المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أقوال المتقدمين من الحكماء - تفسير ابن بدران = جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار

[ابن بدران]

الفصل: ‌ أقوال المتقدمين من الحكماء

للتشديد في التكليف، ولهذا نهانا الله عنه بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ويبين تعالى عاقبة التشديد في السؤال، والتعنت في هذه الآية، بما هو غني عن الإيضاح.

ثانيها: يبين تعالى في هذه الآية أن من الحجارة ما يتردى من الموضع العالي الذي يكون فيه، فينزل إلى أسفل، وهؤلاء الكفار مصرون على العناد والتكبر، فلا يهبطون من علو تكبرهم وعنادهم إلى الخضوع والانقياد، فالحجارة أحسن حالًا منهم، وكذلك من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وأن منها لما يتشقق فيخرج منه الماء المحيي للأرض، والمخرج منها أنواع النبات والثمرات، وقلوب هؤلاء قد طبع الله عليها بكفرهم، فلا تتفجر منها ينابيع الهداية، ولا تخرج منها الحكمة التي تحيي النفوس، كما يحيي الماء الأرض، فلا يزالون هم ومن كان على شاكلتهم، في عمى وضلال وغي لا يرجى زواله، فنعوذ بالله كان الخذلان.

ثالثها: حكى الرَّازي عن الحكماء المتقدمين (1): أن الأنهار إنَّما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رخوًا انشقت تلك الأرض وانفصلت، وإن كان ظهر الأرض صلبًا حجريًا اجتمعت تلك الأبخرة، ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتَّى تكثر كثرة عظيمة، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدها، أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهارًا، انتهى.

وسيمر بك تحقيق هذا البحث في أماكنه إن شاء الله تعالى.

ولما ذكر تعالى، ما كان من قبيح من سلف من بني إسرائيل قبل نزول الكتاب العزيز، شرح من هنا قبائح أفعال اليهود الذين كانوا وقت نزول القرآن العظيم، وذلك لمقاصد، منها الدلالة بها على صحة نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، لكونه كان أميًا لا علم له بشيء منها إلَّا بطريق الوحي؛ ومنها تعديد النعم على أسلافهم،

(1) إن في‌

‌ أقوال المتقدمين من الحكماء

! ما لا يوافق النصوص القرآنية، وصحيح الأحاديث النبوية، وعرفنا الآن أنَّه لا يوافق ما وصل إليه علمنا. فلسنا ملزمين به.

ص: 228

ومقابلتهم كل نعمة منها بالكفران، ومنها تحذير أهل الكتاب الموجودين حين نزول القرآن من نزول العذاب عليهم، كما نزل بأسلافهم من قبل ومنها الاحتجاج على المشركين من العرب المنكرين للحشر والنشر، وهو المراد من قوله تعالى:{كذلك يحيي الله الموتى} وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يضيق صدره بسبب عناد أولئك القوم وتمردهم، مع شدة حرصه على الدعاء إلى الحق، وقبولهم الإيمان منه، فقص الله أخبار بني إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة، تسلية لرسوله فيما يظهر من أهل الكتاب في زمنه، من قلة القبول والاستجابة، فقال تعالى:

{*أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} .

الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، والطمع: تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب له، {أن يؤمنوا} هؤلاء الذين بين أظهركم، وقد سمعتم ما اتفق لأسلافهم من الجفاء والغلظة، والخلف منهم راضون بذلك، ولو لم يكونوا راضين به لآمنوا بمجرد هذا الإخبار عن هذه القصص من هذا النبي الأميّ، الذي يحصل التحقيق بأنه لا معلم له بها حالة كونهم معترفين {لكم} ، والحال أنه {قد كان فريق} ، أي: ناس يقصدون الفرقة والشتات {منهم يسمعون كلام الله} وهو ما يتلونه من التوراة {ثم يحرفونه} ، أي يزيلونه عن وجهه برده على حرفه، ووصف الفريق بما ذكر من الأوصاف تأكيد لعظيم تهمكهم (1) في العصيان، بأنهم كانوا بعد ما وصف من أحوالهم الخبيثة فرقًا في الكفر والعدوان، والتبري من جلباب الحياء.

