الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين، ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه، وذاكرًا لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء.
هذا وقد روي في
سبب نزول هذه الآية
، ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، عن عاصم الأحول، قال: "سألت أنس بن سيرين عن الصفا والمروة، فقال: كانا من شعار الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية (1)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت: "نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا في الجاهلية إذا أحرموا، لا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما قدمنا المدينة ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} .
ورواه الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس بنحوه، ورواه عنه بنحوه أيضًا ابن جرير وابن أبي داود في "المصاحف"، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، ورواه ابن جرير عن ابن عمر.
و{الصَّفَا} جمع صفاة وهي: الصخرة الملساء، وهو لفظ مفرد، وتثنيته صفوان، وجمعه: أصفاء وصفياء وصفيا.
و{الْمَرْوَةَ} هي: الحصاة الصغيرة، يجمع قليلها مروات، وكثيرها المرو، مثل تمرة وتمرات وتمر.
والمراد من {الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الجبلان المعروفان.
وقوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} يعني: من معالم الله التي جعلها لعباده معلمًا ومشعرًا يعبدونه عندها، إما بالدعاء وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها.
والحج: القصد. والاعتمار: الزيارة، ثم غلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين.
(1) ينظر "إرواء الغليل"1079.
وأصل الـ {جُنَاحَ} : الميل إلى الإثم، ثم أطلق على الإثم، يقال: جنح إلى كذا جنوحًا، مال، و {تَطَوَّعَ} تفعّل من الطوع، وهو الانقياد.
فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} معناه: أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي: من معالمه، فالكلام على حذف مضاف، لأن الجبلين ذاتهما ليسا من شعائر الله، وإذا فسرنا الشعائر بمواضع العبادة، لا نحتاج إلى تقدير مضاف، إذ المعنى حينئذ أن الصفا والمروة من مواضع عبادة الله.
ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة، إنما يكون عبادة إذا كان بعض حج أو عمرة، بين تعالى ذلك بقوله:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ} أي: أثم {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي: يدور بهما، ويسعى بينهما.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي: من تطوع بالحج والعمرة {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاء وجهه، فمجازيه به {عَلِيمٌ} بما قصد وأراد بتطوعه بما تطوع منه.
هذا ولنذكر الأحكام التي تستنبط من هذه الآية فنقول:
أولها: إن ظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} يشير إلى أن الطواف، أي: السعي بين الصفا والمروة سنّة، وإلى هذا ذهب جماعة من السلف، فقد روى ابن جرير عن ابن جريج عن عطاء قال:"لو أن حاجًا أفاض بعد ما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يسع، فأصابها - يعني امرأته - لم يكن عليه شيء، لا حج ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ". قال: ابن جريج: فعاودته بعد ذلك فقلت له: إنه ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ألا تسمعه يقول: فمن تطوع خيرًا" فأبى أن يجعل عليه شيئًا.
وقال أنس: الطواف بينهما تطوع، وكان ابن عباس يذهب إلى هذا ويقرأ: فلا جناح عليه أن لا يطوف بينهما. وقال بذلك مجاهد، وعبد الله بن الزبير.
والقول بأنه سنة، رواية عن الإمام أحمد، نقلها العلامة محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، في كتابه المسمى "بالفروع" فقال في عدّ أركان الحج: السعي ركن وعنه، أي: الإمام أحمد، يجبره دم، وعنه سنة.
وقال إمام الحنابلة في زمنه القاضي أبو يعلى ابن الفراء في كتابه "التعليق الكبير": السعي ركن في الحج، لا ينوب عنه الدم، في أصح الروايتين، وفيه رواية أخرى، يعني: للإمام أحمد، ليس بركن، وقال أبو حنيفة: يجب بتركه دم. انتهى.
واستدل أصحاب القول الأول، بما رواه الإمام أحمد في "المسند" بسنده إلى حبيبة بنت أبي تَجْرَاة (1)، إحدى نساء بني عبد الدار، قالت: نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى، وإن مئزره ليدور من شدة السعي، حتى لأقول: إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول:
"اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"(2). ورواه الشافعي أيضًا، وصححه الدارقطني.
وبما رواه الإمام أحمد عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول:
"كتب عليكم السعي فاسعوا".
قلت: المرأة المجهولة هنا حبيبة المتقدمة كما صرح به الشافعي في مسنده.
وحجتهم أن قوله: "اسعوا" أمر، والأمر للوجوب.
واستدل أصحاب القول بان السعي سنة بهذه الآية، فقال: إنها تقتضي أن
(1) في الأصل- تبعًا لمطبوعة "المسند"-: تجزئة. والتصحيح من "الإصابة" 4/ 269، و"توضيح المشتبه" لابن ناصر الدين 1/ 186.
(2)
حديث صحيح كما في "إرواء الغليل" 1072، و"مسند الإمام أحمد" 6/ 421 وهو في الرقم 27356 و 27357 من الطبعة الجديدة لدى المكتب الإسلامي.
السعي يكون بعد الفراغ من الحج، لأن الله تعالى قال:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فلو كان السعي ركنًا لما أثبت له الحج والعمرة قبل وجوده.
وأجاب القائلون بالركن: بأن هذا لا يدل على ما قاله، لأن من قال: من صلى فليقرأ فيها بفاتحة الكتاب، أو فليقرأ فيها من القرآن، لا يدل على أن الصلاة تخلو من القرآن.
وأقول: الفرق بين الآية والمثال، كالصبح ظاهر، لأن الآية ليس فيها تلك الظرفية المذكورة في المثال، ولولاها ما ظهر المعنى الذي أراده المدافع، ألا ترى أنه لو قيل: من صلى فليقرأ بفاتحة الكتاب، يدل على أن القراءة تطلب خارج الصلاة، ولا يتعين المعنى الذي أراده، وقولهم: الأمر للوجوب ليس على إطلاقه، فإن القائل بذلك قال: إن الأمر إما أن يكون مجردًا أو مقترنًا، فإن كان مقترنًا بقرينة تدل على أن المراد به الوجوب أو الندب أو الإباحة، حمل على ما دلت عليه القرينة، وإن كان مجردًا عن قرينة، فهو يقتضي الوجوب، وهذا عند أئمة الفقهاء الأربعة، وبعض المتكلمين كأبي الحسين البصري والجبائي، وقال أبو هاشم المعتزلي وجماعة من المتكلمين: هو لمطلق رجحان الفعل، أي: للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وقيل: إنه للإباحة، وقيل: بالوقف.
وبعد: فحديث حبيبة، مداره كما قاله أبو بكر ابن المنذر على عبد الله بن مؤمل، وقد قال الإمام أحمد: أحاديثه مناكير. وقال يحيى بن معين مرة عنه: هو ضعيف، ومرة: ليس به بأس، ولم يخرج هذا الحديث أحد من أهل الكتب الستة، وفي إسناده اختلاف، وحديث صفية رواه الدارقطني، وفي سنده منصور ابن عبد الرحمن، قال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال يحيى بن معين: هو ثقة، وهو غير مخرج في السنن أيضًا، لكن قال الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الهادي، في كتابه "تنقيح التحقيق": قال شيخنا - يعني شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية -: هو حديث صحيح الإسناد، ومنصور بن
عبد الرحمن ثقة، مخرج له في الصحيحين، وليس هذا بمنصور الغُدَاني (1)، هذا ما قاله ابن عبد الهادي. وأيًا ما كان، فلا يعارض الآية، ولا يدل على الركنية.
وعندي: أن الآية تدل على أن السعي تطوع في الحج، لقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ولقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فلو كان السعي ركنًا لتوعد الله على تركه، كما هو عادة الكتاب العزيز، والحق: أن يترك حكم القرآن على ظاهره، ولا يعدل به إلى التأويل، ليوافق قولًا قاله قوم، على أننا لو سلمنا صحة الحديث، فإن الآية تكون قرينة على صرف قوله صلى الله عليه وسلم: "اسعوا
…
" الذي هو أمر عن الوجوب، فضلًا عن الركنية، والحق أحق أن يتبع.
والحكم الثاني: المستنبط من هذه الآية، أن العقل وحده لا يدرك جميع ما هو حسن أو قبيح إلا بواسطة الشرع، ألا ترى أن أفعال الحج يراها العقل كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة، ومنها السعي وقد دلت الآية على أن من فعلها، كان الله له شاكرًا لما يفعله الساعي، عالمًا به، فيجزيه أحسن الجزاء، على فعله، وهذا هو المقصود من النفع شرعًا.
والحكم الثالث: أن قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} يدل على أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه، وإنما يصير عبادة إذا صار بعضًا من أبعاض الحج، ولهذا السر بيّن الله الموضع الذي يصير فيه السعي عبادة.
والحكم الرابع: أن قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} يدل على أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى، وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات.
ودل قوله: {عَلِيمٌ} على أن العمل لا بد من الإخلاص فيه، فإن الله عليم بفعل العبد، إن أخلص العمل له أثابه عليه، وإلا وكله لمن عمل له من الأغيار.
والحكم الخامس: دلت الآية على أن الطواف إنما يكون بالصفا والمروة، فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما لم يُعدَّ طائفًا، ودلت الآية أيضًا على مطلق
(1) الأصل: (العدائي) والتصحيح من "الخلاصة" و "التقريب".
الطواف، لا على كيفية ولا عدد، غير أن الأحاديث الصحيحة هي التي تعين ذلك، ولها محل تذكر فيه، وليس هنا محل استقصائها (1).
ولما تقدم أن بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا الحق، وختم ما أتبعه له بصفتي الشكر والعلم، ترغيبًا وترهيبًا بأنه يشكر من فعل ما شرعه له، ويعلم من أخفاه، وإن دق فعله، وبالغ في كتمانه، انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم والمصارحين، ولعنهم على كتمانهم ما يعلمونه من الحق، إذ كانت هذه كلها في الحقيقة قصصهم، والخروج إلى غيرها، إنما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين، لأن هذا الكتاب هدى.
وكان السياق مرشدًا إلى أن التقدير بعد قوله {شَاكِرٌ عَلِيمٌ} ، ومن أحدث شرًا فإن الله عليم قدير، فوصل به استئناف قوله على وجه يعمهم وغيرهم:
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} بيان لجزائهم، وبقوله:{مَا أَنْزَلْنَا} انتظمت هذه الآية في ختمها لهذا الخطاب، بما مضى في أوله من قوله:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42] فكانت البداية خاصة، وكان الختم عامًا، ليكون ما في كتاب الله أمرًا، على نحو ما كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تقدمه من الرسل خلقًا، لينطبق الأمر على الخلق بدءًا وختمًا انطباقًا واحدًا، فعم كل كلام من الأولين (2) والآخرين، قاله الحرالّي.
فقوله: وكان الختم عامًا، هو ما يدل عليه سياق الكلام، من أن الآية تتناول كل من كتم شيئًا من الدين؛ وهو أولى مما يقوله كثير من المفسرين، من أنها نزلت في اليهود خاصة، ومن أنها نزلت في اليهود والنصارى، وذلك لأن اللفظ عام، والعارض الموجود، وهو نزوله عند سبب معين، لا يقتضي الخصوص، لأن
(1)"حجة النبي صلى الله عليه وسلم" صفحة 59 - 60، طبع المكتب الإسلامي.
(2)
الأصل: (الآخرين) والتصحيح من "نظم الدرر" للبقاعي 2/ 273.
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم، فقد أخرج البخاري وابن ماجه، والحاكم وابن سعد، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال:"لولا آيتان من كتاب الله، ما حدثت حديثًا بعد أن قال الناس: أكثر أبو هريرة"، وفي لفظ:"ما حدثت أحدًا بشيء أبدًا"، ثم تلا:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية.
وقال ابن جرير: وهذه الآية، وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معني بها كل كاتم علمًا فرض الله بيانه للناس، وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار" انتهى.
قلت: والحديث أخرجه أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس، بلفظ:"من سُئل عن علم فكتمه، جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار"(1). ورواه أيضًا الترمذي وابن ماجه، وعبد بن حميد والحاكم، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظه، إلا أنه قال:"من سُئل عن علم عنده". ورواه ابن ماجه عن أنس بنحوه، والطبراني عن ابن مسعود مرفوعًا.
وقوله تعالى: {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} أريد بـ {الْبَيِّنَاتِ} التي لا يحتاج سامعها المجرد عن الهوى في فهمها إلى شيء معها، و {وَالْهُدَى} هو: الذي من شأنه أن يقود من أحسه (2) إلى صراط مستقيم، ولما كان المراد الترهيب من الكتمان في وقت ما ولو قَلّ، أثبت الجارَّ فقال:{مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} أي: الذين هم في أدنى طبقات المخاطبين، وفيه تبكيت عظيم لبني إسرائيل، فإنهم من أعظم المقصودين بذلك، لكتمانهم ما عندهم.
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"6284.
(2)
كذا في بعض نسخ البِقاعي، وفي نسخة الظاهرية منها:"أحبه" ورجحها محقق البقاعي 2/ 274.
وقوله: {فِي الْكِتَابِ} إشارة إلى أن ما بينه الله في الكتاب لا يحل كتمه، لما ذكر من أن الكتاب هو ما احتوى على الأحكام والحدود، بخلاف ما يختص بالفرقان، أو يعلو إلى رتبة القرآن، ولما كان المضارع دالًا على التجديد المستمر، وكان الإصرار المتصل بالموت دالًا على سوء الجبلة، أسقط فاء السبب إشارة إلى استحقاقهم للخزي في نفس الأمر، من غير نظر إلى سبب، فقال:{أُولَئِكَ} أي: البغضاء البعداء {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} أي: يطردهم {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} أي: كل من يصح منه لعن.
وقد دلت هذه الآية بظاهرها على استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل الله، وإن لم يسأل عنه، بل يجب التعليم والتبيين، وإن لم يسألوا {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
وقال الرازي: قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} يعم كل ما أنزله على الأنبياء كتابًا ووحيًا، دون أدلة العقول، وقوله تعالى:{وَالْهُدَى} يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية، قال: واعلم أن الكتاب لما دل على أن خبر الواحد، والإجماع، والقياس حجة، فكل ما يدل عليه أحد هذه الأمور، فقد دل عليه الكتاب، فكان كتمانه داخلًا تحت الآية، فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية، وجمع بين الأمرين في الوعيد، فهذه الآية تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجًا إليها، ثم تركها، أو كتم شيئًا من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه، فقد لحقه الوعيد العظيم. انتهى.
قلت: وخصوصًا في زمننا هذا، فإن أولي المعارف من أهله، كادوا لا يعرفون إلا الأدلة العقلية، أشد مما كان عليه القوم أيام الرازي والغزالي، فلذلك كانت معرفة العلوم العقلية على نمط مصطلح أهل هذا الزمن، وترتيب الأدلة على مقتضاها من ألزم ما يحتاجه صاحب العلم، والمدرس والمؤلف.
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: الحظ لمن آثر العلم، وعرف فضله، أن
يستعمله جهده، ويقرنه بقدر طاقته، ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة، ويدعو إليه في شوارع السابلة، وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه، ويجري الأجور لمقتبسيه، ويعظم الأجعال للباحثين عنه، ويسني مراتب أهله، صابرًا في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظًا جزيلًا، وعملًا جيدًا، وسعدًا كريمًا، وإحياء للعلم، وإلا فقد درس وطمس، ولم يبق منه إلا آثار لطيفة، وأعلام دائرة، انتهى كلامه.
ولما بيّن تعالى عظيم الوعيد في {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 174]، كان يجوز أن يتوهم أن الوعيد يلحقهم على كل حال، فبيّن تعالى أنهم إذا {تَابُوا} تغير حكمهم، ودخلوا في أهل الوعد، فقال:
فقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناء متصل، والتوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح، لا لغرض سواه، لأن من ترك ردّ الوديعة، ثم ندم عليه؛ لأن الناس ذموه، أو لأن الحاكم ردّ شهادته، لم يكن تائبًا، وكذلك لو عزم على رد كل وديعة، والقيام بكل واجب، لكي تقبل شهادته، أو يمدح بالثناء عليه، لم يكن تائبًا، وهذا معنى الإخلاص في التوبة.
ثم بيّن تعالى: أنه لا بد له بعد التوبة من إصلاح ما أفسده، مثلًا لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة عليه، يلزمه إزالة تلك الشبهة.
ثم بيّن ثالثًا: أنه بعد ذلك يجب عليه فعل ضد الكتمان، وهو البيان لما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع، وهو المراد بقوله:{وَبَيَّنُوا} فدلت هذه الآية على أن التوبة، لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي، وبفعل كل ما ينبغي.
وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ} إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين، {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي: أقبل توبتهم فأحفظهم.
