المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معنى الاستهزاء - تفسير ابن بدران = جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار

[ابن بدران]

الفصل: ‌ معنى الاستهزاء

{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} .

الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزئ للمستهزأ به، من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرًا، وهو بذلك من قوله وفعله، مورثه مساءةً باطنًا، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر، وحيث إن هذا‌

‌ معنى الاستهزاء

، وكان الله تعالى قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام، بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالله ورسوله، وبما جاء به من عند الله المدخل لهم في عداد من يشمله اسم الإسلام، وإن كانوا مستبطنين خلاف ذلك، منطوية ضمائرهم على خلاف ما عليه أهل الإيمان الصحيح، مع علم الله تعالى بكذبهم، وإطلاعه على خبث اعتقادهم، وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم، أنهم به مصدقون، حتى ظنوا أنهم يحشرون في الآخرة في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا، وأنهم واردون موردهم وداخلون مدخلهم، والله تعالى، مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام التي ألحقتهم بالمؤمنين، جعل تمييزًا بينهم وبين أوليائه، وتفريقًا بينهم وبينهم، وأعد لهم في الآخرة من العقاب والنكال ما أعده لأعدى أعدائه، وأشر عباده، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار، ثم هم فيه لا يجدون وليًا ولا نصيرًا، كما كانوا يجدون ذلك في الدنيا، وأعد لهم في الدنيا نكالًا خفيًا، وهو أنهم لا يزالون في حسرة وحزن واتقاد نار الحسد في قلوبهم، يزداد ذلك بازدياد فوز المؤمنين على أعدائهم، وبإعلاء كلمة الإيمان، ويتجدد بذلك تجددًا لا يرجى انقاطعه، وما فعله بهم، وإن كان مجازاة لهم على أفعالهم، فإنه منه سبحانه وتعالى عدل، لاستحقاقهم إياه بعصيانهم له، وكان بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم، من إلحاقه أحكامهم في الدنيا باحكام أوليائه، وهم له أعداء، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين، وهم به من المكذبين، إلى أن ميز بينهم وبينهم مستهزئًا وساخرًا، ولهم خادعًا وبهم ماكرًا، إذ كان معنى الاستهزاء، والسخرية، والمكر والخديعة، ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء، وروى أبو جعفر الطبري عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى:{الله يستهزئ بهم} ، قال: يسخر منهم للنقمة منهم.

ص: 79

ومعنى {يمدهم} : يزيدهم، ويملي لهم ويتركهم {في طغيانهم} ، أي: في ضلالهم وكفرهم، وتجاوز الحد في ذلك {يعمهون} ، أي: يترددون حيارى (1) ضلالًا لا يجدون إلى المخرج سبيلًا، قد طبع الله على قلوبهم، وختم عليها فأعمى أبصارهم عن الهدى، وأغشاها فلا يبصرون رشدًا، ولا يهتدون سبيلًا، فقوله:{يمدهم} ، مضارع "مَدَّ" الجيش، وأمده إذا زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره، و"الطغيان": الغلو في الكفر، ومجاوزة الحد في العتو، ومعنى {يعمهون} يتخبطون تخبط الذي لا بصيرة له أصلًا، مأخذوة من العمه، وهو: انبهام الأمور التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس، فلا يبقى لصاحبه سبب يرجعه عن طغيانه، فلا يتعدى حدًا إلا عَمِهَ، فلم يرجع عنه، فهو أبدًا متزايد الطغيان. ولما تقرر ذلك كله كانت فذلكته بدون توقف:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} .

إن قال قائل: كيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى، وقد كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم التي استبدلوها منه، والشراء اعتياض شيء، ببذل شيء مكانه عوضًا منه، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، ألم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟ أجيب بما روي عن ابن عباس وابن مسعود، أنهما قالا: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وذلك أن كل كافر بالله مستبدل بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفر الذي وجد منه، بدلًا من الإيمان الذي أمر به، لأن كل مشتر شيئًا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلًا منه، فكذلك المنافق والكافر، استبدلا بالهدى، الضلالة والنفاق، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} [البقرة: 108] فأضل الله أولئك وسلبهم نور الهدى، فترك جميعهم {فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]، فخسروا بذلك، {فما ريحت تجارتهم} ، لأن

(1) الأصل (حيالًا) والتصويب من تفسير ابن كثير.

ص: 80

الرابح من التجار، هو: المستبدل من سلعته المملوكة عليه بدلًا هو أنفس من سلعته التي هي بضاعته، أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعه به، فأما المستبدل من سلعته بدلًا دونها، ودون الثمن الذي يبتاعها به، فهو الخاسر في تجارته لا شك، فكذلك الكافر والمنافق لأنهما اختارا الحيرة والعمى، على الرشاد والهدى، والخوف والرعب على الحفظ والأمن، فاستبدلا في العاجل، بالرشاد الحيرة، وبالهدى الضلالة، وبالحفظ الخوف، وبالأمن الرعب؛ مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب، وشديد العذاب، فخابا وخسرا، ذلك هو الخسران المبين، استبدلوا الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، بالضلال، فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة.

فإن قلت: كيف أسند عدم الربح إلى التجارة، وإنما هو لأصحابها لا لها.

قيل: هو من الإسناد المجازي، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كما تلبست التجارة بالمشترين، وذلك أن الله تعالى خاطب عربًا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم، مسلك خطاب بعضهم بعضًا، وبيانهم المستعمل بينهم، وأنت إذا تأملت الكتاب العزيز، وجدته سالكًا هذا الأسلوب البديع من التعبير بالحقيقة، حيث تكون البلاغة في جانبها، وبالمجاز حيث تكون البلاغة في جانبه، وبالأوصاف التي تعرفها العرب، كما في أوصاف الجنة، من أن فيها: فاكهة ونخلًا ورمانًا، والنار من أن فيها سلاسل، وأغلالًا وسعيرًا، وإن كانت حقيقة ما فيهما وراء ذلك، وما هو إلا وصف للشيء بما يقربه إلى العقول، وهذه القاعدة تنفع في كثير من تفسير الكتاب العزيز.

وقوله: {وما كانوا مهتدين} ، معناه: أنهم ما كانوا رشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى، واستبدالهم الكفر بالإيمان، واشترائهم النفاق بالإقرار والتصديق، فلم يهتدوا لطرق التجارة، كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.

تلك أوصاف المنافقين، قصها الله علينا لنعتبر بها، ونعلم أن كل من خادع في شرع الله وفي دينه، مندرج مع أولئك خاسر في تجارته، وغير مهتد إلى

ص: 81

السلوك في طريق الحق، كل من أظهر التقى والصلاح، ليوقع الناس في شباك مكره وحيلته، وكل من دلس عليهم، يبتغي الاستفادة من أموالهم سفهًا وظلمًا، فذلك خاسر في تجارته، غير مهتد إلى سواء، متصف بأوصاف المنافقين، أولئك الذين كانوا يقفون عقبة، أمام ترقي النوع الإنساني ليستفيدوا جر مغنم خاص إليهم، ولا يبالون بهلاك غيرهم، لأن الشرائع لم تأتِ إلى البشرية لترقي ذلك النوع، وتفيض عليه أنواع العلوم بخالقه، وبما يرشده إلى سلوك سبيل الهدى في معاشه ومعاده، ليكون سعيدًا في الدارين.

فإذا صادمها مصادم، أو صادَّها صاد، كان خارجًا عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، فوجه الله اللوم إليه وغمره بعظيم عقابه، وخيب مساعيه، وكان مثله ومثل من هم على شاكلته، كما أخبر تعالى بقوله:

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} .

ضرب الأمثال في الكلام نوع عال من أنواع البلاغة، وكلما كان المثل مطابقًا لمقتضى الحال، ارتقى الكلام رتبة في درجات البلاغة، لأن الأمثال تؤثر في القلوب، ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، لما فيها من تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقًا للعقل، ألا ترى أن الإيمان، إذا مُثل بالنور، يتأكد وقوعه في القلب، تأكدًا لا يكون كذلك إذا ذكر مجردًا بدون تشبيه؟ وأن الكفر إذا ذكر مجردًا عن التمثيل لم ينفر القلب منه، مثل نفرته عنه إذا شبه بالظلمة؟ ولا تتأكد النفرة مثل تأكدها إذا مثل بها؟ ولهذا مثل تعالى حالة المنافقين في تحيرهم وتلاعبهم، وما هم عليه من الأحوال العجيبة الشأن بحالة الذي استوقد نارًا، ولما كانوا بأجمعهم متفقين على حالة واحدة، ومسلك واحد من النفاق، وسالكين قانونًا واحدًا لا يتجاوزونه، عُدَّ فعلهم كانه فعل رجل واحد منهم، فمثل بحالة شخص استوقد نارًا، وهو نوع من البلاغة يعد في طبقة الإعجاز، وأشار إلى ذلك بقوله:{مثلهم} فكان المعنى: أن مثلهم في أفعالهم، وأحوالهم التي وإن تعدد الفاعلون لها كانت لاتفاقهم عليها،

ص: 82

كفعل رجل واحد، {كمثل الذي استوقد نارًا} ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهبها، و {استوقد} بمعنى أوقد كما قال الشاعر:

وداعٍ دعا يا من يُجيب إلى النَّدى

فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مجيبُ (1)

يريد: فلم يجبه، وهذا المسلك الذي سلكناه أولى ببلاغة الكتاب العزيز، وبعض المفسرين سلك في الآية مسلكًا، ارتكب به نقل الكلمة عن معناها الذي هو الأغلب في استعمال العرب إلى غيره، من غير حجة ولا برهان، ولا موجب يقتضي ذلك، فجعل {الذي} بمعنى "الذين"، ولم يدر أن التشبيه إذا كان للذوات لزم تشبيه المتعدد بالمتعدد، فتقول: كأن أجسام هؤلاء النخل، ولا تقول كأن أجسامهم النخلة، وإذا كان التشبيه للأخلاق والأفعال، كان الأفصح تشبيه أخلاق الجماعة أو أفعالهم بالواحد، كما أشرنا إليه، فتقول: إن أخلاق هؤلاء كطعم الحنظلة، وإن فعلهم كمثل الذي اقتدى بفرعون.

وأما النار فعلى مصطلح أهل اللغة هي: جوهر لطيف، مضيء حار محرق والنور ضوؤها وضوء كل نير، وهو نقيض الظلمة، واصطلح الحكماء على أن الضوء: ما يكون للشيء لذاته، كما للشمس، والنور: ما يكون من غيره، كما للقمر، فإن نوره مستفاد من نور الشمس، وهذا مما يشهد له الكتاب العزيز في قوله تعالى:{جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] وفي قوله: {فلما أضاءت ما حوله} لأن ضوء النار ما يكون لها لذاتها، والمعنى: أن ذلك المستوقد لما أوقد النار، وأراد أن ينتفع بضوئها في إبصار ما يريد إبصاره، {ذهب الله} الذي له كمال العلم والقدرة {بنورهم} المستفاد من النار، ولا نور لهم سواه، {وتركهم} أي: صيرهم {في ظلمات لا يبصرون} يخبطون في ظلمة، ويتورطون في حيرة، وما أصعب سلب الشيء بعد الوصول إليه، وأسند تعالى الإضاءة إلى النار، على سبيل المجاز العقلي على نمط أنبت

(1) والبيت لكعب بن سعد الغنوي، وهو من قصيدة أصمعية جيدة، يرثي بها أخاه أبا المغوار، قال الأصمعي: ليس في الدنيا مثلها. ينظر "زاد المسير في علم التفسير" 1/ 189، 504. طبع المكتب الإسلامي. وسيكرره المصنف عند تفسيره الآية 186 من سورة البقرة.

