسر للمؤمن هذا المقام، فليجعل نفسه في المقام الذي هو أدنى منه، وهو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله:"فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وذلك أن الأمور في عالم الحس ثلاثة: معاصي، وطاعات، ومباحات المعايش، والسالك إذا علم أن الله يراه في جميع حالاته، فإذا همَّ بمعصية وتذكر رؤية الله له كف ورجع عنها بحصول البرهان الإحساني عنده، وذلك هو البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام، وإذا كان في طاعة، وقام عنده البرهان بأن الله يراه، انجذب سره إلى الخضوع والخشوع، وإخلاص العمل. اللهم إلا أن يكون زنديقًا جاحدًا للربوبية جحدًا حقيقيًا كالزنادقة والدهريين. أو يكون من أرباب الوسائط الذين لا يعرفون الله، إلا معرفة تقليدية مشوبة بإقامة ما لا يحصى من الأرباب.

وإذا كان في مباحات المعايش استحيا أن يعطيها جهده، ثم هو ينسى ما أوجبه عليه خالقه تبارك وتعالى، ألا ترى أن العبد إذا فكر في مواطن الآخرة، من موت، وقبر، وحشر وغير ذلك، وعلم أنه معروض على الله تعالى في ذلك ومواطنه، تهيأ لذلك العرض بزينة أهل الآخرة ما استطاع، وإذا علم أن سره موضع نظر الله وجب عليه تصفيته لمولاه، وإصلاحه وتصفيته مما يكره الله أن يراه، وينظر إليه في قلوب أوليائه، فيزيل الصفات المهلكات ويطهره منها، ويتصف بالمحمودات حتى يجعل سره كالمرآة المجلوة.

ص: 39

وأين هذه الدقائق ممن تركوا هذه الأذواق واستعانوا بغير الله، وشبهوه بخلقه فقالوا: إنا نرى السلاطين والأمراء لا نصل إلى خيرهم وبرهم إلا بواسطة الشفعاء، فكذلك الله لا يوصل إلى خلقه إلا بواسطة من ندعوهم. وهذا القياس فاسد، لأن من ذكروا من السلاطين والأمراء لا يسمعون نداء الداعين، ولا يعرفون المحق من المبطل، ولا المحتاج من غيره، إلا بواسطة مبلغ لهم، والله بخلاف ذلك فإنه يسمع السرّ وأخفى، و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19] {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فأتوا بسلطان هذه صفته، ولم تجعلوا له واسطة؛ وأتوا بميت يسمع نداءكم أينما كنتم، ثم هو يقدر على إنقاذكم مما ألم بكم من حزن وسقم، فيا لندمكم يوم تبلى السرائر، ويا لخجلتكم يوم العرض على رب العالمين، مالك يوم الدين، ويا لكذبكم حينما تقفون بين يديه، ثم تقولون:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

ما أبعدكم عن مقام المشاهدة حيث يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة بالعرفان، حتى يصير الغيب كالعيان، ويصح قول الصادق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بكاف الخطاب، ولم يحم حول قلبه حلول ولا اتحاد، فالعبادة نوع من الخضوع بلغ نهايته، فوصل العابد به إلى مقام الإحسان، فاستشعر قلبه عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقد أن فوق قدرته سلطة لا يدرك ماهيتها وكنيتها، ولا يعرف منها إلا أنها محيطة به وهي فوق إدراكه.

والعبادة شرعت في كل الشرائع السماوية لتذكر بهذا الشعور، الذي هو منشأ التعظيم والخضوع المُؤثر في تقويم أخلاق القائم بها، وتهذيب نفسه، فكل عبادة خالية من هذا المعنى ليست بعبادة.

ولما كان هذا المعنى لا يتهيأ للعبد إلا بمعونته تعالى، ناسب أن يطلب ذلك من حضرة مولاه فيقول:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، مقرًا بالعجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته، وتقديم المفعول للتعظيم والاهتمام به، والدلالة على الحصر، وأطلقت الاستعانة فلم تتقيد بالمفعول الثاني، كأن يقال: وإياك نستعين على كذا، لتتناول كل مستعان فيه، لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب

ص: 40

مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره، وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولًا.