ولما كان من شأن الإنسان معاودة الذنوب لصفة النسيان، ختم الآية بما دلّ
على أن التقدير: فإني أحب التوابين، فقال:{وَأَنَا التَّوَّابُ} أي: مرة بعد مرة، لمن كرّ على الذنب، ثم راجع، كرّة إثر كرّة {الرَّحِيمُ} لمن فعل ما يرضيني، وختم تعالى هذه الآية بهذين الاسمين الشريفين، ترغيبًا في التوبة، وإشعارًا بأن هاتين الصفتين هما له، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه، وأنه يقبل توبة التائبين بعد التفريط العظيم منهم.
ولما لعن تعالى الكاتمين، واستثنى التائبين، ذكر المصرِّين معبرًا عن كتمانهم بالكفر، لتعم العبارة كل كافر فقال:
ظاهر هذه الآية العموم في حق كل من كان كذلك؛ وهو المشار إليه بقول أبي العالية وقتادة والسدي؛ كما رواه عنهم عبد بن حميد؛ وإليه ذهب ابن جرير فقال:
يعني تعالى ذكره بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} إن الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به من اليهود والنصارى، وسائر أهل الملل والمشركين من عبدة الأوثان، {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} ، يعني:{وَمَاتُوا وَهُمْ} على جحودهم ذلك، وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ} ، أي: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته، ولعنتهم الملائكة أجمعون.
وقال قتادة: يعني بقوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} المؤمنين؛ وبه قال الربيع؛ وقال أبو العالية: هذه اللعنة تكون يوم القيامة، حيث يقف الكافر على رؤوس الأشهاد، فيلعنه الكل.
ثم قال ابن جرير: والصواب: أن لعن جميع الناس إياهم، هو قولهم: لعن الله الظالم أو الظالمين، فإن كل أحد من بني آدم لا يمنع من قيل ذلك، كائنًا من كان، ومن أي ملة كان، فيدخل بذلك في لعنته كل كافر، كائنًا من كان. انتهى.
وبهذا يتحصل الجواب عما عساه يقال: وكيف تكون اللعنة على من مات
كافرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم، من جميع الأمم، وأكثرهم ممن لا يؤمن به ولا يصدقه؟
وأما قول قتادة المخصص للناس بالمؤمنين؛ - (وقول الزمخشري متابعًا له، حيث قال: فإن قلت: ما معنى قوله {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}؟ وفي الناس المسلم والكافر، قلت: أريد بالناس من يعتد بلعنه، وهم المؤمنون. انتهى) - فهو قول ظاهر التنزيل بخلافه، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر، فإن كان ظن أن المعني به المؤمنين، من أجل أن الكفار لا يلعنون أنفسهم ولا أوليائهم، فإن الله قد أخبر أنهم يلعنونهم في الآخرة، ومعلوم منهم أنهم يلعنون الظَلَمة، وداخل في الظلمة كل كافر بظلمه نفسه، وجحوده نعمة ربه، ومخالفته أمره.
وذكر تعالى لعنته لهم أولًا، ثم ثنى بالملائكة لما في النفوس من عظم شأنهم، وعلو منزلتهم وطهارتهم، ثم ثلث بالناس لأنهم من جنسهم، فهو شاق عليهم، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه، أشق، بخلاف صدور ذلك من الأعلى.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: في اللعنة، لا يخفف عنهم العذاب لاستعلاء اللعن عليهم، وإحاطته بهم. وهم لا {يُنْظَرُونَ} ، أي: لا يمهلون، ولا يؤجلون، فالفعل مشتق من الإنظار؛ أو لا ينتظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة، وفي الآية دليل على أنه لا يجوز لعن كافر معين، لأن حاله عند الوفاة لا تُعلم، فلعله يموت على الإسلام، وقد شرط الله في هذه الآية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر.
ولما أفاض تعالى عليهم ما أفاض من بحار الحِجاج، وقرر ما أراد من شرائع الإسلام، وأرشد هذا السياق المذكور فيه ثواب المطيع، وعقاب العاصي، إلى أن التقدير فـ {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا شريك له يدافعه عما يريد، لا إله إلا هو المنتقم من أعدائه، العظيم في كبريائه، عطف عليه مكررًا الزاجر لكل منافق وفاجر، ومذكرًا بالعاطف لكل موافق مؤالف، قوله:
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} .
بيّن بقوله {إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، أن الوحدة معتبرة في نفس الأمر في الإله الحق، فلا يصح أصلًا أن يكون منقسمًا بالنوع، ولا بالشخص، ولا بالوصف، ولا بالفعل، ولا بغير ذلك بوجه من الوجوه، وإليه هذا الإشارة بإعادة لفظ الإله، وأنه هو الواحد الذي لا ينقسم بوجه من الوجوه، لا بمجانسة ولا بغيرها؛ وهو مع ذلك {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، فهذا تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته، فلا يصح بوجه، ولا يمكن في عقل أن يصلح للألوهية غيره أصلًا، فلا يستحق العبادة إلا هو، لأنه {الرَّحْمَنُ} ، أي: العام الرحمة بالنعم الدنيوية الزائلة لأوليائه وأعدائه {الرَّحِيمُ} ، أي: المخصص بالنعم الباقية لأوليائه، فثبت للتفرد بالألوهية، أنه حائز لجميع العظمة، وبيده مجامع الكبرياء والقهر، وبوصفي (1) الرحمة، أنه مفيض لجلائل النعم ودقائقها، فكل ما سواه إما نعمة، أو منعم عليه، فهو المخشي سطوته، المرجى رحمته، أن يعترض عليه في شيء من ذلك.
قال البرهان البقاعي، في كتابه "نظم الدرر": ولا يبعد عندي، وإنْ بَعُدَ المدى، أن تكون الواو في قول {وَإِلَهُكُمْ} ، عاطفة على قوله في أوائل السورة، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، قبل قوله:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فإن التوحيد هو المقصود بالذات، وعنه تنشأ جميع العبادات، فلما قال أولًا:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أتبعه في قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} إلى آخره، بوصف هو دليل استحقاقه للعبادة، فلما قام الدليل قال:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} إعلامًا بأنه لا شريك له في العبادة، كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق، ثم أتبعه بما يليق بذلك المقام، مما تقدم التنبيه عليه؛ ثم رجع إليه قائلًا ثانيًا:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] إلى آخرها، فأعاد الدليل على وجه أبين من الأول وأبسط، فلما تقرر على وجه لا مطعن فيه أمر الوحدانية والإعادة، كان الأنسب ما أولاه من الآيات السابقة، لما ذكر فيها من غير ذلك من المهمات؛ إلى أن صار إلى ذكر الكاتمين والتائبين والمصرّين، وذكر ما أعد لكل من الجزاء،
(1) قال محقق "نظم الدرر" 2/ 281 بعد أن صححه بما تبعناه به: في الأصول: لوصفي، مع أنه معطوف على "بالتفرد". انتهى. وهو في الأصل:"لوصفي" أيضًا.
فأتبع ذلك هذه الآية عاطفًا لها على ما ذكرته، على وجه أصرح مما تقدم في إثبات التوحيد، بيانًا لما هو الحق، وإشارة إلى أنه تعالى ليس كملوك الدنيا، الذين قد يحول بينهم وبين إثابة بعض الطائعين، وعقوبة بعض العاصين، بعض أتباعهم، فإنه واحد لا كفؤ له، بل ولا مداني، فلا مانع لنفوذ أمره؛ ولا يستنكر تجويز هذا العطف، لأنه جرت عادة البلغاء، أن أحدهم إذا أراد إقامة الحجة على شيء، لأمر يرتبه عليه، أن يبدأ بدليل كاف، ثم يتبعه تقريب الثمرات المجتناة منه، ثم يعود إلى تأكيده على وجه آخر، لتأنس به النفوس، وتُسَرّ به القلوب.
وربما كان الدليل طويل الذيول، كثير الشُّعب، فيشرح كل ما يحتاج إليه من ذيوله، وما يستتبعه من شعبه، فإذا استوفى ذلك، ورأى أن الخصم لم يصل إلى غاية الإذعان، أعاد له الدليل على وجه آخر عاطفًا له على الوجوه الأُول، تذكيرًا بما ليس بمستنكر، ذلك في مجاري عاداتهم، ومباني خطاباتهم. انتهى.
وهو تدقيق بديع، واستنباط حسن، وهنا إشارة ألطف، أبداها صاحب كتاب "مفتاح الباب المقفل" حاصلها: أنه لما كان مضمون الكتاب دعوة الخلق إلى الحق، والتعريف بحق الحق على الخلق، وإظهار مزايا المصطفين من الملائكة والأنبياء والرسل، ومن سار بسيرهم، واقتدى بهم، وإقامة الحجة بذلك على من دونهم في إلزامهم اتباعهم، وكان الضار للخلق إنما هو الشتات، كان النافع لهم إنما هو الوحدة، فلما أظهر لهم تعالى مرجعهم إلى أبوة آدم في جمع الذرية، ووحدة أبوة ابراهيم في جمع الإسلام، ووحدة أحمدية محمد صلى الله عليه وسلم، في جمع الدين، فاتضح لهم عيب الشتات والتفرق، وتحقق لهم شاهد النفع في الجمع إلى وحدات، كان ذلك آية على أعظم الانتفاع بالرجوع إلى وحدة الإلهية في أمر الحق، وفي إفهام ذلك وحدات ما بطن في ظاهر الوحدات الظاهرة، من وحدة الروح، ووحدة النفس والعقل، فقال تعالى عطفًا على ما ظهر بناؤه من الوحدات الظاهرة، وما أفاده إفهامها من الوحدات الباطنة:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإذا قبح الشتات مع وحدة الأب الوالد فكيف به مع وحدة أب الدين، فكيف به مع وحدة النبي المكمل، فكيف به مع وحدة الإله الذي هو الرحمن الرحيم. هذا ولما اطلع
البقاعي على هذه الإشارة، وزين بها كتابه، وأطال بها، أقدم على ما ذكره سابقًا من العطف، وانفتح له ذلك الباب المقفل.
ثم اعلم أن الحق تعالى واحد باعتبارين:
أحدهما: أنه ليست ذاته مركبة من [اجتماع](1) أمور كثيرة.
والثاني: أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب الوجود، وفي كونه مبدأ (2) لوجود جميع الممكنات.
وإنما خص تعالى هذا الموضع بذكر {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، لأن ذكر الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة، ترويحًا للقلوب عن هيبة الإلهية، وعزة الفردانية، وإشعارًا بأن رحمته سبقت غضبه، وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان.
ولما حكم تعالى بالفردانية والوحدانية، ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده تعالى أولًا، وعلى توحيده وبراءته عن الأضداد والأنداد ثانيًا، فقال:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
(1) زيادة من الفخر الرازي.
(2)
لقد اعتمد المؤلف رحمه الله على أصح ما وجد من أقوال في المنقول والمعقول. وعند علماء الهيئة. وابتعد ما أمكنه عن سخافات أهل الإشارة والأفلاك والسحر وما إليها.
ولكن العلم الحديث في أواخر القرن الرابع عشر الهجري المنصرم، وأواخر هذا القرن العشرين أوصل أهله إلى حقائق علمية مذهلة، بعد سبر الأجواء والاطلاع على أحوال الكواكب عن قرب بوساطة الأقمار الصناعية.
وصل العلم إلى ما أذهل أهله من صدق القرآن الكريم في جميع ما يتعلق بالكون والأفلاك والمجرات .. مما لم يكن معروفًا عند أحد خلال العصور والدهور .. والله سبحانه أصدق القائلين.
هذا الاستدلال إنما هو استدلال بالأثر على المؤثر، وبالصنعة على الصانع، فأرشدنا تعالى للاستدلال بهذا الخلق الغريب، والبناء العجيب، وعرفنا طريق النظر، وفيما ننظر، فبدأ أولًا بذكر العالم العلوي فقال:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} وخلقها: إيجادها واختراعها، أو: خلقها وتركيب أجرامها، وائتلاف أجزائها، من قولهم خلق فلان حسن، أي: خلقته وشكله؛ ثم ثنى بالعالم السفلي فقال: {وَالْأَرْضِ} ؛ ثم ثلث بما بينهما، فأرشدت الآية إلى النظر في عدة علوم:
أحدها: علم الهيئة الذي يبحث في العلويات، من حيث تشريحها وسير شموسها وأقمارها ونجومها وحركاتها، وما يتصل بذلك مما هو من متعلقات هذا الفن.
وثانيها: فن المواليد الثلاثة، وفن طبقات الأرض، ففي تلك الطبقات تكون المعادن بأنواعها من الجامد والسائل والمنطرق، وغير ذلك، وهذا من المواليد أحدها.
وفي قوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يشير إلى فن النبات بأنواعه، كالزراعة وخواص النبات، وما يتولد منه من الأدوية والصباغ، والفواكه والثمرات، والحبوب المغذية وغير المغذية، والبزور؛ فقد شمل فن الصيدلة إذا انضم إليه المعادن؛ وفن العطارة؛ وفنونًا أخرى لا تخفى على الناظر.
وثالثها: فن الحيوان بأجمعه، المشار إليه بقوله:{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} إذ الدابة في الأصل كل ما يدب على الأرض، فتشمل سائر الحيوانات.
ورابعها: علم الأحوال الجوية، المشار إليه بقوله تعالى:{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ} الآية.
فهذه الفنون، وما ينضم إليها مما هو تتمات لها، كالهندسة والحساب، المتعلقين بفن الهيئة، وما يتوصل به إلى غيرها، كلها دلائل على أنه
تعالى {إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 163]، ولكن ليست هذه الدلائل إلا {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، فأولئك هم الذين يطرحون التعصب جانبًا، ويدأبون على إدراك الحقيقة، ثم إذا جعلوا المذكورات دلائل تدلهم على الهدى والصراط المستقيم، أوصلتهم إلى النتيجة الصحيحة، وهي: أن الخالق لها، هو الإله الذي {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .
وأدرج تعالى في غضون ذلك فن الاجتماع البشري، المعبر عنه بعلم العمران، أو سياسة المدينة أو المدنية، وذلك في قوله تعالى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} فأرشد تعالى إلى أن هذا من جملة الدلائل الدالة على وجوده، وإفراده بالوحدانية، كما سنشرحه أثناء الكلام على هذه الآية.
فقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} أي: في النظر في تركيب أجرامها، وائتلاف أجزائها، وإبداعها ذلك الإبداع الغريب، {لَآيَاتٍ} ، فالآية تدل على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية، وأن التقليد ليس طريقًا البتة إلى تحصيل هذا الغرض، وكم فى القرآن من آيات تدل على ذلك، وتشير إليه.
وقد حكى ابن الخطيب في تفسيره "مفاتيح الغيب": أن عمر بن الخيام، كان يقرأ كتاب "المجسطي" على عمر الأبهري، فقال له بعض الفقهاء يومًا: ما الذي تقرؤه؟ فقال: أفسر آية من القرآن، وهو قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] فأنا أفسر كيفية بنيانها، قال ابن الخطيب: ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلًا في بحار مخلوقات الله تعالى، كان أكثر علمًا بجلال الله وعظمته. انتهى.
فأما ترتيبها فمما وقفت فيه العقول حيرى، فبذل المتقدمون جهدهم، حتى حصروا الأفلاك في سبع على عدد النجوم السيارة، وأثبتوا بالطرق العلمية أن كل أسفل يكسف الأعلى من تلك الكواكب، وبتلك الطريقة عرفوا الأعلى من
الأسفل، والمتأخرون المنتصرون لمذهب (فيثاغورث) خالفوا في سير الشمس ودورانها، فجعلوها مركزًا تدور عليه الكوكب، وجعلوا الأرض دائرة حول الشمس كبقية الكواكب.
وادعى بعض المتأخرين منهم، أنه اكتشف كوكبًا ثامنًا للسيارات، وسماه "نبتون" باسم مكتشفه.
والذي يلوح لي: أن هذا الكوكب هو الذي يعبر عنه الأقدمون بفلك الثوابت، وهو كثير الذكر في كتب الهيئة، وقد بقي عليهم فلك آخر، لم يكتشفوه، وهو فلك الأفلاك، والفلك الأعظم والأطلس، وقالوا: إنه محيط بجميع الأجسام، وليس وراءه شيء، لا خلاء ولا ملا؛ ولقد سبق القرآن الكريم إلى ذكر هذين الكوكبين، فقوله تعالى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] يشير إلى الثامن؛ وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه] يشير إلى التاسع.