ص: 83

الربيع البقل، ثم بيّن بقوله:{ذهب الله بنورهم} ، أنه هو الفعال المطلق، والقادر الذي لا يعجزه شيء، إن شاء سلب الأشياء خصائصها، والملزومات لوازمها، فيسلب النار ضوءها إذا شاء، ويهبها إياه إذا أراد.

لما فرغ من المثل، كشف المراد بظلماتهم، بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير، الناشئ عن عدم الإدراك، الناشئ عن عمى البصائر، وفساد الضمائر والسرائر، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار، وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادّكار، فقال:

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} .

هذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين، أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين؛ بل هم {صم} عن السماع النافع الموصل إليهما، فلا يسمعون بها لغلبة خذلان الله عليهم، {بكم} عن النطق بهما، فلا ينطقون بهما لأن قلوبهم مختوم عليها، فلا ينبعث منها خير تقذفه إلى الألسنة؛ والبكم الخرس، وهو جمع أبكم. {عمي} عن أن يبصروهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون، وقد سبق لي أثناء الكلام على تفسير هذه الآية في الدرس، أن قلت: إن السمع والبصر ينقسمان إلى قسمين؛ الأول: سمع وبصر طبيعيان موجودان من أصل الخلقة والفطرة، وهذان يشترك فيهما جميع الحيوانات إلا النادر؛ والثاني: سمع وبصر موهوبان من الله تعالى، وبهما يطلع صاحبهما على أسرار الكون واستجلاء الحقائق، ولهما مَعين، وهو الفكر المستنير بنور من الله تعالى، المستمد من حكمة آثار الكون وعجائبه بواسطة البصر، ومن كلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بواسطة السمع.

فإذا اهتدت النفس الناطقة، بسبب هذه الثلاثة، انطلق اللسان بالحق، وأنبأ عن تفجر ينابيع الحكمة في القلب، وإلا أصبح اللسان أبكم عن النطق بتلك المواهب، والأعين عميًا عن رؤية الآثار الإلهية في الكون، والآذان صمًّا عن سماع كلام الأنبياء، وحكمة الحكماء.

فالمنافقون وإن وُهبوا القسم الأول فإنهم لم يوهبوا القسم الثاني، كما أخبر

ص: 84

تعالى عنهم بذلك، وجعله علة لعدم رجوعهم عن غيِّهم وضلالهم، وإلى هذا الإشارة يقول ابن عباس، فيما رواه عنه ابن جرير، حيث قال: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه، ولا يعقلونه.

ثم رأيت للحافظ شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية، في كتابه "مفتاح دار السعادة" عند الكلام على قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] كلامًا من هذا الموضوع حسنًا، وذلك أنه قال: وبصائر الناس في نور القرآن الباهر تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: مَنْ عُدِم بصيرة الإيمان جملة، فهو لا يرى من محاسن هذا الدين إلا الظلمات والرعد والبرق، فهو يجعل أصبعيه في أذنيه من الصواعق، ويده على عينيه من البرق، خشية أن يخطف بصره، ولا يجاوز نظره ما وراء ذلك من الرحمة، وأسباب الحياة الأبدية، فهذا القسم هو الذي لم يرفع بهذا الدين رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي هدى به عباده، ولو جاءته كل آية، لأنه ممن سبقت له الشقاوة، وحقت عليه الكلمة، ففائدة إنذار هذا إقامة الحجة عليه، ليعذب بذنبه، لا بمجرد علم الله فيه.

القسم الثاني: أصحاب البصيرة الضعيفة الخفاشية، الذين نسبة أبصارهم إلى نور الشريعة الغراء، كنسبة أبصار الخفاش إلى جرم الشمس، فهم تبع لآبائهم وأسلافهم، دينهم دين العادة والمنشأ، وهم الذين قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:"أو منقادًا للحق لا بصيرة له في إصابة" فهؤلاء إذا كانوا منقادين لأهل البصائر، لا يتخالجهم شك ولا ريب، فهم على سبيل النجاة.

القسم الثالث: وهم خلاصة الوجود، ولباب بني آدم، وهم أولو البصائر النافذة، الذين شهدت بصائرهم نور الحق المبين، فكانوا منه على بصيرة ويقين، ومشاهدة لحسنه وكماله، بحيث لو عرض على عقولهم ضده لرأوه كالليل البهيم الأسود، وهذا هو المحك والفرقان بينهم وبين الذين قبلهم، فإن أولئك بحسب داعيهم، ومن يقرن بهم، كما قال فيهم علي بن أبي طالب:"أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق"،

ص: 85

وهذا علامة عدم البصيرة، فإنك تراه يستحسن الشيء وضده، ويمدح الشيء ويذمه بعينه، إذا جاء في قالب لا يعرفه، فيعظم طاعة الرسول ويرى عظيمًا مخالفته، ثم هو من أشد الناس مخالفة له، ونفيًا لما أثبته، ومعاداة للقائمين بسنته، وهذا من عدم البصيرة؛ ثم قال: وتحت كل من هذه الأقسام أنواع لا يحصي مقادير تفاوتها إلا الله، قال بعض السلف: وما أوتي أحد أفضل من بصيرة في دين الله، وكان بعض السلف الصالح يقول عن الدين الإسلامي:"يا له من دين لو أن له رجالًا".

ثم إنه تعالى، أخبر عن القوم، بأنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بالهدى، إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق من غير حصر منه جل ذكره، من حالهم إلى وقت دون وقت، وحال دون حال، فقال:{فهم لا يرجعون} ، أي: لا يقلعون عن ضلالتهم، ولا يثوبون إلى الإنابة من نفاقهم، فأيس المسلمون من أن يبين هؤلاء رشدًا، ويقولوا حقًا، أو يسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب والمشركين، وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وغشي على أبصارهم.

ثم ضرب لهم مثلًا آخر في سماعهم القرآن فقال:

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} .

التمثيل الأول والثاني، من جملة تشبيه هيئة بهيئة، دون تشبيه مفرد بمفرد، والتمثيلات المركبة أبلغ من التمثيلات المفردة، وذلك لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها، فإنك إذا تصورت حال من أخذهم الصيب، وهو المطر النازل المنحدر المدرار، في ليلة أرخت سدولها وتكاثفت ظلماتها، بما تراكم بها من السحب، وصارت قطراتها منتسجة مع بعضها بعضًا، وتواترت فيها الرعود الهائلة، والبروق المخيفة، والصواعق المختلفة

ص: 86

المهلكة، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت، حصل في نفسك هيئة عجيبة، توصلك إلى معرفة حال المنافقين، على وجه يتقاصر عنه تشبيهك الدين بالصيب، والشبهات بالظلمات، والرعد والبرق، بالوعد والوعيد، والتكاليف الشاقة. قال السكاكي:"كلما كان التركيب خياليًا أو عقليًا، من أمور أكثر، كان حاله في البعد والغرابة أقوى"، والتمثيل في هذه الآية أدل على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته من التمثيل الأول، جريًا على قوانين البلاغة في التدرج في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ، وإنما أردف الصيب بقوله:{من السماء} ، وهو لا يكون إلا من جهتها، لأنه لما صح إطلاق لفظ سماء على كل ناحية وأفق منها، جيء بها هنا معرفة باللام لتفيد العموم، ويدل على أنه غمام مطبق أخذ بآفاق السماء، ولو نكرت لجاز أن يكون الصيب من بعض الآفاق، لأن كل أفق من آفاقها سماء، ولما كان قوله:{أو كصيب} ، معطوفًا على ما قبله، حذف لفظ المثل إيجازًا واختصارًا، والتقدير: أو كمثل صيب، أي: ذوي صيب نازل {من السماء فيه ظلمات} ، جمع ظلمة؛ والسحاب إذا كان أسود مطبقًا، فظلماته: سواده وتطبيقه، مضمومة إليهما ظلمة الليل، والمطر إذا تكاثف كانت له ظلمة، ويزيدها تهطاله وانسجامه بتتابع القطر، وتشتد بإظلال الغمامة مع ظلمة الليل، ولهذا أتى بلفظ الظلمات بالجمع.

ص: 87

الرّعد وَالبرق وَالصّوَاعِق

وأما الرعد والبرق، فليس في هذه الآية إشارة إلى أن منشأهما من أي شيء، غاية الأمر أنهما وقعا في تركيب التشبيه، فكان من اللازم أن نلوي عنان البحث عن الكلام عليهما؛ وعن الصواعق أيضًا، بل كان من اللائق أن لا نفسر شيئًا من ألفاظها، لأن أحدًا يعلم اللغة العربية لا يجهلها؛ غير أن المفسرين استطردوا هنا ذكر أسبابها بحسب ما لاح لهم، فلزمنا أن نذكر منها شيئًا، وإن كان سيأتي في كتابنا هذا أكثر مما ذكرناه، فنقول:

تكلم الناس قديمًا وحديثًا على السبب الذي فيه البرق والرعد، والصواعق كلامًا كثيرًا، وأطالوا في الأدلة وأخذ كل متأخر ينقض قول من تقدمه إلى يومنا.

وسيجيء قوم ينقضون جميع ما ذكره القوم من الأدلة، ويظهر لهم غير ما نحن عليه اليوم، وما ذلك إلا لأن علام الغيوب هو المظهر لما في الكائنات، ولا يمكن لمخلوق أن يطلع على حقيقة الموجودات، وأن يعلمها علمًا يقينيًا لا يقبل النقض بحال من الأحوال، ويعلم ما قلناه مسلمًا به، من يطالع كتب الحكماء، فإنه يرى كثرة اختلافهم في أسباب الأمور المشهودة، واستدراك المتأخر منهم على المتقدم، ونقض أدلته وزعمه أن السبب غير ما ذكره مَنْ سلف، أو أن السبب المذكور غير تام السببية، وغير ذلك مما يدل على أن أقوالهم رجم بالغيب.

وإليك نموذجًا من ذلك:

ذكر المتقدمون من المفسرين، كابن جرير الطبري، وأضرابه، ومتابعيه:

"أن الرعد ملك يزجر السحاب بصوته".

وروي عن ابن عباس، ومجاهد: أنه ملك موكل بالسحاب، يسوقه كما

ص: 88

يسوق الحادي الإبل، يسبح كلما خالفت سحابة أختها صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه (1)، فهي الصواعق التي رأيتم (2).

وروي عن ابن عباس، أن الصواعق تخرج من اصطكاك السحاب بعضه ببعض.

وقال بعض من المفسرين الأقدمين: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب، فتتصاعد فيكون منه ذلك الصوت.

وأما البرق، فروى ابن جرير عن علي بن أبي طالب أنه قال:"إنه مخاريق الملائكة"(3) وقال آخرون: إنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب، وهو مروي عن ابن عباس؛ وقال أبو الجَلْد: هو ماء، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا شك بأنها مأخذوة عن الإسرائيليات.

وأما غير هؤلاء فلهم مذاهب شتى، فذهب بعض المتقدمين إلى أن البرق شعاع الشمس يحتبس في السحاب، أو أنه قطعة من نار الأثير تختنق فيه، وقيل هو عكس شعاعي، وقيل: لما خلق الله السائل الذي تكونت منه الأرض، جعل منه عنصرًا شعاعيًا ناريًا سيالًا في غاية اللطافة، منتشرًا في جميع الأجسام بمقادير مختلفة، وله أوصاف وألوان كأوصاف الشمس وألوانها، وتنشا عنه أمور عجيبة، وسبب تكون هذا السائل ينشأ دائمًا على سطوح البحار الواسعة، المتأثرة دائمًا بأشعة الشمس، ومن ذلك التأثر ينشأ هذا السائل، ويصعد إلى الجو من غير انقطاع، كما أن البخار يتصاعد من غير انقطاع.