والاستعانة طلب المعونة التي هي سد العجز، والمساعدة على إتمام العمل الذي يعجز عنه المستعين بنفسه، ولذلك كان أهل الإيمان الكامل لا يطلبون ذلك إلا من القادر عليه كما أرشدهم الله إلى ذلك في كتابه المنزل على نبيه، ولكن أهل المقت أبوا أن يسمعوا لله تعالى، ومالوا إلى قوم من الموتى حسًا ومعنى، كالذين في قبورهم، أو معنى فقط كالأحياء الذين لا يقدرون على دفع الضر عن أنفسهم، فجعلوهم حجبًا ووسائط بينهم وبين الله تعالى، فاستعانوا بهم، وطلبوا منهم المساعدة على إتمام أعمال هم عاجزون عن إتمامها، فوكلهم الله إلى من يدعونه، وأبعدهم عن جناب القرب إليه.

نعم إنه قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ولكنه ليس من جنس ما يفعله هؤلاء، لأن معنى هذه الآية أن نقوم بالأعمال جهدنا، ونبذل في إتقانها جهد المستطاع، جملة وفرادى، ويساعد بعضنا بعضًا، ثم نفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى حضرة القادر على كل شيء، ونلجأ إليه وحده ونطلب منه المعونة المتممة للعمل، والموصلة لثمرته. إذ لا يقدر علي الأسباب الممنوحة لكل البشر على السواء إلا هو تعالى، وأما الميت فأي معونة له للحي، وأيّ تصرف له مع الله تعالى، وأي معونة موصلة لثمرة الأعمال من حي سوى الله تعالى، فالعارف يحقق هذا المقام، ويعلم أن هذه الجملة ترشدنا إلى أن نعمل الأعمال النافعة، ونجتهد في إتقانها قدر وسعنا، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل قد بذل فيه المرء غاية جهده، فلم يوفّه حقه، أو يخاف من أن لا يحصل له النجاح به، فيطلب المعونة على إتمامه وإكماله، وهذا عدا عما أفاده الحصر من تخصيص الاستعانة به تعالى كما تقدم.

وأيضًا فيه تحرير العبد من رق الشيوخ الدجالين، والرؤساء الروحيين، الذين يزخرفون الأقوال، ويتقلبون في أنواع الخداع ليجعلوا البسطاء أرقَّاء لهم، فكأنه

ص: 41

تعالى يقول: إن المؤمن من لم تتوجه رغباته إلا إلى خالقه، فهو مع جناب الحق عبد خاضع، ومع الناس حر خالص.

ولما ابتدأ سبحانه وتعالى في هذه السورة بأسماء الذات، ثم دل عليها بأسماء الأفعال، ثم رقي إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماءً إلى أنه الأول والآخر، ثم ندب إلى اعتقاد العجز والاستشعار بالافتقار، والاعتصام بحوله وقوته اقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال، فقال:{اهدنا الصراط المستقيم} قال علّامة خوارزم في "الكشاف": معنى طلب الهداية وهم مهتدون، طلب زيادة الهدى بمنح الألطاف، كقوله:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وعن علي وأُبيّ رضي الله عنهما: (ثبتنا)(1)، وصيغة الأمر والدعاء واحدة، لأن كل واحد منهما طلب، وإنما يتفاوتان في الرتبة، انتهى.

وكلامه كلام مدقق، أخذ بمعصم البَلاغة، فانقادت إليه لكنّها لم تكشف له الحجاب عن جميل محيّاها، وإن شئت التمتع بنظرة من ذلك الجمال الباهر، فقل: إن آخر كل سورة له مناسبة وتعلق بأول السورة التي بعدها، وآخر سورة الناس التي هي آخر القرآن في الترتيب، له مناسبة بسورة الفاتحة التي هي أوله.

ولما طلب الله تعالى من عبده في سورة الناس الاستعاذة من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس، ثم عمم ذلك الموسوس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وقف العبد وقفة المنتبه، وعلم أن له أعداء من الجن والناس، لا يريدون منه أن يكون منفصلًا عنهم تاركًا لسبيلهم، فإذا رأوه على الصراط المستقيم، احتالوا كل لحظة في رجوعه عنه، وجدّوا في جذبه إلى طريق المغضوب عليهم والضالين، فهو ملعبة للأهواء، وللنفس الأمارة بالسوء، وأراد الخلاص من هذا الأمر الملم به، فلم يجد مرشدًا حقيقيًا إلا مَنْ أمره

(1) أي تفسير اهدنا (ثبتنا).