وحيث إن العقول وقفت حيرى دون الاطلاع على حقيقة تلك الأفلاك، وما تضمنته من السيارات وغيرها، واختلفت آراء أقوام ادعوا أنهم حازوا القدح المعلى في معرفة الأفلاك، فقوم قالوا: بأن هذه السيارات سائرة في فضاء غير متناه؛ وقوم قالوا: إن لها أفلاكًا مركوزة هي في ثخنها، دلّ ذلك على أن لها خالقًا صانعًا مختارًا لا تدرك كنه حكمته، ولا يمكن الاطلاع على حقيقة ما أودعه في كونه، وأن من رام معرفة تلك الحقيقة، تاه في ديجور الأوهام، ويمكن أن يأتي زمان ترتقي فيه الأرصاد إلى اكتشاف ما هو أعلى من نبتون، فسبحان من حبرت حكمته العقول.
ومن جملة الحيرة في هذا المكان، ما قاله ابن سينا في "الشفا": من أنه لم يتبين لي إلى الآن، أن كرة الثوابت كرة واحدة، أو كرات منطبق بعضها على بعض.
وقال غيره: إن الذي ذكره الرئيس في كرة الثوابت، قائم في جميع الكرات،
فلا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة بالحركة اليومية، فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جدًا، لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا، وبعضهم أثبت كرة بين كرة الثوابت والفلك الأعظم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فهذا الذي علموه، والذي سيعلمونه، هو مما شاء سبحانه وتعالى، ولقد نُقل لنا أن أحد فلاسفة الفرنجة في زمننا، كتب في مجلة [من] المجلات الفرنسوية ما معناه: نحن لا نحتاج اليوم مطلقًا لمعجزات وخوارق وعادات، تثبت لنا وجود الخالق، وتحثنا على العبادة، والإخبات لله، فإن هذا الكون البديع الذي لا نهاية له من وجهتيه، هو بالنسبة لنا المعجزة الخالدة التي تصلح لإيقاظ عاطفة الدين في أفئدتنا أكثر من المعجزات السابقة، وأطال في هذا المعنى.
فانظر كيف تنطبق هذه الآية التى نحن بصدد تفسيرها على مطلوب روح كل عصر تمام الانطباق، وتتفق على ما تنشده العقول الصحيحة كمال الاتفاق، وهذا بحث طويل لا يهتدي إلى نتيجته إلا العقول المفاض عليها هداية الله تعالى.
فالأرض والبحار والهواء وكل ما تحت السماوات، بالإضافة إلى السماوات، كقطرة في بحر، قال تعالى:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} [النازعات] ولهذا قلّ أن تجيء سورة في القرآن، إلا وفيها ذكر السماوات، إما إخبارًا عن عظمتها وسعتها، وإما إقسامًا بها، وإما دعاء إلى النظر فيها، وإما إرشادًا للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالًا منه سبحانه بخلقها، على ما أخبر به من المعاد والقيامة، وإما استدلالًا منه بربوبيته لها على وحدانيته، وأنه هو الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالًا منه بحسنها واستوائها والتئام أجزائها، وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته، وكذلك ما فيها من الكواكب، والشمس والقمر، والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها، فكم من قسم في القرآن بها، كقوله:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} - {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} - {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} - {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} - {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} - {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} - و {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} - {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} وهي الكواكب التي تكون خُنّسًا عند طلوعها،
جواري في مجراها ومسيرها، كُنّسًا عند غروبها، فأقسم بها في أحوالها الثلاثة، ولم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته، أكثر من السماء والنجوم والشمس والقمر، وهو سبحانه يقسم بما يقسم به من مخلوقاته، لتضمنه الآيات والعجائب الدالة عليه.
وكل ما كان أعظم آية، وأبلغ في الدلالة، كان إقسامه به أكثر من غيره، ولهذا يعظم سبحانه هذا القسم كقوله:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة] والأظهر: أن المراد مواقع هذه النجوم التي هي في السماء، فإنه تعالى لم يطلق لفظ النجوم في كتابه العزيز إلا عليها، فلقد تعرف تعالى إلى خلقه بأنواع التعرفات، ونصب لهم الدلالات، وأوضح لهم الآيات البينات، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
ثم إنه تعالى بعد أن نبهنا إلى عظم خلق السماوات، نبهنا إلى عظم خلق الأرض، فإن من تأمل - في شكلها من الاستدارة، وفي حيزها من كونها واقعة في مركز العالم، على ما ذهب إليه الأكثر، حتى انبعث منها بوقوع الشمس عليها مخروط ظلي في مقابلة الشمس، متى وقع القمر فيه انخسف، ومن انكشاف بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها، وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى السماء، حتى اختلف مرور الشمس وسائر الكوكب، بسمت رؤوس قطان البلدان، وتباينت الفصول والأمزجة والأخلاق، وتغايرت الطوالع والمطالع بحسب تغاير الآفاق، ومن سائر أعراضها ومنافعها التي تقرر طرف منها في تفسير قوله:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]- علم افتقارها إلى مدبر قدير وعليم خبير، واحد في ملكه، يفعل ما يشاء ويختار، هذا إذا نظر إليها نظرًا سطحيًا، وأما إذا نظرنا إلى ذلك نظرًا حقيقيًا، ورأينا ما أودع في جوفها من أنواع المعادن التي يفنى الزمان ولا تفنى عجائبها، فإننا نزداد معرفة بعجائب قدرة الله تعالى، فانظر إلى تولد الأحجار الفحمية في جوفها، التي عم نفعها العالم في صنائعه، وسفنه البرية والبحرية،
وإلى الأبخرة المنبعثة من جوفها المسماة بالغازات، وإلى اشتعالها واستخراج الأضواء منها.
ولهذا قال علماء الهيئة الذين بحثوا في الأرض على ما يتبين لهم: إن جميع المواد الداخلة في تركيب الأرض، كانت ابتداء على حالة غازات، أو أبخرة بتأثير الحرارة الشديدة التي سلطها الله تعالى عليها، وحينئذ يتخيل أن الأرض، كانت في ابتداء أمرها مادة غازية، ومتى علم أن الجواهر الصلبة التي تستحيل إلى غازات، تشغل حجمًا قدر حجمها الذي تبقى عليه ألفًا وثمانمئة مرة، نتج من ذلك أن هذه الكتلة الغازية كانت ذات حجم عظيم، وتخيلنا الفرق الذي بين حجم أرضنا هذه، وكتلتها الغازية الأولوية، وحيث إن الكتلة الغازية التي كانت تتكون منها الأرض ذات حرارة مرتفعة جدًا، كانت تضيء في الفراغ كما تضيء الشمس الآن، وكما تضيء النجوم الثابتة والسيارة ليلًا، وهذه الكتلة الغازية المضطرمة، لما دارت حول الشمس على مقتضى قوانين الجذب العام الفلكي، كانت منقادة إلى القوانين المؤثرة في بقية الجواهر المادية، فكانت تبرد وتترك جزءًا من حركتها لطبقات الفراغ الباردة جدًا، التي بين الأفلاك، فبسبب هذا التبريد المستمر، مع طول الزمن الذي لا يمكن تعيين مدته، ولو على وجه التقريب، صارت الأرض سائلة بعد أن كانت غازية، فتناقص حجمها تناقصًا عظيمًا، وقد تقرر في علم رفع الأثقال، أن الجسم السائل المتحرك حركة رحوية، يكتسب شكلًا كرويًا، فبهذه الكيفية اكتسبت الأرض الشكل الكروي المميز لها، ولأغلب الأجسام السماوية، وليست الأرض منقادة لحركة دحوية فقط، بل لها حركة دوران على محورها أيضًا، يتكون منها تعاقب الليل والنهار، وقد ثبت في العلم المذكور، وثبت بالتجارب، أن الكتلة السائلة المتحركة، تنفتح نحو خط الاستواء، وتتفرطح نحو قطبها بسبب اختلاف القوة المركزية الطاردة، وبسبب هذه الظاهرة، لما كانت الأرض سائلة انتفخت نحو خط الاستواء، وتفرطحت نحو القطبين، فاستحالت من الشكل الكروي إلى شكل كرة مفرطحة نحو قطبها، واعلم ان انتفاخ الأرض نحو خط الاستواء، وتفرطحها نحو القطبين، دليل على أن الأرض كانت سائلة ابتداء، فإن الكرة الصلبة التي من العاج لا يتغير شكلها إذا دارت على محورها قرونًا، ومتى كانت
سائلة، أو شبه العجين، انتفخت نحو وسطها، أو تفرطحت نحو طرفي محورها.
إذا علمت هذا، فاعلم أنه إذا تأمل العاقل في هذه اللطائف والعجائب، وافتقارها إلى هذه التدابير، اضطر قطعًا أن يعتقد بإثبات وجود الصانع الحكيم، المقتدر العليم، الذي جعل الأرض دائرة لاختصاصها من المخصص لها بالمنافع التي تصدر منها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
واعلم: أنه تعالى ذكر أمر السماوات والأرض في كتابه في عدة مواضع، ولا شك أن إكثار الله تعالى من ذكرهما، يدل على عظم شأنهما، وعلى أن له سبحانه وتعالى فيهما أسرارًا عظيمة، وحكمًا بالغة لا تصل إليها أفهام الخلق ولا عقولهم.
وكان الشيخ ضياء الدين عمر رحمه الله يقول: إن لله تعالى في كل جوهر فرد، أنواعًا غير متناهية من الدلائل الدالة على القدرة والحكمة والرحمة، وذلك لأن كل جوهر يمكن وقوعه في أحياز غير متناهية على البدل ويمكن أيضًا اتصافه بصفات غير متناهية على البدل، وكل واحد من تلك الأحوال المقدرة، فإنه بتقدير الوقوع يدل على الافتقار إلى وجود الصانع الحكيم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذكر ما ينشأ عنهما، فقال:{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فـ {اخْتِلَافِ} : افتعال من الخلف، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور، وقدم {اللَّيْلِ} لأنه الأقدم والأصل {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] فالآية من الاحتباك، ذكر الخلق أولًا دليلًا على حذفه ثانيًا والاختلاف ثانيًا بناء على حذفه أولًا، وإنما أردف تعالى ذكر اختلاف الليل والنهار، لما ذكره من خلق السماوات والأرض، لأنه لما كان تقابل بينهما من جهة العلو والسفل، لاجرم نظم بهما اختلاف الأفقين اللذين فيهما ظهور مختلفي الليل والنهار، ليتريع اعتبارهم بين اعتبار الأعلى والأسفل، والمشرق والمغرب، فتقع شواهد
الإحاطة بهم عليهم في توحيد ربهم، وإرجاع ذلك إليه، دون أن يعزى ذلك إلى شيء من دونه، مما هو داخل في حصر موجود هذه الإحاطة، من المحيط الأعلى والمحيط الأسفل، والمحيط بالجوانب كلها، من ملبس الآفاق من الليل والنهار، خطاب إجمال يناسب مورد السورة، التي موضوعها إجمالات ما يتفسر فيها، وفي سائر القرآن من حيث إنها فسطاطه (1) وسنامه (2).
ثم اعلم أن النهار عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأفق، وفي الفجر زيادة ما بين طلوع الفجر الصادق، إلى غروب جرم الشمس، وأما الليل فعبارة عن مدة خفاء الشمس تحت الأفق، أو بنقصان الزيادة المذكورة، وذلك أن الشمس إذا غابت ارتفع رأس مخروط ظل الأرض إلى فوق، فوقع الإبصار داخله إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشرقي، فيكون أول الفجر الكاذب إن كان الضوء مرتفعًا عن الأفق بعد، وأول الفجر الصادق إذا قرب من الأفق جدًا وانبسط النور، حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأفق، طلع مركز جرم الشمس في مقابله فظهر أن الليل والنهار كيف يختلفان، أي يتعاقبان مجيئًا وذهابًا.
وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] والمراد بقوله تعالى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ظلامًا وضياءً، أو طولًا وقصرًا، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، ضرورة كون مجموعهما أربعًا وعشرين ساعة، أو كيف يختلفان في الأمكنة، فإن نهار كل بقعة ليل بقعة تقابلها، ضرورة كروية الأرض، أو كيف يختلفان باختلاف البلدان، فإن البلد كلما ازداد عرضًا عن خط الاستواء، وهو الموضع المحاذي لمنطقة الفلك الأعظم، المسماة معدل النهار، ازداد نهاره في الصيف طولًا، وفي الشتاء قصرًا، وبالعكس
(1) فسطاطه: الفسطاط: الخيمة الكبيرة، ويراد بها مركز البلد، كما في "الفسطاط" بمصر حيث بنيت مكان مخيم عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(2)
السنام: أعلى الشيء، وهي في الجمل كتلة الشحم التي على ظهره.
في الليل. وقد يرتقي طول النهار بحسب تزايد ارتفاع القطب، إلى حيث يعيد اليوم بليلته نهارًا كله، ثم إلى أكثر من ذلك، إلى حيث يكون نصف السنة نهارًا، ونصفه الآخر ليلًا، وذلك إذا صار قطب الفلك الأعظم محاذيًا لسمت الرأس، وكون الليل والنهار في أنفسهما آيتين على وجود الصانع ووحدانيته ظاهر، وكذا من جهة ارتباطهما بحركة النير الأعظم، وكذا من جهة انتظام أحوال العباد بهما بسبب طلب المعاش في الأيام، والنوم والراحة في الليالي.
ومن جهة ثانية، لينظر العاقل كيف جعل الله الليل سكنًا ولباسًا، يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس، وتستريح من كد السعي والتعب، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وسباتها، وتطلعت إلى معاشها وتصرفها، جاء {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96] سبحانه وتعالى بالنهار، يقدم جيشه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق، وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان، وتصرف في معاشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من معاد ونشأة، دالان على قدرة الله سبحانه، وعلى المعاد الأكبر وتكرره، ودوام مشاهدة النفوس له، بحيث صار عادة ومألفًا منعها من الاعتبار به، والاستدلال به على النشأة الثانية، وإحياء الخلق بعد موتهم، ولا ضعف في قدرة القادر التام القدرة، ولا قصور في حكمته ولا في علمه يوجب تخلف ذلك، ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهذا أيضًا من آياته الباهرة، أن يعمي عن هذه الآيات الواضحة البينة من شاء من خلقه، فلا يهتدي بها، ولا يبصرها لمن هو واقف في الماء إلى حلقه، وهو يستغيث من العطش، وينكر وجود الماء، وبهذا وأمثاله يعرف الله عز وجل، ويحمد ويشكر.
ولما ذكر تعالى ما أنشأه عن سير الكواكب في ساحة الفَلك - بفتح الفاء-، أتبعه سير الفُلك - بضم الفاء - في باحة البحر فقال:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} .
ويقال من وجه آخر: لما ذكر الله تعالى جملة الخلق وجملة الاختلاف في
الوجهين، وصل بذلك إحاطة البحر بالأرض، وتخلل البحار فيها لتوصل المنافع المحمولة في الفلك، مما يوصل من منافع المشرق للمغرب، ومنافع الشمال للجنوب، وبالعكس، فما حملت جارية شيئًا ينتفع به إلا قد تضمنه مبهم كلمة "ما" في قوله:{بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} ثم إن المفسرين يجعلون {فِي} في قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} للاستعلاء، وهذا أحد معانيها، وحمل أهل البيان على ذلك قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وجعلوه من باب الاستعارة التبعية؛ والكونيون يجعلون مثل هذا للاستعلاء الحقيقي؛ ولكن الزمان جعلها للظرفية المكانية، وللاستعلاء أيضًا، على قول من يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وذلك أن السفن التي تجري في البحر صارت في زمننا قسمين:
أحدهما: يجري على وجه البحر مستعليًا عليه، وهو الأكثر.
والثاني: ما يجري في جوف البحر وهي الغواصات التي تغوص في البحر.
وكلا القسمين يجري بما ينفع الناس، وكيفية الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع تعالى أن السفن وإن كانت من تركيب الناس، إلا أنه تعالى هو الذي خلق الآلات التي بها يمكن تركيب هذه السفن، وسخر الرياح لإجراء بعضها، وعلم الناس استخدام البخار، وما يكون مسببًا له لإجراء البعض الآخر، فلولا خلقه لها لما أمكن ذلك.
وأيضًا: فإنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض والعالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل، فصار ذلك داعيًا يدعوهم إلى اقتحام هذه الأخطار في هذه الأسفار، ولولا أنه تعالى خصَّ كل طرف بشيء وأحوج الكل إليه، لما ركبوا هذه السفن، فالحامل ينتفع به لأنه يربح، والمحمول إليه ينتفع بما يحمل إليه، فيكون ذلك توسيعًا للعمران، وتعميمًا للمعارف والعلوم.
وأيضًا: تسخير الله تعالى البحر لحمل الفلك، مع قوة سلطان البحر إذا هاج، وعظم الهول فيه إذا أرسل الله الرياح، فاضطربت أمواجه، وتقلبت مياهه.
