المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسلك الأول: أنها منسوخة في حق من يرث - تفسير ابن بدران = جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار

[ابن بدران]

الفصل: ‌المسلك الأول: أنها منسوخة في حق من يرث

قيل: نعم، فإن قال: فإن هو فَرّط في ذلك، فلم يوص لهم، أيكون مضيعًا فرضًا يحرج بتضييعه؟

قيل: نعم، فإن قال: فما الدلالة على ذلك؟ قيل: قول الله تعالى ذكره: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية. فأعلمه أنه قد كتبه علينا وفرضه، كما قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ولا خلاف بين الجميع: أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا عليه، فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه، وله ما يوصي لهم فيه، مضيع فرض الله عز وجل. انتهى.

وسبب نزول هذه الآية، كما قال الأصم: أنهم كانوا يوصون للأبعدين طلبًا للفخر والشرف، ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة. فأوجب الله تعالى في أول الإِسلام الوصية لهؤلاء، منعًا للقوم عما كانوا اعتادوه، وهذا بيّن.

واعلم أن للفقهاء مسلكين في هذه الآية:

‌المسلك الأول: أنها منسوخة في حق من يرث

، واستدل القائلون بذلك بما أخرجه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس، قال:"كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع".

وبحديث عمرو بن خارجة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم، خطب على ناقته وأنا تحت جِرَانها، وهي تقصع بجرمها، وإن لعابها يسيل بين كتفي، فسمعته يقول:

"إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث"(1).

الحديث رواه الترمذي من طريق شهر بن حوشب، ثم قال: وسمعت أحمد بن الحسن يقول: قال أحمد بن حنبل: لا أبالي بحديث شهر بن حوشب.

(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"1720.

ص: 482

قال (1): وسألت محمَّد بن إسماعيل عن شهر بن حوشب فوثقه؛ وقال: إنما يتكلم فيه ابن عون، ثم روى ابن عون عن هلال بن أبي زينب، عن شهر بن حوشب. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، انتهى.

قلت: شهر هذا وثقه ابن معين، والإمام أحمد. وقال يعقوب بن سفيان: شهر واهٍ. وقال ابن عون: تركوه وهو ثقة. وقال ابن معين: ثبت. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة: لا بأس به.

ورواه النسائي من طريق شهر، ورجاله البقية ثقات. ورواه ابن ماجه، وفي إسناده سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. قال أحمد فيه: هو قدري لم يكن له كتاب، وإنما كان يحفظ. وقال ابن معين: ثقة من أثبتهم في قتادة. وقال أبو حاتم: ثقة قبل أن يختلط. وقال دحيم: اختلط سنة خمس وأربعين ومئة.

واستدلوا أيضًا بحديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"(2). الحديث رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. انتهى.

لكن في رواته إسماعيل بن عياش، وقد قال فيه الترمذي في روايته عن أهل العراق وأهل الحجاز: ليس بذاك فيما تفرد به، لأنه روى عنهم مناكير، وروايته عن أهل الشام أصح. هكذا قال محمَّد بن إسماعيل، يعني: البخاري. قال: سمعت أحمد بن الحسن يقول: قال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن عياش أصلح من بقية، ولبقية أحاديث مناكير عن الثقات. وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن، سمعت زكريا بن عدي يقول: قال أبو إسحاق الفزاري: خذوا عن بقية ما حدث عن الثقات، ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدث عن الثقات، ولا عن غير الثقات، هذا كلام الترمذي.

(1) أي الترمذي سأل البخاري - رحمهما الله.

(2)

هو في "في صحيح الجامع الصغير"1789.

ص: 483

وقال في "خلاصة التذهيب": وثقه أحمد وابن معين ودحيم والبخاري، وابن عدي في أهل الشام، وضعفوه في الحجازيين.

وروى حديث أبي أمامة أبو داود، من طريق ابن عياش، عن شرحبيل بن مسلم، وشرحبيل وثقه العجلي وأحمد، وقال ابن معين: ضعيف. ورواه ابن ماجه من طريقهما أيضًا، ورواه أيضًا من طريق محمَّد بن شعيب بن شابور، عن أنس بن مالك، قال في "الزوائد": إسناده صحيح. ومحمد بن شعيب وثقه دحيم، وباقي رجال الإسناد على شرط البخاري. انتهى.

ومن هذا تعلم أن هذا الحديث مُتكلم فيه، وأنه لم يقول إلا بضم أسانيده بعضها إلى بعض، حتى تحصل له مرتبة العمل به، وأيًا ما كان فلا يصلح أن يكون ناسخًا للآية، ولا مخصصًا لها، على ما هو المختار عند الأصوليين، من أن نسخ الكتاب، ومتواتر السنة بآحادها، جائز عقلًا لا شرعًا.

وقد نقل الشيخ عبد الله المقدسي في كتابه "روضة الناظر" - وتبعه الطوفي في "مختصره" وشرحه - إجماع الصحابة على أن القرآن ومتواتر السنة لا يرفع بخبر الواحد، على أن الخلاف قد جرى في أن متواتر السنة هل ينسخ القرآن أم لا؟ فنقل في "الروضة الأصولية" أن الإِمام أحمد رضي الله عنه، قال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن مثله يجيء بعده.

وحكى الآمدي هذا القول عن الشافعي وأكثر أصحابه، وأكثر الظاهرية، وحكي الجواز عن مالك والحنفية وابن سريج، وأكثر الأشاعرة والمعتزلة. قال القرافي: هو جائز عند أكثر أصحابنا. انتهى.

والأول هو الذي نختاره، وندين الله به، فإذا كان القرآن لا ينسخ بالمتواتر، فلأن لا ينسخ بالآحاد من باب أولى.

المسلك الثاني من مسلك الفقهاء: أنها منسوخة بآية المواريث، وإلى ذلك ذهب ابن عباس؛ كما دل على ذلك رواية البخاري المتقدمة عنه؛ وإلى ذلك ذهب الإِمام مالك، فقال في "الموطأ": قول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ

ص: 484

لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} نسخها ما نزل من قسمة الفرائض، في كتاب الله عز وجل. انتهى.

ولما كان قول ابن عباس اجتهادًا منه، ولم يكن من جنس المرفوع، وصار مالك إليه تقليدًا، جاز أن يناقش فيه، بأن يقال: إن نسخ هذه الآية بآية المواريث بعيد، لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث، وجوب قدر آخر بالوصية، وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ، بأن يقول قائل: إنه لا بد وأن تكون منسوخة فيمن لم يخلف إلا الوالدين، بحيث يصير كل المال حقًا بسبب الإرث، فلا يبقى للوصية شيء، إلا أن هذا تخصيص لا نسخ.

وممن ذهب إلى أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، أبو مسلم الأصفهاني، وقرر فخر الدين الرازي مذهبه من وجوه:

أولها: أن هذه الآية ما هي مخالفة لآية المواريث، ومعناها: كتب الله عليكم ما أوصى به الله تعالى من توريث الوالدين والأقربين، من قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين، بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم.

وثانيها: أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء، مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى، والوصية عطية ممن حضره الموت، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث، بحكم هاتين الآيتين.

وثالثها: لو قدرنا حصول المنافاة، لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية، وذلك لأن هذه الآية توجب الوصية للأقربين، ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث، ويبقى القريب الذي لا يكون وارثًا داخلًا تحت هذه الآية، وذلك لأن من الوالدين من يرث، ومنهم من لا يرث، وذلك بسبب اختلاف الدين والرق والقتل، ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة من لا يرث بهذه الأسباب الحاجبة، ومنهم من يسقط بحال، ويثبت في حال، إذا كان في الواقعة من هو

ص: 485

أولى بالميراث منهم، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم، فكل من كان من هؤلاء وارثًا لم تجز الوصية له، ومن لم يكن وارثًا جازت الوصية له، لأجل صلة الرحم؛ فقد أكد الله تعالى ذلك بقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]. وبقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] هذا كلامه.

والذي نختاره أن آية الميراث مخصصة لهذه الآية لا ناسخة لها، وأن العمل بهما على مقتضى الوجه الثالث، وبذلك يمكن العمل بالآيتين وبالحديث أيضًا، ومن غير إطراح واحد من الكل، لأن الآية المخصصة يبقى العمل بما بقي بعد التخصيص، بخلاف النسخ، فإنه مبطل للعمل بها كلها، وهذا خلاف ما يقتضيه العقل في كلام الله تعالى.

هذا وادعى قوم: أن هذه الآية منسوخة بالإجماع، وهذا مردود لأن الإجماع لا يجوز أن يكون ناسخًا للقرآن، لأنه يدل على أنه كان الدليل الناسخ موجودًا، إلا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدليل؛ ولقائل أن يقول: لما ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ، فكيف يدعي انعقاد الإجماع على حصول النسخ هذا.

وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . فقال الزهري: المال مطلقًا يسمى {خَيْرًا} ، بلا فرق بين القليل والكثير، لأن الله سمى القليل خيرًا، فقال:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]. وقال تعالى، حكايته عن موسى عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].

وأيضًا الخير ما ينتفع به، والمال القليل كذلك، فيكون خيرًا، وقد اعتبر الله أحكام المواريث فيما يبقى من المال، قل أم أكثر، بدليل قوله تعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7] ، فوجب أن يكون الأمر كذلك في

ص: 486

الوصية، وهذا هو الحق لما ذكر من الأدلة، ولقول مجاهد:"الخير" في القرآن كله: المال، قال تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]، {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] ، {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84].

وإلى هذا ذهب ابن عباس وقتادة والسدي والربيع، والضحاك وعطاء.

وقال جماعة: لفظ الخير في هذه الآية: المال الكثير، واحتجوا لذلك بحجج عقلية، منها أن المال؛ وإن كان يطلق على القليل والكثير، لكنه أطلق على الكثير مجازًا، لاطباقهم على أن من ترك درهمًا، لا يقال: إنه ترك خيرًا، ومثل هذا الدليل يتضاءل عند مقابلة النصوص له.

ولما ذكر الله أمر الوصية ووجوبها، وعظم أمرها، أتبعه بما يجري مجرى الوعيد في تغييرها، فقال:

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} .

يصح أن تكون "من" واقعة على الوصي أو على الشاهد، أو على سائر الناس.

أما الوصي: فبأن يغير الوصية، إما في الكتابة، أو في قسمة الحقوق.

وأما الشاهد: فبأن يغير شهادته أو يكتمها.

وأما غيرهما: فبأن يمنع من وصول ذلك المال إلى مستحقه، فهؤلاء كلهم داخلون تحت قوله تعالى:"فمن بدله".

وقيل: إن "من" واقعة على الموصي، فهي عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين الله تعالى بالوصية إليها.

والحق أن "من" هنا عامة للوصي والموصي والشاهد، ومن له دخل في تغيير الوصية وتبديلها، حتى أنها تشمل الحاكم إذا علم صحتها ولم يحكم بها.

ص: 487

والظاهر: أن ضمير {بَدَّلَهُ} يعود على {الْوَصِيَّةُ} ، بمعنى الإيصاء؛ أي:{فَمَنْ} بدل الإيصاء عن وجهه، إن كان موافقًا للشرع، {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} سماع تحقق وتثبت. وعوده على الإيصاء أولى من عوده على {الْوَصِيَّةُ} ، لأن تأنيث {الْوَصِيَّةُ} غير حقيقي، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك. تقول: خرجت والشمس طلعت، ولا يجوز طلع، إلا في الشعر.