وقوله: {من بعد ما عقلوه} ، معناه: من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم، ولم تبق لهم شبهة في صحته {وهم يعلمون} أنهم كاذبون مفترون، والمعنى: إن

(1) كما ترجح في نسخ البقاعي المغربية ومعناها: تمادى ولجّ برغبة وحرص وانهمك في الباطل. وهي في الأصل المخطوط ونسخة ظ، ومد (تهتكهم) وفي نسخة م (تهكمهم).

ص: 229

كَفَرَ هؤلاء وحرفوا، فلهم سابقة في ذلك، ومعنى التحريف هنا: تبديل المعنى، وتأويله وتغييره، وأصله من انحراف الشيء عن جهته، وهو ميله عنها إلى غيرها فكذلك قوله:{يحرفونه} ، أي: يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره، كما قاله الإمام ابن جرير الطبري، فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك، على علم منهم بتأويل ما حرفوا، وأنَّه بخلاف ما حرفوه إليه، فقال:{يحرفونه من بعد ما عقلوه} ، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله، وهم يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون، وذلك إخبار من الله تعالى عن إقدامهم على البهت، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام، وأن بقاياهم- من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم، بغيًا وحسدًا- على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك، في عصر موسى عليه السلام.

وحكى ابن اسحاق، عن بعض أهل العلم، وهو قول الرَّبيع بن أنس: أن الله تعالى إنَّما عنى بقوله: {يحرفونه} ، من سمع كلامه تعالى من بني إسرائيل مثل ما سمعه موسى عليه السلام منه، ثم حرف ذلك وبدل من بعد سماعه وعلمه به، وفهمه إياه، وذلك أن الله تعالى إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم، كانوا يسمعون كلام الله استعظامًا من الله، لما كانوا يأتون من البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان، وإيذانًا منه تعالى عباده المؤمنين، قَطْعَ أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمَّد صلى الله عليه وسلم، من الحق والنور والهدى، فقال:{أفتطمعون} إلى آخر الآية. هذا ما اختاره الطبري من تفسير هذه الآية.

والذي أختاره: أن المراد بقوله تعالى {كلام الله} : هو التوراة وسائر الأمر والنهي، لأنك تقول: قرأت كلام الله وتريد به القرآن، وقال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] والمراد به: القرآن العظيم، إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على ذلك، وإن صح أن بني إسرائيل قالوا لموسى: قد حيل بيننا وبين رؤية الله، فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فحصل لهم السماع، ثم حرف فريق منهم معنى ما سمع، كان هذا أيضًا داخلًا فيما اخترناه، وجعل كلام الله عامًا هنا، أولى من حصره في هذه القضية على ما اختاره الطبري،

ص: 230

لأنَّ الآيات الآتية في هذا المعنى تدل على أنهم كانوا يحرفون كلام الله مطلقًا، سواء كان في أسفار موسى عليه السلام، أو في غيرها.