وأسند (الجري) إلى {الْفُلْكِ} ، ومن المعلوم أنها لا جري لها حقيقة، ولا فعل بوجه من الوجوه، ترقية إلى اعتقاد مثل ذلك في النجوم، إشارة إلى أنه لا فعل ولا تدبير، كما يعتقد ذلك بعض الفلاسفة الماضين؛ واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر أيضًا، كالمدرعات التي تكون للحرب ونحوها، لأنه ذكرها في معرض الامتنان؛ وذكر تعالى {النَّاسَ} في هذه الآية، لأنهم أول من يقع به الاجتماع والتعاون، والتبصر بوجه ما، وأدنى ذلك في منافع الدنيا، الذي هو شاهد هذا القول.
ولما ذكر نفع البحر بالسفن، ذكر من نفعه ما هو أهم من ذلك، فقال:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ} : أي جهتها باجتذاب السحاب له.
ولما كان النازل منها على أنواع، وكان السياق للاستعطاف إلى رفع الخلاف، ذكر ما هو سبب الحياة، فقال:{مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} .
ولما كان الإحياء يستغرق الزمن المتعقب للموت، نفى الجار فقال:{بَعْدَ مَوْتِهَا} .
ولما ذكر حياة الأرض بالماء، أشار إلى أن حياة كل ذي روح به [فقال] (1):{وَبَثَّ} أي: فرق آحادًا مستكثرة، في جهات مختلفة {فِيهَا} بالخصب {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} من الدبيب، وهو الحركة بالنفس، فكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره، وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر، جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها كأنه دفين فيها، وهي له قبر.
وفي هذه الآية أنواع من الدلائل على وجوده تعالى:
منها: أن تلك الأجسام، وما قام بها من الرقة والرطوبة واللطافة والعذوبة، لا يقدر أحد على خلقها إلا الله.
(1) زيادة من "نظم الدرر" 2/ 294.
ومنها: أن الماء جعله تعالى سببًا لحياة الإنسان، ولأكثر منافعه، وسببًا لرزقه.
ومنها: أن حدوث الحيوانات قد يكون بالتوليد، وقد يكون بالتوالد، وعلى التقديرين فلا بد فيهما من الصانع الحكيم.
ولما ذكر تعالى بث ما هو السبب للنبات المسبب عن الماء، ذكر بث ما هو سبب السحاب المسبب للمطر المسبب للحياة، فقال:{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أي: إجرائها على مقتضى الحكم عليها، يرسلها مرة {لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، وتارة يجعلها "عقيمًا"(1)، وآونة يبعثها عذابًا {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25].
قال ابن جرير: وزعم بعض أهل العربية، أن معنى قوله:{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أنها تأتي مرة جنوبًا وشمالًا، وقبولًا ودبورًا، ثم قال: وذلك تصريفها. وهذه الصفة التي وصف الرياح بها، صفة [تصرّفها لا صفة] (2) تصريفها. لأن ["تصريفها"] (3): تصريفُ الله لها، و "تصرفها": اختلافُ هبوبها. وقد يجوز أن يكون معنى قوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} تصريف الله هبوب الريح باختلاف مهابّها. انتهى.
ومن آياته تعالى، ما جعل فيها من القوة التي تقلع الأشجار؛ وتعفي الآثار وتهدم، وتهلك الكفار كما أهلكت قوم عاد؛ وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها؛ وسوق السحاب إلى البلد الماحل؛ وأنها لو انقطعت ساعة عن الحيوان لمات.
{وَالسَّحَابِ} وهو: المتراكم في جهة العلو، من جوهر ما بين الماء والهواء المنسحب في الجو {الْمُسَخَّرِ} أي: المجرى على مقتضى غرض ما سخر له {بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} لا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله بحمله بخار الماء، كما تهوي بقية الأجرام العالية، حيث لم يكن لها ممسك محسوس، ولا يعلو ولا
(1) إشارة للآية 41 من سورة الذاريات.
(2)
و (3) الزيادتان من الطبري.
ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاث: فالكثيف يقتضي النزول؛ واللطيف يقتضي الصعود؛ والمتوسط يقتضي الانقشاع.
و"التسخير": التذليل، وذلك أن السحاب لا بد له من قاسر قاهر، يقهره على بقائه في جو الهواء على خلاف الطبع، وأن يقدره بالمقدار المعلوم، وأن لا يجعله واقفًا في موضع معين، بل يسوقه بواسطة تحريك الرياح له إلى حيث يشاء ويريد.
ولما ذكر تعالى، الأعلى والأسفل، ومطلع الليل والنهار من الجانبين، وإنزال الماء، ذكر ما يملأ ما بين ذلك من الرياح والسحب، الذي هو ما بين حركة هوائية، إلى استنارة مائية، إلى ما يلزم ذلك من بوادي نيراته، من نحو صواعقه، وجملة أحداثه، فكان في جملة هذا الخطاب اكتفاء بأصول من مبادئ الاعتبار، فذكر السماء والأرض، والآفاق وما بينهما من الرياح والسحب، والماء المنزل، الذي جملته قوام الخلق في عاجل دنياهم، ليجعل لهم ذلك آية على علو أمر وراءه، ويكون كل وجه منه آية على أمر من أمر الله، كما قال تعالى:{لَآيَاتٍ} وذلك لتكون "السماء" آية، على علو أمر الله، فيكون أعلى من الأعلى، وتكون {الْأَرْضِ} آية على باطن أمر الله، فيكون أبطن من الأبطن، ويكون {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، آية على نور بدوه، وظلمة غيبته، مما وراء أمر الليل والنهار، ويكون ما أنزل من الماء لإحياء الأرض وخلق الحيوان، آية على ما ينزل من نور علمه على القلوب، فتحيا به حياة تكون حياة الظاهر آية عليه، ويكون {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} آيات على تصريف ما بين أرض العبد، الذي هو ظاهره، وسمائه الذي هو باطنه، وتسخير بعض لبعض، ليكون ذلك آية على علو الله على سمائه العلي في الحس (1)، وعلى سماء القلوب العلية في الوجدان.
فلجملة ذلك، جعل تعالى صنوف هذه الاعتبارات آيات {لِقَوْمٍ} وهم الذين يقومون في الأمر حق القيام؛ ولذلك لا يناله من هو في سن الناس، حتى يتناهى
(1) لأن العلو للرحمن أمر مسلم دينًا ونقلًا ولا نشك في ذلك.
طبعه، وفضيلة عقله، إلى أن يكون من قوم يقومون في الاعتبار، قيام المنتهض في أمور الدنيا، وذلك لأن العرب جرى عرفهم في القوم أنهم لا يستعملونه إلا لأجل النجدة والقوة، حتى يقولون: قوم أو نساء، تقابلًا بين المعنيين، كما قال زهير:
وما أدْرِي وسوف إخالُ أدْرِي
…
أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ (1)
فقد اشتملت هذه الآية على جميع ما نقله البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات" عن الحليمي، أنه مما يجب اعتقاده في الله سبحانه وتعالى، خمسة أشياء:
الأول: إثباته سبحانه ليقع به مفارقة التعطيل.
والثاني: وحدانيته لتقع بها البراءة من الشرك.
والثالث: إثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض، لتقع به البراءة من التشبيه.
والرابع: إثبات أن وجود كل ما سواه، كان بإبداعه له، واختراع إياه، لتقع به البراءة من قول من يقول: بالعلة والمعلول، كما يوضحه قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية.
والخامس: أنه مدبر ما أبدع، ومصرفه على ما يشاء، لتقع به البراءة من قول القائلين: بالطبائع، أو تدبير الكواكب، أو تدبير الملائكة، وهذا من قوله:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} إلى آخرها. انتهى.
ثم إنه من المعلوم أن الأدلة على التوحيد كثيرة في الكتاب العزيز، والحكمة في ذلك، أنه لما كانت عقول الناس متفاوتة، جعل الله سبحانه الممكنات الموجودة، وهي كل ما سواه مما يدل على وجوده وفعله، بالاختيار على قسمين:
الأول: ما من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة، المسمى في عرف أهل الشرع: الشهادة، والخلق، والملك.
(1) شرح ديوان زهير بن أبي سلمى لثعلب صفحة (73) وبنو حصن هؤلاء من كَلْبٍ القبيلة اليمنية.
والثاني: ما لا يدرك بالحواس الظاهرة، ويسمى: الغيب، والأمر، والملكوت.
فالأول يدركه عامة الناس، والثاني يدركه أولو الألباب، الذين خلصت عقولهم عن الوهم والوساوس، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، فالله تعالى بكمال عنايته، جعل العالم بقسميه محتويًا على جمل وتفاصيل من وجوه متعددة، دليلًا على وحدانيته بعض ذلك الدليل أوضح من بعض، ليشترك الكل في المعرفة، فيحصل لكلّ بقدر ما هُيِّئ له، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه، فذلك هو الشقي، والعياذ بالله تعالى.
ولما سطعت البراهين في هذه الآية، وقررت أدلة التوحيد القاهرة القاطعة، أردف تعالى ذلك بتقبيح ما يضاد التوحيد، لأن تقبيح ضد الشيء مما يؤكد حسن الشيء، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. أردف تعالى الآية الدالة على التوحيد بقوله:
قالوا: الواو، عاطفة هذه الآية على ما قبلها، على ما قلنا بمناسبتها لها؛ ويصح أن يكون التقدير: فمن الناس من عقل تلك الآيات فآمن بربه، وفني بحبه، {وَمِنَ النَّاسِ} وهم من لا يعقل {مَنْ يَتَّخِذُ} الآية، فيكون العطف على مقدر.
والندّ: المثْل المنازع، ويحمل هنا على العموم، فيشمل الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا من عندها النفع والضر، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور، وقربوا لها القرابين، ويشمل السادة الذين كانوا يطيعونهم، فيُحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله.
ويرجح هذا الثاني، أن الله تعالى ذكر بعد هذه الآية:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وذلك لا يليق الا بمن اتخذ الرجال أندادًا وأمثالًا لله تعالى،
يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم، ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى، وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
ولفظ {النَّاسِ} عام، والأولى حمله على كلّ من أهل الكتاب وعبدة الأوثان، ومن كان فعله يقرب من فعل هؤلاء.
وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ} معناه: يعظمونهم، ويخضعون لهم، تعظيم المحبوب.
وقوله: {كَحُبِّ اللَّهِ} أورد فيه ابن جرير سؤالًا فقال: فإن قال قائل: فكيف قيل: {كَحُبِّ اللَّهِ} ؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان متخذو الأنداد يحبون الله تعالى فيقال: {كَحُبِّ اللَّهِ} ؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنما نظير ذلك، قول القائل: بعت غلامي كبيع غلامك، بمعنى بعته كما بيع غلامك، وكبيعك غلامك، واستوفيت حقي منه استيفاء حقك، بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطب، اكتفاء بكنايته في "الغلام" و "الحق" كما قال الشاعر:
فلستُ مُسَلِّمًا ما دمتُ حيًا
…
على مَعْنٍ (1) بتسليم الأمير
يعني بذلك كما يسلم على الأمير. فمعنى الكلام إذًا، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ} أيها المؤمنون {مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} . انتهى.
وحاصله: أن المعنى يحبونهم كما يحب الله تعالى، فالحب على هذا مصدر
(1) كذا! وفي الطبري وغيره: "زيد" وهو أبو حصين زيد بن حصين بن زهير الضبي، أحد بني السيد، كان واليًا على أصبهان. ونسب الجاحظ الأبيات في كتاب "البغال" 2/ 260 - 261 (من رسائل الجاحظ - لعلي بن خالد الضبي الملقب بـ "البَرْدَخْت" وهي فارسية معناها: الفارغ.
ويروى: "معن" أنشدها أعرابي أمام معن في قصة تجدها في "قصص العرب" 3/ 243 برقم 104 لجاد المولى. ومعن هو معن بن زائدة بن عبد الله بن الشيباني، أبو الوليد، توفي سنة 151 هـ. من أشهر أجواد العرب، وأحد الشجعان الفصحاء، أدرك العصرين الأموي والعباسي. ولاه الخليفة المنصور اليمن ثم سجستان، مات غيلة. انظر الأعلام 7/ 273، وفيات الأعيان 4/ 331 ترجمة 703 تاريخ بغداد 13/ 235.
من المبني للمفعول، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه، لأنه غير ملبس، وهذا مبني على جواز بناء المصدر للمفعول، ويجوز أن يراد به هنا المبني للفاعل، وفاعله ضمير المتخذين، والمعنى: يسوون بين الله وبين الأنداد في محبتهم، على كمال قدرة الله، ولطيف صنعه، وذلة الأنداد وقلتها، وهذا بناء على أنهم كانوا يقرون بالله، ويتقربون إليه، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.
ويرجح هذا قوله تعالى بعد: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فأخبر عن المؤمنين بأنهم لا يعدلون عن حب الله إلى غيره، بخلاف المشركين، فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد، فيفزعون إليه، ويخضعون له، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويعبدون الصنم زمانًا، ثم يرفضونه إلى غيره، وحب العبد لله: تعظيمه والتمسك بطاعته، وحب الله العبد: إرادة الثناء عليه وإثابته؛ وأصل الحب في اللغة: اللزوم، لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن.
وقال جمهور المتكلمين: المحبة نوع من أنواع الإرادة، لا تعلق لها إلا بالجائزات، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته، فإذا قلنا: يحب الله، فمعناه يحب طاعة الله وخدمته، وثوابه وإحسانه.
ولما عجب سبحانه من حال من يتخذ من دون الله أندادًا، حذر من سوء منقلبهم ومآلهم، فقال:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم، أن القدرة كلها لله، على كل شيء من العقاب والثواب، دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين، إذا عاينوا العذاب يوم القيامة، لكان منهم من لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة، ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم؛ فجواب {لَو} محذوف.
وقرأ نافع وحده، "ولو ترى" بالتاء المثناة من فوق، فيكون الخطاب للرسول، أو كل مخاطب، وتقدير جواب {لَو}: لرأيت أمرًا عظيمًا. ورجح ابن جرير هذه القراءة، فقال: وإن كان على هذه القراءة يكون مخرج الخطاب للرسول معنيًا به غيره، لأنه كان لا شك عالمًا بـ {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ، لكن القوم إذا رأوا
العذاب يوقنون بـ {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ، فلا وجه أن يقال: لو يرون أن القوة لله جميعًا حينئذٍ، لأنه إنما يقال:"لو رأيت"، لمن لم ير، فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له: لو رأيت.
ودخول "لو" و"إذ" على المستقبل مع أنهما للماضي، لينتظم المستقبل في سلك الماضي المقطوع به، لصدور الكلام عمن لا خلاف في أخباره، وقيل: لأن الساعة قريب، فكأنها قد وقعت.
وكذا الكلام في {إِذْ تَبَرَّأَ} ، وأنه بدل من {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} وقيل: هو معمول {شَدِيدُ} ، من قوله تعالى:{شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، والبدل أو المتعلق، هو قوله تعالى:
التبرؤ: طلب البراءة، وإيقاعها بجد واجتهاد، وهي: إظهار التخلص من وصلة أو اشتباك، أي: وقت ما يتبرأ المتبوعون، وهم الرؤساء والأوثان من أتباعهم، الذين أفنوا عمرهم في عبادتهم، واعتقدوا أنهم من أوكد أسباب نجاتهم فإذا هم تبرؤوا منهم عند احتياجهم إليهم. ونظيره قوله تعالى:{يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]. وقال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف].
وقوله: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} معناه: تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب، عندما عجز المتبعون عن تخليصهم مما رأوه من الأهوال والشدائد العظيمة، لأن قوله:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} يدخل في معناه أنهم لم يجدوا إلى تخليص أنفسهم وأتباعهم سببًا، والآيس من وجه يرجو به الخلاص مما نزل به بأوليائه من البلاء،
يوصف بأنه تقطعت به الأسباب، و {الْأَسْبَابُ} هنا: الوُصَل التي كانت بينهم، من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب والمحاب، والاتباع والاستتباع.
وفي قوله: {اتُّبِعُوا} و {اتَّبَعُوا} وقوله: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} نوع من البديع يسمى: الترصيع، وهو أن يكون الكلام مسجوعًا.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الآية، معناه أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا، حتى يطيعوا الله، ويتبرؤوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعًا، مثل ما تبرأ المتبوعون أولًا منهم. فـ {لَوْ} هنا للتمني، ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني، فكأنه قيل: ليت {لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} .
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} الكاف للتشبيه، والتقدير: مثل إراءتهم تلك الأهوال الفظيعة {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} أي: ندامات، وقيل:"الحسرة": أشد الندامة، والمعنى:{يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} التي فرضها عليهم في الدنيا فضيعوها، ولم يعملوا بها، حتى استوجبت ما كان الله أعد لهم، لو كانوا عملوا بها، في جناته من المساكن والنعم، وغيرهم بطاعته ربه، فصار ما فاته من الثواب، الذي كان الله أعده له عنده، لو كان أطاعه في الدنيا، إذا عاينه عند دخوله النار، أو قبل ذلك أسىً وندامة، وحسرة عليه؛ وقيل:{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} السيئة {حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} ، لِمَ عملوها وهلا عملوا بغيرها مما يرضي الله تعالى؟ وهذا القول يدل عليه ظاهر لفظ الله، وهو أولى مما قبله.