وهذا يشبه ما ذكره أهل عصرنا من أن سببَ البرقِ الكهربائيةُ السارية في السحاب، ونحن بحسب ما عرفناه اليوم، يمكن أن يكون هذا القول صحيحًا، اللهم إلا أن يأتي بعدنا أو في زمننا قوم يكتشفون خلاف هذا، فإن هذه الفنون

(1) فيه: أي فمه.

(2)

الأصل (ترى) والتصحيح من الطبري.

(3)

إنّ مثل هذا القول لا نظن صحته منسويًا لسيدنا علي- رضي الله عنه ولا هو مما يدرك إلا من قول الله جلّ وعلا، أو قول المعصوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 89

سائرة إلى الأمام، ولقد شاهدنا الشرر الكهربائي ليلًا من سلك في بيروت ونحن في جبل لبنان، فرأينا لا فرق بينه وبين البرق بوجه من الوجوه، إلا بالعلو والسفل، وهذا يتبين بما قاله الحكماء المتأخرون من أن الكهربائية موجودة في كل شيء بلا فرق، بين السحاب وغيره، فإذا تقاربت سحابتان كهربائيتان، إحداهما مثبتة والأخرى منفية (1)، لم يقو الهواء على الفصل بينهما تجاذبتا حتى تصيرا على بعد محدود، فتقدم كل واحدة منهما إلى الأخرى بشدة، فيظهر منهما نور هو البرق، ويسمع بعده دوي هو الرعد، فإن قوي الهواء على الفصل بينهما، وقاربت السحب من الأرض انقضت الشرارة الكهربائية أحيانًا منهما، فتنزل صاعقة تهلك ما تصيبه.

وبالجملة فإن هذا من فعل القادر المختار، ومن آثار قدرته الباهرة سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق} ، جوابٌ عما عسى قائل يقول:

كيف حالهم مع مثل ذلك البرق والرعد والظلمات؟ .

فقيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم، أي: أناملهم، فأطلق الكل وأراد البعض، على سبيل الاتساعات في اللغة، وفي ذكر الأصابع من المبالغة ما لا يوجد في الأنامل، و {من الصواعق} متعلق بـ {يجعلون} ، أي: من أجل الصواعق، و {حذر الموت} ، مفعول له للجعل المعلل بقوله:{من الصواعق} وقوله: {والله محيط بالكافرين} ، جملة اعتراضية، فائدتها التنبيه على أن الحذر من الموت لا يفيد، وإنما قال:{محيط بالكافرين} ، مع أن المقام للضمير، فكان حق المقال أن يقال: والله محيط بهم، للدلالة على أن المشبه حالهم بحال أصحاب الصيّب كفار، ليظهر استحقاقهم شدة الأمر عليهم، وإحاطة الله بالكافرين، مجاز شبه شمول قدرته تعالى إياهم، بإحاطة المحيط بما أحاط به، في امتناع الفوات، على سبيل الاستعارة التبعية، في الصفة التي هي محيط سارية إليها من مصدرها، ويصح أن يكون على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن شبه حاله تعالى

(1) المعبر عنه بالسالب والموجب.

ص: 90

معهم، بحال المحيط مع المحوط، أي: شبه هيئة منتزعة من عدة أمور، بهيئة مثلها، وحينئذ لا تصرف في شيء من ألفاظ مفرداتها، إلا أنه لم يصرح ههنا إلا بلفظ ما هو العمدة في الهيئة المشبه بها، أعني: الإحاطة، والبواقي من الألفاظ منوية في الإدارة.

ثم استأنف تعالى الحديث عن بقية حالهم فقال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ، بكسر الطاء، والفتح أفصح، والخطف الآخذ بسرعة.

ولما كان من المعلوم أن البرق ينقضي لمعانه بسرعة، كان كأنه قيل: ماذا يصنعون عند ذلك؟ ، فقال:

{كلما} أضاء لهم، الآية، وهذا من تمام التمثيل لشدة الأمر على المنافقين، بشدته على أصحاب الصيب، وما هم فيه من غاية التحير، والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا من البرق لمعانًا، مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا ذلك اللمعان فرصة، فخطوا خطوات يسيرة، لأن زمان اللمعان قصير جدًا، فإذا خفي لمعانه وفتر، بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء الله لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وأعماهم.

وفي جملة {لو شاء الله} حذف، والتقدير: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، وقد تكاثر هذا الحذف في:"شاء" و"أراد"، لا يكادون يبرزون المفعول، إلا في الشيء المستغرب، كما في قول الشاعر (1):

ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته

عليه ولكن ساحةُ الصبر أوسَعُ

ثم إنه تعالى لما حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم بأنه محيط بهم وقدير على إذهاب أسماعهم وأبصارهم، وصف نفسه بالقدرة على كل شيء، بقوله:{إن الله على كل شيء قدير} ، أي: إن الله على كل شيء يصح أن تقع عليه المشيئة، قدير بقدرة لا تتقيد بالأسباب.

وهنا مباحث للمتكلمين من المعتزلة والأشعرية، وخلاف بينهم، في أن

(1) لإسحاق بن حسان الخُرَيمي كما في "الكامل"1362.

ص: 91

الشيء هل يتناول الموجود والمعدوم، كما ذهب إليه المعتزلة؟ أو: لا يتناول إلا الموجود؟ على معنى أن القدرة تتعلق بإيجاده.

وكلا البحثين محلهما كتب الكلام، ومسلكنا أن كل ما تعلق قدرة الباري تعالى بإيجاده، ظهر من عالم الخفاء، إلى عالم الوجود، فهو تعالى الفاعل المختار.

وليعلم: أن الله تعالى بسط في أوائل هذه السورة أحوال المنافقين، وضرب لهم الأمثال، ليظهر المعقول في صورة المحسوس، ليعلمنا بأنهم لما أضربوا عن سماع الحق، وعن النطق به، وعموا عن رؤية النور الباهر والبرهان الساطع، أمسوا في حيرة وجزع، ولم ينفعهم التملق ولا شقشقة اللسان بالقول بأنهم من أهل الإيمان، وليست هذه الإخبارات مقصورة على الذين كانوا حين نزول القرآن، بل هي غاية لكل من كان على صفتهم، وحذا حذوهم، وأخلد إلى التقليد المحض، ولم يفرض ما فهمه على كتاب الله، وعلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا حدقت ببصيرتك رأيت جمًا غفيرًا من تلك الطائفة، في كل زمان ومكان، وعلمت أن القول بوجوب التقليد لمن قال واجب، ولا يليق عرضه على هذين الأصلين قول بأن العلم لا يمكن أن يعلم، وبأن الوصول إلى حقائق الأحكام، تعلقت قدرة الله تعالى بإفاضته على المتقدمين، ثم صار من بعدهم مستحيلًا، يمتنع تعلق قدرة الله به، والقرآن يناديهم فلا يسمعون، ويتلونه ولا يفهمون، كلما سمعوا نداءه كان الوقر في آذانهم، وكلما أضاءت لهم إضاءة توافق مشربهم مشوا، فتأتي آية بعدها تقبح أفعالهم، فيقفون حائرين {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق} {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170] وأعظم من هذا، أن يقرؤوا {إن الله على كل شيء قدير} ، ثم يصرحون بمقالتهم التي ينحل معناها إلى دعواهم، أن خزائن المواهب العلمية الإلهية، كانت ملأى في أيام المتقدمين، ثم نضب ماؤها وفرغت، فلم يبق بها شيء يفيض منه على المتأخرين، وكل ذلك كفر صريح ودخول في عداد المنافقين، الذين بين تعالى أحوالهم في هذه الآيات.

ص: 92

ولما عدد الله فرق المكلفين من المؤمنين، والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم، ومصارف أمورهم وما اختصت به كل فرقة، مما يسعدها، ويشقيها ويحظيها، عند الله تعالى، ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، ليرشدهم إلى الطريقة الحميدة في مجاري الأمور، وليستووا على جادة السداد في المصادر والموارد، فقال:

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} .

أمرهم بالخضوع له بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة، وإفراد الربوبية له والعبادة، دون الأصنام والأوثان والآلهة، لأنه جلّ ذكره هو خالقهم، وخالق من قبلهم من آبائهم، وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، والقادر على نفعهم وضرهم فهو أولى بالطاعة ممن لا يقدر لهم على نفع، ولا ضر، {لعلكم تتقون} بعبادتكم {ربكم الذي خلقكم} ، وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، وإفرادكم له بالعبادة لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل عليكم، وتكونوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.

والإشارة في الآية إلى ما كأنه تعالى يقول: جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أيها المنادي أولًا، ثم إني الآن أزيد في إكرامك وتقريبك، فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة.

وأتى بـ {يا} التي هي في الأصل حرف وضع لنداء البعيد، تنزيلًا لمن ناداهم منزلة الساهي والغافل، وإعلامًا بأن الخطاب الذي يتلوه معني به غاية العناية، لأنهم لو فطنوا إلى أن الله هو الذي خلقهم والذين من قبلهم، وجعل لهم الأرض فراشًا إلى غير ذلك مما هو مذكور، لم يكن لهم نفس تطيعهم على البقاء على حالتهم التي وصفها تعالى في الآيات السابقة، ولهذا تجد كل ما نادى الله له عباده، من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك مما نطق به كتابه، أمورًا عظامًا، وخطوبًا جسامًا، ومعاني عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون.

فاقتضى الحال أن ينادوا مناداة الساهي الغافل، ليستيقظوا من رقدة غفلتهم، ويتنبهوا لما نودوا لأجله.

ص: 93

ولما كان المشركون يعتقدون ربوبيتين، ربوبية الله، وربوبية آلهتهم، وكان لفظ الرب يشترك فيه الربوبيتان، على نحو ما كانوا يزعمونه، وصفه بقوله:{الذي خلقكم} ، أي: اعبدوا الرب الحقيقي، الذي خلقكم، فإن ما سواه ليس بخالق فلا يستحق العبادة، وجملة {لعلكم تتقون} ، حال من فاعل {خلقكم} ، والمعنى: اعبدوا ربكم طالبًا منكم التقوى، ويصح أن تكون حالًا من المفعول، وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين، لأنهم المأمورون بالعبادة، والمعنى: خلقكم وإياهم مطلوبًا منكم التقوى.

والأوجه عندي: أن تكون الجملة علة لما قبلها.

ومعنى {لعل} هنا التعليل، وهذا المعنى أثبته لها جماعة، منهم الأخفش، والكسائي، وحملوا عليه قوله تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 44] وإنما أثبتنا هذا لأن المفهوم من الآية أن خلقهم على تلك الحال في معنى: خلقهم لأجل التقوى، كأنه تعالى يقول: أنتم تعبدون الأوثان والأصنام، والنجوم وغيرهم من المعبودات، لتقربكم إلينا زلفى، وتجعلونهم واسطة، كأن أبواب الرحمة عليها حارس لا يدخل إلا الأفراد، وأن ما تعبدونهم لا يدفعون عن أنفسهم ضرًا، ولا يجلبون لها نفعًا، فكيف ينفعون غيرهم؛ أو يضرونهم، وحيث أنكم عبدتموهم لعلة الواسطة، فانظروا إلى الحقيقة الأصلية، فاعبدوا الذي خلقكم وخلق أسلافكم، وأصنامكم، لأجل هذه القدرة الباهرة، والحكمة العظيمة، ولما كانت التقوى قصارى أمر العابد، ومنتهى جهده قال هنا:{لعلكم تتقون} ، لأن التقوى إذا لزمتهم كان ما هو أدنى منها أكرم، والإتيان به أهون.