والضمير في {سَمِعَهُ} عائد على الإيصاء كما شرحناه، وقيل: يعود إلى أمر الله.

وقوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} {فَإِنَّمَا} للحصر، أي: فما إثم الإيصاء المغير، أو ما إثم التبديل، إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصي أو الموصى له، وغيرهما لأنهما بريئان من الحيف.

ولما كان للموصي والمبدل، أقوال وأفعال ونيات، حذر تعالى بقوله:{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، أي:{سَمِيعٌ} لما يقوله كل منهما، {عَلِيمٌ} بسره وعلنه بذلك، فليحذر من عمل السوء، ومن دعاء المظلوم، فإنه مستجاب.

ولما كان التحذير من التبديل، إنما هو في عمل العدل، وكان الموصي ربما جارٍ في وصيته، لجهل أو غرض، تسبب عنه قوله:

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} .

الظاهر أن الخوف هو الخشية هنا، جريًا على أصل اللغة في الخوف، فيكون المعنى: ومن توقع الجنف أو الإثم من الموصي. قال مجاهد: المعنى من خاف أن يجنف الموصي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمد الأذية أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف، دون إثم، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم، فوعظه في

ص: 488

ذلك ورده، فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته، {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة، ورجع عما أراد من الأذية، {رَحِيمٌ} ، به.

وقيل: يراد بالخوف هنا العلم، والعلاقة بين الخوف والعلم، حتى أطلق على العلم الخوف، [و] أن الإنسان لا يخاف شيئًا حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من باب التعبير عن السبب بالمسبب.

ويرد على التفسير الأول أن يقال: إنما يصح في أمر مرتبط، والوصية قد وقعت، فكيف يمكن تعليقها بالجواب؟

ويجاب عنه: بأن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي، فظهرت منه أمارات الجنف، أو التعدي بزيادة غير مستحق، أو نقص مستحق، أو عدل عن مستحق، فأصلح عند ظهور الأمارات، لأنه لم يقطع بالجنف والإثم، فناسب أن يعلق بالخوف، لأن الوصية لم تمض بعد، ولم تقع. أو علق بالخوف وإن كانت قد وقعت، لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان، فلم يصر الجنف والإثم معلومين، لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع. أو علق بالخوف، وإن كانت الوصية استقرت ومات الموصي، يجوز أن تقع بين الورثة والموصى لهم مصالحة، على وجه يزول به الميل والخطأ، فلم يكن الجنف ولا الإثم مستقرًا، فعلق بالخوف، والجواب الأول أقوى.

والجنف: الميل في الأمور، وأصله العدول عن الاستواء، والفرق بينه وبين الإثم، أن الجنف هو الخطأ حيث لا يعلم به، والإثم هو العمد، والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي، الذي لا بد منه في الوصية، وقد يدخل تحته الشاهد؛ وقد يكون المراد منه من يتولى ذلك بعد موته، من والٍ، أو ولي، أو وصي، أو من يأمر بالمعروف، فكل هؤلاء يدخلون تحت قوله تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} ، إذا ظهرت لهم أمارات الجنف والإثم في الوصية، أو علموا ذلك، فلا وجه للتخصيص هنا، بل الوصي والشاهد أولى بالدخول تحت هذا التكليف، لأن بهم تثبت الوصية، فكان تعلقهم بها أشد.

وإلى هذا يشير ما أخرجه عبد الرزاق عن الثوري، قال: "بلغنا أن الرجل كان

ص: 489

إذا أوصى تغير وصيته، حتى نزلت:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} ، فردّه إلى الحق".

ويؤخذ من هذا أنه إذا ظهرت وصية من رجل، قد جعلها على مقتضى ما يتصور، وجعل فيها شيئًا مخالفًا للشرع، لا يجوز إسقاط الوصية من أصلها، وإنما يجوز إثباتها وإصلاحها، فما وافق فيه الشرع أثبته الحاكم أو الوصي، ونحوهما، وما لم يوافق الموصي فيه الشرع، رُدَّ إلى الشرع، وإن من فعل ذلك لا يكون داخلًا تحت قوله تعالى:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} الآية.

ولما أخبر تعالى أولًا بكتب القصاص، وهو إتلاف النفوس، وهو من أشق التكاليف، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل؛ ثم أخبر ثانيًا بكتب الوصية، وهو إخراج المال الذي هو عديل الروح، انتقل ثالثًا إلى كتب الصيام المنهك للبدن، المضعف له، المانع والقاطع لما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار، فقال:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} .

يعني تعالى ذكره بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، وصدقوا بهما وأقروا؛ ويعني بقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، فرض عليكم مثل الذي فرض {عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .

وأصل الصيام في اللغة: الإمساك عن الشيء والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم، لأنه إمساك عن الكلام؛ ثم نقل في الشرع إلى الإمساك من حين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عني الله بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وفي المعنى الذي وقع فيه التشبيه، من فرض صومنا، وصوم الذين من قبلنا؟

فقال بعضهم: إن التشبيه يعود إلى وقت الصوم، وإلى قدره الذي هو لازم

ص: 490

لنا اليوم فرضه، وهو قول الشعبي، وهو ضعيف، لأن تشبيه الشيء بالشيء، يقتضي استواءهما في أمر من الأمور، فأما أن يقال: إنه يقتضي الاستواء في كل الأمور فلا، ثم القائلون بهذا القول، اختلفوا في "الذين من قبلنا" من هم؟ فقال السدي: هم النصارى؛ وبه قال الربيع، وقال مجاهد: هم أهل الكتاب.

وقال قتادة: هم الناس كلهم، وأولى هذه الأحوال بالصواب قول من قال: هم أهل الكتاب، وقال بعضهم: التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني: هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم، من لدن آدم إلى عهدكم، ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم، لا يفرضها عليكم وحدكم.

وفائدة هذا الكلام: أن الصوم عبادة شاقة، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، أي: بالمحافظة على تلك الوظيفة، وتعظيمها لأصالتها وقدمها، أو لعلكم تتقون المعاصي، لأن الصائم أظلف لنفسه، وأردع لها من مواقعة السوء، أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم.

وقوله تعالى:

{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

منصوب بمضمر من الفعل. كأنه قيل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، أن تصوموا {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ، أي: موقتات بعدد معلوم، وفائدة وصفها بذلك، التسهيل على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد، ليست بالكثيرة التي تفوت العد، وعنى الله تعالى بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان ليس إلا، لأنه لم يأت خبر تقوم به حجة، بأن صومًا فرض على أهل الإِسلام غير صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وبأن الله تعالى قد بين في سياق الآية، أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا، هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها، بقوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ} .

ص: 491

فمن قال: إن الأيام المعدودات، صوم ثلاثة أيام من كل شهر فريضة، أو تطوعًا لا فريضة، ثم نسخ ذلك، طولب بالدليل على ما قاله، من خبر تقوم به حجة، وعوقب على إسراعه إلى ادعاء النسخ، وليس هو بالأمر السهل، والمعنى على ذلك:{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} هي {شَهْرُ رَمَضَانَ} .

ويجوز أن يكون معناه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، كتب عليكم {شَهْرُ رَمَضَانَ} ، أي: صومه. قال الحرالّي: وفي تأسيسه على العد، ملجأ يرجع إليه عند إغماء الشهر الذي هو الهلال، فصار لهم العدد في الصوم، بمنزلة التيمم في الطهور، يرجعون إليه عند ضرورة فقد إهلال الرؤية، كما يرجعون إلى الصعيد عند فقد الماء.

ولما كان للمريض حاجة إلى الدواء والغذاء، بحسب تداعي جسمه، رفع عنه الكتب، فتسبب عما مضى قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يقول جل ثناؤه: من {كَانَ مِنْكُمْ} ممن كلف الصوم {مَرِيضًا أَوْ} كان صحيحًا غير مريض، ولكنه راكبًا {سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} ، أي: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه، أو في سفره، {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، غير أيام سفره أو مرضه.

فـ {عِدَّةٌ} بالرفع، على معنى: فعليه عدة؛ وقرئ بالنصب على معنى فليصم عدة، ونظم الكلام يشعر بأن تقدير الرفع، فالمكتوب عدة، لأن الآية مصدرة بقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، و "عدة" هنا مصدر بمعنى اسم المفعول، أي: معدودة، وبين الشرط وجوابه محذوف، والتقدير:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فأفطر، فالمكتوب عليه عدة، أي: أيام معدودة من أيام أخر، غير التي أفطرها، فـ {مِنْ أَيَّامٍ} في موضع الصفة، لقوله {فَعِدَّةٌ} ؛ و {أُخَرَ} صفة لـ {أَيَّامٍ} .

وظاهر الآية اعتبار مطلق المرض، بحيث يصدق عليه الاسم، وإلى هذا ذهب جمع من السلف.

قال البخاري في "صحيحه"، قال عطاء: يفطر من المرض كله، كما قال الله

ص: 492

تعالى؛ وقال الحسن وإبراهيم: في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما، أو ولدهما تفطران، ثم تقضيان.

ونقل أبو حيان في "البحر" القول بمطلق المرض عن ابن سيرين والبخاري؛ وقال الرازي: إن (1) أي مريض كان، وأي مسافر كان، فله أن يترخص تنزيلًا للفظه المطلق على أقل أحواله، وهذا قول الحسن وابن سيرين. يروى أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل، فاعتل بوجع أصبعه. انتهى.

وحيث جرى الخلاف في معنى كلمة بني الكتاب العزيز، كان المرجع في تفسيرها، إما إلى لغة العرب، وإما إلى الحقيقة الشرعية، ولا يلتفت إلى ما اصطلح عليه بعد نزول الكتاب العزيز، ولما كان الفقهاء قد اختلفوا في حدّ المرض المبيح للفطر، رجعنا إلى اللغة، فنقلنا قول علمائها، وإليك قولهم:

قال في "العباب": المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها. انتهى. وهو قول ابن الأعرابي، وبذلك فسره صاحب القاموس.

وقال ابن دريد: المرض السقم، وهو نقيض الصحة، يكون للإنسان والبعير، وهو اسم للجنس. انتهى.

وقوله: {مرضى} جمع مريض، ويجمع على مراضى أيضًا.

وقال ابن عرفة: المرض في الأبدان فتور الأعضاء، فعلى هذا فالمرض المبيح للفطر، هو الذي يكون منه انحراف الصحة عن اعتدالها الطبيعي، فكل مرض كان كذلك، جاز لمن ابتلي به الفطر.

وقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} يشمل كل سفر، طالت مسافته أو قصرت. قال الأزهري: وسمي المسافر مسافرًا، لكشف قناع الكن عن وجهه، وبروزه للأرض الفضاء. وقال المحقق شمس الدين محمَّد بن القيم، في كتابه "زاد

(1) في الأصل: "قال الرازي: المريض عبارة عن أي" والتصحيح من تفسير الفخر 5/ 81.

ص: 493

المعاد" (1): ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بعد، ولا صح عنه في ذلك شيء، وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدي محمَّد صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة حين ينشئون السفر، يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم. كما قال عبيد بن بشير: "ركبت مع أبي بصرة الغفاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم نجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه أبو داود وأحمد (2).