ثم قال تعالى: {وَمَا هُمْ} أي: خاصة، وأكد النفي بالجار، فقال:{بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} يومًا من الأيام، ولا ساعة من الساعات، بل هم خالدون فيها على طول الآباد، ومر الأحقاب، وفيه إشعار بقصدهم الفرار منها والخروج، كما قال تعالى:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا} [الحج: 22، والسجدة: 20] فأنبأ تعالى أن وجهتهم للخروج لا تنفعهم، فلم تبق لهم منة تنهضهم منها، حتى ينتظم قطع رجائهم من مُنة أنفسهم، بقطع رجائهم ممن تعلقوا به من شركائهم.
وأصل {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ} : وما يخرجون، لأن المناسب أن تعطف جملة فعلية على جملة فعلية، لكن عدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص، والرجوع إلى الدنيا.
ولما بين تعالى التوحيد ودلائله، وما للموحدين من الثواب، وأتبعه بذكر الشرك، و {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} ، ويتبع رؤساء الكفرة، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين، وإحسانه إليهم، وأن معصية من عصاه، وكفر من كفر به، لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم، فقال:
أقبل تعالى في هذه الآية على عباده إقبال متلطف، مترفق، مستعطف، مناديًا لهم إلى تأبيد نفعهم، قائلًا:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} أي: كافة.
وأبدى الحرالِّي هنا نكتة لطيفة، حاصلها: أنه لما استوفى تعالى ذكر أمر الدين، وكان هو غذاء القلوب، وزكاة الأنفس؛ نظم به ذكر غذاء الأبدان من الأقوات، ليتم بذكر النماءين، اللذين هما نماء البدن ظاهرًا، ونماؤه الديني باطنًا، لما بين تغذي الأبدان، وقوام الأديان من التعاون، على جمع أمري صلاح العمل ظاهرًا، وقبوله باطنًا.
ولما كانت رتبة الناس من أدنى المراتب في خطابهم، أطلق لهم الإذن تلطفًا بهم، ولم يلجئهم بالتقييد، فقال مبيحًا لهم ما أنعم به:{كُلُوا .. } إلى آخر الآية.
قال البيضاوي: نزلت هذه الآية في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس. انتهى.
والمشهور عند المفسرين: أنها نزلت في ثقيف وخزاعة، وعامر بن أبي
صعصعة، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام.
وأيًا ما كان سبب نزولها، فهو خاص واللفظ عام، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. ومن ثم قال الحسن البصري: نزلت في كل من حرم على نفسه شيئًا لم يحرمه الله عليه. انتهى.
فالمعنى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا} أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي، فطيبته لكم، مما تحرمونه على أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل، وما أشبه ذلك مما لم أحرمه عليكم، دون ما حرمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجسته، من ميتة ودم ولحم خنزير، وما أهل به لغيري، ودعوا {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} الذي يؤنبكم فيهلككم، ويوردكم موارد العطب، ويحرم عليكم أموالكم، فلا تتبعوها ولا تعملوا بها، {إِنَّهُ} ، أي: الشيطان {لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} قد أبان عداوته لكم منذ القدم، فأغوى أباكم آدم بالأكل من الشجرة، حتى أخرجه من الجنة، فلا تتخذوه ناصحًا مع إبانته لكم العداوة، ودعوا ما يأمركم به، والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه، مما أحللته لكم وحرمته عليكم، دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم، وحللتموه طاعة للشيطان، واتباعًا لأمره، لأنه {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} ، من خبائث الأنفس الباطنة، التي يورث فعلها مساءة، ويأمركم بما يكرهه الطبع من رذائل الأعمال الظاهرة، مما ينكره العقل، ويستخبثه الشرع، فيتفق في حكمه آيات الله الثلاث، من الشرع والعقل والطبع، فبذلك يفحش الفعل.
{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، مما تستقبحون قوله في أقل الموجودات من إشراك به؛ وادعاء ولد له؛ وتحليل ما لم يحلل؛ وتحريم ما لم يحرم، طاعة منكم للشيطان، واتباعًا لخطواته؛ واقتفاءً منكم آثار أسلافكم الضلال، وآبائكم الجهّال، الذين كانوا بالله وبما أنزل على رسوله جهَّالًا، وعن الحق ومنهاجه ضلّالًا، فصرتم على حد قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170].
فالحلال: المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. ثم إن الحرام قد يكون حرامًا لخبثه، كالميتة والدم والخمر، وقد يكون حرامًا لا لخبثه، كملك الغير إذا لم يأذن في أكله.
فالحلال هو الخالي عن القيدين، والطيب في اللغة: الحلال، وقد يكون بمعنى الطاهر؛ والحلال يوصف بالطيب، لأن الحرام يوصف بالخبيث، والمراد به هنا الطاهر من كل شبهة.
فقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} معناه: فتدخلوا في حرام أو شبهة، أو تحريم حلال، أو تحليل حرام، و"مِنْ" في قوله:{مِمَّا فِي الْأَرْضِ} للتبعيض، لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول، و {خُطُوَاتِ} بضمتين، وأصلها: ما بين القدمين، والمعنى هنا:{وَلَا تَتَّبِعُوا} سبيل {الشَّيْطَانِ} ، ولا تسلكوا طريقه، أو: لا تأتموا به، ولا تقفوا أثره، وهذان التفسيران متقاربان، وإنما هما بمقتضى اللغة، وليس بمراد هنا، بل المراد كأنه تعالى يقول لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور: احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان. فزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه، كما زجره عن تخطيه إلى الحرام، لأن الشيطان إنما يلقي للمرء ما يجري مجرى الشبهة، فيزين بذلك ما لا يحل له، فزجر الله عن ذلك، ثم بيّن العلة في هذا التحذير بقوله:{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .
ثم إن قوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} كالتفصيل لجملة عداوته، وحاصلها:"السوء"، وهو يتناول جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح أو من أعمال القلوب. {وَالْفَحْشَاءِ} هي: أقبح أنواع السوء، وهو ما يستعظم ويستفحش من المعاصي، والقول على الله بغير علم، وكأنه أقبح أنواع الفحشاء.
وهذه الثلاثة تفسير لـ {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، بأنه يدعو إلى الصغائر والكبائر، والكفر والجهل بالله، ويشبه أن يكون معنى قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} الآية، هو المشار إليه بما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس،
فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (1). فإذا لاح الحرام، وتراءت الشبهات، كان للشيطان مدخل، وكان الإنسان كالراعي يرعى حول الحمى.
وقد استنبط الإمام أحمد بن تيمية، الملقب بشيخ الإسلام، من هذه الآية معنىً حسنًا، في كتابه المسمى بـ "الإيمان" فقال: إن الله تعالى لم يأذن للكفار في كل شيء، ولا أحل لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالًا، وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله، والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمن به، فلم يأذن لهم في أكل شيء، إلا إذا آمنوا، ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكًا شرعيًا، لأن الملك الشرعي هو القدرة على التصرف الذي أباحه الشرع، والشارع لم يبح لهم تصرفًا في الأموال إلا بشرط الإيمان، فكانت أموالهم على الإباحة.
فإذا قهر طائفة منهم قهرًا يستحلونه في دينهم، وأخذوها منهم، صار هؤلاء فيها كما كان أولئك، والمسلمون إذا استولوا عليها فغنموها، ملكوها شرعًا، لأن الله أباح لهم الغنائم، ولم يبحها لغيرهم، ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض، بالقهر الذي يستحلونه في دينهم، ويجوز أن يشتري من بعضهم ما سباه من غيره، لأن هذا بمنزلة استيلائه على المباحات، ولهذا سمى الله ما عاد من أموالهم إلى المسلمين فيئًا، لأن الله أفاءه إلى مستحقه، أي: رده إلى المؤمنين به، الذين يعبدونه ويستعينون برزقه على عبادته.
فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه، وإنما خلق الرزق ليستعينوا به على عبادته. ولفظ الفيء، قد يتناول الغنيمة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين: "ليس لي مما
(1) هو في "غاية المرام" للألباني - والأصل للقرضاوي - رقم 20.
أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" (1)، لكنه لما قال تعالى:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] صار لفظ الفيء إذا أطلق في عرف الفقهاء، يكون لما أخذ من مال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، والإيجاف: نوع من التحريك. انتهى كلامه.
وقال في "مفاتيح الغيب": قوله {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يتناول جميع المذاهب الفاسدة، بل يتناول مقلد الحق، لأنه وإن كان مقلدًا للحق، لكنه قال ما لا يعلمه، فصار مستحقًا للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية. قال: وتمسك نفاة القياس بهذه الآية. وأجيب عنه: بأنه متى قامت الدلالة على أن العمل بالقياس واجب. كان العمل بالقياس قولًا على الله بما يعلم، لا بما لا يعلم. هذا كلامه.
وكفى بذلك المقلدون ذمًا، ومهما دافعوا عن أنفسهم، فالآية تبكتهم، وتجعل مدعاهم هباءً منثورًا، ويناديهم القرآن بما نادى به من قبلهم، بقوله:
ضمير {لَهُمُ} عائد على {النَّاسُ} المذكورين في الآية السابقة، على ما اختاره صاحب "الكشاف" فقال: الضمير للناس، وعدل بالخطاب عنهم، على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم، لأنه لا ضال أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون. انتهى.
وهذا الوجه أصح [من] الأوجه الآتية، وفيه دلالة على ذم التقليد، وهو قبول الشيء بلا دليل ولا حجة، وإنما كان هذا الوجه أصح وأولى، لأنه إنما وقع عقب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} الآية، فَلأَنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبر أن منهم {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} ، مع ما بينهما
(1) ينظر عنه "الإرواء"(1240).
من الآيات، وانقطاع قصصهم بقصة مستأنفة غيرهما، وقيل: الضمير عائد على {مِنْ} في قوله تعالى: {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} وهم مشركو العرب، وقد علمت بُعده. وقيل: الآية مستأنفة، والكناية في {لَهُمْ} ، تعود إلى غير مذكور، واستدل قائل هذا بما رواه الطبري عن ابن عباس: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام، ورغبهم فيه، وحذرهم عقاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة، وخالد بن عوف:{بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا، فأنزل لنا الله هذه الآية، ردًا عليهم.
والمعنى: أنه إذا قيل لهؤلاء الكفار: {كُلُوا مِمَّا} أحل الله لكم، ودعوا {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وطريقه، واعملوا بما أنزل الله على نبيه في كتابه، استكبروا عن الإذعان للحق، وقالوا:{بَلْ} نأتم بآبائنا، فـ {نَتَّبِعُ مَا} وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يحلون، وتحريم ما كانوا يحرمون. فقال تعالى:{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} - يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم- {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه فيُتبعون على ما سلكوا من الطريق، ويؤتم بهم في أفعالهم، {لَا يَهْتَدُونَ} لرشد فيهتدي بهم غيرهم، ويهتدي بهم من طلب الدين، وأراد الحق والصواب.
يقول الله لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تتبعون ما وجدتم عليه آباؤكم، فتتركون ما يأمركم به ربكم، وآباءكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يتبع المتبع ذا المعرفة بالشيء، المستعمل له في نفسه، فأما الجاهل فلا يتبعه فيما هو به جاهل، إلا من لا عقل له ولا تمييز.
والواو في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} للحال، والهمزة بمعنى الرد والتعجب؛ و {أَلْفَيْنَا} بمعنى وجدنا، بدليل قوله:{بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21] وهذه الآية صريحة في ذم التقليد، صراحة لا تقبل التأويل ولا الصرف عن ظاهرها.
وقد حكى ابن عطية: أن الاجماع منعقد على إبطاله في العقائد (1).
(1) أي إبطال التقليد في العقيدة. وعلى هذا المستقر من كتب الاعتقاد الصحيحة، ولا يستثنى من ذلك إلا الجاهل في بعض التفاصيل.
وقرر فخر الدين الرازي في تفسيره، بطلان التقليد بوجه عقلي، فقال: يقال للمقلد: هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان، أن يعلم كونه محقًا، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقًا، فكيف عرفت أنه محق؟ وإن عرفته بتقليد آخر لزم التسلسل (1)، وإن عرفته بالعقل فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد، وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده، أن يعلم كونه محقًا، فإذن قد جوزت تقليده، وإن كان مبطلًا؟ ! فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل؟
وأيضًا هب أن ذلك المتقدم الذي قلدته كان عالمًا بذلك الشيء، إلا أنّا لو قدرنا أن ذلك المتقدم، ما كان عالمًا بذلك الشيء قط، وما اختار فيه البتة مذهبًا، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه، كان لا بد من العدول إلى النظر؛ فكذا ههنا.
وأيضًا إذا قلدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا تقليد؟ فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور (2)، وإما التسلسل، وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المقدم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد، كنت مخالفًا له! ! فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلًا.
وما قاله هنا، الدليل يعم المقلد في التوحيد، والمقلد في الفروع، وقد جعل العلماء للمقلد في الفروع ميزانًا عادلًا، فاتفقوا على أن المكلف متى عرف الحق، لا يجوز له تقليد أحد في خلافه (3).
(1) التسلسل: هو ترتيب أمور غير متناهية.
(2)
الدَّوْر: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه كلما يتوقف (أ) على (ب) و (ب) على (أ).
(3)
هذا عند العلماء الذين عندهم علم وإنصاف ومسكة من عقل واتباع، وأما متعصبة المقلدة فالأمر عندهم على التزام المذهب في كل حال، وإذا وجدت آية من كتاب الله، والحديث الصحيح على خلاف المذهب! أوجب تأويل الآية والحديث، أو تكون الآية منسوخة، والحديث غير صحيح! ! والبعض الآخر يسلم نظريًا، ويرفض عمليًا.
وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال، وإن كان عاجزًا عن إظهار الحق الذي يعلمه، فهذا يكون كمن عرف أن دين الاسلام حق، وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق، فلا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره.
وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه، كقوله تعالى:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199] وقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف] وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83].
وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ، كما في الاجتهاد في القبلة، وأما إن قلد شخصًا دون نظيره باتباع هواه، ونصره بلسانه ويده من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبًا لم يكن عمله صالحًا، وإن كان متبوعه مخطئًا كان آثمًا. كمن قال في القرآن برأيه فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار.
ومن ثم قال الشافعي: أجمع المسلمون، على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
وقال ابن عبد البر وغيره: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودًا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله.
وهذا كما قال، فإن الناس لا يختلفون، أن العلم هو: المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو التقليد، فقد تضمن هذان الإجماعان إخراج المتعصب بالهوى، والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء، وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم
يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر (1)، وكيف يكون من ورثة الرسول، من يجهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلده ومتبوعه، ويضيع ساعات عمره في التعصب والهوى.
ولما كان أولئك المقلدة المذكورين في هذه الآية، بالوصف الذي ذكره تعالى عنهم- من ترك النظر والتدبر والإخلاد إلى التقليد بقولهم:{بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ضرب لهم مثلًا تنبيهًا للسامعين لهم، أنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء، أو قلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام، فقال:
وذلك لأن مثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرًا لقلبه، وتضييقًا لصدره، حيث صيره كالبهيمة، فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه، عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد.
فقوله: {وَمَثَلُ} فيه مضاف محذوف، تقديره:{وَمَثَلُ} داعي {الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى الإيمان، في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة، ودوي الصوت، من غير إلقاء أذهان ولا استبصار {كَمَثَلِ} الناعق بالبهائم التي لا تسمع {إِلَّا دُعَاءً} الناعق ونداءه، الذي هو تصويت بها وزجر لها، ولا تفقه شيئًا آخر، ولا تعي، كما يفهم العقلاء ويعون.
قال في "الكشاف": وقيل معناه: ومثلهم في دعائهم الأصنام، {كَمَثَلِ} الناعق {بِمَا لَا يَسْمَعُ} .
إلا أن قوله: {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} لا يساعد عليه، لأن الأصنام لا تسمع شيئًا. انتهى.
(1) هو اقتباس من حديث في "صحيح سنن ابن ماجه - باخصار السند"(182).
قال في "البحر": لحظ الزمخشري في هذا القول تمام التشبيه من كل جهة، فكما أن المنعوق به {لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} ، فكذلك مدعو الكافر من الصنم، والصنم لا يسمع، فضعف عنده هذا القول.
ونحن نقول: التشبيه وقع في مطلق الدعاء، لا في خصوصيات المدعو، فشبه الكافر في دعائه الصنم، بالناعق بالبهيمة، لا في خصوصيات المنعوق به، انتهى.