ودل ظاهر قوله تعالى، {ثم يحرفونه} باعتبار الضمير العائد إلى كلام الله، أن التحريف كان للفظ، لأنَّ كلام الله إذا كان باقيًا على جهته وغيروا تأويله، فإنَّما يكونون مغيرين لمعناه، لا لنفس الكلام المسموع، والتحريف هنا مطلق لا يدل على أنهم حرفوا أي نوع، هل هو صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم، أو غيرها، فينبغي أن يحمل على جنس التحريف، وإذا حمل على الجنس ارتفع الوثوق بجميع الأنواع، لأنَّ كل نوع يتطرق الظن إليه بأنه ربَّما يكون من المحرف. ولما كان سلف أولئك القوم يتعمدون التحريف، وكان المقلدة من خلفهم لا يقبلون إلَّا قولهم، ويأخذونه على علاته، ولا يلتفتون إلى قول الحق ولو أضاء لهم الدليل السبيل، وظهرت الحجة ظهور الشّمس في الضحى، كان ذلك سببًا لليأس من إيمان مقلديهم. وهذا كقولك للرجل: كيف تفلح، وأستاذك فلان؟ أي: وأنت عنه تأخذ ولا تأخذ عن غيره، وهذا معنى ما نقله الرَّازي عن القفال، وهو حسن، وأنت جبير بأن المسبب يدور مع السبب وجودًا وعدمًا، فكأن المعنى: أن إيمان أولئك المقلدة لأسلافهم من المحرفين، لا مطمع فيه ما داموا في الجمود في التقليد لهم، فإذا ارتقوا عما هم فيه من الجمود، إلى درجة التحقيق، واستضاؤوا بضياء البرهان، رجي إيمانهم، كما حصل لعبد الله بن سلام وأضرابه، ولذلك كان مما امتن الله به على أفاضل علماء هذه الأمة، أنهم يدورون مع الحق كيفما دار، ويميلون معه حيثما مال، فلا يجمدون على قول متقدم لمجرد تقدمه، ولا يغترون بما يقول من هو مشهور بين النَّاس، بل يقولون: الرجال تعرف بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال.

وهنا يجدر بنا أن نلم بمسألة جديرة بالاهتمام، مُعِينَة على بيان مواضع كثيرة من تفسير آي الكتاب، وهي أننا نذكر محصل فصل حكاه الحكيم السموأل بن يهوذا الذي كان يهوديًا فأسلم، في كتابه "بذل المجهود في إقناع اليهود" وهذا الكتاب ينقل فيه عبارة التوراة بالعبرانية وينقلها إلى العربيَّة، ويناقش اليهود بها، وذلك الفصل

ص: 231

الذي ننقل محصله الآن، وسمه بـ "ذكر السبب في تبديل التوراة"، فقال: إن علماء اليهود، وأحبارهم يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم لا يعتقد أحد منهم أنَّها المنزلة على موسى ألبتة، لأنَّ موسى وإن التوراة عن بني إسرائيل، ولم يبثها فيهم، وإنَّما سلمها إلى عشيرته أولاد "ليوي"، وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأنَّ الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم، ولم يبذل موسى من التوراة لبني إسرائيل إلَّا سورة واحدة، يقال لها "هاأزينو" لتكون شاهدًا على بني إسرائيل، وكانت مشتملة على ذم طبائعهم، وأنهم يخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك وتخرب ديارهم، ويشتتون في البلاد، وفي هذه السور يقول:"كي لوتشا خاخ مفي زرعون"، تفسيره: لأنَّ هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم، وهذا يدل على أن غيرها من السور ينسى، ثم إن بقية التوراة بقيت عند أولاد هارون إلى أن جاء "عزرا"، فأخرج لهم هذا الكتاب الموجود بأيديهم اليوم، ولهذا يعظمونه غاية التعظيم، وزعموا أن النور لا يزال يظهر على قبره الذي عند البطائح بالعراق، لأنَّه عمل لهم كتابًا يحفظ لهم دينهم، ومن قرأ فصول ذلك الكتاب الذي بأيديهم علم يقينًا، أن الذي جمعه رجل فارغ جاهل الصفات الإلهية، فلذلك نسب إلى الله تعالى صفات التجسيم والندامة على ماضي أفعاله، والإقلاع عن مثلها، وغير ذلك مما يستحيل على الله سبحانه وتعالى، وحاشى أن يأتي بمثله كتاب منزل.