ولفظ أحمد: "ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية، في سفينة، فلما دنونا من مرساها، أمر بسفرته فقربت، ثم دعاني إلى الغداء، وذلك في رمضان، فقلت: يا أبا بصرة، والله ما تغيب عنا منازلنا بعد، فقال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لا، فقال: كُل. قال: فلم نزل مفطرين حتى بلغنا".

وقال محمَّد بن كعب: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر، وقد رحلت راحلته، وقد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب"(3). قال الترمذي: حديث حسن؛ وقال الدارقطني: فأكل وقد تقارب غروب الشمس.

وهذه الآثار صريحة في أن من أنشا السفر في أثناء يوم من رمضان، فله الفطر فيه، انتهى.

(1) هو في "مختصر زاد المعاد" للشيخ محمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله ص 63. طبع المكتب الإِسلامي. وطبعتنا هي الأولى منه. وقد سرقه بعد ذلك بعض الجهات ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(2)

وهذا ابن خزيمة 2040 - طبع المكتب الإِسلامي، وصححه فيه الألباني بشواهده، وأحال على رسالته "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر" وهي من مطبوعات المكتب الإسلامي.

(3)

هو في "صحيح سنن الترمذي - باختصار السند"641.

ص: 494

ويقرب من معنى المسافر، ما لو دنا الصائمون في الحرب من عدوهم، فإن كانوا مسافرين فلهم الفطر، وإن كانوا في الحضر، وكان في الفطر قوة لهم على لقاء عدوهم، فهل. لهم الفطر فيه؟ للعلماء قولان، أصحهما دليلًا أن لهم ذلك.

قال ابن القيم: وهو اختيار شيخ الإِسلام أحمد ابن تيمية، وبه أفتى العساكر الإِسلامية، لما لقوا العدو بظاهر دمشق (1).

ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر، بل إباحة الفطر للمسافر، تنبيه على إباحته في هذه الحالة، فإنها أحق بجوازه، لأن القوة هناك تختص بالمسافر، والقوة هنا له وللمسلمين، ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر، ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد، أعظم من المصلحة بفطر المسافر، ولأن الله قال:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، والفطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر القوة بالرمي، وهو لا يتم ولا يحصل به مقصوده، إلا بما يقوي ويعين عليه من الفطر والغذاء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة، لما دنوا من عدوهم:"إنكم قد دنوتم من عدوكم، فأفطروا أقوى لكم"(2)، وكان رخصة، ثم نزلوا منزلا آخر فقال:"إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا"(3) وكانت عزيمة، فعلل بدنوهم من عدوهم، واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو وهذا سبب آخر غير السفر، والسفر مستقل بنفسه، ولم يذكره في تعليله، ولا أشار إليه بالتعليل به، اعتبارًا لما ألغاه الشارع في هذا الفطر الخاص، وإلغاء وصف القوة التي يقاوم بها العدو، واعتبار السفر المجرد إلغاء لما اعتبره الشارع وعلل به.

(1) وذلك في وقعة شقحب في رمضان سنة 702، وينظر "الرد الوافر" ورسالة الأستاذ الفاضل محمَّد الصباغ "معركة شقحب".

(2)

هما في "مختصر صحيح مسلم" للمنذري- تحقيق الألباني، طبع المكتب الإِسلامي رقم (601).

(3)

هو في "صحيح الجامع الصغير" رقم (2314).

ص: 495

وبالجملة فتنبيه الشارع وحكمته، يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة، ونبه عليها وصرح بحكمها، وعزم عليهم أن يفطروا لأجلها؟ ويدل عليه ما رواه عيسى بن يونس عن شعبة عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأصحابه يوم فتح مكة:"وإنه يوم قتال، فأفطروا"(1). تابعه سعيد بن الربيع عن شعبة. فعلل بالقتال، ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء، وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال، وأما إذا تجرد السفر عن الجهاد، فكان رسول الله يقول في الفطر:"إنه رخصة من الله، فمن أخذها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".

هذا وقد أخرج الترمذي عن عائشة: أن حمزة بن عمرو الأسلمي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر، وكان يسرد الصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر"(2). قال الترمذي: حديث عائشة هذا حديث حسن. وفي المقام مباحث محلها كتب الحديث وشروحها.

ولما بيّن تعالى أحكام المسافرين والمرضى، وأنهم إذا أفطروا في شهر رمضان وجب عليهم القضاء فقط، بيّن تعالى حكم من أفطر عامدًا وهو مطيق للصوم، وليس مريضًا ولا على سفر فقال:

{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} .

معناه: {وَعَلَى الَّذِينَ} يطيقون الصوم، ويقدرون عليه، إذا هم أفطروا من غير عذر يبيح لهم ذلك: القضاء كغيرهم، من أولي الأعذار، ويزيدون عليهم بدفع {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، فالمحذوف من الآية الأولى جملة واحدة، وهي:

(1) لم أجده! ولعله ورد بالمعنى.

(2)

هو في "صحيح سنن الترمذي- باختصار السند" 572، وفي "صحيح مسلم" 2/ 789 (1121).

ص: 496

فأفطروا؛ والمحذوف من هذه الآية تلك الجملة بعينها، وجملة {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، أي: فعليهم عدة من أيام أُخر. فالمحذوف الأول دل عليه المقام، والثاني من باب الحذف من الثاني، لدلالة الأول عليه، وبما قلناه هنا قال العيني، فإنه قال في كتاب الصوم من شرحه على صحيح البخاري، عند الكلام على هذه الآية، قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، أي:{وَعَلَى الَّذِينَ} يطيقون الصوم، الذين لا عذر لهم، إن أفطروا، {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق، وعند أهل الحجاز مد، انتهى.

لكن فاته أن يقدر ما هو مصرح به في الآية التي قبلها، وهو:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

وقال الترمذي في "سننه"(1): اختلف أهل العلم فيمن أفطر في رمضان متعمدًا من أكل أو شرب، فقال بعضهم: عليه القضاء والكفارة، شبهوا الأكل والشرب بالجماع، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق.

وقال بعضهم: عليه القضاء ولا كفارة عليه، لأنه إنما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، الكفارة في الجماع، ولم تذكر عنه في الأكل والشرب، وقالوا: لا يشبه الأكلُ والشربُ الجماعَ، وهو قول الشافعي وأحمد.

وقال الشافعي: وقول النبي صلى الله عليه وسلم، للرجل الذي أفطر فتصدق عليه:"خذه فأطعمه أهلك"، يحتمل هذه المعاني يحتمل أن تكون الكفارة على من قدر عليها. وهذا رجل لم يقدر على الكفارة، فلما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا وملكه، فقال الرجل: ما أجد أفقر إليه منا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خذه فأطعمه أهلك". لأن الكفارة إنما تكون بعد الفضل عن قوته، واختار الشافعي لمن كان على مثل هذا الحال أن يأكله، وتكون الكفارة عليه دينًا، فمتى ما ملك يومًا ما كفر. انتهى.

ومحصله: أن الفطر في شهر رمضان فيه الكفارة عند أهل العلم، لكن تسقط عند العجز عنها في المشهور من مذهب أحمد، وتكون دينًا في ذمته عند الشافعي.

(1) هذا الكلام إلى: "انتهى" في "صحيح سنن الترمذي- باختصار السند"727. والحديث المستشهد به في الصحيحين.

ص: 497

وأما من أفطر بغير الجماع من غير عذر، ففي إلزامه الكفارة خلاف، والآية الكريمة دليل لمن قال بلزوم الكفارة، خلافًا لمن قال: إنها منسوخة، لأن ادعاء النسخ ليس بالأمر السهل.

وذهب بعضهم في الآية مذهبًا آخر، فقال: إن حكمها خاص بالشيخ الكبير والمريض، اللذين يطيقان الصوم، كان مرخصًا لهما أن يفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب، إلا أن يعجزا عن الصوم، فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبل النسخ ثابتًا لهما حينئذٍ بحاله؛ ونسب الطبري هذا القول إلى ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والربيع.

وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة، وحكمها مثبت منذ نزلت إلى قيام الساعة، وقالوا: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قبل ذلك، ثم يعرض له الوجع، أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضع لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكان كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خير له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خير له، ونسب هذا القول إلى ابن عباس، وبه قال ابن عمر في الحامل والمرضع، وإلى سعيد بن المسيب، وكان ابن عباس يقرأ:"وعلى الذين يطوقونه"، ويقول: هو الشيخ الكبير يفطر ويطعم عنه؛ وقال عكرمة: الذين يطوقونه يعجزون عنه؛ وقال ابن عباس: يتكلفونه.

والذاهبون إلى أن الآية منسوخة، استدلوا بما رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع، قال (1):"لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها". ورواه عن سلمة البخاري في التفسير، والنسائي أيضًا في تفسيره، ورواه أبو داود والترمذي، لكن لهذا الأثر علة خفية أشار إليها البخاري، وذلك أنه رواه عن قتيبة،

(1) إن الإمام مسلم لم يشترط ما اشترط البخاري. وهذا الحديث لا يتعارض مع شرط البخاري في اللقيا.

ص: 498

قال: حدثنا بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة، ثم قال: قال أبو عبد الله: مات بكير قبل يزيد؛ انتهى.

فأشار إلى أن رواته ثقات على شرطه، ولكن السماع يحتمل الوهم، فلم يأخذه البخاري على عاتقه، ولكنه أشار إليه، فرحمه الله ما أدق نظره، ورواه مسلم بعين هذا الإسناد، لكنه لم ينبه على علته.

وفي لفظ لمسلم عن سلمة، قال:"كنا في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت هذه الآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ". هذا وإن سلمنا فيه النسخ، فإنه منصب على عدم القضاء، كما يشير إليه قول سلمة: من شاء صام ومن شاء أفطر، ثم نزل قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فدل على وجوب الصوم اللازم منه القضاء، فهذه الآية تفسير لتلك لا ناسخة لها، وإلى هذا يشير ما نقله أبو الليث السمرقندي، في تفسيره، حيث قال: قال أبو عبيد: قد علمنا بالإجماع أن المطيق للصوم لا يجزئه الإطعام دون الصوم. انتهى.

أي: فلا بد مع الإطعام من القضاء، وقال القرطبي في شرح مسلم: جمهور العلماء على أن الإطعام عن كل يوم مد؛ وقال أبو حنيفة: مدان، ووافقه صاحباه، وقال أشهب المالكي: مد وثلث لغير أهل المدينة، هذا ما ذكره من الخلاف، والمعول عليه هو قول الجمهور (1).

وقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} . راجع إلى الإطعام، أي:{فَمَنْ} أطعم مسكينين، فهو أفضل من إطعام مسكين، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} من إطعام مسكينين، وإلى هذا ذهب ابن عباس ومجاهد، وطاوس وعطاء والسدي، وغيرهم كما رواه عنهم ابن جرير في تفسيره.

(1) أي: ويقدر الآن بكيلو غرام من القمح والرز، وأكثر أهل العلم يفتي بأكثر من ذلك احتياطًا ولمصلحة الفقير. واتباعًا لباقي الآية الكريمة {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}: أتى من الخير في الإطعام.