وما قاله ربما يكون صحيحًا من جهة البلاغة، وأما من جهة ما سبق الكلام، فقد يرتقي إلى درجة البطلان، وذلك أن ما قبل هذه الآية، وما بعدها يدل على أنها نزلت في اليهود، وإياهم عنى الله بها، ولم تكن اليهود أهل أوثان يعبدونها، ولا أهل أصنام يعظمونها، ويرجون نفعها، أو دفع ضررها، فلا وجه حينئذ للتأويل الذي أوّله في "البحر".
وقال ابن زيد، فيما رواه الطبري عنه، في قوله:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، هو الرجل الذي يصيح في جوف الجبال، فيجيبه فيها صوت يراجعه، يقال له: الصدى، فمثل آلهة هؤلاء لهم، كمثل الذي يجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، {لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.
فالفاعل على هذا في قوله: {لَا يَسْمَعُ} ضمير عائد على {الَّذِي يَنْعِقُ} ، ويكون الضمير العائد على "ما" الرابط للصلة بالموصول محذوفًا لفهم المعنى، تقديره:{بِمَا لَا يَسْمَعُ} [منه](1)، لكن يعارضه أنه ليس فيه شروط جواز الحذف، لأن الضمير مجرور بحرفٍ جُرَّ الموصول بغيره.
ويجوز أن يقال: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم، {كَمَثَلِ} الراعي إذا تكلم مع البهائم، فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائدة، فكذا الكلام مع المقلد، لا يعود بفائدة لأنه لا دليل له، ولا برهان يرجع إليه، بل قصارى أمره أن يقول: إنا {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ} رؤساءنا، أو {آبَاءَنَا} ،
(1) زيادة لازمة من "البحر".
أو متبعونا، لا يزيد على ذلك، فهو كالنعم السارحة، {لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} .
وقال سيبويه في تفسير الآية: ومثلك يا محمد، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ} الناعق والمنعوق به. فعلى قوله يكون المعنى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وداعيهم، كمثل الغنم والناعق بها، ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرق، فإن جعلته من المركب، كان تشبيهًا للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم، بالغنم التي ينعق بها الراعي، فلا تفقه من قوله شيئًا غير الصوت المجرد، الذي هو الدعاء والنداء؛ وإن جعلته من التشبيه المفرق، فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء، كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق. وأما النعيق: فهو دعاء الراعي وتصويته بالغنم. قال الشاعر:
فَانْعَقْ بِضَأنِكَ، يا جَرِيُر، فَإنّما
…
منَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاءِ ضَلالا (1)
ويقال: نعق المؤذن (2). ويقال: نعق ينعق، نعيقًا ونعاقًا ونعقًا؛ وأما "نغق الغراب" فبالغين المعجمة، وقيل أيضًا: يقال بالمهملة في الغراب؛ نقله أبو حيان في "البحر".
ولما شبه تعالى الكفار بالبهائم، زاد في تبكيتهم فقال:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} لأنهم صاروا بمنزلة "الصم"، في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه؛ وبمنزلة "البكم"، في أن لا يستجيبوا لما دعوا إليه؛ وبمنزلة "العمي"، من حيث إنهم أعرضوا عن الدلائل، فصاروا كأنهم لم يشاهدوها. و"صم" مرفوع خبر لمبتدأ محذوف.
وقوله: {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} المراد به العقل الاكتسابي، لأن العقل المطبوع كان حاصلًا لهم، فإن العقل عقلان: مطبوع، ومسموع، ولما كان طريق اكتساب
(1)"شعر الأخطل" الصفحة 50، و"لسان العرب المحيط" 3/ 672.
(2)
هذا الأصل في النعيق، وأما ما تعارف الناس من أنه للغراب فقط، وأنه دليل شؤم وتطير، فلا أصل له، واستعمال الكلمات في ما اختصت به مؤخرًا لا يعطل استعمالها لما وضعت له أولًا، وهذا كثير في كلام العرب.
العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث، فلما أعرضوا عنها فقدوا العقل المكتسب. ولهذا قيل: من فقد حسًا فقد علمًا.
وأورد بعض المفسرين على هذه الآية سؤالًا فقال: فإن قيل: قوله: {لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء؟ وكأنه قيل: لا يسمعون إلا المسموع، وهذا لا يجوز.
فالجواب: أن في الكلام إيجازًا، وإنما المعنى: لا يفهمون معاني ما يقال لهم، كما لا تميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها، وإنما تفهم شيئًا يسيرًا قد أدركته بطول الممارسة، وكثرة المعاودة. فكأنه قيل: ليس لهم إلا سماع النداء، دون إدراك المعاني والأغراض.
وقال علي بن عيسى: إنما ثنى فقال: {دُعَاءً وَنِدَاءً} لأن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصوت.
ولما أخبر تعالى أن الكفار غرقوا في التقليد، فصاروا صمًا بكمًا عميًا عن البرهان، واتباع ما أنزل الله في كتابه العزيز، وكسر قلبهم، وضيق صدرهم، بضرب المثل الذي ضربه لهم، بأن نظمهم في سلك البهائم السارحة، خاطب تعالى أولي العقول الراجحة، الذين هجروا التقليد إلى ما أنزل الحكيم الحميد، آمرًا لهم أمر إباحة، وهو إيجاب في تناول ما يقيم البنية ويحفظها، فقال:
هذه الآية شبيهة بما تقدم من قوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168].
ولما تكلم تعالى من أوائل السورة إلى ههنا، في دلائل التوحيد والنبوة، واستقصى في الرد على اليهود والنصارى، شرع في بيان الأحكام.
والمعنى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، أي صدقوا الله ورسوله، وأقروا بالعبودية،
وأذعنوا بالطاعة، {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، أي: اطعموا من حلال الرزق الذي أحللناه لكم، فطاب وصار مستلذًا لكم، بتحليلي إياه لكم مما كنتم تحرمون
أنتم، ولم أكن حرمته عليكم من المطاعم والمشارب، {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} ، يقول: وأثنوا على الله بما هو أهله منكم على النعم التي رزقكم وطيبها لكم، {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، يقول: إن كنتم منقادين لأمره، سامعين مطيعين، فكلوا مما أباح لكم أكله، وحلله وطيبه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان.
أخرج مسلم في صحيحه، والترمذي في جامعه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنّى يستجاب لذلك"(1).
والطيب معناه: الطاهر، وطيبات الرزق: خلاف الخبيث، بدليل أنه تعالى وصف رسوله، بأنه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وقد أرشد الله المؤمنين في هذه الآية إلى ترك ما كانوا يحرمونه في جاهليتهم من المطاعم، وهو الذي ندبهم إلى أكله، ونهاهم عن اعتقاد تحريمه، إذ كان تحريمهم إياه كان في الجاهلية طاعة منهم للشيطان، واتباعاً لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف، هذا بالنسبة لما خوطبوا بهذه الآية حال نزولها، وأما بالنسبة إلى ما يقتضيه العموم، فلعل أقوامًا ظنوا أن التوسع في المطاعم، والاستكثار من طيباتها ممنوع منه، فأباح تعالى ذلك بهذه الآية.
والمعنى حينئذٍ: كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم، فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى. وظاهر قوله تعالى:{كُلُوا} ، الأمر بالأكل المعهود.
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير" 2744، و"مسند الإِمام أحمد" 2/ 328 (8323)، و"مختصر المقاصد الحسنة" 208، و"غاية المرام" 17، طبع المكتب الإِسلامي.
وقيل: المراد الانتفاع به، ونبه بالأكل على وجوه الانتفاع، إذ كان أكل أعظمها، إذ به تقوم البنية. واستدل لذلك بأنه تعالى ما خص الحل والحرمة بالمأكولات، بل بسائر ما ينتفع به من أكل وشرب ولبس، وغير ذلك.
وفي قوله: {مَا رَزَقْنَاكُمْ} إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة، لما في الرزق من الامتنان والإحسان.
وعلى تفسير "الطيبات" بالحلال، يكون الرزق منقسمًا إلى الحلال والحرام، خلافًا لما ذهب إليه قوم، من أن الرزق لا يكون إلا حلالًا، وإلى هذا ذهب صاحب "الكشاف"، بناء على أصل مذهبه، فقال:{مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، من مستلذاته، لأن كل ما رزقه الله لا يكون إلا حلالًا.
وفي قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} التفات، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب، وقدم المفعول، فقال:{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ليفيد الاختصاص، أي: إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرون أنه مولى النعم.
ولما قيد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق، افتقر الأمر منه إلى بيان الخبيث ليجتنب فبيّن صريحًا ما حرم عليهم، مما كان المشركون يحلونه ويحرمون غيره، وأفهم حل ما عداه، وأنه كثير جدًا، ليزداد المخاطب شكرًا فقال:
كلمة {إِنَّمَا} للحصر، وهو إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما عداه، ولكن هذا الحصر تارة يكون مطلقًا، وتارة يكون مخصوصًا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7، والنازعات: 45] وظاهر ذلك الحصر للرسول في النذارة، والرسول لا ينحصر في النذارة، بل له أوصاف جميلة كثيرة، كالبشارة وغيرها، ولكن
مفهوم الكلام يقتضي حصره في النذارة لمن لا يؤمن، وبقي كونه قادرًا على إنزال ما شاء الكفار من الآيات.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي"(1) معناه حصره بالبشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم، لا بالنسبة إلى كل شيء؛ فإن له أوصافًا أخر كثيرة. وكذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] الآية: يقتضي والله أعلم الحصر، باعتبار من قدمها على الآخرة وقدمها عليها؛ وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فقد تكون سبيلًا إلى الخيرات، أو يكون ذلك من باب التغليب للأكثر في الحكم على الأقل؛ وكذلك هذه الآية:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} فإن ظاهرها يقتضي قصر الحكم على ما ذكر، وكم من محرم ورد تحريمه على لسان الشارع، ولم يذكر هنا، فالمراد والله أعلم قصر الحرمة على ما ذكر، مما استحل الكفار لا مطلقًا، وقصر ذلك على حال الاختيار، كأنه قال:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} هذه الأشياء، ما لم تضطروا إليها.
وقال البقاعي في "نظم الدرر": معناه والله أعلم: إنكم حرمتم الوصيلة والسائبة، وغيرهما مما أحله الله، وأحللتم الميتة والدم، وغيرهما مما حرمه الله، ولم يحرم الله عليكم من السائبة، وما معها مما حرمتموه، ولا غيره مما استحللتموه، إلا ما ذكرته هذه الآية، وإذا راجعت ما في قوله تعالى في الأنعام:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] عرفت المراد من هذه الآية. انتهى.
فهذا وردت لفظة "إنما" فاعتبرها، فإن دلّ السياق، والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص، فقل به، وإن لم يدل على الحصر في شيء مخصوص، فاحمل الحصر على الإطلاق.
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"2342.
وقُرئ {حَرَّمَ} مسندًا إلى ضمير اسم الله، وما بعده منصوب، وهي قراءة الجمهور، فـ "ما" على هذا، مهيئة في {إِنَّمَا} ، هيأت "إن" لولايتها الجملة الفعلية.
وقرأ ابن أبي عبلة برفع "الميتة" وما بعدها، فتكون "ما" موصولة اسم "إن"، والعائد محذوف، أي: إن الذي حرمه الله "الميتةُ"، وما بعدها خبر "إن".
وقرأ أبو جعفر "حُرِّم" مشددًا مبنيًا للمفعول، فاحتملت "ما" وجهين:
أحدهما: أن تكون موصولة اسم "إن"، والعائد الضمير المستكن في "حرم"، و"الميتةُ" خبر "إن".
والوجه الثاني: أن تكون "ما" مهيئة، و"الميتة" مرفوع بـ "حُرِّم".
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: "إنما حَرُم" بفتح الحاء، وضم الراء مخففة، جعله لازمًا، و"الميتة" وما بعدها مرفوع، وتحتمل "ما" الوجهين من التهيئة والوصل، فعلى الأول "الميتة" فاعل بـ "حَرُم"؛ وعلى الثاني هي خبر "إن".
واختلفت القراءات أيضًا في {الْمَيْتَةَ} ، فقرأها بعضهم بالتخفيف، وبعضهم بالتشديد، وهما لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب، والمراد من تحريم {الْمَيْتَةَ} ، تحريم تناولها، فإن التحليل والتحريم إنما يتعلقان بالأفعال دون الأعيان؛ و"الميتة": ما فارقه الروح من غير ذبح، وهو مما يذكّى، إنما شأنه التذكية، فخرج السمك والجراد، لأنهما ليسا من شأنهما ذلك.
وقد روى الإِمام أحمد وابن ماجه والدارقطني، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"(1). ورواه الدارقطني أيضًا من رواية عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه، بإسناده. قال الإِمام
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"210.
أحمد وابن المديني: عبد الرحمن بن زيد ضعيف، وأخوه عبد الله ثقة. وأخرجه الشافعي والبيهقي أيضًا.
وعن أبي شريح، وهو صحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم". رواه الدارقطني، وذكره البخاري عن أبي شريح موقوفًا.
وعن عمر في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] قال: صيده ما اصطيد، {وَطَعَامُهُ} ما رمي به.
وقال ابن عباس: {وَطَعَامُهُ} ميتته، إلا ما قذرت منها. ذكر ذلك البخاري في صحيحه.
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، - وقال: حديث حسن صحيح - عن أبي هريرة قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضا بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته"(1).
ومن ثم ذهب الجمهور إلى إباحة ميتة البحر، سواء ماتت بنفسها، أو ماتت بالاصطياد.
وروي عن الحنفية، وعن الهادي، والقاسم، والإمام يحيى، والمؤيد بالله في أحد قوليه - وهم من أئمة أهل البيت - أنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمي، أو بإلقاء الماء عنه، أو جزره عنه، وأما ما مات، أو قتله حيوان غير آدمي فلا يحل؛ واستدلوا بحديث أبي الزبير عن جابر مرفوعًا، بلفظ:"ما ألقاه البحر أو زجر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه"(2). أخرجه أبو داود مرفوعًا من رواية
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير" 7048، و "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" 9، 2501، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" 480 طبع المكتب الإِسلامي.
(2)
هو في "ضعيف الجامع الصغير"5019.
يحيى بن سليم الطائفي، عن أبي الزبير، عن جابر. وقد أسند من وجه آخر عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعًا. وقال الترمذي: سألت البخاري عنه، فقال: ليس بمحفوظ، ويروى عن جابر خلافه. انتهى.
ويحيى بن سليم صدوق سيئ الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال يعقوب: إذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظًا ففي حديثه ما يعرف وينكر. وقال أبو حاتم: ليس بالحافظ. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يخطئ. وقد توبع على رفعه، أخرجه الدارقطني، من رواية أبي أحمد الزبيري عن الثوري مرفوعًا، لكن قال: خالفه وكيع وغيره، فوقفوه على الثوري وهو الصواب.
وروي عن ابن أبي ذئب وإسماعيل بن أمية مرفوعًا ولا يصح، والصحيح أنه موقوف. قال الحافظ ابن حجر: وإذا لم يصح إلا موقوفًا، فقد عارضه ما ذكره البخاري عن أبي بكر، أنه قال: الطافي حلال.
وقال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري، وأيوب وحماد عن أبي الزبير، أوقفوه على جابر.
قال الحافظ المنذري: وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف، وأخرجه ابن ماجه.
قال الحافظ ابن حجر: والقياس يقتضي حِله، لأنه لو مات في البر لأكل من غير تذكية، ولو نضب عنه الماء لأكل ولو مات، فكذلك إذا مات وهو في البحر.
وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] يشمل ما قطع منها في حالة الحياة، لما رواه ابن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما قطع من بهيمة وهي حية، فما قطع منها فهو ميتة"(1). وأخرجه البزار والطبراني في "الأوسط"، من حديث هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر. لكن قال الدارقطني: كونه
(1) هو في "صحيح سنن ابن ماجه - باختصار السند"2606.
مرسلًا أشبه بالصواب، ويقوي حكمه ما أخرجه الإِمام أحمد والترمذي وأبو داود، عن أبي واقد الليثي مرفوعًا:"ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة"(1).
وأما {وَالدَّمُ} : فكانت العرب تجعله في المباعر (2) وتشويها ثم تأكلها، فحرم الله الدم المسفوح الذي يفعل به أهل الجاهلية؛ وقد علمت مما مرّ أنه يستثنى منه الكبد والطحال، وقد بلغني أن أناسًا من أهل زماننا، يفعلون بالدم مثل فعل الجاهلية ثم يأكلونه، وسئلت عن ذلك فأفتيت بالحرمة، وتلوت الآية الكريمة مستدلًا بها.