ثم قال في "بذل المجهود" بعد هذا: ولا ينبغي للعاقل أن يستبعد اصطلاح كافّة هذه الطائفة على المحال، واتفاقهم على فنونهم من الكفر والضلال، فإن الدولة إذا انقرضت من أمة باستيلاء غيرها عليها، وأخذها بلادها، انطمست حقائق سالف أخبارها، واندرس قديم آثارها، وتعذر الوقوف عليهما، لأنَّ الدولة إنَّما يكون زوالها من أمة بتتابع الغارات والمضايقات، وإخراب البلاد وإحراق بعضها، فلا تزال هذه الفتن متتابعة إلى أن تستحيل علومها جهلًا، وآثارها قلًا، وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال، كان حظها من اندراس الآثار أكثر، وهذه الطائفة أعظم الطوائف حظًا مما ذكرنا، لأنهم من أقدم الأمم عهدًا، ولكثرة الأمم التي استولت عليها، مثل الكسدانيين والبابليين،

ص: 232

والفرس، واليونان، والنصارى، والمسلمين، وما من هذه الأمم إلَّا من قصدهم أشد القصد، وطلب استئصالهم وبالغ في إحراق بلادهم وإخرابها، وإحراق كتبهم إلَّا المسلمين، فإن الإسلام صادف اليهود تحت ذمة الفرس، ولم يبق لهم قبله مدينة ولا جيش إلَّا العرب المتهودة بخيبر، وأشد ما كان على اليهود من ذلك، ما أصابهم من ملوكهم العصاة، مثل:"أحاب، وأحزيا وأمصيا ويهورام ويربعام بن نباط" وغيرهم من الملوك الإسرائيليين الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في تطلبهم ليقتلوهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنتها لتعظيمها وتعليم رسوم عبادتها، وابتنوا لها البيع والهياكل، وعكف على عبادتها الملوك ومعظم بني إسرائيل، وتركوا أحكام التوراة والشرع مدة طويلة، وأعصارًا متصلة.

فإذا كان هذا من تواتر الآفات عليهم من قبل ملوكهم، ومن أنفسهم فما ظنك بالآفات المتفننة التي تواترت عليهم من استيلاء الأمم فيما بعد عليهم، وقتلهم أئمتهم، وإحراقهم كتبهم، ومنعهم إياهم عن القيام بشرائعهم، فإن الفرس كثيرًا ما منعوهم من الختان، وكثيرًا ما منعوهم عن الصَّلاة، لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار، وعلى البلاد بالخراب، سوى بلادهم التي هي أرض كنعان، فلما رأت اليهود الجد في الفرس في منعهم من الصَّلاة، اخترعوا أدعية يدَّعون أنَّها (1) فصولًا من صلاتهم سموها الخزانة، وصاغو لها ألحانًا عديدة، وصاروا يجتمعون في أوقات صلاتهم على تلحينها وتلاوتها، والفرق بين هذه الخزانة وبين صلاتهم الأصلية، أن الصَّلاة بلا لحن، وأن المصلي يتلو الصَّلاة وحده ولا يجهر معه غيره، وأمَّا الخَزّان فيشترك جماعة بالجهر بالخزانة، ويعاونونه وينوحون أحيانًا على أنفسهم.

ومن العجب أن دول الإسلام يقرون أهل الذمة على أديانهم، وبذلك صارت الصَّلاة مباحة لهم، ومع ذلك فإن الخزانة صارت عند اليهود من السنن المستحبة في الأعياد والمواسم والأفراح، يجعلونها عوضًا عن الصَّلاة، ويستغنون بها عنها، من غير ضرورة تبعثهم على ذلك.

(1) في "بذل المجهود": مزجوا بها.

ص: 233

هذا كلامه، وهذا من جملة التحريف الذي حرفوه، ومن تأمل هذا الكلام وجده مطابقًا لما حكاه، وشرحه الإمام علي بن حزم في المجلد الأوَّل من كتابه المسمى بـ "الفصل في الملل والأهواء والنحل" مع أن ابن حزم كان في القرن الرابع، وصاحب "بذل المجهود" كان في القرن السابع.

ولما كان الكلام في الآية السابقة مرشدًا إلى [أن](1) التقدير: فهم لجرأتهم على الله إذا سمعوا كتابكم حرفوه، وإذا حدّثوا عباد الله لا يكادون يصدقون، عطف عليه قوله:

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} .