ص: 42

بالاستعاذة به، والالتجاء إليه، فسأله عن كيفية التخلص قائلًا: يا من أفاض الإحسان على سائر الموجودات، إليك ألتجئ في عبادتي للتخلص ممن يريد صرفي عنها، وبك أستعين عليه. فأجاب تعالى طلبه، وقال له: قل في أكثر أحيانك: {اهدنا الصراط المستقيم} .

فكأنه يقول: إني كلما سلكت طريقًا من شأنه أن يوصلنا إلى رضاك، فوسوس لي الوسواس الخناس في العدول عنه، وزين لي غيره، فإنى ألتجئ إليك لتهديني إلى صراطك المستقيم، وحينئذ لا حاجة إلى أن يقال: إن من خصَّ الحمد بالله تعالى، وأجرى عليه الصفات المشتملة على أحوال المبدأ والمعاد وما بينهما، وحصر العبادة والاستعانة فيه كان مهتديًا، فكيف يطلب الهداية، والهدى مرجع الضال إلى ما ضل عنه.

و{الصراط} : الطريق الخطر السلوك لتشعبه، وكثرة الصادّين عنه، ولذا وصفه بـ {المستقيم} ، أي المستوي، وهو طريق الحق، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى]، وهذا تفسير للمستقيم، وقال لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153].

ولما كان السائر على صراط الله سبحانه وتعالى لابد وأن يتحمل المشاق العظيمة، وتتسلط عليه أعداء الحق بنسبة النقائص إليه زورًا وبهتانًا، كما جرى ذلك للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما يعلمه من اطلع على تاريخ حياتهم، وعلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما جرى للصحابة والعلماء الذين صدعوا بالحق، وكان من جملة الهداية إلى الطريق المستقيم إرشاد الخلق إلى الحق، وكان فيه من المشاق ما يعلمه من اطلع على سيرتهم لا جرم وصف الله تعالى الصراط المستقيم بقوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ليتأسى طالب الهداية بهم، إذا حصل له من أعدائه الضرر والرمي بالزور والبهتان، فيقول إذا أصيب بشيء: لي أسوة بالذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فيذهب عنه ما يجده من الوحشة والقلق، ويصبح نشيطًا منشرح الصدر، غير متوان عن قصده.

ص: 43

ثم إن بعض الحكماء جعل الهداية أربعة أقسام:

أولها: هداية الوجدان والإلهام الفطري، وهذه تكون للأطفال فإنهم عندما يولدون، يهديهم الله إلى الشعور بألم الحاجة إلى الغذاء، فيصرخ طالبًا الثدي بفطرته، فإذا وصل إليه امتصه والتقمه.

والثانية: هداية الحواس والمشاعر، هما من متممات الهداية الأولى في الحياة الحيوانية، وهذه يشترك فيها الإنسان والحيوان الأعجم، إلا أنها تكون للحيوانات العجم كاملة بالنسبة لاستعداده بزمن قليل، وتكون للإنسان بالتدريج في زمن غير قصير، وما ذلك إلا لأنه مستعد للوصول إلى الكمالات فلا يقف عند حد، فلذلك تزداد فيه كلما ازداد عقلًا وإدراكًا، إلا أن عقله أكثر نموًا منها، ولذلك كثيرًا ما يغلط الحس.

والثالثة: هداية العقل، وهي للإنسان، لأنه ما خلق ليعيش منفردًا، بل خلق ليعيش مجتمعًا، ولم يعط من الإلهام والوجدان ما يكفي مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية، كما أُعطي النحل والنمل، فكان كل واحد مؤديًا وظيفة العمل للجميع، ووظيفة العمل للواحد، كما هو مشاهد، فمن ثم أعطى الله الإنسان هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام، ألا وهي العقل المصحح لغلط الحواس والمشاعر، فإذا أدركت الحواس شيئًا وأخطات في إدراكها له، قام العقل حاكمًا بفساد ذلك الإدراك.