ثم اعلم أن الآية الكريمة مع كونها بعبارتها ناطقة بوجوب توحيده تعالى، وتحتم عبادته على كافة الناس، مرشدة لهم بطريق الإشارة، إلى أن مطالعة آيات الكون، المنصوبة في الأنفس والآفاق، مما يقضي بذلك قضاء متقنًا، وقد بين فيها أولًا من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم، وخلق أسلافهم، لما أنه أقوى شهادة وأظهر دلالة، ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقال:

ص: 94

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} .

لفظة {الذي} كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد، عند محاولة تعريفه بقضية معلومة له، ولهذا تسمع علماء البيان يقولون: والمقام الصالح للموصولية هو: أن يصح إحضار الشيء بواسطة جملة معلومة الانتساب إلى مشار إليه، بحسب الذهن، لأن وضع الموصول على أن يطلقه المتكلم على ما يعتقد أن المخاطب يعرفه بكونه محكومًا عليه بحكم حاصل له، فقوله:{الذي جعل لكم الأرض فراشًا} ، الآية يقتضي أن المخاطبين كانوا عالمين بأن هذه الأشياء المذكورة لم توجد لذاتها، وأنها موجودة بإيجاد موجد لها، وذلك تحقيق قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25، والزمر: 38].

ولما كان العقل يقضي بأن العبادة والانقياد، يقتضيان أن يكونا للموجد الحقيقي، وأن ما يعبدونه من دونه محض افتراء وضلال، ذكر هنا خمسة أنواع من الدلائل، الدالة على أن العبادة لا تكون إلا لخالق الأكوان على الإطلاق، فذكر من الأدلة اثنين من الأنفس، وثلاثة من الآفاق، فبدأ أولًا بقوله:{خلقكم} ، ثم ثنى بالآباء والأمهات بقوله:{والذين من قبلكم} ، ثم ثلث بكون {الأرض فراشًا} ، ثم أتى بالدليل الرابع، وهو كون {السماء بناء} ، ثم أتى بالدليل الخامس المتضمن للأمور الحاصلة من السماء والأرض، فقال:{وأنزل من السماء ماءً} الآية، ثم ندد عليهم بقوله:{فلا تجعلوا لله أندادًا} ثم وبخهم على جريهم على غير مقتضى العلم، بقوله:{وأنتم تعلمون} .

إن في كلامه تعالى إرشادًا للضالين، وهداية للمستدلين، وبيانًا للمتعلمين.

وقد خاطبت هذه الآية الأصناف الثلاثة، وأرشدت المتعلمين إلى كيفية ترتيب الأدلة، وذلك أنه لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، وعلمه بأحوالها أظهر من علمه بأحوال غيره، وكان الغرض من الاستدلال إفادة العلم، فكلما كان أظهر دلالة، كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر، فلهذا السبب، قدم ذكر نفس

ص: 95

الإنسان، ثم ثناه بآبائه وأمهاته، ثم ثلث بالأرض لأنها أقرب إلى الإنسان من السماء، والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء، ثم لما كان نزول الماء من السماء، وخروج الثمرات بسببه، كالأمر المتولد من السماء والأرض، والأثر متأخر عن المتأثر، قدم ذكر السماء عليهما، وأوضح هذا البيان بتقديم سابقة النعم، ومقدمتها، والسبب من التمكن في العبادة والشكر، وهو أنه خلقهم أحياء قادرين، ثم نبههم إلى أنه تعالى جعل لهم الأرض التي هي مكانهم، ومستقرهم الذي لا بد لهم منه فراشًا، أي: بمنزلة عرصة المسكن (1)، ومتقلبه ومفترشه، وروي عن ابن عباس، وجماعة من الصحابة، أنهم قالوا في قوله تعالى:{جعل لكم الأرض فراشًا} ، هي فراش يمشي عليها، وهي المهاد والقرار، ثم ذكر بآية ثانية من آلائه فقال:{والسماء بناء} أي: جعلها كالقبة المضروبة، والخيمة المطنبة، على هذا القرار؛ قال ابن جرير الطبري في تفسيره: سميت السماء سماء، لعلوها على الأرض، وعلى سكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماء، ولذلك قيل لسقف البيت: سماؤه، لأنه فوقه، مرتفع عليه، ولذلك قيل: سما فلان لفلان، إذا أشرف له وقصد نحوه، عاليًا عليه، كما قال "الفرزدق":

سَمَوْنا لِنَجْران اليماني وأَهْلِهِ

وَنَجْرانُ أَرْضٌ لم تدب مَغاوِلُةْ (2)

وكما قال "نابغة بني ذبيان": سمت لي نظرة فرأيت منها (3) ....

يريد بذلك أشرفت لي نظرة وبدت، فكذلك السماء، سميت للأرض سماء

(1) في الأصل: "عرضة للسكن" والتصويب من "تفسير الكشاف".

(2)

شرح ديوان الفرزدق، تعليق عبد الله الصاوي، ط (1) 1354/ 1936. 2/ 735 ويختلف معه في عجز البيت. وهي كذلك في الطبري:

ونجران أرضٌ لم تدَيَّثْ مَقاوِلُةْ

تديث: توطأ وتذلل. والمقاول: الملوك. ونجران: من بلاد اليمن على ساحل البحر الأحمر.

(3)

في ديوانه بتحقيق د. شكري فيصل ص 159:

صَفَحتُ بنظرة فرأيت منها

تُحَيتَ الخِدْرِ واضِعَةَ القِرَامِ

ص: 96

لعلوها وإشرافها عليها، وإنما ذكر السماء والأرض جل ثناؤه، فيما عدد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم، ومعايشهم، وبها قوام دنياهم، فأعلمهم أن ذلك الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما، وما فيهم من النعم هو المستحق عليهم الطاعة، والمستوجب منهم الشكر والعبادة، دون الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، قال صاحب "الكشاف": فإن قلت هل في قوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض فراشًا} ، دليل على أن الأرض مسطحة، وليست بكروية؟ قلت: ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها، كما يفعلون بالمفارش، وسواء كانت على شكل السطح؛ أو شكل الكرة، فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع لعظم حجمها، واتساع جرمها، وتباعد أطرافها، وإذا كان الافتراش متسهلًا في الجبل، وهو وتد من أوتاد الأرض، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل، قال: والبناء مصدر، سمي به المبني، بيتًا كان أو قبة، أو خباء أو طرافًا، وأبنية العرب أخبيتهم، ومنه: بنى على امرأته، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباءً جديدًا، انتهى.

فقد علمت، أن الآية لا تشير إلى شكل الأرض، ولا إلى دورانها وعدمه، ولا إلى أن السماء ما هي وما شكلها. فما يقوله بعض المتفلسفين من أن القرآن الكريم يخالف ما علم بالأدلة القطعية إنما هو محض افتراء، وكذا ما يدعيه الجامدون من أنه مصادم لفني الهيئة، وطبقات الأرض، إنما هو لعدم علمهم، وبعد فهمهم لمدارك التنزيل، فالجامدون أعداء للدين (1) .... ويرحم الله القائل:

ومن البلية عَذْلُ من لا يرعوي

عن جهله وخطابُ من لا يفهم

وإني ذاكر في هذا الموضع إجمال الكلام في هذا المقام، ليكون كالمقدمة لما يأتي في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فأقول:

حيث إن الصانع جل وعلا، هو الموجد لجميع الكائنات، فالبحث عن أشكالها وأوضاعها مع الإقرار بوجود صانعها لا يضرنا، بل هو من جملة التفكر في خلق السموات والأرض والاستدلال على قدرته الباهرة بآثارها الظاهرة.

(1) حذفنا مقدار ثلاثة أسطر لأنه غير واضح ولا مستقيم.

ص: 97

ومن جملة الذين استخدموا أفكارهم في معرفة بدائع خلق السموات والأرض، وما في الأولى من الكواكب، علماء الهيئة، فلما نظروا في شكل الأرض اختلفوا على قولين: الأول: أنها مسطحة، والثاني: أنها كروية الشكل.

واستدل أصحاب القول بالكروية فقالوا: هي كروية من جهة الطول ومن جهة العرض، أما من جهة الطول فيما بين المشرق والمغرب، فلأن البلاد المتوافقة في العرض، أو التي لا عرض لها، كلما كانت أقرب إلى الغرب، كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متاخرًا بنسبة واحدة، وكذا الحال في الغروب، ولا يعقل ذلك التأخر في الطلوع والغروب بتلك النسبة، إلا في الكرة، ودليل هذا المدعي أننا لما رصدنا خسوفًا بعينه في وقت من الليل، وجدناه في بلاد شرقية مثلًا آخر الليل. وفي بلاد غربية تبعد عنها بنحو ألف ميل. قبل آخر الليل بساعة، وفي بلاد تبعد عنها إلى الغرب بالف ميل أيضًا، قبل الأول بساعتين، وقبل الثاني بساعة، وعلى هذا القياس فعلمنا أن طلوع الشمس على الغربية متأخر بنسبة واحدة، وأما كُرويتها من جهة العرض فيما بين الشمال والجنوب، فلأن السالك في الشمال كلما توغل فيه ازداد القطب ارتفاعًا عليه، بحسب إيغاله فيه، على نسبة واحدة، حتى يصير بحيث يراه قريبًا من سمت راْسه، ولذلك تظهر له الكواكب الشمالية التي كانت مختفية عليه، وتختفي عنه الكواكب الجنوبية التي كانت ظاهرة عليه، والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك.

وأما فيما بين الطول والعرض، فإن السالك فيما بين الشرق والشمال، يتقدم عليه الطلوع بمقدار قربه من المشرق، ويزداد ارتفاع القطب عليه بمقدار وغوله في الشمال، وقس على هذا حال السالك فيما بين المغرب والشمال، وحال السالك في السمتين المقابلين لهما.

ومن الأدلة أيضًا، أن الدليل التجريبي دل على أن غاية الأشكال التدوير، وهوالشكل الطبيعي للمادة، وعلى أن كل شيء مائل بطبعه للشكل الكروي ما لم يعرض عليه سبب خارجي يؤثر فيه، إلى غير ذلك من الأدلة الواضحة الدالة على كرويتها، مما ترى كثيرًا منها أثناء هذا الكتاب؛ وقال المعارضون: إن على سطح

ص: 98

الأرض وهادًا وجبالًا شاهقة، وانخفاضًا وارتفاعًا، وهو مناف لكرويتها فأجاب المثبتون بأن أعظم جبل على وجه الأرض نسبته إلى مساحتها، كنسبة سُبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع، ومثل هذا لا ينافي كرويتها، وبيَّن المتأخرون الجواب، بأن أعظم ارتفاع الجبال، لم يتجاوز التسع كيلومترات، والانخفاض لم يتجاوز ثلاث كيلومترات، وهذا لا يعد شيئًا بالنسبة إلى نصف قطر الأرض البالغ طوله ستة آلاف وثلاثمئة وستة وستين كيلو مترًا.

ثم اختلفوا في كونها متحركة أو ساكنة، وهذا الخلاف قديم، فإن "فيثاغورث"(1) كان قبل سيدنا عيسى بخمسمئة عام، وكان يعلم تلامذته في مدرسة "كورتونيا" على طريقة أن الأرض متحركة، فلما جاء بطليموس الرومي قبل ميلاد المسيح بمئة وأربعين سنة، اختار القول بأن الأرض ساكنة، وأنّ الشمس تدور عليها، وبنى مذهبه على ذلك، فشاعت قاعدته بين الناس، واشتهرت في البلاد لاستيلاء الروم على أقطار الأرض، فلما جاء الإسلام وترجمت الكتب، وقع في أيديهم كتب الهيئة على ما ذهب إليه الروم، فاعتنى بنقلها وهذبها كثير، منهم "الفارابي" في أوائل القرن الرابع من الهجرة، وتبعه "ابن سينا" وغيره ممن جاء بعده، وهجرت الطريقة التي كان عليها فيثاغورث.