روى ابن جرير عن ابن عباس في تفسير الآية: أن نفرًا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا إذ لقوا أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم، قالوا: آمنًا بالذي آمنتم به، ونشهد أن صاحبكم صادق، وأن قوله حق، ونجده بنعته وصفته في كتابنا، ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض، قال الرؤساء: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من نعته وصفته في كتابه، ليحاجوكم به، فإن المخالف إذا اعترف بصحة التوراة واعترف بشهادة التوراة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا حجة أقوى من ذلك، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضًا من الاعتراف بذلك عند محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فقوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا} ، معناه: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا نفاقًا منهم: آمنًا بأنكم على الحق، وأن محمدًا هو الرسول المبشر به، {وإذا خلا بعضهم} الذين لم ينافقوا {إلى بعض} ، وهم الذين كانوا ينافقون، {قالوا} عاتبين عليهم:{أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} ، الفتح: توسعة الضيق حسًا ومعنى، والمعنى: بما فتح الله عليكم من العلم القديم الذي أتاكم على ألسنة رسلكم في التوراة وأسفار الأنبياء، ويطلق الفتح في كلام العرب على النصر،

(1) زيادة من "نظم الدرر" 1/ 487.

ص: 234

والقضاء، والحكم، ومنه:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]، أي: احكم، والمعنى على هذا: أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم، ومن حكمه ما أخذ به ميثاقكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن قضائه فيهم أن جعل فيهم القردة والخنازير، وغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم. وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حجة على المكذبين به من اليهود، المقرين بحكم التوراة وغير ذلك.

وأنت إذا تأملت سابق هذه الآية ولاحقها، علمت أن معنى:{بما فتح الله عليكم} من بعث محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه، وإخبارهم المؤمنين بنعته وصفاته، وزمن خروجه، لأنَّ الله تعالى قص علينا في أول هذه الآية ما كانوا يظهرون من قولهم للمؤمنين: آمنًا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، ثم يتلاومون فيما بينهم إذا خلوا على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم، والمحاجة فيما ألزم الله به من أتباع الرسل، تصح أن توصف بأنها محاجة فيه لأنها محاجة في دينه.

وقوله: {أفلا تعقلون} راجع إلى الذين خلوا، والمعنى: أنَّه عندما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم: أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم، وتصيرون محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه. وقيل: إن معنى قوله تعالى: {أفلا تعقلون} ، راجع للمؤمنين المخاطبين بقوله تعالى:{أفتطمعون} ، والمعنى: أفلا يكون لكم عقل ليردكم ذلك عن تعليق الأمل بإيمانهم. وهذا الوجه وإن كان قريب المعنى لكن الذي قبله أظهر.

ولما كان ظن الذين قالوا: {أتحدثونهم} ، الآية، ظاهر الفساد، لأنَّه لو لم يكن علمه من قبل الله تعالى لم يقدر أن يعبر بعبارة تعجز الخلائق عن مماثلتها، وبخهم الله بقوله:{أولا يعلمون} ، أي: ألا يعلمون أن علم المؤمنين لذلك لم يكن إلَّا عن الله لما قام عليه من دليل، {أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون} ، أي: يخفون من قولهم لأصحابهم، ومن غيره، {وما يعلنون} أي يظهرون ذلك فيخبر به أولياؤه، ومن جملة ما يعلنون وما يظهرون، إسراراهم الكفر وإعلانهم الإيمان.

ص: 235

ومن الأحكام التي تستنبط من هذا الآية: أن الحِجَاج والنظر كان طريقة الصحابة والمؤمنين، وأن ذلك كان ظاهرًا عند اليهود، حتَّى قال بعضهم لبعض ما قالوا، وأن الحجة قد تكون إلزامية، لأنهم لما اعترفوا بصحة التوراة باشتمالها على ما يدل على نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، لا جرم لزمهم الاعتراف بالنبوة، ولو منعوا إحدى تينك المقدمتين لما تمت الدلالة، وأن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرمًا ووزرًا.

ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا الفريق الذي هو أعلاهم كفرًا، وأعتاهم أمرًا عطف عليه قسمًا أعتى منه، وأفظ، لأنَّ العالم يرجى لفته عن رأيه، أو تخجيله بالحِجَاج، بخلاف المقلد العاتي الكثيف الجافي، فقال:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} .

هذه الآية والآيات السالفة، قسمت اليهود إلى أربع فرق:

أولاها: الفرقة الضَّالة المضلة، وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.

والفرقة الثَّانية: المنافقون.

والفرقة الثَّالثة: الذين يجادلون المنافقين.

والفرقة الرابعة: هم المذكورون في هذه الآية بقوله تعالى: {ومنهم أميون} ، أي: ومنهم عامة أميون، لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة، وطريقهم التقليد وقبول ما يقال لهم.

فبين تعالى: أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحدًا، بل لكل قسم منهم سبب آخر، كذا قاله الفخر، وقال: ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود، وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة، فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير، وفيهم من يكون

ص: 236

متوسطًا، وفيهم من يكون عاميًا محضًا مقلدًا، وهذا كلامه.

أقول: وفيهم من يكون مجادلًا للمنافق، والذي فسرنا الأميّ به، من أنَّه الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة، هو المعروف من كلام العرب والمستفيض فيما بينهم، وكأن الأمي نسبة إلى أمه، لأنَّ الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه، ويجوز أن يراد بالأمي المعنى الأعم وهو: من لا يحسن الكتابة، ومن يحسنها ولكنه غليظ الطبع، بعيد عن الفهم، قال في القاموس: والأمي: العيي الجلف الجافي القليل الكلام، انتهى.

وقد وصف تعالى أولئك بقوله: {لا يعلمون الكتاب} ، أي: لا يعرفون التوراة ليطالعوها ويتحققوا ما في تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا، أو أنهم لا يعرفون إلَّا القراءة الخالية عن التدبر والفهم، المقرونة بالتمني، ولذا قال {إلَّا أماني} ، جمع "أمنية"، وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل، والمعنى: إذا كانت الأماني مما يصح وصفه بالعلم فهي لهم، لا غيرها من جميع أنواعه، وقيل: الأماني بمعنى الأكاذيب، والمعنى عليه: لا يعلمون الكتاب إلَّا أماني، أي: أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد، وهذا يساعده إخبار الله تعالى عنهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: أن أسلافهم حرفوا الكلام، ومزجوا شرحها بالأكاذيب والتمويه والتضليل، وهؤلاء أخذوا ذلك منهم من غير تمحيص ولا نظر، يساعده قوله تعالى:{وإن هم إلَّا يظنون} ، أي: ما هم إلَّا قوم قصارى أمرهم التقليد والظن، من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم، فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين، وفي الإتيان بـ {إن} التي معناها النفي، والاستثناء بـ {إلَّا} تأكيد لنفي العلم عنهم.

ولما ذم الله تعالى من لا يعلم، عُلم أن المعارف كسبية لا ضرورية.

ويؤخذ من أحكام هذه الآية: أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز، وأن التقليد لا يعد علمًا، لأنَّه أخذ قول الغير بلا دليل، ومثل هذا لا يليق أن

ص: 237

يكون متصفًا بالعلم أصلًا، لأنَّ هذه طريقة العوام، وأن المُضلَّ وإن كان مذمومًا، فالمغتر بإضلال المضِل أيضًا مذموم، لأنَّه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة.

ولما أثبت لهذا الفريق القطع على الله بما لا علم لهم به، وكان هذا معلوم الذم محتوم الإئم، سبب عنه الذم والإثم بطريق الأولى لفريق هو أردؤهم وأضرهم لعباد الله، وأعداهم فقال:{فويل} ، والويل جماع الشر كله، أي: ما يجمع الشر كله كائن {للذين يكتبون} منهم، أو من غيرهم، {الكتاب} الذين يعلمون أنَّه من عندهم لا من عند الله تعالى، أو يكتبون التأويلات الزائفة {بأيديهم} تأكيد لدفع توهم المجاز كقولك: كتبته بيميني.