والرابعة: هداية الدين، وهي المهيمنة على الكل، لأن العقل قد يغلط أيضًا، وربما يهوي في دركات الزلل، لتسلط القوة الشهوانية عليه، وحكم العادة عليه أيضًا، فإذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل، وصار العقل رفيقًا للحظوظ استنبط لها أنواع الحيل، واسترسل في ذلك استرسالًا يمنع الإنسان من أن يعيش سعيدًا، لأن هذه الحظوظ والأهواء ليس لها حدّ تقف عنده، ولا يمكن صاحبها أن يعيش منفردًا، فتستطيل يده بالتعدي على مال غيره وعلى نفسه، فتحصل المدافعة والمجادلة، والمواثبة، والحروب، والسلب والنهب، حتى يكاد الجنس

ص: 44

البشري يفني بعضه بعضًا، ولا تغني عنهم هدايات الوجدان والحواس شيئًا، فاحتاجوا إلى هداية ترشدهم في ظلمات أهوائهم إذا غلبت على عقولهم، وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها، ويكفوا أيديهم عما وراءها. ثم إن مما أُودع في غرائز الإنسان، الشعور بسلطة غيبية متسلطة على الأكوان، ينسب إليها كل ما لا يعرف له سببًا، لأنها هي الواهبة كل موجود ما به قوام وجوده، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، فهل يستطيع أن يصل بتلك الهدايات الثلاث إلى تحديد ما يجب عليه لصاحب تلك السلطة الذي خلقه وسواه، ووهبه هذه الهدايات وغيرها، وما فيه سعادته من تلك الحياة الثانية؟ كلا إنه في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة التي هي الدين؛ وقد منحه الله تعالى إياها.

وبقي بعد هذا هداية خامسة، وهي الإعانة والتوفيق، والسير في طريق مع الهداية الرابعة التي هي الدلالة، وهي بمنزلة إيقاف الإِنسان على رأس الطريقين: المهلك والمنجي، مع بيان ما يؤدي كل منهما إليه.

ولما كان العبد محتاجًا إلى تلك المعونة في كل وقت، احتاج أن يطلبها دائمًا من حضرة مفيضها، قائلًا:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} وتقدم أن المقصود من الصراط الأول، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء، والصديقين، وهذا الصراط وإن كان معناه مجملًا في الفاتحة، فهو مفسر في القرآن لمن تدبر معناه، بأن نتتبع تاريخ الأمم السابقة وننظر في أحوالها، فنعلم أسباب سعادتها فنتمسك بها، ونعلم أسباب شقاوتها، ودمارها، وفنائها، فنتباعد عنها لئلا يصيبنا ما أصابهم، وإلى هذا المعنى الإشارة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على ديار قوم ثمود أسرع وقال:"لا تمروا على هؤلاء القوم إلا وأنتم باكون" فليس الأمر بالبكاء للحزن عليهم، ولكن مخافة أن نسلك مسالكهم فيصيبنا ما أصابهم.

وحذف المنعَمَ به لحكمة بينها بقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18].

وإذا نظرنا إلى تفصيل هذا المجمل في أوائل سورة "البقرة"، تبين لنا أن الذين أنعم الله عليهم، هم: المتقون الموصوفون بالصفات المعلومة، وأن {المغضوب

ص: 45

عليهم} هم المشار إليهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) الآيتين، وأن {الضالين} هم المشار إليهم بقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) الآيات؛ وذلك لأنهم ضلوا الطريق، فلا يعرفون كيف يسيرون، والمغضوب عليهم ساروا على الطريق المعوج، وهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18 و 171]، لم تنفعهم هداية الحواس شيئًا، ولم يريدوا هداية الدين، فخرجوا عن الحق مع العلم به، ورفضوا اتباعه ولم يتقبلوه انصرافًا عن الدليل، وساروا بسير الأسلاف وإن كانوا على غير هدى، فعمهم الله بآثار غضبه التي هي العقوبة والانتقام.

وأما الضالون فكانوا مع هؤلاء، ومع هؤلاء، أي:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143].

وفي الآية إشارة إلى أن طريق المنعم عليهم واحد، منذ أرسل الله الرسل، إلى يوم القيامة كما قال تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]: وأن طريق غيرهم متشعب متعدد كما قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وقيل: {المغضوب عليهم} ، هم: الذين ظهرت منهم المراغمة، وتعمد المخالفة الموجب للغضب من الأعلى، والبغض من الأدنى، و {الضالين}: الذين وُجّهوا وجهة هدى، فراغوا عنها من غير تعمد لذلك.

وقول: "آمين" مأخوذة من الأمين، مدلولها أن المدعوّ مأمون منه أن يرد من دعاه، لأنه لا يعجزه شيء ولا يمنعه، وهي لا تصلح إلا لله، لأن ما دونه لا ينفك عن عجز أو منع.

(1) سورة البقرة وتمامها: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} .

(2)

سورة البقرة وتمامها: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} .

ص: 46