ثم نبغ ببلاد لهستان رجل يقال له "كوبر نيكوس"(2) وكان ماهرًا بالعلوم الرياضية، واشتغل بالهيئة والرصد والحكمة من سنة خمسمئة وألف إلى سنة ثلاثين وخمسمئة بعد الألف على التاريخ المسيحي، وهي سنة سبع وثلاثين وتسعمئة من

(1) فيثاغورث: أحد حكماء اليونان تفرغ من صغره إلى درس الحكمة، وطلبها في مصر والشام وبابل. إليه يعزى تقويم الحساب المعروف بجدول فيثاغورث في الضرب. قال بتناسخ الأوراح. توفي نحو 600 ق. م.

(2)

هو عالم فلكي بولوني (1473 - 1543) برهن عن دوران الكرة الأرضية على ذاتها وحول الشمس، فغير النظرية القديمة بأن الأرض ثابتة وأن الشمس تدور حولها. وانظر كتاب "ما دلّ عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان" للعلامة الشيخ محمود شكري الآلوسي. طبع المكتب الإسلامي.

ص: 99

الهجرة النبوية، فرجع إلى الطريقة التي كان عليها فيثاغورث- بالثاء آخره أو بالسين - المؤسسة على حركة الأرض، وقرر أن الشمس مركز، وأن الأرض وجميع السيارات تدور عليها، وأيد هذه الطريقة بتطبيقها على العلوم الرياضية، وألف في ذلك كتابًا سماه "حركات الأجرام السماوية" فقام عليه يومئذٍ علماء دين النصرانية، ورموه بالزيغ والإلحاد، ونهوا عن مطالعة كتابه، وكان ذلك في مجمع كنيسة رومية، ثم اشتهر كتابه وشاع هذا المذهب فنسب إليه، وقام يناصر هذه الطريقة جماعة في أوقات مختلفة، حتى صارت هي المتعارفة والمعول عليها، وسميت بالهيئة الجديدة، وأنت خبير بأنها ليست بجديدة بل هي قديمة، وموجودة في الكتب الإسلامية، وقد فصلها كثير من علماء الهيئة، ومن جملتهم "القاضي عضد الدين الإيجي" في كتاب "المواقف"، فإنه تكلم عليها في المقصد السادس من القسم الثالث، المشتمل على الكلام على العناصر، وكانت وفاته سنة ست وخمسين وسبعمئة من الهجرة النبوية، وحكاها أيضًا الإمام "فخر الدين الرازي" في مواضع من تفسيره، وأطال عند تفسير هذه الآية بما حاصله:

اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أنه جعل الأرض فراشًا، وكونها كذلك مشروط بأمور من جملتها كونها ساكنة، إذ لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالاستقامة أو بالاستدارة، فإن كانت بالاستقامة لما كانت فراشًا على الإطلاق لأن من قفز من موضع عال، كان يجب عليه أن لا يصل إلى الأرض لأن الأرض هاوية، وكذلك الإنسان هاوٍ، والأرض أثقل من الإنسان، والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما، والأبطأ لا يلحق الأسرع، فكان يجب أن لا يصل الإنسان إلى الأرض، فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشًا، أما لو كانت حركتها بالاستدارة لم يكتمل انتفاعنا بها، لأن حركة الأرض مثلًا إذا كانت إلى المشرق والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب المغرب، ولا شك أن حركة الأرض أسرع، فكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه وأنه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد، فلما أمكنه ذلك علمنا أن الأرض غير متحركة، لا بالاستدارة، ولا بالاستقامة، فهي ساكنة.

وعجيب من الإمام الرازي ذكر مثل هذا الدليل الضعيف، إذ لا علاقة، بين

ص: 100

حركة الأرض وبين حركة الماشي عليها، لأن الماشي يقصد نقطة من الأرض معينة، فمهما سارت الأرض بسرعة، كان هو عليها سائرًا إلى النقطة التي يقصدها، كالراكب في السفينة، بخارية كانت أو هوائية، فإنه يسير إلى جهة الغرب، أو الشرق على ظهرها، ويبلغ مكان قصده بلا عناء، وإن كانت السفنية سائرة إلى غير جهة قصده، وكذلك النملة تمشي على حجر الرحى وهو متحرك بالاستدارة، فتعاكس حركته وتبلغ مكان قصدها، ولا يؤخرها دوران الرحى شيئًا، نعم إنما يتم استدلال الإمام، فيما إذا كان السائر على الأرض، يطلب نقطة معينة من غير الأرض، فإنه حينئذ لا يبلغها، كالراكب في السفينة البرية، فإنها إذا كانت في سرعة سيرها، وأراد أن يلقي نفسه في نقطة معينة من الأرض، فإنه يعسر عليه أن يصل إلى النقطة التي قصدها، ومثل هذا ثابت بالمشاهدة والعيان، فلا حاجة إلى تطويل الكلام فيه، وحيث انتفى الدليل انتفى المدلول.

وأما قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} ، فقد تقدم قول ابن جرير الطبري: إن العرب تطلق السماء على كل شيء فوق شيء. وقول صاحب الكشاف: إن البناء مصدر سمي به المبني. وأنت إذا تأملت الجو من جهة العلو، ومن جهاته الأربع، رأيت نظرك قد انتهى إلى منظر بديع، فإنك ترى قبة زرقاء قد أرخت أطرافها على الأرض، وهذا المرئي وإن لم يكن جسمًا، لكن يخيل للناظر أنه جسم حقيقي لا وهمي، ومن ثم قال "الجاحظ":

إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كلُّ ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض محدودة كالبساط، والنجوم منورة كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه، وضروب النباتات مهيآت لمنافعه، وضروب الحيوان مصرفة في مصالحه، فهذه جملة واضحة دالة، على أن المراد من السماء، ما نراه من الأشياء المحيطة بنا، بواسطة أن شعاع المبصر يخرج على شكل مخروطي متسع الأسفل، ضيق الأعلى، ولذلك نرى الجمل إذا كان أمامنا على هيئة، وإذا بعد عنا نراه صغيرًا على نسبة بعده عنا، إلى أن يبعد بمسافة ما يمكن البصر أن يشاهده بها فيختفي، وكذلك إذا نظرنا إلى الجو من جهاته

ص: 101

الخمس، ينتهي بصرنا إلى غاية محدودة على التساوي، فيرتسم لنا قبة محيطة بنا، وحيث إن الله تعالى يخاطبنا على مقدار ما نفهم ونعقل، ونحن بحسب الرؤية نرى أن تلك القبة كأنها بناء فوقنا لا جرم، قال تعالى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} فقد علمت: أنه ليس المراد بالبناء هنا ما يفهم عند العامة من أنه وضع لبنة فوق لبنة، كيف يكون وقد فسر تعالى ذلك البناء في موضع آخر في قوله:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)} [النازعات].

فبين أن معنى بنائها، إنما هو جعل مقدار ارتفاعها، وذهابها في سمت العلو مديدًا رفيعًا، وأفاض عليها ما يتم به كمالها من الكواكب، والتداوير، من قولهم: سوى فلان أمره إذا أصلحه، وكذلك فسر دحو الأرض بقوله:{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات] وهذا لا ينافيه ما ذهب إليه أهل الهيئة في هذه الأعصار المتأخرة، من أن الأرض تدور حول الشمس، وأن هذا المرئي الذي نسميه سماء أو فلكًا هو فضاء واسع، وزرقته من اكتناف الأشعة الشمسية، ومن أنهم سموا كل كوكب ثابت شمسًا، وقالوا: إن لكل واحدة من هذه الشموس دائرة، وعدة متعلقات كثيرة، تدور حولها من السيارات والملتزمات، وذوات الأذناب، وكل واحد من هذه المتعلقات عالم مثل كرة أرضنا، ومن جملة هاتيك الشموس هذه الشمس المشهورة، ولها دائرة مخصوصة بها، وعدة متعلقات تدور حولها من السيارات والملتزمات، ومن جملة السيارات الدائرة حولها هذه الأرض، التي نحن عليها، والقمر ملتزم لها، ويدور عليها ومعها على الشمس، وفوق ذلك صفوف دوائر شمسية متكاثرة بعضها فوق بعض، إلى حيث لا يحيط به النظر، ولا يدركه الفكر، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، قال "أبو العلاء المعري":

يا أيها الناس كم لله من فلك

تجري النجوم به والشمس والقمر

هين على الله ماضينا وغابرنا

فما لنا في نواحي غيره خطر

ص: 102

فالسماوات عندهم عبارة عن هذه الدوائر بما فيها من الكواكب الكثيرة، وأرجعوا كونها طباقًا إلى معنى، أن الكواكب الثابتة سبع طبقات، فما كان منها يرى في غاية الظهور والإضاءة فهو الطبقة الأولى، ويسمونها بالمرتبة الأولى، والقدر الأول، وما كان أبعد منها غير كثير وأقل في الظهور والإضاءة، بمقدار يسير، فهو الطبقة الثانية، وهكذا إلى الطبقة السادسة، كل طبقة ترى كواكبها أبعد من التي تحتها، وأقل منها ظهورًا واستنارة، والطبقة السابعة هي التي لا ترى كواكبها إلا بالمنظرة المعظمة، فهذه الطبقات عندهم هي طباق السماوات، وإذا أورد عليهم قوله تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] قالوا: السماء الدنيا، عبارة عن الدوائر الشمسية التي نحن فيها، المزينة بما فيها من السيارة، وسيارة السيارة، وذوات الأذناب، وغيرها، من متعلقاتها.

على أننا لسنا الآن بصدد بيان علم الهيئة، ولا أننا نبين أمثال هذا لنوضح به اعتقادنا، ولكننا نورد أمثاله، لبيان أن البحث عن أشكال الأرض وأوضاعها، والسماوات ونجومها وأفلاكها، لا ينافيه القرآن، كما يعلمه من تدبره بعقل وفهم، والحقيقة ربما تكون على خلاف ما يقره علماء الهيئة وغيرهم، والله أعلم بحقائق الأمور.

وأما قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} فإنه يشير إلى شيء عجيب في القدرة العظيمة، وذلك أنه تعالى لما خلق الأرض، وكانت كالدخان، ثم صارت ماء، وإليه الإشارة بقوله:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، ثم صارت كالصدف والدرة المودعة فيه هي آدم وأولاده، وخلق في تلك الأرض أصناف حاجاتهم، وعلم آدم أسماءها كلها، وألهمه إلى أنها مخلوقة له، كما قال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فكأنه قال: يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض، التي هي لك كالأم، فانظر يا عبدي، إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض منهما، هل كان يحصل منها هذه

ص: 103

المنافع، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا، مع أنها موصوفة ومعروفة بكونها سجنًا، فكيف حال الجنة التي جعلتها دار القرار والنعيم الأبدي؟ وكذلك جعلت باطن هذه الأرض نارًا تلظى، وأقمت شاهدًا عليها البراكين، وهي الجبال التي تقذف من جوفها نارًا، وهذه النار تذيب المعادن وتنضجها، فكيف حال النار التي جعلتها دار المستقر والعذاب؟

فالحاصل: أن الأرض أمك بل أشفق من الأم، لأن الأم تسقيك لونًا واحدًا من اللبن، والأرض تطعمك ألوانًا ربما لا تقدر على استقصائها، ثم أكد أنها أعظم من الأم بقوله في مكان هذا:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه].