ثم أشار إلى قبح هذا الكذب وبعد رتبته في الخبث بـ {ثم} المفيدة للتراخي، فقال:{ثم يقولون} ، أي: لما كتبوه كذبًا وبهتانًا {هذا من عند الله} .

ثم بين بالعلة الحاملة لهم على ذلك خساستهم وتراميهم إلى النجاسة، ودناءتهم، فقال:{ليشتروا به} ، أي: بذلك الكذب الذي صنعوه {ثمنًا قليلًا} ، ثم سبب عنه قوله:{فويل لهم مما كتبت أيديهم} من ذلك الكذب على الله، {وويل لهم مما يكسبون} ، أي: يجددون كسبه مما اشتروه به، والمراد مما يكسبون من الخبث، ولكنه حذفه لوضوح الدلالة عليه بقرينة ما تقدم.

وفي هذه الآية بيان لما شرف به كتابنا من أنَّه لإعجازه، لا يقدر أحد أن يأتي من عنده بما يدسه فيه، فيلبس به، فله تعالى الحمد والمنة.

وأشارت الآية إلى أن كسبهم هذا في غاية الرداءة لأنهم ضلوا عن الدين، وأضلوا، وباعوا آخرتهم بدنياهم، فذنبهم أعظم من ذنب غيرهم، فإن المعلوم أن الكذب على الغير مم يضر بعظم إثمه، فكيف بمن يكذب على الله ويضم إلى الكذب الإضلال، ويضم إليهما حب الدُّنيا والإحتيال في تحصيلها، ويضم إليها أنَّه مهد طريقًا في الإضلال باقيًا على وجه الدهر، فلذلك عظم الله تعالى ما فعلوه.

ص: 238

وفي هذه الآية دليل على أن أخذ المال على الباطل، وإن كان بالتراضي فإنَّه محرم، لأنَّ الذي كانوا يعطونه من المال كان على محبة ورضًا، ومع ذلك فقد نبه تعالى على تحريمه.

ولما أرشد الكلام إلى أن التقدير فحرفوا كثيرًا في كتاب الله، وزادوا ونقصوا، عطفوا عليه ما بين به جرأتهم وجفاءهم، وعدم اكتراثهم بما يرتكبونه من الجرائم التي هم أعلم النَّاس بأن بعضها موجب للخلود في النَّار، فقال تعالى:

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} .

هذا القول على كل حال جهل منهم، ولكن يحتمل أن هؤلاء القوم كانوا على مذهب من سَلَف من الفلاسفة القائلين:"بأن الأرواح وإن صارت مكدرة بأفعال الأشباح، إلَّا أنَّها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس، ولا يزاحمها شيء من نتائج الأعمال، إلَّا أيامًا معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب".

وعلى هذا يكون الرد في الآية على كل فريق انتحل هذه النحلة، واتبع هذه البدعة، وذلك ما قاله تعالى رادًا على فريق منهم:{وقالوا لن تمسنا النَّار إلَّا أيامًا معدودة} أي: منقضية، لأنَّ كل معدود منقض، وإنَّما الذي لا انقضاء له هو الذي يعسر عده، ولما ادعوا ذلك كان كأنه قيل: فبماذا نرد عليهم؟ فقال: قل منكرًا لقولهم: {أَتخدتم} في ذلك {عند الله عهدًا فلن يخلف الله عهده} أم لم يكن ذلك {أم تقولون على الله ما لا تعلمون} ومعنى الإنكار في الاستفهام: أنَّه ليس واحد من الأمرين واقعًا لا أنتم اتخدتم عهدًا ولا أنتم قلتم ذلك جهلًا، بل قلتموه وأنتم تعلمون خلافه.

وفي حديث أبي هريرة عند البخاري والدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لليهود: "من أهل النَّار؟ " فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا، فقال لهم:"اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا".