ص: 499

وإنما ساق سبحانه وتعالى الإفطار عند الإطاقة، والفدية واجبها، ومندوبها مساق الغيبة، وترك ذكر الفطر وإن دل السياق عليه، إشارة إلى خساسته تنفيرًا عنه، جعل أهل الصوم محل حضرة الخطاب، إيذانًا لما له من الشرف على ذلك كله، ترغيبًا فيه، وحضًا عليه، بقوله:

{وَأَنْ تَصُومُوا} ، يعني: أيها المطيقون {خَيْرٌ لَكُمْ} من الفدية، وإن زادت، ففيه إشعار بأن الصائم يناله من الخير في صحته وجسمه ورزقه حظ وافر، مع عظيم الأجر في الآخرة.

كما أشار إليه الحديث القدسي الصحيح: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به"(1).

وذلك لأنه لما كانت الأعمال أفعالًا وإنفاقًا، وسيرًا وأحوالًا، مما شأن العبد أن يعمله لنفسه ولأهله في دنياه، وكان من شأنه، كانت له، ولما كان الصوم ليس من شأنه، لم يكن له، ولذلك ختم هذه الآية بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: خير الأمرين لكم أيها المؤمنون من الإفطار والفدية، أو الصوم على ما أمركم الله به، أو {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل الصيام على الافتداء، وقدر ثواب الله للصائمين، فإنكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الله حتى تخشونه، كان الصوم خيرًا لكم.

ولما أبهم سبحانه وتعالى الأمر أولًا في الأيام بقوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ، بيّن سبحانه تلك الأيام بقوله:

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} .

(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"4538.

ص: 500

وإنما أبهم تعالى الأمر فيما مضى، وفسره هنا لأن ذلك أضخم، وآكد من تعيينه من أول الأمر، فإنه تعالى لما قال:{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ، ثم ذكر حكمها، اشرأبت نفس المخاطب إلى بيان تلك الأيام، فبينها له بقوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ} . فهو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو، أي: المكتوب {شَهْرُ رَمَضَانَ} ، هكذا أعرب الأخفش.

وقال الفرّاء: ذلك {شَهْرُ رَمَضَانَ} ، وهو قريب من الأول.

ويجوز تقدير المبتدأ: هن، أي: الأيام المعدودات، {شَهْرُ رَمَضَانَ} ، ويجوز أن يكون المعنى: أنه تعالى، لما قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، اتجه في نفس المخاطب أن يقول: ما نصوم على التعيين؟ فأجيب بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} . والتقدير: صوموا، فيكون {شَهْرُ} منصوبًا، ونصبه قراءة ذكرها أبو عبد الله الحسين بن خالويه، في كتاب "البديع" له.

والشهر هو: الهلال الذي شأنه أن يدور في فلكه، دورة من حين يهل إلى أن يهل ثانيًا، فيقطع الثمانية والعشرين التي هي منازله، سواء كان عدد أيامه تسعة وعشرين، أو ثلاثين، كلا العددين في صحة التسمية بالشهر الواحد، فهو شائع في فردين متزايدي العدد، فكمال العدة أحد الفردين المسمى بـ {رَمَضَانَ} ، ولما كانت العرب أمة أميّة، كما في حديث البخاري ومسلم، وأبي داود والنسائي، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنا أمة أميّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا

" (1).

وهكذا قال الراوي: يعني: مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين. جعل تعالى صومهم بالشيء المحسوس لهم، الذي تدل زيادته ونقصانه على ما مضى منه وما بقي، وهو الشهر القمري، لأنهم أهل شهور ناظرون إلى الأهلة، ليسوا بالمستغرقين في حساب الشمس ومنازلها، فجعل صومهم لرؤية الشهر، وجعل لهم الشهر يومًا واحدًا، فكأنهم نقلوا من صوم أيام معدودات، إلى صوم يوم واحد

(1) هو في "مختصر صحيح مسلم" 576، و"مشكاة المصابيح"1971.

ص: 501

غير معدود لوحدته، وأيضًا فإن الشمس تبقى على حالة واحدة، فلا يعلم انتقالها في البروج الذي هو كناية عن الشهر، إلا من له معرفة بفني الهيئة والحساب، وهذا يصعب أن يكون جميع المخاطبين سواء في معرفته، بخلاف القمر فإن انتقاله في منازله مشاهد لكل أحد بزيادته ونقصانه، لا يحتاج إلا لحساب ما مضى وما بقي منه.

وخطاب القرآن إنما هو للعموم لا للخصوص، فلذلك أنيط الصوم بالشهر القمري، ولم ينط بالشمسي.

ثم إنه تعالى رغب النفوس في هذا الشهر، حيث مدحه بقوله:{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، أي: ابتدئ فيه إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في رمضان، وكل سورة تسمى قرآنًا، وكذا الآية، بدليل قوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. وآية {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [الإسراء: 45]، والمراد بالمقروء ليس القرآن كله بل بعضه؛ وهنا قوله:{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، إشارة إلى ابتداء نزوله، وإذا حمل على القرآن كله لم يستقم المعنى، لأنه حين نزول هذه الآية، لم يكن القرآن تام النزول، وكم من سورة وآية نزلت بعدها؛ فلا شك أن (الـ) في القرآن هنا إشارة إلى حصة معينة سميت قرآنًا.

وفي هذه الآية إشعار لطيف، بأن الله لم يكلف عباده المشقة في دينه، بل جعله ميسرًا لهم، حيث جعل الصوم على الشهر القمري، ولم يكلفهم بما يشق عليهم من الحساب الشمسي، ليتفرغوا لأعمالهم في أمر معاشهم، وبأن {شَهْرُ رَمَضَانَ} شهر صوم وتلاوة قرآن، لا شهر عبادة بما لم ينزل الله به قرآنًا، كالبدع المبتدعة، بذكر الله تعالى بما لم يسم به نفسه، ولا سماه به رسوله.

وأكثر ما يكون رواج البدع في هذا الشهر، فلذلك قال تعالى:{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، أي: ولم ينزل فيه تلك التي ابتدعها من لم يعرف من الدين إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.

ص: 502

ومن ثم عقبه بقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ} ، إشارة إلى أن الهدى محصور فيه، بحيث لا يوجد في غيره مما ابتدع، وفي غير ما جاء به الرسول، الذي أوتي القرآن، ومثله معه.

{وَبَيِّنَاتٍ} ، أي: هو آيات واضحات مكشوفات، مما يهدي إلى الحق، ويفرق بين الهدى والغواية.

وقوله: {مِنَ الْهُدَى} ، أي: الأعم الأتم، الشامل لكافة الخلق.

{وَالْفُرْقَانِ} الأكمل الفاصل بين الحق والباطل، وذلك أنه تعالى لما ذكر أنه {هُدًى لِلنَّاسِ} ، وكان الهدى على قسمين، هدىً بينًا جليًا، وهدىً لا يكون بهذا الوصف، لا جرم اشرأبت النفس إلى معرفة هذا الهدى من أي الصنفين، فقال تعالى:{هُدًى لِلنَّاسِ} بيّنًا واضحًا فارق بين الهدى والغي، وبين الحقيقة والتمويه.

ولما أتم ما في ذكر الشهر من الترغيب من بعدما عينه، ذكر ما فيه من عزيمة ورخصة، فقال:

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، أي: فمن [كان](1) منكم شاهدًا، أي: حاضرًا مقيمًا غير مسافر في الشهر، فليصم فيه ولا يفطر.

وفي الإتيان بـ "من" الشائعة في العموم، إشارة إلى إلزام من رأى الهلال وحده بالصوم، و"من" واقعة على المكلف الذي يليق به الخطاب، فلا يدخل في عمومها الصبي والمجنون، لأنهما ليسا أهلًا للخطاب ولا للتكليف، ولفظ {الشَّهْرَ} محمول على جزء من أجزائه في جانب الشرط، وحلّ الكلام أن يقال: من شهد جزءًا من أجزاء الشهر فليصم الشهر كله، ولو حملنا الشهر على تمامه، لزم أن يكون شهوده لا يحصل إلا عند الجزء الأخير من الشهر، وهذا يقتضي بظاهر الآية، أنه لا يجب صوم الشهر إلى عند شهود الجزء الأخير منه، وهذا

(1) الزيادة من "الكشاف".

ص: 503

محال، لأنه يفضي إلى إيقاع الفعل في زمن قد انقضى، وذلك لأن الجملة المركبة من الشرط والجزاء، وما لم يوجد الشرط بتمامه، لا يترتب عليه الجزاء.

ثم إن قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} عام، يتناول عمومه أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم أو صحيح، ثم سافر أو مرض، كان الواجب عليه أن يصوم الكل.

فمن ثم كان هذا العموم مخصصًا بقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، والخاص مقدم على العام، فثبت أنه وإن سافر أو مرض بعد شهود الشهر، حل له الإفطار، وعليه القضاء عدد ما أفطر {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وحيث فهم من هذه الآية، أن كل من أدرك جزءًا من رمضان لزمه صوم كل رمضان، كان ذلك الحكم شاملًا للمجنون إذا أفاق في أثناء الشهر، أنه يلزمه صوم كل رمضان، وحيث إنه لم يمكن صوم ما تقدم، كان القضاء واجبًا عليه. إلا أن يقال: إن قوله تعالي: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، ينفي القضاء على المجنون، لأن الجنون ليس من فعله، بخلاف السفر، ولأن المريض له عقل يصلح أن يكون مناطًا للتكليف، بخلاف المجنون، فإنه أثناء جنونه ليس بأهل للتكليف، فالحق بموجب هذه الآية أنه لا قضاء عليه.

ويفهم من هذه الآية: أنه متى كان المريض بحيث يعسر عليه الصوم، جاز له الفطر، وعليه القضاء؛ وقد تقدم الكلام في ذلك.

واختلف العلماء، في أنه هل يلزم إضمار فعل في قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، أن يضمر:"فأفطر"، ثم يقول:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . فذهب ابن عباس وابن عمر، وأُبي بن كعب والضحاك، إلى إمرار الآية على ظاهرها، وقالوا: من صام في السفر فعليه القضاء إذا أقام، وبه قضى عمر، وإليه ذهب أبو هريرة وعروة، روى ذلك عنهم أبو جعفر الطبري في تفسيره، وهو نص ظاهر الآية، والإضمار خلاف الأصل، لأن الله تعالى فرض صوم شهر رمضان على من شهده مقيمًا غير مسافر، وفرض على من كان مريضًا أو على

ص: 504

سفر، عدة من أيام أُخر يصومها، بدلًا مما فاته من صوم رمضان، فكما أنه لم يجز للمقيم الصحيح الإفطار، لم يجز للمريض والمسافر الفطر.

ويؤيد هذا ما رواه ابن جرير، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"(1).

وذهب قوم إلى أن الفطر في السفر رخصة، فقالوا: إن صام في السفر سقط عنه القضاء في الحضر.

وروي هذا عن عمر بن عبد العزيز، وأنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وأُبي بن كعب، والأسود ابن يزيد، وعمرو بن ميمون، وأبو وائل، والقاسم بن محمد، وابن جرير الطبري، وهذا يدل عليه قوله تعالى:

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ولا عسر أعظم من إلزام من صام رمضان في السفر، أن يصومه أو بعضه في الحضر، وقد تكلف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه، حتى قضاه وأداه.

ويؤيد هذه الأحاديث الصحيحة، وهذه الآية، وإن وردت عقب آية الصوم.

وروي عن علي وابن عباس، ومجاهد والضحاك: أن اليسر في هذه الآية، الفطر في السفر، وأن العسر الصوم فيه.