ومعناه: نردكم إلى هذه الأم، ثم نخرجكم منها مرة ثانية، وهذا ليس بوعيد، لأن المرء لا يوعد بأمه، وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض، ثم إنك مكثت في بطن الأم تسعة أشهر، فما مسّك جوع ولا عطش، فكيف إن دخلت بطن الأم الكبرى، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى، كما كنت في بطن الأم الصغرى، ما كانت لك زلة فضلًا عن أن تكون لك كبيرة، بل كنت مطيعًا لله بحيث دعاك مرة أخرى إلى الخروج إلى الدنيا، فخرجت إليها بالرأس طاعة منك إلى ربك، واليوم يدعوك للانقياد له، وإفراده بالوحدانية، وأنت تتلاهى عنه وربما اتخذت إلهًا غيره، وعظمت ذلك الغير حتى أردت أن تجعله مكانه، فناداك وخاطبك بهذه الآي وغيرها لعلك تنتبه من رقدتك.

ثم بسط لك الدليل فأعلمك بما يكون من شبه الاتصال (1) بين السماء والأرض، بإنزال الماء من السماء على الأرض، وإخراج ما في بطنها به مما يشبه النسل الحاصل من الحيوان، من أنواع الثمرات رزقًا لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم، وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ويعرفوا أن شيئًا من هذه الأشياء لا يقدر على

(1) لم تكن واضحة في الأصل وقدرتها كذلك.

ص: 104

تكوينها وتخليقها، إلا من كان مخالفًا لها في الذات والصفات، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.

وقد يدعي متفلسفة زمننا، أن في الماء طبيعة مؤثرة، وفي الأرض طبيعة قابلة، فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوى، فما وجه نسبة الإيجاد إلى الله تعالى؟ ؟

فنقول:

إن وجود تلك الآثار على هذه الصفة، لا ينافي كونه بإيجاد الله تعالى، لأنه هو الموجد في الماء تلك الطبيعة، وفي الأرض تلك القابلية، كما يشير إليه ضمير {بِهِ} العائد إلى الماء، في قوله:{فَأَخْرَجَ بِهِ} أي: بالماء.

فإن ادعى القائل نسبة الإخراج إلى طبيعة الماء، وقابلية الأرض قلنا له: هل هذه الطبيعة وتلك القابلية، وجدتا بأنفسهما؟ أم بإيجاد موجد، فإن قال: وجدتا بأنفسهما، قلنا: هذا ترجيح بلا مرجح، لم لا يجوز أن يكون النبات وجد نفسه، وكانت الأرض سكنًا له لاحتياجه إلى مكان يستقر به؟ وإن قال: إنهما وجدتا بإيجاد موجد، نقلنا الكلام إلى ذلك الموجد، وقلنا: لا يخلو إما أن يكون وجد بنفسه أم لا؟ فإن كان الأول، انقطع النزاع وعاد الأمر إلى تسليم الخالق الفعال لما يريد، وإن كان الثاني توقف الموجد على موجد، وهكذا، فيدور الأمر أو يتسلسل، والدور والتسلسل باطلان، فما لزم منهما باطل.

على أنه سيمر بك في هذا الكتاب ما هو أوضح من هذا وأوسع مجالًا.

وقد يشكل قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ، وغيره من الآيات المشابهة لها، على بعض علماء الهيئة من جهة كونه يقتضي نزول المطر من السماء، فيقول: الأمر ليس كذلك، لأن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض، وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء، فتجتمع هناك بسبب البرد، ثم تتقاطر بعد اجتماعها وذلك هو المطر، فيقال له: قد علمت مما سبق أن العرب تطلق السماء على كل ما سما، أي: علا، وحيث إنه يصح إطلاق السماء على

ص: 105

السحاب، والمطر ينزل منه فلا إشكال، على أن كثيرًا من المفسرين حتى الخازن والسيوطي، فسر السماء هنا بالسحاب، وهما أشد الناس نفرة من العلوم الطبيعية، وقال "البيضاوي" في تفسيره: و {مِنَ} الأُولى، أي: في قوله تعالى: {مِنَ السَّمَاءِ} للابتداء، سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء، أو الفلك، فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب، ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر، أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء، فتنعقد سحابًا ماطرًا، انتهى.

قال "الشهاب الخفاجي" في حاشيته المسماة بـ "عناية القاضي": وتفصيل هذا الكلام، كما في كتب الحكمة الطبيعية، أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري، أثارت من البحار بخارًا رطبًا، ومن البراري بخارًا يابسًا والبخار أجزاء هوائية، يمازجها أجزاء صغار مائية، لطفت بالحرارة حتى لا تتمايز في الحس، لغاية صغرها، فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة، تكاثف، فإن لم يكن البرد قويًا، اجتمع ذلك البخار وتقاطر لثقله بالتكاثف، فالمجتمع هو السحاب، والمتقاطر هو المطر، وإن كان البرد قويًا كان ثلجًا وبردًا، وقد لا يعقد سحابًا ويسمى ضبابًا، انتهى.

وأيًا ما كان، فقد اتفق كل من علماء فن العلوم الطبيعية، والمفسرون على أن المطر ينزل من جهة العلو، وإذا كان بخارًا ارتفع إلى حيث شاء الله تعالى، فإذا تكاثف انحط عن مرتبته، ثم كان مطرًا أو ثلجًا أو بردًا، ولما كان السحاب جرمًا عظيمًا، كان كأنه جبل بين السماء والأرض.

والإشارة في هذه الآية إلى أن ما سَوَّاه عز وجل، من شبه [الاتصال](1) بين الأرض والسماء، بإنزال الماء من السماء على الأرض، والإخراج به من بطنها أشباه النسل الذي ينتج من الحيوان، من ألوان الثمار رزقًا لبني آدم، لتكون تلك الإشارة اعتبارًا في مخلوقاته تعالى، وسلمًا يصعدون به إلى النظر الموصل إلى

(1) زيادة مني اقتضاها السياق.

ص: 106

توحيده تعالى، وإفراده بالربوبية، والخلق والتدبير، وليعلموا أن هذه الأشياء نعمة منه تعالى، فيقابلونها بدوام الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وما تحتهم، وأن شيئًا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقنوا عند ذلك، أنه لا بد لها من خالق، ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات أندادًا له، وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر، ولذلك ختم هذه الآية بقوله:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، فهو مفرع على قوله:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} على معنى: أن من خصكم بهذه النعم الجسام، والآيات العظام، ينبغي أن لا يشرك به، و"الند" المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف المعادي، قال "جرير" (1):

أَتَيْمٌ تجعلونَ إليَّ نِدًّا

وما تَيْمٌ لِذي حَسَبٍ نَديدُ

فإن قلت: كان المشركون يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها، بما يعظم به من القرب، ولم يكونوا زاعمين أنها تخالف الله وتعاديه، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده، فلا تصلح تسميتها أندادًا له! قيل في الجواب:

إنهم لما تقربوا إليها، وعظموها، وسموها آلهة، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادته، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم بهم، بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنها آلهة حقيقية، والخطاب عام لكل من كانت حالته كحالتهم، ممن يفزع في الشدائد إلى مخلوق ما، مدعيًا أنه يجعله واسطة بينه وبين خالقه.

ثم إنه تعالى ختم هذا البيان بقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، ومعناه: وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير والدهاء، والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه، وهكذا كانت العرب، خصوصًا ساكني الحرم من قريش وكنانة، لا تنال نارهم ليصطلى بها في استحكام المعرفة في الأمور، وحسن الإحاطة بها، وقد نزل

(1) ديوان جرير بن عطية الخطفي: 129.

ص: 107

تعالى: {تَعْلَمُونَ} منزلة اللازم، قصدًا إلى إثبات حقيقته في مقام المبالغة، فكأنه قيل: وأنتم من أهل العلم والمعرفة، والتوبيخ فيه آكد، أي: أنتم العارفون المميزون، ثم إن ما أنتم عليه من أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادًا هو غاية الجهل، ونهاية سخافة العقل، هذا التفسير على تقدير تنزيل الفعل المتعدي منزل اللازم، ويجوز أن تجعل المفعول محذوفًا لقرينة تدل عليه، وتقديره: وأنتم تعلمون أنه لا يماثل، أو أنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، أو: أنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله، كما قال في موضع آخر:{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40] وهذه التقديرات ذكرها صاحب الكشاف، وهي في غاية اللطافة.

وللسلف في تفسير الآية مسالك، إيرادها يزيد المقام إيضاحًا، وهي:

قال ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة، في قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، معناه: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله تعالى.

وقال ابن وهب، قال ابن زيد (1): الأنداد الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.

وقال أبو جعفر الطبري: إن الله تعالى عنى بهذه الآية كل مكلف عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه، مشرّك له في عبادته غيره كائنًا من كان من الناس، عربيًا كان أو أعجميًا، كاتبًا أو أميًا، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب، الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النفاق منهم: وممن بين ظهرانيهم، ممن كان مشركًا، فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وبه يتضح أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكًا يساويه في الوجود والقدرة، والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد، حتى إن المنكرين لوجوده يحومون حول إثبات صانع سواه، فيتحيرون ولا يجدون إليه سبيلًا، ولكن الجهل

(1) كانت في الأصل (يزيد) والتصويب من تفسير الطبري بتحقيق العلامة الأستاذ محمود شاكر.

ص: 108

تلاعب بعباد الأوثان، فزين عبادتها لهم باستنباطات عديدة، تلاعب بها بكل قوم على قدر عقولهم، فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى، الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، وهذا هو الغالب على عوام المشركين، وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم، وجعلوا لها بيوتًا وسدنة وحجابًا وحجًا وقربانًا (1).

ولم يزل موجودًا في الدنيا، وآثاره بادية للعيان، وجاءت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لإنكاره ومناظرة أهله، وأولهم سيدنا نوح عليه السلام، وقد أمر قومه بترك عبادة "وَدّ ويغوث ويعوق ونسرًا"، وهم أسماء لأصنامهم.

ثم سيدنا إبراهيم عليه السلام، فإنه ناظر قومه في بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه، وآلهتهم بيده، وآخرهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

(1) السدنة والحَسَكيَّة خدام تلك القبور والأوثان كما جعلوا لها أيامًا مخصوصة للحج. والعياذ بالله.

ومن المؤسف أن هذه العناية في بيوت الشرك، والمدافن التي يعظمها عباد القبور انتقلت من الكفار وعباد الصور والأوثان إلى المجتمعات الإسلامية في مختلف البلاد، ولا يكاد ينجو منها إلا القليل. فهذه قبور مزعومة للأنبياء، أو لغيرهم من الصحابة والعلماء عليها من الأبنية الشواهق، والكسو المزخرفة، ويتوجه الناس إليها بالسفر والحج والعبادة، وطلب الحاجات، وأحيانًا بالطواف حولها والسجود إليها، والنذور بالأموال والأنعام تُحمل من الأماكن البعيدة. ونرى أن علماء السوء، والحجاب والسدنة خدام تلك الأماكن هم الذين يزينون للجهال هذا الضلال بزخرف القول وبهرج الأفعال، ونقل الروايات المكذوبة عن المنامات والمشاهدات

ولعل أبرز مظاهر هذا عند المسلمين ما يشاهد فيما يسمى: "مسجد سيدنا الحسين" و"مسجد السيدة زينب" في القاهرة. وعند قبر أحمد البدوي في طنطا، وفي قرية راوية جنوبي دمشق عند قبر الست. وعند قبر ابن عربي في دمشق وقبر الشيخ عبد القادر في بغداد

وإن ما يجري في النجف وإيران شيء لا يمكن وصفه. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكل هذا باسم الدين.

وأما ما يفعل باسم القومية والزعامة الدنيوية فأشد وأخطر كما عند أتاتورك - مصطفى كمال- وجمال عبد الناصر في مصر، وسلطان المغرب، وقبر الشاه رضا بهلوي في طهران، ومن العجيب وجدت معلقًا فوقه صورة لساداتنا علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين وفاطمة الزهراء بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم. وما يطلق عليه اسم "قبر الجندي المجهول" في أكثر من بلد.