ص: 239

ولما انتفى في الآية الأمران، علم أن الكائن غير ما ادعوه، فصرح به في قوله:

{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} .

فكذب تعالى القائلين من اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} ، وأخبر: أنَّه تعالى يعذب من أشرك به، وكفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه، ويجعله مخلدًا في النَّار، فقوله تعالى:{بلى} ، إثبات لما نفوه من مساس النَّار لهم، فإن {بلى} ، و "بل" حرفا استدراك، ومعناها نفي الخبر الماضي، وإثبات الخبر المستقبل، أي: بلى تمسكم النَّار وتخلدون فيها، بدليل قوله:{هم فيها خالدون} .

وقوله: {من كسب سيئة} ، فسر قتادة ومجاهد السيئة هنا بالشرك بالله تعالى، وبذلك قال غيرهما من المفسرين، فجعلوا السيئة في هذه الآية من الخاص، وقالوا: هي وإن كان لفظها يدل على العموم، لكن لما قضى الله على أهلها بالخلود في النَّار، وكان الخلود بها لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النَّار لأهل الكفر، كان هذا قرينة على التخصيص، وإلى هذا جنح الطبري: وذهب غيره إلى إبقاء السيئة على عمومها وتناولها جميع المعاصي، ولكن لما كان من الجنائز أن يظن أن كل سيئة صغرت أو كبرت، فحالها سواء في أن فاعلها يخلد في النَّار، أردفها بقوله:{وأحاطت به خطيئته} ، ليدل على أن الذي يستحق به الخلود هو الذي تكون سيئته قد أحاطت به، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر، كإحاطة السور بالبلد، والكوز بالماء، وذلك ههنا ممتنع، فيحمل حينئذٍ على ما إذا كانت السيئة كبيرة، لأنَّها تحيط بثواب الطاعات، فتكون كالستارة لها، وإذا أحاطت بها كانت مستولية على تلك الطاعات ومحيطة بها، فكأنه تعالى قال: بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعته، فأولئك أصحاب النَّار هم فيها خالدون.

ص: 240

وجنح إلى هذا كثيرون منهم الزمخشري وفخر الدين الرَّازي، وهو الذي نختاره، قال في الكشاف: سأل رجل الحسن البصري عن الخطيئة، فقال: سبحان الله ألا أراك ذا لحية، وما تدري ما الخطيئة؟ انظر في المصحف فكل آية نهى الله فيه عنها، وأخبرك أنَّه من عمل بها أدخله النَّار فهى الخطيئة. انتهى.

فإن قيل: هذه الآية وردت بحق اليهود، قلنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولبعض المفسرين والمتكلمين مسارح في هذا المقام طويلة جدًا حاصلها أن هنا ثلاثة مذاهب:

أولها: إثبات الخلود في النَّار لأهل الكبائر الذين ماتوا ولم يتوبوا منها، وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج، ومنهم من أثبت وعيدًا منقطعًا، وهو قول بشر المريسي والخالدي.

وثانيها: القطع بأنه لا وعيد لهم، وهو قول شاذ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر.

وثالثها: القطع بأنه سبحانه وتعالى يعفو عن بعض العصاة، ويعذب ببعض المعاصي، مع التوقف في حق كل أحد على التعيين، أنَّه هل يعفو عنه أم لا، والقطع بأنه تعالى إذا عذب أحدًا منهم مدة، فإنَّه لا يعذبه إلى الأبد، بل يقطع عذابه، وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين، وهو قول جمهور العلماء، وأكثر الإمامية، ولكل من هذه الفرق [أدلة](1) يطول بيانها، ومحلها كتب الكلام، وقد ذكر الرَّازي منها جملًا.

ولما كان من فضله تعالى، أنَّه لا يذكر في القرآن آية في الوعيد إلَّا ويذكر بجنبها آية الوعد، قال:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} .

يعني بـ {الذين آمنوا} : الذين صدقوا بما جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم، بألسنتهم،

(1) زيادة يقتضيها السياق.

ص: 241