إلا أنها تحمل على العموم، وتتخذ قاعدة، في أنه كلما دار الأمر بين الحكم على الشيء بتغليظ، وبين الحكم عليه بسهولة، كان جانب السهولة راجحًا على جانب العسر، وذلك في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية، وفي الحديث:"دين الله يسر"(2)؛ يسر ولا تعسر (3)؛ و"ما خيّر صلى الله عليه وسلم، بين أمرين إلا اختار

(1) هو في "ضعيف الجامع الصغير"3456.

(2)

هو في "صحيح الجامع الصغير"1611.

(3)

هو في "صحيح الجامع الصغير" 8086 و 8087 بلفظ: "يسروا ولا تعسروا".

ص: 505

أيسرهما" (1). وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

ولما كانت علة التيسير المؤكد بنفي التعسير الإطاقة، فكان التقدير:"لتطيقوا ما أمركم به، ويخف عليكم أمره"، عطف عليه قوله:{وَلِتُكْمِلُوا} ، مأخوذ من الإكمال، وهو: بلوغ الشيء إلى غاية حدوده، في قدر أو عدد، حسًا أو معنى.

{الْعِدَّةَ} : أي: عدة أيام رمضان مما أفطرتم من أيام أُخر، فهذه الآية علة الأمر بمراعاة العدة.

وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، علة ما علم من كيفية القضاء، والخروج من عهدة الفطر.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، علة الترخيص والتيسير. قال في "الكشاف": وهذا نوع من اللف لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. و"التكبير": تعظيم الله والثناء عليه.

ولما قال تعالى، بعد إيجاب فرض الصوم، وبيان أحكامه:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ؛ فأمر العبد بالتكبير الذي هو الذكر، وبالشكر، بيّن سبحانه أنه بلطفه ورحمته قريب من العبد، مطلَّع على ذكره وشكره، فيسمع نداءه، ويجيب دعاءه، ولا يخيب رجاءه، فقال:

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} .

وفي تعقيب هذه الآية لما قبلها، إشارة إلى أن الدعاء لا بد وأن يكون مسبوقًا بالثناء الجميل، لأنه تعالى أمر أولًا بالتكبير، ثم رغب في الدعاء ثانيًا، كما

(1) أخرجه البخاري 3560، ومسلم 2327. وقد دمج المؤلف بين الأحاديث الثلاثة لأنه نقل عبارة "البحر"!

ص: 506

أرشدنا تعالى إلى ذلك في فاتحة الكتاب، حيث علمنا الثناء أولًا، ثم عقبه بقوله، آمرًا لنا أن نقول:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .

وأخبر تعالى عن الخليل عليه السلام، أنه قدم الثناء على الدعاء، حاكيًا عنه أنه قال:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)} [الشعراء]، إلى قوله:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء]. وكل هذا ثناء منه على الله تعالى، ثم شرع بعده في الدعاء فقال:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} [الشعراء].

وفي الآية إشارة أيضًا إلى فضيلة الدعاء في الصوم، لأنه تعالى، بعد أن بيّن وجوب الصوم، وبين أحكامه، قال:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} إلى ما فيه لكم السعادة في الأولى، والعقبى، والتكبير إنما هو الذكر؛ ثم أرشد إلى الشكر.

ثم بيّن أن سبحانه وتعالى يفيض على العبد أنواع برّه وكرمه إذا امتثل أمره، فقال:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية، وأيضًا فإن الصوم، لما كان فيه من إظهار العبودية ما لا يخفى، أرشد عباده إلى تمامها بالخضوع والتضرع والدعاء، فإن العبد لا غنى له عن سيده؛ وقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} ، أي: هل أنا على حال المتكبرين من ملوك الدنيا في البعد عمن دونهم؟

فأخبرهم: أني لست كذلك، وفيه إيماء إلى غلط الذين يضربون لله الأمثال بجهلهم، فيقولون: لا بد لنا من الواسطة؛ ثم إنهم يستدلون بأنه، كما أن الملوك لا يصل إليهم قاصدهم، إلا بواسطة أعوانهم، فكذا الله تعالى، لن يصل إليه أحد إلا بواسطة واحد من أهل القبور، ويجعلون وساطتهم دينًا.

فيجابون أولًا بهذه الآية الكريمة؛ وثانيًا بأن الملوك، لما كانوا لا يدرون بما وراء جدرانهم، احتاجوا إلى مبلّغ يبلغهم حاجة المضطر والملهوف، والله تعالى {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} [طه]، فلو كان محتاجًا إلى الواسطة، للزم أن لا يكون عالمًا بأسرار عباده، واللازم باطل بالإجماع.

ص: 507

قالوا: إننا مضمخون بالذنوب والمعاصي، فلا يليق بنا أن نخاطب الحضرة الإلهية رأسًا، فوجب علينا أن نجعل وسائط طاهرة من الذنوب، ثم أنهم يلجؤون إلى واحد من المقبورين، فيجعلونه واسطة.

قيل لهم أولًا: من أخبركم بأن واسطتكم بريئة من الذنوب؟ وأنها في مقام القرب من الله تعالى؟ لأن دعوى مثل ذلك، لما عدا الأنبياء عليهم السلام، غيّ وجهل، ولئن سلمت براءتهم من الذنوب، فقد ذم الله تعالى عبّاد الأصنام، وأخبر عنهم بأنهم قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

فإن قالوا: إن هؤلاء عبدوهم! ونحن لم نعبد الوسائط.

قيل لهم: إن نفيتم العبادة الاصطلاحية، والقرآن لم ينزل على اصطلاح اتخذتموه لأنفسكم، بل نزل بلغة العرب.

وقد قال أهل اللغة، في قوله تعالى حكاية:{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]، أي: خدم الطاغوت، فأولئك لم يصلّوا ولم يصوموا للطاغوت، ولكنهم خضعوا له، وخدموه خدمة العبد لسيده.

والعبادة: هي الذل، والخضوع، والانقياد.

وأيضًا فإن الله تعالى يقبل على عبده العاصي إذا دعاه، ويفرح بتوبته، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، ويجيب دعوة المضطر إذا دعاه، بلا واسطة مخلوق، والواسطة إليه تعالى، والوسيلة إنما هي التوبة، والتذلل بباب عزّه، والثناء عليه بما هو أهله، وشكره واتباع أمره واجتناب نهيه، ليس إلا، ألا ينظر البعيد عن حضرته تعالى، إلى قوله سبحانه:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، ولم يشترط هنا واسطة مخلوق، بل أرشد إلى الثناء عليه في الآية التي قبلها، على ما بيناه سابقًا، فخذ ما أرشدناك إليه، واهجر الدسائس والوساوس والزخارف مليًا.

ص: 508

ومن ثم قال الأستاذ أبو القاسم القشيري، ما معناه: الذين يسألون عن الجبال، وعن اليتامى، وعن المحيض، ونحوها، يجابون بالواسطة، أي: بلفظ {قُلْ} أو {فَقُلْ} ، وأما الذين يسألون عني، فأنا أرفع الوسائط بيني وبينهم.

وقال الإمام ناصر الدين بن الميلق، ما معناه: أنه سبحانه، لما كان قد تعرف إلى عباده؛ بأفعاله وآياته، وما ركز في العقول من معرفته، كان حذف الواسطة في الإخبار عنه، بخلاف الأهلة ونحوها، فإن العقول لا تستقل بمعرفتها، فكأن الإخبار عنها بواسطة الرسول، الذي لا تعرف إلا من جهته أنسب.

وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} ، أي قال: هل يسمع دعاءنا ربنا؟ وهل إذا سمع دعاءنا يجيبنا إلى مطلوبنا؟ وهل يفعل ما نسأله؟ ويرى تضرعهم؟ فكأن الجواب منه تعالى: بأني قريب أسمع دعاءهم، وأرى تضرعهم، ولا يخفى علي شيء، مما تكنه ضمائرهم، وهذا هو معنى {قَرِيبٌ} في هذه الآية.

ويدل لهذا ما أخرجه البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات"، بسنده إلى أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، كلما أشرفنا على وادٍ هلّلنا وسبحنا، وارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

"يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم سميع قريب"(1). ورواه البخاري في الصحيح، عن محمد بن يوسف الفريابي، وأخرجه البخاري ومسلم من أوجه أُخر؛ ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، وابن ماجه وابن مردويه؛ ورواه خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي، وزاد فيه:

"إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".

قال الحليمي: ومعنى القريب أنه لا مسافة بين العبد وبينه، فلا يسمع دعاءه، ويخفى عليه حاله، كيفما تصرفت به، فإن ذلك يوجب أن تكون له نهاية، وحاشى له من النهاية.

(1) هو في "صحيح الجامع الصغير" 7864، و"السنة" لابن أبي عاصم 618، 619.

ص: 509

وقال الخطابي: معناه أنه قريب بعلمه من خلقه، قريب ممن يدعوه بالإجابة، كقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، هذا كلامه.

وليس هذا من التأويل الذي يميل اللفظ إلى غير ظاهره، بل إنه تعالى أخبر عن نفسه، بأنه {قَرِيبٌ} ، ثم فسر ذلك القرب، بقوله:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، فلا يتوهمن متوهم من هذا: القربَ المكاني، فإن الله تعالى منزه عنه، وعن الحلول، ولهذا حافظ تعالى على تفسير هذا اللفظ، لئلا يقع العباد في الوهم، وفي نسبته تعالى إلى ما يليق به من الحلول والاتحاد، ومن هذا النمط قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق].

وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . ذهب المتقدمون فيه وجهين:

أولهما: أن معناه {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، إن شئت، فيكون ذلك، وإن كان عامًا مخرجه، بالنسبة إلى مخرجه في التلاوة، خاصًا بالنسبة إلى معناه.

والثاني: أن يكون معنيًا بالدعوة العمل بما ندب الله إليه، وأمره بك.

فيكون تأويل الكلام: وإذا سألك عبادي عني، فإني قريب ممن أطاعني، وعمل بما أمرته به، أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني؛ فيكون معنى الدعاء، مسألة العبد ربه ما وعد أولياءه على طاعتهم، بعملهم بطاعته، ومعنى الإجابة من الله التي ضمنها له: الوفاء له بما وعد العاملين له، بما أمرهم به.

وهذان الوجهان ذكرهما الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، جوابًا عما عساه أن يقال: ما معنى هذا القول من الله تعالى ذكره، وأنت ترى كثيرًا من البشر يدعون الله، فلا يجاب لهم دعاء، وقد قال:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ؟

وأقول: الجواب الصحيح أن يقال: أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في "الأدب المفرد" و"الحاكم"، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما من

ص: 510

مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذن نكثر، قال:"الله أكثر"(1).

وأخرج الحاكم عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة"(2).

وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل فيقول: دعوت فلا أرى يستجيب لي، فيدع الدعاء"(3).

وأخرج البخاري أيضًا في "الأدب" والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من عبد ينصب وجهه إلى الله في مسألة، إلا أعطاه الله إياها، إما أن يعجلها له في الدنيا، وإما أن يدخرها له في الآخرة".

والأحاديث في هذا كثيرة، ومعناها يرجع إلى ما ذكرناه، ومنها تعلم أن الإجابة لا بد منها، ما لم يكن الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، ولكن الإجابة ليست على ما يتوهمه السامع، بل على ما ذكر في هذه الأحاديث، ورسول الله أعلم بكتاب الله منا.

وقوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} ، معناه: فليطيعوني، وهو المعروف في كلام العرب، قال كعب بن سعيد الغنوي:

ودَاعٍ دَعا: يَا مَنْ يجيب إلى النَّدى

فلم يَسْتَجِبه، عِنْدَ ذاكَ، مُجِيبُ (4)

(1) هو في "مشكاة المصابيح" 2259، وفي "صحيح الأدب المفرد"710.

(2)

هو في "صحيح الجامع الصغير" 7739، و"مشكاة المصابيح"2234.

(3)

هو في "صحيح الجامع الصغير" 8085، و"مشكاة المصابيح"2227.

(4)

تقدم عند المصنف عند الآية 17.

ص: 511

يريد: فلم يجبه. ومعناه هنا: فأجيبوني بالطاعة، وقيل: معناه فليدعوني، وهو بمعنى الأول، إذًا الدعاء من الطاعة للأمر به.

وقوله: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} فمعناه: وليؤمنوا بي إذا هم استجابوا إلي بالطاعة، أني لهم من وراء طاعتهم لي في الثواب، وإجرائي الكرامة لهم عليها؛ أو المعنى: فليؤمنوا بي أني أستجيب لهم.

وأما قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} ، فمعناه:{لَعَلَّهُمْ} يهتدون، أي: ليكونوا على رجاء من الدوام على إصابة المقاصد، والاهتداء إلى طريق الحق؛ قال الحرالّي: الرشد حسن التصرف في الأمر، حسًا أو معنى، في دين أو دنيا. وختم هذه الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء، لأنه تعالى، لما أمرهم بالاستجابة له، وبالإيمان به، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلا وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه، وإنما ذلك مختص به.

ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن ناسب ذكر الرشاد، وهو الهداية، كما قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .

ولما تصور المخاطبون بهذه الآية الشريفة قربه وحبه، على عظمته وعلوه، فتذكروا لذيذ مخاطبته فيما قبل، فاشتاقوا إليها، وكان قد يسّر لهم أمر الصوم حتمًا على جميعهم، وكيفًا على أهل الضرورة منهم، كانوا كأنهم سألوه التيسير، على أهل الرفاهية، فيما حرم عليهم، كما حرم على أهل الكتاب من الوطء في شهر الصوم، والأكل بعد النوم، فقال تحقيقًا للإجابة والقرب:

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ

ص: 512

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}.

سبب نزول هذه الآية، ما رواه البخاري في صحيحه، بسنده إلى البراء بن عازب، قال: لما نزل صوم رمضان، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} .

وأخرج أيضًا بسنده إلى الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: أخذ عديُّ عقالًا أبيض، وعقالًا أسود، حتى كان بعض الليل، نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله، جعلت تحت وسادتي، قال:"إن وسادك إذًا لعريض، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك". وفي رواية له عن عدي، قال: قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما الخيطان؟ قال:"إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين" ثم قال: "لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار".

وأخرج أيضًا عن سهل بن سعد الساعدي قال: أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} وكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعده، {مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا أنما يعني الليل من النهار.

فقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ} ، معناه: أطلق {لَكُمْ} وأبيح؛ ويعني بقوله: {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} ، في {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} ، وليس المراد من ليلة الصيام ليلة واحدة، بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة.

وقال الواحدي: أراد بـ {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} ليالي الصيام، فوقع الواحد موقع الجماعة.

ص: 513

{الرَّفَثُ} ، كناية عن الجماع في هذا الموضع، يقال: هو {الرَّفَثُ} والرفوث، وقد روي أنها في قراءة عبد الله بن مسعود:"أحل لكم ليلة الصيام الرفوث إلى نسائكم".

وهو قول قتادة ومجاهد، وسالم بن عبد الله، والسدي، وابن عباس، وقال:{الرَّفَثُ} : الجماع. ولكن الله كريم يكني؛ و {الرَّفَثُ} في غير هذا الموضع، الإفحاش في المنطق، كما قال العجاج (1):

عن اللَّغَا ورفث التكلُّمِ.

وعدى الرفث بـ {إِلَى} ، مع أنه يتعدى بالباء، لتضمنه معنى الإفضاء، قال تعالى:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]، كأنه قيل: أحل لكم الإفضاء إلى نسائكم بالرفث.

{هُنَّ} أي: نساؤكم {لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} وجه هذا، أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان، ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه، شبه باللباس المشتمل عليه. قال الجعدي:

إذا ما الضَّجِيجُ ثَنى عِطفَها

تَثَنَّت، فكانَتْ عَليهِ لِباسَا (2)

قال في "الكشاف": وجعل موقع {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} استئنافًا، كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة، قَلَّ

(1) هي في ديوانه ص 456 - بتحقيق د. السطلي-. قال الأستاذ شاكر: من رجز له طويل، حمد فيه الله ومجده بقوله:

فالحمد لله العليِّ الأعظمِ

ذي الجبروت والجَلالِ الأفخم

وعالِمِ الإعلانِ والمُكَتَّمِ

ورَبِّ كل كافرٍ ومسلم

ثم عطف على قوله: "ورب كل كافر ومسلم" عطوفًا كثيرة حتى انتهى إلى:

ورَبِّ أسراب حَجيج كُظَّمِ

عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ

(2)

هو في لسان العرب 3/ 335.

وانظر كتاب "شعر النابغة الجعدي" طبع المكتب الإسلامي، الصفحة 81، وفيه:

إذا ما الضجيج ثنى جِيدَها

تثنت عليه فكانت لِباسا

ص: 514

صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن، وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أنواع من البيان:

الطباق المعنوي بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} فإنه يقتضي تحريمًا سابقًا، فكأنه قال:{أُحِلَّ لَكُمْ} ما حرم عليكم من قبل، أو ما حرم على من قبلكم.

والكناية بقوله {الرَّفَثُ} الذي هو كناية عن الجماع.

والاستعارة البديعة في قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} ، وأفرد اللباس لأنه كالمصدر، تقول: لابست ملابسة ولباسًا.

وإنما قلنا: {أُحِلَّ لَكُمْ} ما حرم عليكم من قبل .. إلى آخره، إشارة إلى اختلاف المفسرين في هذه، وذلك أن جمهور المفسرين، ذهب إلى أنه كان في أول أمر شرعنا، أن الصائم إذا أفطر، حلّ له الأكل والشرب والجماع، بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة، فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء، ثم إن الله تعالى، نسخ ذلك بهذه الآية.

وقال أبو مسلم الأصفهاني: لم تكن هذه الحرمة ثابتة في شرعنا البتة، بل كانت ثابتة في شرع النصارى، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتًا في شرعهم، وبنى أبو مسلم ذلك على أصله الذي أصَّله، وهو أنه لم يقع في شرعنا نسخ البتة، وهذه الآية نفسها ترد على ما ادعاه، لأن قوله:{أُحِلَّ} ، لو كان لشيء ثابت لهذه الأمة من قبل، لم يكن له فائدة.

وأصرح من هذه، قوله تعالى:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، يدل على أنه، لو كان ذلك حلالًا لهم، لما كان بهم حاجة إلى أن يختانوا أنفسهم، وأيضًا لولا أن ذلك كان محرمًا عليهم، وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل، لما صح قوله:{فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} . وأيضًا لو كان الحلّ ثابتًا قبل ذلك، كما هو الآن، لم يكن لقوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فائدة.

ص: 515

وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} تظلمونها، وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان مأخوذ من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، فيه زيادة وشدة، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور.

أو المعنى: خفف عنكم بالرخصة والإِباحة، فيكون كقوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20]. أي: خفّف عنكم.

{وَعَفَا عَنْكُمْ} يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها، فيكون تأكيدًا وتأنيسًا، زيادة على التوبة، ويحتمل أن يراد، عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء، بمعنى: تَرَكَه لكم، كما تقول: شيء معفو عنه، أي: متروك.

{فَالْآنَ} أي: فالوقت الذي كان يحرم عليكم فيه الجماع من الليل؛ {بَاشِرُوهُنَّ} أي: جامعوهن {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} واطلبوا ما قسم الله لكم من الولد، أي: لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل.

وقال السمرقندي: {ابْتَغُوا} بالقرآن {مَا} أبيح {لَكُمْ} منه، والحق: أن معناه، واطلبوا جميع معاني الخير المطلوبة، لكن أشبه المعاني بظاهر الآية، أن يكون:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} من الولد، لأنه جاء عقيب قوله:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} . {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} أي: إلى أن يتبين لكم {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، كالخيط الممدود {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ما يمتد معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود؛ وتشبيههما بالخيط معروف في كلام العرب. قال أبو دؤاد (1):

فلما أضاءت لنا سُدْفةٌ

ولاح من الصبح خيطٌ أنارا

وعليه فيكون المعنى: {وَكُلُوا} بالليل في شهر صومكم {وَاشْرَبُوا} ،

(1) هو لأبي داؤد الإيادي من قصيدة يصف بها فرسًا. كما في "زاد المسير في علم التفسير" 2/ 74.

ص: 516

وباشروا نساءكم مبتغين ما كتب الله لكم من الولد، من أول الليل، إلى أن يقع لكم ضوء النهار، بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده، وبهذا قال جمهور المفسرين، كالحسن والسدي، وقتادة وابن عباس.

وهو الذي بلغنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن جرير وأحمد والبخاري، ومسلم وأبو داود والترمذي والبيهقي وسفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر، من حديث عدي بن حاتم، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل". وفي لفظ [ابن] جرير، وابن أبي حاتم:"إنما هو ضوء النهار من ظلمة الليل".

وهذا يدل على أن مجرد طلوع الفجر الثاني، هو مبدأ الإمساك في الصوم، وذهب جماعة من المفسرين، إلى أن الخيط الأبيض، أن يكون الضوء منتشرًا مستفيضًا في السماء، يملأ بياضه وضوءه الطرق، فأما الضوء الساطع في السماء، فهو غير الذي عناه الله بقوله:{الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} .

وبذلك قال أبو مجلز، ورواه الأعمش عن مسلم وعطاء ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان؛ ورواه ابن جرير ووكيع وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، عن سمرة بن جندب قال:"لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن المستطير في الأرض"(1). وأخرجه الإمام أحمد، عن طلق بن علي، بلفظ:"ليس الفجر بالمستطيل في الأفق، ولكنه المعترض الأحمر"(2).

وذهب جماعة الى أن الخيط الأبيض هو ضوء الشمس، والخيط الأسود هو سواد الليل. وروى ابن جرير هذا عن حذيفة والأعمش؛ وروى ابن جرير، عن هبيرة عن علي، أنه لما صلى الفجر، قال:"هذا حين يتبين الخيط الأبيض، من الخيط الأسود من الفجر"؛ وروي مثل هذا عن ابن مسعود، وروي عن إبراهيم

(1) هو في "إرواء الغليل"915.

(2)

هو في "صحيح سنن الترمذي - باختصار السند"567.