ص: 109

وطائفة زعموا أن الشمس ملك من الملائكة لها نفس وعقل، وهي أصل نور القمر والكواكب، ومنها تكونت الموجودات السلفية كلها، فعبدوها بحجة أنها ملك فتستحق التعظيم، والسجود والدعاء.

وقوم عبدوا القمر بحجة أنه مدبر للعالم السفلي، ومنهم من يعبد أصنامًا اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها، بزعمهم، وبنوا لها هياكل ومتعبدات، فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على شكله وهيئته وصورته، ليكون نائبًا منابه، وقائمًا مقامه، وإلا فمن المعلوم أن عاقلًا لا ينحت خشبة أو حجرًا بيده، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده.

وبالجملة فإن أكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأوثان والأصنام، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها في الأرض من قبل نوح عليه السلام، كما تقدم وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها، طبق الأرض والأمم التي أهلكها الله بأنواع الأهلاك، كلهم كانوا يعبدون الأوثان.

والقرآن، بل وسائر الكتب الإلهية، من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين، وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسله، وأنهم أولياء الشيطان وعباده، وأنهم هم أهل النار.

ومن أسباب عبادة الأوثان الغلو في المخلوق، وإعطائه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه وتعالى، وأقام الأدلة على جهل مدعيه، ووبخهم هنا بقوله:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

ولما أقام تعالى الدلائل القاهرة على إثبات الصانع، وأبطل القول بالشريك، عقبه بما يدل على النبوة، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مبنية على كون القرآن معجزًا، أقام الدلالة على إعجازه بقوله:

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} .

ص: 110

هذا احتجاج لنبيه صلى الله عليه وسلم، على مشركي قومه من العرب، ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب، وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة] وإياهم يخاطب بهذه الآيات، ويدحض الشبهة عنهم في كون القرآن معجزة، ويريهم كيف يتعرفون أهو من عند الله كما يدعي، أم هو من عند نفسه، كما يدعون؟ بإرشادهم إلى أن يقدروا أنفسهم، ويذوقوا طباعهم، وهم أبناء جنسه وأهل جلدته.

فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ} أيها المشركون من العرب، والكفار من أهل الكتابين، أنتم ومن كان على شاكلتكم، {فِي رَيْبٍ} أي: في شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم، من النور الساطع، والبرهان القاطع، وآيات القرآن، وأني أنزلته إليه فلم تؤمنوا به، ولم تصدقوه فيما يقول:{فَأْتُوا} بحجة تدفع حجته، لأنكم تعلمون أن حجة كل صاحب نبوة على صدقه في دعواه النبوة، أن يأتي ببرهان يعجز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله، ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبرهانه على نبوته، وأن ما جاء به من عندي، عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن يأتوا بسورة من مثله، وإذا عجزتم عن ذلك وأنتم أهل البراعة في الفصاحة، والبلاغة والدراية، فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز، كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه، وحجته على نبوته، من الآيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي، فتقرر حينئذ عندكم أن محمدًا لم يتقوله، ولم يختلقه، لأن ذاك لو كان منه اختلاقًا وتقولًا، لم يعجز جميع خلقي عن الإتيان بمثله، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم، لم يتجاوز أن يكون بشرًا مثلكم، وفي مثل حالكم في الجسم، وبسطة الخلق، وذرابة اللسان، فيمكن أن يكون به اقتدار على ما عجزتم عنه، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه.

والعدول عن "أنزلنا" المزيد في أوله الهمزة، إلى {نَزَّلْنَا} المضاعف العين، لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم، وهو من مقاطعه (1) لمكان

(1) هكذا العبارة عند الشيخ بدران، وبالرجوع إلى "الكشاف" 1/ 184 فوجدناها محازه: أي من أصحاب المحز ومكان القطع.

ص: 111

التحدي، وذلك أنهم كانوا يطعنون في القرآن، ويرتابون فيه، من حيث أنه كان مدرجًا على قانون الخطابة والشعر، فكان ينزل سورة بعد سورة وآيات غب آيات، على قدر النوازل وعددها، وعلى مماثلة الحوادث، فكانوا يظنونه على مذهب أهل الخطابة والشعر، من وجود ما يوجد منهم مفرقًا موزعًا على الأحيان، حسب ما يبدو ويظهر لهم من الأحوال المتجددة، والحاجات السانحة، لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة، ولا يرمى الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة، ويقولون:{لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] فقيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي أنزل تدريجًا، فهاتوا أنتم بنجم من نجومه، وسورة من سوره، فإنه أيسر عليكم من أن تنزل الجملة دفعة واحدة، ويتحدى بمجموعه، فقد جعل ما اتخذوه ريبة قادحة، وسيلة إلى كونه حقًا لا يجول حول حماه شك، تقوية للتحدي، ودفعًا لما في صدورهم من الشبه، وهذا غاية الإلزام والتبكيت لهم، ولمن يأتي بعدهم من الطوائف التي تدعي أن القرآن اخترعه محمد من تلقاء نفسه، ولمن يقول بأنه اخترعه بإعانة جماعة من أصحابه، وينسبون رواية أخبار الماضين إلى سلمان الفارسي، إلى غير ذلك من المطاعن التي يتشبث بها بعض الضالين من أهل زمننا وغيره.

وتقرير الدليل على المناهج العقلية، أن يقال: إن هذا القرآن لا يخلو حاله من ثلاثة وجوه لا زائد عليها، وهي: إما أن يكون مساويًا لسائر كلام الفصحاء؛ أو زائدًا على سائر كلامهم، بقدر لا ينقض العادة؛ أو زائدًا عليه بقدر ينقض العادة، والقسمان الأولان باطلان، لأنه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمثل سورة منه، إما منفردين، وإما مجتمعين، داعين شهداءهم من دون الله، أو غير داعين لهم، فإن حصل التنازع وحصل الخوف من عدم القبول، فالشهود والحكام يزيلون الشبهة، وذلك لغاية الاحتجاج لأنهم كانوا في معرفة اللغة، والاطلاع على قوانين الفصاحة، في الدرجة القصوى، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية، حتى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا ضروب المهالك والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق، فكيف الباطل؟ وكل ذلك يوجب الإتيان بما يقدح في قوله، والمعارضة أقوى

ص: 112

القوادح، فلما لم يأتوا بها، علمنا عجزهم عنها، وبهذا البيان ظهر بطلان القسمين الأولين، وثبت القسم الثالث، وأن القرآن لا يماثل قولهم، وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتًا معتادًا، فهو إذن تفاوت ناقض للعادة، فوجب أن يكون معجزًا، فهذا هو المراد من تقرير هذه الدلالة. فظهر أنه سبحانه كما لم يكتف في معرفة التوحيد بالتقليد، فكذا في معرفة النبوة لم يكتف بالتقليد.

ويقال في تقرير الدليل وجه آخر، وهو أن هذا القرآن لا يخلو من أن يكون بلغ في الفصاحة حد الإعجاز، وإما أن لا يكون قد بلغ هذا الحد، فإن كان الأول ثبت أنه معجز، وإن كان الثاني كانت المعارضة ممكنة على تقديره، فعدم إتيانهم بها مع كونها ممكنة، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق للعادة، يثبت كونه معجزًا على جميع الوجوه.

واعلم أن القرآن العظيم مشتمل على أنماط من الإعجاز كثيرة، لكن يمكن اندماج أصنافها، واندراج أجناسها في أربعة أصول:

الأصل الأول: حسن تأليفه، وانتظام كلماته، في سلك مبانيها المتناسبة لمقتضى معانيها، المتناسقة بين أعاليها وأدانيها، وفصاحته ووجوه إيجازه، وبلاغته في عجائب التراكيب وغرائب الأساليب، وبدائع العبارات وروائع الإشارات، الخارقة عادة العرب وهم، هم: في الفصاحة والبلاغة.

الأصل الثاني: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب، المخالف لأساليب العرب في كلامهم، ومناهج نظمها ونثرها التي جاء القرآن عليه، ووقفت مقاطع آياته، وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل تحيرت فيه عقولهم، واندهشت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم، أو سجع أو رجز أو شعر، ومن علم فنون البلاغة، وصنوف الفصاحة، وأرهف خاطرَه ولسانَه أدَبُ هذه الصناعة، ونطق بالشعر وأبدع في النثر، لم يخف عليه ما قلناه، فمن كان في شك من ذلك، فليقتحم هذا الميدان، ليرى نفسه كيف ترجع بالخيبة والحرمان.

ص: 113

الأصل الثالث: ما انطوى عليه من الإعلام بالمغيبات الكائنات في الأزمنة السابقة، وما لم يكن ولم يقع بعد، فوجد في الأيام اللاحقة مطابقًا لما ورد، ومن أهمها:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر] فكان كذلك لا يكاد يُعدُّ من سعى في تغييره، وتبديل محكمه من الحلولية والاتحادية، وأمثالهما، والمعطلة القائلين بتعطيل الكون عن المكون، لا سيما القرامطة، فأجمعوا كيدهم، وجهدهم وقوتهم، إلى يومنا هذا، فما قدروا على إطفاء شيء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه، على أنه لا عبرة بمن اغتر بشيء من كلام الملحدين، فظنه تصوفًا، فخرج من العقل إلى الجنون.

الأصل الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون الماضية، والأمم الهالكة الفانية، والشرائع الدارسة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفرد الواحد، من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به كما قرأه من غير تصرف في لفظه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه، وأن مثله لم ينله بتعليم، وقد علم جميعهم أنه صلى الله عليه وسلم أميّ لا يقرأ ولا يكتب، في جميع عمره، ولا اشتغل بمدارسة مع العلماء، ولا مجالسة مع الشعراء والفضلاء، ولم يغب عنهم غيبة يمكنه التعلم فيها من غيرهم، ولا جهل أحد منهم حاله منذ كان صغيرًا إلى أن بعث كبيرًا، وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه عن أشياء، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرًا، فلم يقدروا على تكذيب ما ذكره، بل كانوا يذعنون لذلك، فمن توفق آمن، ومن شقي تولى حسدًا وعنادًا، ومن لم ينكر ولم يكذب، وادعى أن عنده مخالفة لما في الذكر الحكيم، أقام عليه الحجة، وكشف دعوته وقال له:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111، والنمل: 64].

ومما ينتظم في سلك هذه الأصول، الروعة التي تلحق قلوب سامعي القرآن وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله ورفعة قدره، وعظمة أمره، وهي على المكذبين به أعظم، حتى إنهم يستثقلون سماعه،

ص: 114

ويزيدهم نفورًا ويودون انقطاعه لكراهتهم له، وأما المؤمن به، فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته، توليه انجذابًا، وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، وتصديقه به، ويدل على أن هذا شيء خص به هذا الكتاب، أنه يصيب بهذه الروعة من لا يفهم معانيه، ولا يعلم تفاسيره، فكيف بمن علمها.