وبقي هنا أن يقال: إن كثيرًا ما تذبح الذبيحة التي يحل أكلها، فيوجد في بطنها جنين ميت، فهل له حكم الميتة أم لا؟
والجواب: أن ظاهر الآية يقتضي إلحاقه بالميتة، وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة، فقالوا: لا تغني تذكية الأم عن تذكيته؛ واحتجوا بعموم هذه الآية، لكن ذلك الاحتجاج معارض بوجهين:
أولهما: أنه من ترجيح العام على الخاص الوارد في الأحاديث الآتية، وقد تقرر في فن الأصول بطلانه.
وثانيهما: ما أخرجه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الجنين:"ذكاته ذكاة أمه"(3)، وفي رواية، قلنا: با رسول الله، ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة، في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكل؟ قال:"كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه". رواه الإِمام أحمد وأبو داود، وإلى ذلك ذهب الثوري والشافعي، والحسن بن زياد، وصاحبا أبي حنيفة (4).
(1) هو في "صحيح سنن الترمذي - باختصار السند"1197.
(2)
أي: في المصارين والأمعاء بعد إضافة البهارات.
(3)
هو في "صحيح سنن الترمذي- باختصار السند"1193.
(4)
تقدم أن أبا حنيفة ذهب إلى وجوب تذكية الجنين، وهنا صاحباه على خلافه، وبذلك يكون المذهب قولهما، كما هو مقرر في أصول الأحناف
…
بل إن أقوال أبي حنيفة في مذهبه لا تكاد تصل إلى الربع مما هو مفتى به.
واعتذر المانعون عن الحديث بأعذار لا تغني شيئًا؛ وظاهر الحديث أن الجنين يحل بذكاة الأم مطلقًا، سواء خرج حيًا أو ميتًا؛ فالتفصيل ليس عليه دليل.
وقولهم: المراد ذكاة الجنين كذكاة أمه، مردود بأنه لو كان المعنى على ذلك لكان منصوبًا بنزع الخافض، والرواية بالرفع، ويؤيده أنه روي بلفظ:"ذكاة الجنين في ذكاة أمه" أي: كائنة، أو: حاصلة في ذكاة أمه. وروي: "ذكاة الجنين بذكاة أمه" - والباء للسببية.
وقوله {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} أراد الخنزير بجميع أجزائه، لكنه خص اللحم لأنه المقصود بالأكل، وفائدة تخصيص لحم الخنزير دون لحم سائر السباع، أن كثيرًا من الكفار ألفوا لحم الخنزير، فخص بهذا الحكم، وهذا قول سائر أهل العلم.
ونقل أبو حيان في "البحر" عن داود الظاهري (1) أنه قال: المحرم من الخنزير اللحم دون الشحم، انتهى.
واستدل بظاهر الآية، ودليله قوي، إلا إذا أتى ما يعارضه، وسيمر بك ذلك المعارض، وعندي في النقل عن داود وقفة، فقد قال أبو محمَّد بن حزم الظاهري، في كتابه "المحلى" ما لفظه: ولا يحل أكل شيء من الخنزير، لا لحمه ولا شحمه، ولا جلده ولا عصبه، ولا غضروفه ولا حشوته، ولا مخهُ ولا عظمه، ولا رأسه ولا أطرافه، ولا أليته ولا شعره، الذكر والأنثى، والصغير والكبير سواء، انتهى.
فيحتمل أن هذا مذهب لابن حزم انفرد به عن داود، ويحتمل أنه مذهب داود، وقد غلط أبو حيان في النقل عنه، مع أنه كان ظاهريًا، وكثيرًا ما يحصل الغلط في النقل عن الأئمة لمن لم يراجع كتبهم.
قال ابن حزم: ولا يحل الانتفاع بشعر الخنزير لا في خرز ولا في غيره، ثم استدل لذلك بحديث الصحيحين: "ينزل عيسى بن مريم حكمًا عدلًا، فيكسر
(1) هو داود بن علي. الأشهر من علماء الظاهر .. ومن بعده الإِمام ابن حزم. ولكن الحق أن حكم الظاهر هو الغالب على أكثر فقهاء المذاهب.
الصليب، ويقتل الخنزير" وأطال في ذلك، ثم أتبعه الاستدلال بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. قال: والضمير في لغة العرب التي نزل بها القرآن، راجع إلى أقرب مذكور إليه، فصح بالقرآن أن الخنزير بعينه {رِجْسٌ} ، و {اَلرِّجْسَ} حرام واجب اجتنابه.
فالخنزير كله حرام، لا يخرج من ذلك شعره ولا غيره، حاشا ما أخرجه النص عن الجلد إذا دبغ فحل استعماله (1).
ثم إنه رد على من يقول: إن تحريم شحمه إنما هو بالقياس على لحمه، وبرهن على أن تحريم الشحم إنما هو بطريق النص، لا بطريق القياس؛ وهذا قريب من قول ابن عطية في تفسيره، خص ذكر اللحم من الخنزير، ليدل على تحريم عينه، ذكّي أو لم يذكّ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها.
وقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} الإهلال: رفع الصوت، ومنه الإهلال بالتلبية، ومنه سمي الهلال لارتفاع الصوت عند رؤيته، ومنه إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته.
ومعناه والله أعلم: ما ذبح للآلهة والأوثان، يسمى عليه {لِغَيْرِ} اسم {اللَّهِ} ، أو قصد به الأصنام، وإنما قيل:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ} ، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح - يسمي أو لم يسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر-: مهلّ، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله فقال؛ {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} .
وقال قتادة: هو ما ذبح {لِغَيْرِ اللَّهِ} مما لم يسم عليه؛ وقال الضحاك: هو
(1) إن الدباغ يطهر الشعر والصوف لأنها كلها من الإهاب. هذا عند أكثر. وقد استنثى بعضهم جلد الخنزير.
ما أهل به للطواغيت. وروى ابن جرير عن عقبة بن مسلم التجيبي، وقيس بن رافع الأشجعي، أنهما قالا لحيوة:
هل أحل لنا ما ذبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز ولحم، فإنما هو طعام أهل الكتاب؟
قال: لا. قلت: أرأيت قول الله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ؟
قال: إنما ذلك المجوس، وأهل الأوثان، والمشركون.
وقال علي والحسن: هو ما قصد به غير وجه الله للتفاخر والتباهي.
قال في "البحر": والذي يظهر من الآية، تحريم ما ذبح {لِغَيْرِ اللَّهِ} ، فيندرج في لفظ "غير الله"، الصنم والمسيح، والتفاخر واللعب.
وفي "غرائب القرآن"، لنظام الدين النيسابوري: قال العلماء: لو أن مسلمًا ذبح ذبيحة، وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله تعالى، صار مرتدًا، وذبيحته ذبيحة مرتد.
وفي كتاب "الروض" للشافعية: أن المسلم إذا ذبح للنبي، كفر.
قال الشوكاني، بعد أن نقل كلامه: إذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وسلم كفرًا عنده، فكيف بالذبح لسائر الأموات، انتهى.
وكرّه الإِمام أحمد الذبح عند القبر وأكل ذلك، لخبر أنس:"لا عقر في الإِسلام"(1) حديث صحيح. رواه أحمد وأبو داود، وقال: قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. وروى المروذي عن الإِمام أحمد: كانوا إذا مات الميت، نحروا جزورًا، فنهى عليه السلام عن ذلك.
وفسره غير واحد بعد ذلك بمعاقرة الأعراب: يتبارى رجلان في الكرم، فيعقر هذا ويعقر هذا، حتى يغلب أحدهما الآخر، فيكون {أُهِلَّ .. لِغَيْرِ اللَّهِ} ،
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"7535.
ذكره البيهقي؛ وروى أبو داود بإسناد جيد عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم:"نهى عن طعام المتباريَين"(1)، ورواه أيضًا الحافظ المقدسي في "المختارة" بإسناد جيد.
وسيأتي مزيد على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة المائدة.
وبقي هنا أن يقال: هذا الحكم في غير ذبائح أهل الكتاب، أما ذبائحهم فتحل لنا، لقول الله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ولما كان شأن الاضطرار أن يشمل جمعًا من الخلق، أنباهم تعالى: بأن هذا الذي رفع عنهم من التحريم، لا يبرأ من كلية الأحكام، بل يبقى مع هذه الرخصة موقع للأحكام في الغي والعدوان، فقال:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} الآية.
أي: فمن حلت له ضرورة مجاعة، إلى ما حرمتُ عليكم من {الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ، وهو بالصفة التي وصفنا، {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} في أكله إن أكله، فقوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ} افتعل من الضرورة، و {غَيْرَ بَاغٍ} نصب على الحال من {فَمَنِ} ، فكأنه قيل: من اضطر لا باغيًا ولا عاديًا فأكله، فهو له حلال.
وللمفسرين هنا أقوال كثيرة في معنى "غير باغ ولا عاد"، وكلها ترجع إلى التخصيص، وأولاها التعميم، فتشمل ما إذا كان الآكل مكرهًا على الأكل، والخارج على الأمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جور، ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسد عليهم السبيل، والذي يقطع الطريق، والخارج في معصية الله، والآكل من الميتة، وما عطف عليها، وله مندوحة عن أكلها، والمتعدي بأكله فوق ما لا بد منه، فكل أولئك لم يجز لهم أكل الميتة، فيفسر الاعتداء بكل معانيه المحرمة.
وقوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} معناه: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك، ولا حرج. وأبدى الحرالي هنا لطيفة،
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"6965.
وهي: أن تحريم أكل الميتة إنما هو للضرر الموجود فيها، فإذا أكلها غير المضطر لحقه الضرر الموجود بها، وإذا أكلها المضطر ارتفع ذلك الضرر، لأن الله تعالى، إذا أباح شيئًا أذهب ضره، واستدل بذلك لما ورد في الخبر "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" (1). قال: ففيه تنبيه لتغيير هذه الأعيان للمضطر، عما كانت عليه حتى تكون رخصة في الظاهر، وتطييبًا في الباطن، فكما رفع عنه حكم الكتابي، يتم فضله فيرفع عنه حكمها الطبيعي.
ثم علل هذا الحكم مرغبًا ومرهبًا، بقوله:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، أشعر بقوله:{رَحِيمٌ} بأنه لا يصل إلى حال الاضطرار إلى ما حرم عليه أحد، إلا عن ذنب أصابه، فلولا المغفرة لتمت عليه عقوبته، لأن المؤمن أو الموقن لا تلحقه ضرورة، لأن الله لا يعجزه شيء، وعبد الله لا يعجزه ما لا يعجز ربه، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49]. فاليأس الذي يحوج إلى ضرورة، إنما يقع لمن هو دون رتبة اليقين، ودون رتبة الإيمان، واستدل لذلك بما روي عن جابر في قصة طويلة: أنهم كانوا [في] غزاة، فنفد زادهم وهم على سيف البحر، فألقى البحر إليهم دابة يقال لها العنبر، فأكلوا منها نصف شهر، فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:"هل عندكم منه شيء تطعموني؟ "(2). ووجه الاستدلال من جهة أن الله تعالى لم يحوجهم إلى ضرورتهم، إلى ما حرم عليهم، بل جاءهم في ضرورتهم بما هو أطيب مأكلهم في حال السعة من صيد البحر، الذي هو:"الطهور ماؤه، الحل ميتته".
وفي قوله هنا: {رحيم} إنباء بأن من اضطر، فأصاب مما اضطر إليه شيئًا، لم يبغ فيه، ولم يعده، تناله من الله رحمة، توسعه عن أن يضطر بعدها إلى مثله، فيغفر له الذنب السابق الذي أوجب الضرورة، ويناله بالرحمة الواسعة التي ينالها من لم يقع منه ما وقع ممن اضطر إلى مثله.
(1) هو في "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام"30.
(2)
أخرجه البخاري بنحوه (4361) و (5494)، ومسلم (1935).
ولما كان في بيان هذه المحرمات الإشارة إلى عيب من استحلها من العرب، وترك ما أمر به من الطيبات جهلًا وتقليدًا، أردفها هذه الآية بتكرار عيب الكاتمين لما عندهم من الحق، مما أنزل في كتابهم، فقال:
روى ابن جرير عن قتادة: أن هذه الآية، مراد بها أهل الكتاب، كتموا ما أنزل عليهم، وبيّن لهم من الحق الهدى، ونعت محمَّد صلى الله عليه وسلم وأمره. ورُوي مثل ذلك عن الربيع والسدي وعكرمة. وهذا وإن كان كذلك، إلا أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم به، يشعر بوقوع ذلك من طائفة من أمته، حرصًا على الدنيا، كما يقع من المتأولين لكتاب الله وسنة رسوله، ليجعلونها مستندًا لبدعتهم، وجلب حطام الدنيا، ويكتمون معنى ما أنزل إليهم من ربهم.
فالأولى أن يقال: نزلت هذه الآية، في كل كاتم حق، لأخذ عرض أو إقامة غرض، من مؤمن ويهودي، ومشرك ومعطل، وإن صح سبب النزول، فهي عامة، والحكم للعموم؛ وإن كان السبب خاصًا، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارًا لذلك، لسبب دنيا يصيبها.
فقوله تعالى: {يَكْتُمُونَ} تأوله المفسرون على وجهين:
أولهما: ما روي عن ابن عباس، أنهم كانوا يحرفون التوراة والإنجيل.
وثانيهما: ما قاله المتكلمون: من أن هذا ممتنع، لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما، بل كانوا يكتمون التأويل، لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة، ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمَّد عليه السلام. فهذا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب. وعلى هذا يدخل في الوعيد الباطنية والزنادقة، وأشياعهم
وأشباههم، الذين يؤولون القرآن والسنة إلى درجة يلزم منها الحلول، وتعطيل الأمر والنهي، ويصرفون معاني الألفاظ إلى غير ما وضعت له، ويبدلون ما أنزل الله من الكتاب، فيجعلون الكلمة الواحدة كلمتين أو أكثر، توصلًا إلى تأييد نحلتهم، فيغيرون حدود الكتاب وأحكامه.
ولما كان من الكتم ما يكون لقصد خير - وكم من كلمة حق أريد بها باطل- قيده بقوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} . والثمن ما لا ينتفع بعينه، حتى يصرفه إلى غيره من الأعواض، فالإيعاد على ما يتضمن جهل الكاتم وحرصه، باستكسابه بالعلم، وإجرائه في غير ما أجراه تعالى على ألسنة أنبيائه {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180] ووصف الثمن بالقلة، إشارة إلى أن كل ما لم يثبت من خير الدنيا في الآخرة -وإن جلَّ- فهو حقير قليل مهان، {أُولَئِكَ} الذين هذه صفتهم {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} أي: ملء بطونهم؛ يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه، وقوله:{إِلَّا النَّارَ} جار مجرى قول العرب: أكل فلان الدم، إذا أكل الدية التي هي بدل منه، وهنا إذا أكل ما يتلبس بالنار، لكونها عقوبة عليه، فكأنه أكل النار، ولما كانت النار تحرق ما تصل إليه، كان عقابهم في الدنيا موت قلوبهم وحواسهم، فلا يحسون بالحق، ولا يدرونه، فهم كالخدر الذي يجعل يده في الماء الحار ولا يحس به، فيشعر ذلك بموت حواس هؤلاء عن حال ما تناولوه كما نشاهد ذلك من أكل مال اليتيم بغير حق، وما أشبهه، وعقابهم في الآخرة النار، يأكلونها في بطونهم، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} كلامًا يدل على مرضي (1)، لكونهم لم يكلموا الناس بما كتب عليهم، وهذا تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة، في تكرمة الله إياهم بكلامه، وتزكيتهم بالثناء عليهم، وإنما يكلم الله هؤلاء بقوله:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] وإنما كان عدم تكليمهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، لأنه هو اليوم الذي يكلم الله فيه كل الخلائق بلا واسطة، فيظهر عند كلامه السرور في
(1) الأصل: (رضي) والتصويب من "نظم الدرر" 2/ 352.
أوليائه، وضده في أعدائه، ويتميز أهل الجنة بذلك من أهل النار، فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد، {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} لما أوقعوا فيه الناس من التعب، بكتمهم عنهم ما يقيمهم على الواضحة البيضاء، والصراط السوي.
وقد علمت مما سبق أن هذه الآية، وإن قال المفسرون: إنها نزلت في اليهود، لكنها عامة في حق كل من كتم شيئًا من باب الدين يجب إظهاره، فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر.