ص: 517

النخعي، أنه قال:"الوتر بالليل والسحور بالنهار". قال ابن جرير: وعلة من قال هذا القول، أن الوقت إنما هو النهار دون الليل. قالوا: وأول النهار طلوع الشمس، كما أن آخره غروبها؛ قالوا: ولو كان أوله طلوع الفجر، لوجب أن يكون آخره غروب الشفق، وفي إجماع الحجة، على أن آخر النهار غروب الشمس، دليل واضح على أن أوله طلوعها، قالوا: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طلوع الفجر (1)، أوضح دليل على صحة قولنا.

قال أبو جعفر الطبري: وأولى التأويلين بالآية، التأويل الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"الخيط الأبيض بياض النهار، والخيط الأسود سواد الليل". قال: وأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه شرب أو تسحر، ثم خرج إلى الصلاة، فإنه غير دافع صحة ما قلناه في ذلك، لأنه غير مستنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم، شرب قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة؛ إذ كانت الصلاة - صلاة الفجر- على عهده تصلّى بعدما يطلع الفجر، ويتبين طلوعه، ويؤذن لها قبل طلوعه. انتهى.

قلت: ولفظ {الْخَيْطُ} يشعر بابتداء طلوع الفجر، لأنه آنئذٍ يكون شبيهًا به، فأما إذا استطار وانتشر فلا، وكذلك {الْفَجْرِ} يشعر بالانفجار، وانفجار الشيء إنما يكون مبتدأه؛ وعلى كل فنقول: إن ههنا مذاهب شتى، ولكنها على حد ما قاله الرازي: وهذه المذاهب قد انقرضت، والفقهاء أجمعوا على بطلانها، فلا فائدة في استقصاء الكلام عليها، ثم من المعلوم، أن {حَتَّى} في قوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} الآية، لانتهاء الغاية، فدلت هذه الآية، على أن حلّ المباشرة، والأكل والشرب، ينتهي عند طلوع الفجر؛ وزعم أبو مسلم الأصفهاني: أنه لا شيء من المفطرات، إلا أحد هذه الثلاثة، فأما الأمور التي يذكرها الفقهاء، من تكلف القيء، والحقنة، والسَّعُوط (2) فليس شيء منها بمفطر، قال: لأن كل هذه الأشياء كانت مباحة، ثم دلت هذه الآية على حرمة هذه الثلاثة على الصائم بعد

(1) ذكرت بعض هذه الأخبار في "السلسلة الصحيحة"1394.

(2)

السعوط: ما يُنْشَقُ في الأنف من الأدوية وغيرها.

ص: 518

الصبح، فبقي ما عداها على الحل الأصلي، فلا يكون شيء منها مفطرًا.

قال الرازي: إن الفقهاء قالوا: إن الله تعالى خصّ هذه الأشياء الثلاثة بالذكر، لأن النفس تميل إليها؛ وأما الحقنة والقيء، فالنفس تكرههما، والسعوط نادر، فلذلك لم يذكرها. انتهى.

قلت: أما هذه الثلاثة، فالإجماع على أنها من المفطرات، وأما الباقي، فقد

ثبت أكثره عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الحجامة (1): فقد روى أحمد والترمذي، عن

رافع بن خديج، ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم"(2).

وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه، من حديث ثوبان، وحديث شداد بن أوس مثله؛ ورواه أيضًا أحمد وابن ماجه، عن أبي هريرة مرفوعًا؛ ورواه الإمام أحمد، من حديث عائشة، وأسامة بن زيد، والحسن بن معقل بن سنان الأشجعي؛ قال الامام أحمد: أصح شيء في هذا الباب، حديث رافع بن خديج. وقال علي بن المديني: أصح شيء في هذا الباب، حديث ثوبان، وشداد بن أوس.

وإلى هذا ذهب الامام أحمد، وخالفه الأئمة الثلاثة، عملًا بما رواه أحمد والبخاري، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم:"احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم"(3). وفي لفظ: "احتجم وهو محرم صائم". رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه.

وما القيء والاكتحال (4)، فقد روى أحمد والبخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي، وابن ماجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء

(1) الحجامة: مصّ الدم من الجرح - أو القيح من القرحة - بالفم أو بآلة كالكأس.

(2)

هو في "مشكاة المصابيح"(2012)، و"صحيح الجامع الصغير"(1136)، و"إرواء الغليل"(931).

(3)

هو في "صحيح سنن أبي داود"(1619) و (2079)، و"صحيح سنن الترمذي"(622 و 623 و 670)، و"صحيح سنن ابن ماجه"(1364) و"إرواء الغليل"(932) و"حقيقة الصيام" ص 67 - 68.

(4)

ذر الكحل في العين، أو دَلْك الأجفان به، سواء أكان للتزين أم للتداوي.

ص: 519

فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض" (1). وقال ابن الأثير في "النهاية": ذرعه القيء: سبقه وغلبه في الخروج.

وعن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه أمر بالإثمد المُرَوَّح (2) عند النوم، وقال: ليتقه الصائم"(3). رواه أبو داود والبخاري في "تاريخه".

قال مجد الدين عبد السلام ابن تيمية، في "المنتقى": وفي إسناده مقال قريب، قال ابن معين: عبد الرحمن هذا ضعيف؛ وقال أبو حاتم الرازي: هو صدوق؛ انتهى.

وقال محمد بن مفلح في "الفروع"، قال أحمد وابن معين: حديث منكر، يعني الحديث المذكور؛ ومن ثم اختار شيخ الإسلام، أحمد ابن تيمية - وفاقًا لمالك والشافعي- أن الكحل لا يكون مفطرًا.

قلت: وهو المختار.

فهذه جملة ما ورد في الأحاديث من المفطرات، مما لم يكن معلومًا من الآية الكريمة، فلو ذهب ذاهب، إلى أنه لا فطر في غير ما نص عليه الكتاب والسنة، لكان قد ذهب مذهبًا حقًا صحيحًا، لا غبار عليه.

ويدل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} أن ابتداء الإمساك يكون من التبيُّن، فمن شك فيه، وفعل شيئًا من المفطرات، ثم انكشف له أن الفجر كان طالعًا وصامه، أنه لا قضاء عليه، لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع.

وروي عن ابن عباس: أنه بعث رجلين ينظران له الفجر، فقال أحدهما:

(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"(6243)، و"مشكاة المصابيح"(2007)، و"إرواء الغليل"(923 و 930).

(2)

الإثمد: حجر يكتحل به، والمروح أي المُطَيَّب بالمسك، كأنه جُعِل له رائحة تفوح بعد أن لم تكن له رائحة.

(3)

انظر "إرواء الغليل"936.

ص: 520

طلع الفجر، وقال الآخر: لم يطلع، فقال: اختلفتما، فأكل ولم يقض، وهو قول أحمد والثوري، وعبيد الله بن الحسن والشافعي، وأبي حنيفة في أحد قوليه.

وروي معناه عن أبي بكر، وابن عمر، وبه قال ابن عباس، وعطاء، والأوزاعي؛ ولفظ "التبين" يشعر أيضًا بجواز المباشرة إلى التبيين، فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر، لأنه إذا كانت المباشرة مأذونًا فيها إلى الفجر، لم يمكنه الاغتسال إلا بعده.

وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، بيان لغاية الصوم، وإشارة إلى أنه لا صوم في الليل، كما أنه لا فطر بالنهار، ومنه يؤخذ أن المواصل مجوع نفسه في غير طاعة ربه.

واعلم أنه من المقرر عند أكثر علماء العربية، أن الغاية، إن كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، لم يدخل في حكم ما قبلها، {وَاللَّيْلِ} ليس من جنس النهار، فلا يدخل في حكمه، لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار، دخول جزء ما من الليل، فمن ثم كان هذا الجزء واجب الصوم.

قال الراغب: وفي الآية دليل على جواز النية بالنهار، انتهى.

وهذا الدليل ليس بظاهر، لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم، بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بتتميمه، فلا تعرض في الآية للنية بالنهار.

وبعض من كتب في التفسير من الشافعية (1)، لما لم يتفطن لهذا قال:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} من الفجر {إِلَى اللَّيْلِ} ، ثم قال: إنما قدرت في الآية الكريمة: "من الفجر"، ليدل على عدم جواز النية في النهار، في صوم رمضان، كما هو مذهب الشافعي، هذا كلامه.

ولقد أخطأ في ذلك، حيث قدر في كلام الله تعالى، ما لا حاجة إليه، ليجعل أصل إمامه أصلًا، والقرآن فرعًا له، وما جره إلى ذلك إلا فرط التعصب

(1) هو الخطيب الشربيني- رحمه الله.

ص: 521

في التقليد، وكان حقه أن يجعل كتاب الله أصلًا، وقول إمامه مفرعًا عنه.

وقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ، معناه: لا تجامعوا نساءكم في حال عكوفكم في المساجد، وتلك حال حبسهم أنفسهم على عبادة الله تعالى في مساجدهم؛ والعكوف أصله المقام، وحبس النفس على الشيء.

وقد اختلف أهل التفسير في معنى المباشرة، التي نهى الله عنها في هذه الآية.

فقال ابن عباس: هذه في رمضان، أو في غير رمضان، فحرم الله أن تنكح النساء ليلًا أو نهارًا حتى يقضي اعتكافه.

وقال الضحاك: كانوا يجامعون وهم معتكفون، حتى نزلت هذه الآية؛ وبذلك قال الربيع، وقتادة، والسدي، ومجاهد.

وقالوا: نهى الله المعتكف عن جماع النساء فقط، سواء كان في المسجد أو غيره.

وقال مجاهد أيضًا: نُهوا عن جماع النساء في المساجد، ولا يباشرها، ولا يتلذذ منها بشيء، لا قبلة ولا غيرها، هذا كلامه.

والآية لا تدل إلا على النهي عن المباشرة، وهي من باب المفاعلة، فيكون النهي عن الجماع، وعما هو سبيل له، وأما المباشرة التي لا تلذذ بها، فالظاهر أنها غير داخلة في هذه الآية.

وقال أبو جعفر الطبري: وأولى القولين عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك الجماع، أو ما قام مقام الجماع مما أوجب غسلًا، وذلك لأنه لا قول في ذلك، إلا أحد قولين: إما جعل حكم الآية خاصًا، أو جعله عامًا، وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ نساءه كنّ يرجلنه (1) وهو معتكف. فلما

(1) الترجيل: هو التسريح للشعر، والحديث في البخاري (295)، ومسلم (297).

ص: 522

صح ذلك عنه، علم أن الذي عنى به من معاني المباشرة، البعض دون الجميع. قال: فلما كان الجماع محرمًا على المعتكف، كان كل ما قام مقامه في الالتذاذ من المباشرة، انتهى.

أي: فيكون تحريمها شاملًا، وما قاله هو الذي تميل إليه النفس، وتركن إليه.

وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} يشير إلى أنه يصح الاعتكاف في كل مسجد، وهو قول أبي قِلابة، وابن عيينة، والشافعي، وداود، والطبري، وابن المنذر، وأحد قولي مالك.

وبعضهم نظر إلى أن الجمعة واجبة على المعتكف، فقال:"لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه". وهذا القيد لم يجئ من الآية، وإنما جاء من أمر خارج، وهو قول عبد الله، وعائشة، وإبراهيم، وابن جبير، وعروة، وقال في "المقنع" الحنبلي: ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه، إلا المرأة، لها الاعتكاف في كل مسجد، إلا مسجد بيتها.

وقال الشربيني الشافعي، في تفسيره: دلت الآية على أن الاعتكاف يكون في المسجد لا في غيره. انتهى.