ثم هو يناديهم قائلًا: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، من يوم نزلت هذه الآية إلى الآن، وقد مضى على نزولها ثلاثة عشر قرنًا (1)، ويسمع هذا النداء علماء اللسان، وأئمة البلاغة، وفلاسفة العالم، وفرسان الكلام، وجهابذة البلاغة، وفيهم الملحد والزنديق والمخالف، فما منهم من أتى بشيء يروى في معارضته، ولا ألف كلمتين في مناقضته، ولا قدر فيه على مطعن صحيح، ولا قدح من تكلف ذلك من ذهنه إلا بزند شحيح، بل المروي عن كل من قصد ذلك إلقاؤه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه، وهو يدعوهم إلى المعارضة، ويسفه رأيهم، ويذم نِحَلهم، ويبكتهم وينذرهم ويحذرهم، وهم ساكتون، وإذا اعترضوا عليه بشيء، لم يلبث أن يذهب أدراج الرياح، ويأتيه من إعجازه ريح عقيم لا تمر على شيء من المفتريات إلا جعلته كالرميم، فقوله تعالى:

{مِنْ مِثْلِهِ} ، متعلق {بِسُورَةٍ} صفة لها، والتقدير: فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا على عبدنا، فـ {مِنْ} هنا للبيان، لأن السورة المفروضة التي تعلق بها الأمر التعجيزي، مثل المنزل في حسن النظم، وغرابة الشأن، فالعجز عن الإتيان بالمثل الذي هو المأتي به، وهذا لا يتبين إلا بجعل {مِنْ} للبيان، ولا يصح من جهة المعنى أن تجعل {مِنْ} تبعيضية، لأنها توهم حينئذ أن للمنزل مثلًا عجزوا عن الإتيان ببعضه، فيصير التقدير كأنه قيل:{فَأْتُوا} ببعض ما هو مثل للمنزل، فالمماثلة المصرح بها ليست من تتمة المعجوز عنه، حتى يفهم أنها منشأ العجز.

وجوز صاحب الكشاف، أن يكون ضمير {مِنْ مِثْلِهِ} عائدًا على {عَبْدِنَا} ، وفيما جوزه غلط من وجوه:

(1) ونحن الآن في مطلع القرن الخامس عشر الهجري.

ص: 115

أحدها: أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد عليه الصلاة والسلام، لأوهم ذلك أن صدور مثل القرآن ممن لم يكن مثل محمد، في كونه أميًّا ممكن، ولو صرفنا إلى القرآن كما قلنا به سابقًا، لدل على أن صدور مثله من الأميّ، وغير الأميّ ممتنع، فكان القول بذلك أحقّ بالاعتبار.

وثانيها: أن الصرف المذكور يؤدي إلى كون القرآن معجزًا، إنما يكمل بتقرير كمال حاله صلى الله عليه وسلم، في كونه أميًا بعيدًا عن العلم، لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وهذا وإن كان معجزًا أيضًا، إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقرير نوع من النقصان في حقه عليه الصلاة والسلام، كان ما رقمناه سابقًا أولى، لأن إرجاع الضمير إلى القرآن، يعلمنا أنه هو المعجوز، عن الإتيان بمثله، لكمال حاله في الفصاحة والبلاغة.

وثالثها: أن صرف الضمير لما نزلنا مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي، لا سيما لقوله تعالى في سورة يونس:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس].

فإنك ترى ضمير {مِثْلِهِ} هنا عائدًا إلى القرآن قطعًا، ودالًا على أن الضمير هنا عائد لما نزلنا، لأن البحث إنما وقع في المنزل، لأن الآية يصرح معناها، بأانه إن ارتبتم بأن القرآن منزل من عند الله، فهاتوا أنتم شيئًا مما يماثله.

ولو كان الضمير مردودًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان المعنى أن يقال:

وإن ارتبتم في أن محمدًا منزل عليه فهاتوا قرآنًا من مثله.

ورابعها: أن عود الضمير إلى القرآن، يقتضي كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله، سواء اجتمعوا أو انفردوا، وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين، وهذا المعنى لا يتم لو أرجعنا الضمير إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه يصير حينئذ أن الآحاد من الأميين

ص: 116

عاجزون عنه، لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي، فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد، لأن الجماعة لا تماثل الواحد، والقارئ لا يماثل الأمي، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أولى.

وقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} ، الآية، فمعناه: فأتوا بسورة من مثل القرآن، واستنصروا واستعينوا على ذلك بأعوانكم، الذين يشاهدونكم، ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، واستعينوا أيضًا بأوثانكم وبرؤسائكم، وأكابركم إن كنتم محقين في ادعائكم، أن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، اختلاق وافتراء لتمتحنوا أنفسكم وغيركم، هل يقدرون على أن يأتوا بسورة من مثله، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقًا.

وإنما قلنا بالتعميم في معنى الشهداء، فجعلناه شاملًا للأوثان والرؤساء والأعوان، لأن الشهداء جمع شهيد، بمعنى: الحاضر، أو القائم بالشهادة، ولا مانع من جعله مجازًا على المعين والناصر وأوثانهم وأكابرهم، مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصارًا لهم، وأعوانًا، وإذا حمل اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه، واستعمل لفظ دون هنا، وفي أمثاله في كل ما يجاوز حدًا إلى حد.

فمعناه هنا: وادعوا إلى المعارضة من شئتم غير الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يقدر أن يأتي بمثله إلا هو سبحانه وتعالى، ثم أحضروا من شئتم إذا أتيتم بشيء، وزعمتم أنه مثل القرآن ليشهد لكم أنه مثله، فإنكم لا تقدرون على ذلك، وهذا نوع من التبكيت لهم غريب، حيث أطلق لهم العنان في المعارضة، وأعطاهم الحرية فيها، ليقروا بالعجز من تلقاء أنفسهم، ويوضحه أن يقال: لو أن إنسانًا ادعى قلب الحقائق، وجعل ينازع في إثبات دعواه، ويشاغب، فتترك أنت شغبه، وتقول له: اقلب حقيقة هذه الشجرة، من حقيقة الشجرية إلى حقيقة الذهبية، فإنك متى طلبت له ذلك نكص على عقبه، وانقطع شغبه، وختم ذلك التبكيت بقوله:

{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، بأن هذا القرآن من كلام البشر، وإلا فارعواؤكم عن غيكم أولى لكم.

ص: 117

ولما أرشدهم إلى الجهة التي يتعرفون بها أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسره، وامتياز كونه حقًا من كونه باطلًا قال لهم:

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} .

أي: فإن لم تعارضوه، ولم يتسهل لكم مطلوبكم الذي تطلبونه، وبغيتكم التي تبغونها، وظهر لكم أن القرآن معجوز عن الإتيان بمثله، فقد انكشف الحق عن خالصه، ووجب التصديق. {فَاتَّقُوا النَّارَ} أي: آمنوا وخافوا العذاب المعد لمن كذب؛ ففي الآية دليلان على إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم:

أحدهما: كون المُتحدى به معجزًا، لأن تلك الطائفة التي عجزت عن الإتيان بمثله مع تكاثر عددها، وتهالكها على المغالبة، كانت في غاية البلاغة، ونهاية الفصاحة، فلما عجزت عن ذلك، علم عادة أنه معجوز عن الإتيان بمثله أبد الدهر، إذ لا يتصور زيادة عما كانوا عليه من العدد التي تؤهلهم للمعارضة وأسبابها.

والثاني: الإخبار بقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، وهو غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ويمكن في هذا المقام أن يقال: إن صدق الأخبار إنما يعلم بعد انقراض الأعصار كلها، ويوضح بما ينفي هذا المقول، بأن الخطاب إنما كان خطاب مشافهة، فيختص بالموجودين، فإذا انقرضوا ولم يفعلوا تبين صدقه، وكان معجزة، وكذا قبل انقراضهم للقطع بأن قدرتهم لا تزيد بعد ذلك الزمان الذي تحدوا فيه.

وقد حرر هذا الجواب جماعة من المفسرين المتأخرين، منهم السيد الشريف الجرجاني في حاشية أوائل الكشاف، والذي أراه أن هذه الآية حجة على المعارضين في كل عصر، وفي كل جيل، والقرآن ينادي كل من يروم المعارضة، ويقيم الحجة على الموجودين، فإذا وجد المعدومون أقام عليهم الحجة مجددًا، وأظهر المعجزة، وهكذا في كل جيل ليكون الإيمان بأن القرآن منزل من عند الله اجتهادًا لا تقليدًا، وبعلم كل فرد وجد، بأنه كما أن من قبله لم يفعل المعارضة،

ص: 118

والإتيان بمثل هذا القرآن، كذلك هو ومن في عصره لم يقدروا على المعارضة ولم يفعلوا ولن يفعلوا، ويوضحه أنه من أيامه عليه الصلاة والسلام، إلى عصرنا هذا، لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام، وتشتد دواعيه في الوقيعة فيه، ثم إنه مع هذا الحرص الشديد، لم توجد المعارضة قط، وهذا يدل على فساد قول الجهال الذين يقولون: إن كتاب الله لا يشتمل على الحجة والاستدلال.

وههنا لطيفة لغوية، وهي: أنه لو قيل إن المقام في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} "إذا" لأنها للجزم في المعنى، دون {إِنْ} التي هي للشك، فلِمَ لَمْ يؤت بإذا، ويقال: وجه العدول عن "إذا" إلى "إن" إنما هو للتهكم بهم، وكما يقول الموصوف بالقوة، الواثق من نفسه بالغلبة، على من يقاومه: إن غلبتك ماذا تفعل؟ وهو يعلم أنه غالبه، ولكنه يقول له ذلك تهكمًا به، ولأن يساق القول معهم على حسب حسبانهم، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة، هم وكل من أتى على شاكلتهم لاتكالهم على فصاحتهم، واقتدارهم على الكلام.

ووجه اتصال {فَاتَّقُوا النَّارَ} ، وفائدة اشتراطه يظهر من ترتيب مقدماته، وهي: أنهم إذا ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق الرسول، وإذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة، وفيه تهويل لشأن العناد، وإنابة اتقاء النار منابه، متبعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أموها.

والوَقود: ما ترتفع به النار، وهو بفتح أوله الحطب، وبضمه الاتقاد.

والمعنى: أنها نار ممتازة عن النيران، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، فهي لإفراط حرها تتقد في الحجر، فليست كنار الدنيا التي نشاهدها، لأن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها، أو إحماء الحجارة، أوقدت أولًا بوقود، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك أعاذنا الله منها برحمته الواسعة، توقد بنفس ما تحرق.

وفي الآية إشارة إلى أمرين:

ص: 119

أحدهما: يدل على الإخبار بغيب، وهو أن من الحجارة ما هو قابل لأن يكون وقودًا الآن، والآية، وإن كانت مسوقة لتهويل أمر النار في الآخرة، إلا أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون كثير مما في الآخرة له نموذج في الدنيا، ولما كان الأمر كذلك، وكانت الحجارة الفحمية مخبوءة في خزائن الأسرار، حين نزول القرآن إلى أن ظهرت تلك الإشارة إلى الوجود، وأظهر لهم تعالى حجارة تقوم مقام الحطب في الاشتعال، ليزدادوا يقينًا بوعده تعالى ووعيده، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة].

وثانيهما: أن المشركين لما قرنوا أنفسهم في الدنيا بالحجارة حيث نحتوها أصنامًا فعبدوها من دون الله تعالى، وقالوا: إنها الشفعاء والشهداء، الذين يستشفعون بهم، ويستدفعون بهم المضار عن أنفسهم تمسكًا بهم، جعلها تعالى عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغًا وإغرابًا في تحسرهم، وقد جاء هذا المعنى مفسراً في قوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] والحصب هو: الوقود، وعلى طريق هذا المعنى قوله تعالى في الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35].

هذا وقد قارب المعنى الذي أشرنا إليه سابقًا، ما رواه ابن جرير الطبري، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:

أن الحجارة هي حجارة في النار من كبريت أسود. وبه قال ابن جريج.

والحجر الفحمي، يشبه الكبريت في كونه مشتعلًا، ويفارقه في اللون، ولا

مانع من أن تكون العرب وضعت لفظ الكبريت لكل حجر من شأنه الاشتعال، فيكون الحجر الفحمي منه.

وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ، أي: هيئت للجاحدين أن الله ربهم المتوحد

ص: 120