ولما وصف تعالى علماء اليهود، ومن كان على شاكلتهم بكتمان الحق، وعظم في الوعيد عليه، وصف ذلك الجرم ليعلم أن ذلك العقاب إنما عظم لهذا الجرم العظيم، فقال:
اعلم: أن الفعل: إما أن يعتبر حالة في الدنيا، وإما في الآخرة. أما في الدنيا فأحسن الأشياء الاهتداء والعلم، وأقبح الأشياء الضلال والجهل، فلما تركوا الهدى والعلم في الدنيا، ورضوا بالضلال والجهل، فلا شك أنهم في نهاية الخيانة في الدنيا، وأما في الآخرة فأحسن الأشياء المغفرة، وأخسرها العذاب، فلما تركوا المغفرة، ورضوا بالعذاب، فلا شك أنهم في غاية الخسارة في الآخرة، وإذا كانت صفتهم على ما ذكرناه، كانوا لا محالة أعظم الناس خسارًا في الدنيا وفي الآخرة.
وإنما حكم تعالى عليهم بأنهم اشتروا العقاب بالمغفرة، لأنهم لما كانوا عالمين بما هو الحق، وكانوا عالمين بأن في إظهاره وإزالة الشبهة عنه أعظم الثواب، وفي إخفائه وإلقاء الشبهة فيه أعظم العقاب، فلما أقدموا على إخفاء ذلك الحق، كانوا بائعين للمغفرة بالعذاب لا محالة.
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، والمعنى: ما أجرأهم على عذاب النار، وأعملهم بأعمال أهلها، وقد سمع من العرب: ما أصبر فلانًا على الله، بمعنى: ما أجرأه عليه، وإنما يعجب الله خلقه بإظهار الخبر عن القوم {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، واشترائهم بكتمان ذلك ثمنًا قليلًا من السحت (1) والرّشا (2) التي أعطوها، على وجه التعجب من إقدامهم على ذلك، مع علمهم بأن ذلك موجب لهم سخط الله، وأليم عقابه، وسبيل هذا سبيل قولهم: ما أشبه سخاءك بحاتم، يريدون ما أشبه سخاءك بسخاء حاتم.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ} أي: ذلك الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده، بسبب أن {اللَّهَ نَزَّلَ} ما نزل من {الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ، فمن كتمه فقد حاول نفي ما أثبت الله، فضادّ الله في ملكه، ومن خالف فيه، وهو الذي لا شبهة تلحقه، فقد عد الواضح ملبسًا، فقد أبعد المرمى، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} في كتب الله، فقالوا في بعضها حقًا، وفي بعضها باطلًا. {لَفِي شِقَاقٍ} ، لفي خلاف {بَعِيدٍ} عن الحق، هذ ابناء على جعل اللام في {الْكِتَابِ} للجنس، وإن جعلت للعهد كانت الإشارة، إما إلى التوراة، واختلافهم حيث آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها بكتمه، وإما إلى القرآن واختلافهم فيه، قول بعضهم هو سحر، وبعضهم شعر، وبعضهم أساطير الأولين.
وقوله: {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} يعني: أن أولئك لو لم يختلفوا، ولم يشاقوا، لما جسر هؤلاء أن يكفروا، وهذه حالة من أصله الله على علم، ولما كان الخطاب في هذه الآيات، والتي قبلها ظاهره خطاب لليهود والنصارى، على مقتضى أسباب النزول، كان الأمر على طريق عموم اللفظ، فألحق بهم سائر من تنكّب عن طريق الهدى، فيلحق باليهود منافقو أمتنا، ممن ارتاب بعد إظهار ايمانه، وفعل أفاعيلهم من المكر والخديعة والاستهزاء، ويلحق بالنصارى من اتصف بأحوالهم،
(1) السحت الحرام، أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار.
(2)
الرشا: جمع رشوة. وهو المقدم للظَلَمة من غير وجه حق.
وبالمشركين من جعل سندًا واعتقد فعلًا لغيره، على غير طريقة الكسب، والمجوس لاحقون بأهل الشرك، والشرك أكثر هذه الطرق تشعبًا، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"الشرك أخفى من دبيب النمل"(1). ومن فعل أفعال من ذكره، ولم ينته به الأمر إلى مفارقة دينه، والخروج في شيء من اعتقاده، خيف عليه أن يكون ذلك وسيلة إلى اللحوق بمن تشبه به، ولهذا قال عليه السلام:"أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا أوعد أخلف، وإذا خاصم فجر"(2). إلى أشباه هذا من الأحاديث.
ولما بيّن سبحانه وتعالى كفر أهل الكتاب، الطاعنين في نسخ القبلة بتكذيب الرسول، وكتمان الحق، وغير ذلك، أتبعه الإشارة إلى أن أمر الفروع أخف من أمر الأصول؛ لأن الفروع ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود بالذات الإيمان، فإذا وقع تبعته جميع الطاعات، فقال:
اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} فقال ابن عباس: هو الصلاة، يعني {لَيْس الْبِرَّ} الصلاة وحدها، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} الخصال التي أبينها لكم.
وقال مجاهد: {الْبِرَّ} ما ثبت في القلوب من طاعة الله، كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} الآية، وقال ابن عباس:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ} تصلّوا ولا تعملوا غير ذلك.
(1) هو في "صحيح الجامع الصغير" 3730 و 3731.
(2)
هو في "صحيح الجامع الصغير" 889 و 890.
وقال آخرون: عني الله بقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ} اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود تصلي فتوجه قِبل المغرب، والنصارى تصلي فتتوجه قِبل المشرق، فأنزل الله فيهم هذه الآية؛ يخبرهم فيها أن البر غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية؛ وبمثل هذا قال قتادة، والربيع بن أنس.
وهذا القول يدل عليه سياق الآيات، لأن الآيات التي مضت كانت موبخة لليهود والنصارى، ولائمة لهم، ومخبرة عنهم، وعما أعد لهم من أليم العذاب. وهذه الآية في سياق ما قبلها، فينبغي أن يكون المعنى:{لَيْسَ الْبِرَّ} أيها اليهود والنصارى، أن يولي بعضكم وجهه {قِبَلَ الْمَشْرِقِ و} بعضكم قبل {الْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية.
وعلى القول الأول المشعر بأن الآية نزلت في المؤمنين، يكون المعنى: أنه نهاهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء، كما تعلق أهل الكتابين، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة، على ما بينه الله.
أخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، قال: كان الرجل قبل الفرائض، إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك، يرجى له، ويطمع له في خير، فأنزل الله:{لَيْسَ الْبِرَّ} الآية. وكانت اليهود توجهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق، فأنزل الله هذه الآية. انتهى.
وهذا القول كأنه جمع بين القولين، وعليه فالآية عامة للفريقين، وهو أولى ما تفسر به.
وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} معلوم أن {الْبِرَّ} معنى من المعاني، فلا يكون خبره الذوات، التي هي هنا، {مَنْ آمَنَ} إلا مجازًا، فإما أن يجعل {الْبِرَّ} هو نفس {مَنْ آمَنَ} على طريق المبالغة، قال أبو عبيدة: والمعنى: {وَلَكِنَّ} البار، وإما أن يكون على حذف من الأول، أي:{وَلَكِنَّ} ذا البر، قاله الزجاج؛ أو من الثاني، أي:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ} بر {مَنْ آمَنَ} ؛ قاله قطرب. وعلى هذا خرجه
سيبويه، قال في كتابه: وقال جل وعز: ولكن البر من آمن، وإنما هو، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} بر {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} . انتهى.
ومضمون الآية: أن البر لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب، بل بمجموع أمور:
أحدها: الإيمان بالله، وأهل الكتاب أخلوا بذلك، أما اليهود فللتجسيم، ولقولهم: عزير ابن الله، وأما النصارى فلقولهم: المسيح ابن الله.
الثاني: الإيمان باليوم الآخر، واليهود أخلوا به، حيث قالوا:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.
والثالث: الإيمان بالملائكة، واليهود عادوا جبريل، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله.
والرابع: الإيمان بكتب الله، واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك، لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كلام الله وكتابه، ردوه ولم يقبلوه.
والخامس: الإيمان بالنبيين، واليهود أخلوا بذلك، حيث قتلوا الأنبياء، على ما قال تعالى:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61] وحيث طعنوا في نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم.
والسادس: بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه، واليهود أخلوا بذلك، لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل، كما قال تعالى:{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 187].
السابع: إقامة الصلوات والزكوات، واليهود كانوا يمنعون الناس منها.
والثامن: الوفاء بالعهد، حيث قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
فقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} الآية، وقوله:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ} الآية، ليس فيه إخراج التوجه إلى القبلة عن {الْبِرَّ} ، كما هو الظاهر من جهة أن فيه، {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} ، ومن شروطها التوجه إلى جهة القبلة، ولكن المراد نفي الكمال، لا نفي أصل البر. كأنه قال:{لَيْسَ الْبِرَّ} كله هو هذا، فإن البر اسم لمجموع الخصال الحميدة، واستقبال القبلة واحد منها، فلا يكون ذلك تمام البر؛ أو يقال: إن {لَيْسَ} نفت الأصل، لأن استقبالهم {الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} بعد النسخ، كان إثمًا وفجورًا، فلا يعد في البر؛ أو يقال: إن استقبال القبلة لا يكون برًا، إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى، وإنما يكون برًّا مع الإيمان، وما عطف عليه في هذه الآية.
وترتيب المذكورات جارٍ على ألطف الحكمة، لأنه تعالى قدم الإيمان به تعالى، المتضمن للإقرار بوجوده، وباتصافه بما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله؛ ثم ثنى بـ {الْيَوْمِ الْآخِرِ} ، لأنه أبعد الأشياء عن الحقائق، عند المنكر له، ومن لا يعرفه ولا معنى به، ثم ثلث بـ {الْمَلَائِكَةِ} ، اعتبارًا للترتيب الوجودي، لأن الملك يوجد أولًا، ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول، وأيضًا فإن الوحي إلى الأنبياء، إنما كان بوساطة الملك، وإنكار وجود الملائكة، يتضمن إنكار الوحي، فلذلك كان الإيمان بوجود الملائكة لا يتم الإيمان إلا به، ونفي وجودهم يتضمن نفي الرسالة، فلذلك قدم الإيمان بوجودهم على الإيمان بالرسل، ثم ذكر {الْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ، لأن المكلف له وسط ومبدأ ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة، وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي؛ والموحى به؛ وهو الكتاب؛ والموحى إليه، وهو الرسول.
وقال الحرالّي: الإيمان بالنبيين وبما قبلهم، فيه قهر النفس وللإذعان لمن هو من جنسها، والإيمان بغيب من ليس من جنسها، ليكون في ذلك ما ينزع النفس عن هواها. انتهى.
وفي تعقيب الصدقة بالإيمان، إشعار بأنها المصدقة له، فمن بخل بها، كان مدعيًا الإيمان بلا بيّنة، وإرشادًا إلى أن في بذلها السلامة من فتنة المال. كما قال
تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، لأن من آمن وتصدق، كان قد أسلم لله روحه وماله الذي هو عديل روحه، فصار عبدًا لله حقًا، وفي ذلك إشارة إلى الحث على مفارقة كل محبوب سوى الله في الله.
قال الحرالّي: من ظن أن حاجته يسدها المال، فليس برًّا، إنما البر الذي أيقن أن حاجته إنما يسدها ربه ببره الخفي. انتهى.
والضمير في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} راجع إلى المال، والتقدير:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى} حب المال. ويؤيده ما رواه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود، أنه في هذه الآية: يؤتي المال وهو صحيح شحيح، يأمل العيش، ويخشى الفقر؛ ورواه عنه عبد الرزاق.
وقيل الضمير راجع إلى الإيتاء المفهوم من قوله {وَآتَى} ، كأنه قيل: يعطي ويحب الإعطاء، رغبة في ثواب الله تعالى. وهذا نفي لما كانوا يفعلونه في الجاهلية من إعطاء المال حبًا بالتفاخر.
وقدم {ذَوِي الْقُرْبَى} لأنهم أولى الناس بالمعروف، لأن إيتاءهم صدقة وصلة.
{وَالْيَتَامَى} علم لذوي القربى وغيرهم، وإعطاؤهم لأنهم أعجز الناس.
وعطف عليهم المساكين، لأنهم بعدهم في العجز، ويدخل فيهم الفقراء، و {الْمَسَاكِينَ}: الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له، {وَابْنَ السَّبِيلِ}: المسافر المنقطع، وجعل ابنًا للسبيل، لملازمته له، وإعطاؤه لعجزه بالغربة، وإذا جعلنا ذلك أعم من الحال والمآل، دخل فيه المغازي والضيف، والسائلين المستطعمين.
وقد روى الإِمام أحمد مرفوعًا: "للسائل حق وإن جاء على فرس"(1) وذلك لأن الغالب أن سؤالهم يكون عن حاجة؛ ويدخل فيهم الغارم.
(1) ينظر "ضعيف الجامع الصغير" 4746، و"مختصر المقاصد الحسنة"809.
ومعنى {وَفِي الرِّقَابِ} ، معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم المسترقة التي يرام فكها بالكتابة؛ ومنه فك الأسرى؛ وقيل: في ابتياع الرقاب واعتاقها؛ والأولى أن يجعل عامًا في الكل.
ولما ذكر تعالى مواساة الخلق، وقدمها حثًا على مزيد الاهتمام بها، لتسمح النفس بما زين لها حبه من المال، أتبعها حقه تعالى فقال:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} أي: أدام العمل بها بحدودها، والمحافظة عليها، {وَآتَى الزَّكَاةَ} أعطاها على مقتضى ما فرضه الله عليه.
فقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} حث على الصدقة المندوبة، وهنا حث على المفروضة، وفي الاقتصار فيها على الإيتاء، إشعار بأن إخراج المال على هذا الوجه، لا يكون إلا مع الإخلاص.
{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} هم الذين لا ينقضون عهد الله بعد المعاهدة، ولكن يوفون به ويتمونه على ما عاهدوا عليه، من عاهدوه عليه، وهو عام للعهد مع الله أو مع الناس، و {الْمُوفُونَ} عطف على {مَنْ آمَنَ} وقيل: رفعه على إضمار: {و} هم {الْمُوفُونَ} .
وقوله: {وَالصَّابِرِينَ} منصوب على الاختصاص والمدح، إظهارًا لفضل الصبر في الشدائد، ومواطن القتال على سائر الأعمال. وقرئ: و"الصابرون"، وقرئ "الموفون والصابرون"(1)، و {فِي الْبَأْسَاءِ} أي: عند حلول الشدة بهم في أنفسهم من الله بلا واسطة، أو منه بواسطة العباد، وقال في "الكشاف": الفقر والشدة، {وَالضَّرَّاءِ} المرض والزمانة. انتهى.
والأولى أن يفسر بكل ما يضر، سواء كان الضرر في الأبدان، أو في الأموال، وفسرها في "القاموس" بالشدة، والنقص في الأموال والأنفس، فهو حينئذ أعم، ليكون الأخص مذكورًا مرتين، مرة في ضمن الأعم، وهو "البأساء"،
(1) ينظر "الفخر الرازي" 5/ 49 وفيه: واعلم أن من الناس من قرأ (والموفين والصابرين) ومنهم من قرأ (والموفون والصابرون).
ومرة بنفسه، {وَحِينَ الْبَأْسِ} ، أي: وقت شدة القتال في الحرب. {أُولَئِكَ} أي: خاصة، الذين علت هممهم، وعظمت أخلاقهم وشيمهم، {الَّذِينَ صَدَقُوا} فيما ادعوه من الإيمان، ففيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم، لم يصدق في دعواه.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} الذين اتقوا عقاب الله، فتجنبوا عصيانه، وحذروا وعده، فلم يتعدوا حدوده، وخافوه فقاموا بأداء فرائضه.
أصل الكتابة الخط الذي يقرأ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات، أي: فرض وأثبت، لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه، وهذا المعنى موجود في كلام العرب، ومستفيض في أشعارهم، ومنه قول الشاعر (1):
كُتِبَ القَتْلُ والقِتَال عَلَيْنا
…
وعلى المُحْصَنات جَرُّ الذيولِ
وقول النابغة الجعدي:
يا بنتَ عَمّي كتابُ اللهِ أخرَني
…
عنكم فهل أمنعنَّ الله ما فعَلا (2)؟ !
ويأتي {كُتِبَ} بمعنى أمر، كقوله تعالى حكاية:{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] ويشهد لأن {كُتِبَ} هنا بمعنى: فرض، أن لفظة "على" تشعر بالوجوب، كقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ،
(1) هو عمر بن أبي ربيعة كما في "الكامل" للمبرد 3/ 1171، والأغاني 9/ 220 عند ذكر الحارث بن خالد بعد ذكر قيس بن ذريح.
(2)
أساس البلاغة للزمخشري، صفحة 535.
وهو في "شعر النابغة الجعدي" ص 194، طبع المكتب الإِسلامي:
يا ابنةَ عمي كتابُ الله أخرَجَني
…
كرهًا وهل أمنعنَّ الله ما فعلا
وهي هنا: "أَخرني" خلافًا للطبري. قال شاكر: وفي "الأساس": "أخّرني"، فأخشى أن تكون خطأ من ناسخ.