وهذه الدلالة غير مسلمة، لأن النهي عن الشيء مقيدًا بحال لها متعلق، لا يدل على أن تلك الحال إذا وقعت من المنهيين، يكون ذلك المتعلق شرطًا في وقوعها؛ ونظير ذلك إذا قلت: لا تضرب زيدًا وأنت راكب فرسًا، فلا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلا فرسًا، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية، على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف.

نعم: إن الآية تومئ إلى أنه لا يشترط الصوم في الاعتكاف، وذلك لأن الله منع المعتكف من مباشرة المرأة، ولو كان اعتكافه باطلًا، لما كان ممنوعًا ترك العمل بظاهر هذا اللفظ إذا ترك النية، فيبقى فيما عداه على الأصل، وأيضًا لو كان الاعتكاف لا يجوز إلا مقارنًا بالصوم، لخرج الصائم بالليل عن الاعتكاف،

ص: 523

لخروجه فيه عن الصوم، ولما كان الأمر بخلاف ذلك علمنا أن الاعتكاف يجوز مفردًا أبدًا بدون الصوم.

وقد روي عن عمر، رضي الله عنه، قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف لله ليلة، فقال عليه الصلاة والسلام:"أوفِ بنذرك"(1). ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليل.

قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} ، {تِلْكَ} إشارة إلى كل ما تقدم، في أول آية الصوم إلى ههنا؛ {فَلَا تَقْرَبُوهَا} ، فلا تغشوها، فكأنه تعالى يقول: هذه أشياء حددتها لكم، وأمرتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها، وحرمتها فيها عليكم، {فَلَا تَقْرَبُوهَا} ، وأبعدوا منها أن تركبوها، فتستحقوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدى حدودي، وخالف أمري، ورَكب معاصيّ.

وأبدى صاحب "الكشاف" هنا نكتة لطيفة، على عادته في استخراج اللطائف، فقال: فإن قلت: كيف قيل: {فَلَا تَقْرَبُوهَا} ، مع قوله:{فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]؟ قلت: من كان في طاعة الله، والعمل بشرائعه، فهو متصرف في حيز الحق، فنهي أن يتعداه، لأن من تعداه وقع في حيز الباطل. ثم بولغ في ذلك، فنهي عن أن يقرب الحد، الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل، لئلا يداني الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعدًا عن الطرف، فضلًا عن أن يتخطاه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"واعلم أن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه"(2). فالرتع حول الحمى، وقربان حيزه واحد، ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه خصوصًا، لقوله:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} ، وهي حدود لا تقرب، هذا كلامه.

قال ابن المنير، في "الانتصاف": وفي هذه الآية دليل بين لمذهب مالك في سدّ الذرائع، والاحتياط للمحرمات، لا يدافع عنه.

(1)"صحيح الجامع"2550.

(2)

هو في "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام"20.

ص: 524

قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، أي: كما بيّنت لكم أيها الناس واجب فرائضي عليكم من الصوم، وعرفتكم حدوده وأوقاته، وما عليكم منه في الحضر، وما لكم فيه في السفر والمرض، وما اللازم لكم تجنبه في حال اعتكافكم في مساجدكم، فأوضحت جميع ذلك لكم، فـ {كَذَلِكَ} أبين أحكامي، وحلالي، وحرامي، وحدودي، وأمري ونهيي، في كتابى وتنزيلى، وعلى لسان رسولي للناس.

ويعني بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، يقول: أبيّن لهم ذلك ليتقوا محارمي ومعاصيّ، ويتجنبوا سخطي وغضبي، بتركهم ركوب ما أبيّن لهم في آياتي، أني حرمته عليهم وأمرتهم بهجره وتركه.

ولما كان من يعبد الله تعالى بالصيام، فحبس نفسه عما تعوده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار، ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله فيه، ممنوعًا من اللذة الكبرى بالليل والنهار، جدير أن لا يكون مطعمه وملبسه ومشربه، إلا من الحلال الخالص، الذي ينور القلب، ويزيده بصيرة، ويفضي به إلى الاجتهاد فى العبادة، فلذلك قال:

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} .

أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، أي: بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه، فجعل تعالى بذلك، آكل مال أخيه بالباطل، كالآكل مال نفسه بالباطل، ونظيره قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، على معنى: ولا يقتل بعضكم بعضًا، لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه.

وكذلك تفعل العرب، تكني عن أخواتها بأنفسها، وتكني عن أنفسها بأخواتها، فتقول: أخي وأخوك، أينا أبطش؟ تعني: أنا وأنت نصطرع، فننظر أينا أشد، فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عنده كنفسه.

ص: 525

وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا} ، ليس المراد منه الأكل خاصة، لأن غير الأكل من التصرفات، كالأكل في هذا الباب، لكنه لما كان المقصود الأعظم من المال، إنما هو الأكل، وقع التعارف فيمن ينفق ماله، أن يقال: إنه أكله فلهذا السبب عبر تعالى عنه بالأكل.

وأما قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} فإنه يعني: ولا تخاصموا بها، يعني: بأموالهم إلى الحكام، {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا} طائفة {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} ، يعني: بالحرام الذي حرمته عليكم، {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعمدون أكل ذلك بالإثم، على قصد منكم، إلى ما حرم الله عليكم منه، ومعرفة بأن فعلكم ذلك معصية الله وإثم.

قال ابن عباس: هذه الآية في الرجل، يكون عليه مال، وليس عليه فيه بيّنة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم، آكل حرامًا، والحاكم لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا، وإنما يقضي على نحو ما يسمع، وأصل الإدلاء، إرسال الرجل الدلو في البئر بسبب متعلقًا به في البئر (1)، فقيل للمحتج بدعواه: أدلى بحجته، إذا كانت حجته التي يحتج بها سببًا له، هو به متعلق في خصومته، كتعلق المستقي من بئر بدلو قد أرسلها فيها، بسببها الذي الدلو بها متعلقة. يقال فيهما جميعًا- أعني من الاحتجاج ومن إرسال الدلو في البئر بسبب-: أدلى فلان بحجة، فهو يدلي بها إدلاء، وأدلى دلوه في البئر، فهو يدليها إدلاء.

وتشمل هذه الآية صرف المال في الباطل، سواء كان مال نفسه، كأن يصرفه في القيان، والقمار، والبطالة، وما شاع في هذا الزمان، من (التياترو)(2)، وأنواع الملاهي التي لا يجوّزها الشرع؛ أو مال غيره، بأن تحيّل على أخذ مال غيره، بتلك الملاهي، وبالغش والخداع، ونقص الكيل والميزان، والغصب والنهب والرشوة، وأكل مال اليتيم.

(1) عبارة الطبري: "إرسال الرجل الدلو في سبب متعلقًا به في البئر" والسبب: الحبل.

(2)

أي المسرح الذي تمثل عليه الروايات وما إليها.

ص: 526

وفي قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، إشارة إلى أن الإقدام على المعصية، مع العلم بكونها معصية، أشد من الإقدام عليها من غير شعور بتحريمها.

ولما كانت آية الصيام تشير إلى الهلال، سأل السائلون عن حكمته، فقال سبحانه وتعالى:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} .

ليس في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} ، بيان أنهم، عن أي شيء سألوا، لكن الجواب كالدال على موضع السؤال، لأن قوله {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، يدل على أن سؤالهم كان عن وجه الفائدة والحكمة في تغير حال الأهلة في النقصان والزيادة، فصار القرآن والخبر متطابقين، في أن السؤال كان عن هذا المعنى.

وبيانه: {يَسْأَلُونَكَ} يا محمد {عَنِ الْأَهِلَّةِ} ومحاقها، وسرارها، وتمامها، واستوائها، وتغير أحوالها، بزيادة ونقصان، ومحاق واستسرار، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس، التي هي دائمة أبدًا على حالة واحدة، لا تتغير بزيادة ولا نقصان. فـ {قُلْ} يا محمد: خالف بين ذلك ربكم، لتصييره {الْأَهِلَّةِ} التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها، فيما خالف بينها وبينه {مَوَاقِيتُ} لكم ولغيركم من بني آدم، في معايشهم، ترقبون زيادتها ونقصانها، ومحاقها واستسرارها، ليظهر لكم بذلك وقت حل ديونكم، وانقضاء مدة إجازة من استأجرتموه، وتصرم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} ، وجعلها أيضًا ميقاتًا لـ "حجكم"، تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم.

ومن هنا تعلم، أنه ليس السؤال عن ذات الأهلة، حتى يكون الجواب على خلاف ما يترقبون، كما يحتج بذلك سعد الدين التفتازاني، في كتابيه "المطول" و"المختصر"، ونسب العرب العرباء- المشهور لهم بسلامة الذوق والذكاء- إلى البله، واستحالة إدراكهم الدقائق.

ص: 527

ويدل لما ذكرناه قوله تعالى في القمر: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5].

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الاسراء: 12].

فهاتان الآيتان تدلان على أنهم لم يسألوا إلا عن الحكمة في تغير الأهلة، ولم يكن سؤالهم عن مقدار جرمها، وكيفية انتقالها في الفلك، ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته - وأشهره إنما تكون بالأهلة - أفرده بالذكر، وكأنه تخصيص بعد تعميم، إذ قوله:{مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} ، ليس المعنى مواقيت لذوات الناس، وإنما المعنى مواقيت لمقاصد الناس، المحتاج فيها للتأقيت، دينًا أو دنيا، فجاء الحج بعد ذلك تخصيصًا بعد تعميم؛ ففي الحقيقة ليس معطوفًا على "الناس"، بل على المضاف المحذوف، الذي ناب "الناس" منابه في الإعراب. ولما كانت تلك المقاصد يفضي تعديدها إلى الإطناب، اقتصر على قوله:{مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} .

وأبدى القفال لإفراد الحج بالذكر نكتبة ثانية، فقال: إنما أفرد بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لغرض الحج، وأنه لا يجوز نقله عن تلك الأشهر لأشهر أخر، كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء (1).

قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية. روى البخاري في كتاب "التفسير" من صحيحه، عن البراء بن عازب، قال: كان العرب غير الحمس، وهم قريش، إذا أحرموا في الجاهلية، أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله تعالى:

{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية؛ فالمعنى حينئذ:

{لَيْسَ الْبِرّ} أيها الناس {بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} في حال إحرامكم {مِنْ

(1) النسيء: تأخير بعض الأشهر الحرم إلى شهر آخر تبعًا للأهواء.

ص: 528

ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} الله مخافة، وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيان البيوت من ظهورها، فلا برَّ لله فيه، فـ"أتوها" من حيث شئتم، {مِنْ أَبْوَابِهَا} ، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها، في حال من الأحوال، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده، لأنه مما لم أحرمه عليكم.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، يريد، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أيها الناس، فاحذروه، وارهبوه: بطاعته فيما أمركم من فرائضه، واجتناب ما نهاكم عنه، لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاء في جناته، والخلود في نعيمه؛ وهذه الآية بالنسبة إلى ما قبلها، يجوز أن يكون جريانها على وجه الاتصال بما قبلها، على معنى أنهم لما سألوا عن الأهلة والحكمة

إلى هنا انتهى ما وجدناه من مخطوط المؤلف عليه رحمة الله

ص: 529